التبرّع بالأعضاء: نظرة إسلاميّة - العلامة السيّد علي فضل الله
قد لا يختلف اثنان على حقِّ أيِّ إنسانٍ خسر عضواً من أعضائه، نتيجة مرض أو حادث، أن يسعى إلى الحصول على البديل إذا كان الطبّ والعلم قد توصَّلا إلى جعل ذلك في إطار الممكن. ومن الطَّبيعي أن يكون للدّين وجهة نظره في مسألة وهب الأعضاء، كما للطبِّ مثلها، وكذلك للقانون والتّربية ولأيِّ طرفٍ له صلة ما في هذا المضمار.
ونحن عندما نتحدَّث عن الهبات، فإنَّنا نقصد بذلك أعضاء الجسم بكلِّ أجهزته، مما يحتاج إليه الإنسان، سواء كان من الأحياء أو من الأموات. وفي كلِّ الحالات، لا بدَّ لمن يتَّخذ الدّين مرجعيَّة له، الرّجوع إلى الفتوى لتحديد السّلطة الَّتي له على جسده، حيّاً كان أو ميتاً..
ولهذا، من الطَّبيعيّ في هذا المضمار أن نسأل: ما هو موقف الدّين الإسلاميّ من هبة الإنسان لأعضائه؟ ومن أين ينبع هذا الموقف؟ وما هي حيثيّاته؟ هل يضع موانع، أو شروطاً ما، وفي أيِّ حالة؟
في البدء، لا بدَّ لنا من أن نفهم السِّياق العام الَّذي يشكِّل خلفيّةً ننطلق منها في تعرّفنا إلى رأي الدّين بخصوص وهب الأعضاء، فعندما بعث الله الأنبياء ليبلّغوا رسالاتهم، كان همهم واحداً، وهو حلّ مشاكل الإنسان الروحيَّة والجسديَّة والأخلاقيَّة والنفسيَّة والمعيشيَّة، ودفعه قُدُماً في معارج الرّقيّ والتّقدم.
لقد دعت الأديان الإنسان إلى أن يهتمَّ بنفسه وبصحّته وحاجاته، ضمن صيغة التوازن والرّفق، ليحيا الحياة الأفضل، ويمارس إنسانيّته بالشَّكل الأمثل: «إنَّ لبدنك عليك حقاً».
وفي حدود علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، أولى الدّين اهتماماً كبيراً كي يخرج الإنسان من شرنقة ذاته إلى رحاب العطاء الإنساني، وإلى آفاق البذل والتَّضحية، كطريقٍ للحصول على رحمة الله ونعمته: «لا يؤمن عبد حتى يُحبّ للناس ما يحبّ لنفسه»، وعندما تحدَّث رسول الله # عن المجتمع المؤمن قال: «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسّهر». وأروع صور العطاء وأرقاه، أن تؤثر الآخر على نفسك؛ مصلحته على مصلحتك، راحته على راحتك، فالإيثار أفضل العبادة وأعلى مراتب الإيمان..
شروط وحيثيّات
لهذا، وبناءً على منظومة البذل والعطاء والإيثار والتَّضحية الَّتي هي في صلب الدّين، ندرك كيف شكَّلت الشَّريعة الإسلاميَّة بدعواتها بيئةً حاضنةً، لا لتجيز وهب الأعضاء فحسب، بل لتحثَّ عليه، وتعتبره من أهم المستحبّات، حتى يكاد يصل فيها إلى حدِّ الواجبات...
وهنا، قد يطرح أحد إشكاليَّةً، وهي أنَّ الشَّريعة في الكثير من مفاصلها، تعاملت مع جسد الإنسان على أنّه مُلْكٌ لخالقه، فلا يحقّ للإنسان أن يُسبّب ضرراً لجسده أو أن ينهي حياته، فكيف يمكن له أن يهب أيّ عضو من أعضائه، ومن أين تأتي له هذه الصَّلاحيَّة، ومن يهبه إيّاها؟
إنَّ هذه الصَّلاحيَّة ليس فيها نصّ واضح بالخصوص في القرآن أو السنَّة، ولكن لدينا قاعدة في التَّشريع الإسلاميّ، تنصّ على أنّه إن غاب الدَّليل الخاصّ، نلجأ إلى الأدلَّة العامَّة الكُليَّة، ومنها نفهم التَّفاصيل وننظّم الأمر. وما أكثر الأدلّة العامَّة بخصوص البذل والتَّضحية والإيثار!
وهنا نرى من المنطلق الفقهيّ والشَّرعيّ الَّذي نتبنّاه، جواز هبة الأعضاء بحيثيّات وشروط، وقد تبنّى هذا الرّأي أغلب العلماء من شتّى المذاهب الإسلاميَّة والجمعيّات الفقهيَّة. وفي ما يلي، نلخِّص أبرز هذه الحيثيّات والشّروط في عدّة نقاط:
- لا بدَّ في التبرّع من الحيّ إلى الحيّ، من أن يكون المتبرّع واعياً لما يقوم به وباختياره، وأن لا يكون التبرّع سبباً لإنهاء حياته أو لتلف الأعضاء الحيويَّة والأساسيَّة عنده، كالعين أو القلب أو غير ذلك حسب حالته الصحيَّة، والقاعدة الفقهيَّة تقول: «إنَّ الضّرر لا يُزال بمثله»، كما نقول إنّه لا يصحّ أن نُصلح الخطأ بالخطأ..
- لا يؤخذ بعين الاعتبار الانتماء الدّيني للواهب أو المتبرّع أو عنصر القرابة أو الجنس، كما في الصَّدقة مثلاً، الَّتي من نظامها أنَّها تعطى لمطلق محتاج، بعيداً عن كلِّ الاعتبارات: «النّاس صنفان، إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق».
- بعد الموت، يشترط لهبة الأعضاء أن تكون موثّقةً بوصيَّة، أو بموافقة شفهيَّة من الإنسان الباذل قبل موته، وإن كان الأفضل أن يتمَّ ذلك كتابةً.
- إنَّ حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حيّاً، لهذا يُشترط تأمين كلّ الاحتياطات الَّتي تضمن احترام جسد الميت بعد أخذ العضو منه، ودفنه وفق الأصول الشّرعيَّة.
- بخصوص موضوع بيع الأعضاء وشرائها، ما زال الجدل الفقهيّ حول حليّته كمبدأ قائماً - ونحن نرى أنَّ هذا الأمر لا يقع تحت عنوان الهبة المنطلقة من قيم البذل والعطاء - حيث إنّ هذه العمليّات قد تسيء في بعض نماذجها إلى إنسانيَّة البائع والمشتري على حدٍّ سواء، ولا نرى تكريس ذلك سبيلاً لحلِّ المشاكل الاجتماعيَّة، لكنّ الضَّرورات تقدّر بمقدارها.
- بالنّسبة إلى العائلة، لا يحقّ لها عدم تنفيذ وصيَّة الميت بهبة أعضائه، سواء كان ذلك منطلقاً من رأيهم أو موقفهم برفض الفكرة أصلاً، أو كان ذلك مجرّد حالة عاطفيَّة، والعكس صحيح..
- لا مشكلة شرعيَّة إذا نفّذ الطَّبيب عمليَّة الهبة، بغض النَّظر عن قناعاته، ما دام الواهب يرى ذلك جائزاً أو قد أوصى به، على قاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم». وغير ذلك من التَّفاصيل الَّتي تيسّر ولا تعسّر عمليّة هبة الأعضاء، وتبقيها ضمن إطارٍ يحفظ القيمة الإنسانيّة ومصلحة المجتمع.
تثبيت المفهوم اجتماعيّاً
وبعيداً عن التَّفاصيل الفقهيَّة، لا بدَّ من أن نشير إلى أنَّ موضوعاً كموضوع وهب الأعضاء، يتطلَّب إضافةً إلى الإباحة التقنيَّة من المرجعيّات الدينيَّة والقانونيَّة والطبيَّة، أن يتشكَّل وعي مسؤول، وحالة من المقبوليَّة في الوجدان الشَّعبي والثّقافي والاجتماعي، وهذا يتطلَّب منا عدّة أمور:
- العمل على إزالة كلّ الأوهام النفسيَّة وغير النفسيَّة الَّتي لا تزال حاضرةً في واقعنا، والَّتي قد تُنسب خطأً إلى الدّين، ما تحول دون أن يوصي الإنسان بشيء من أعضائه لمن يحتاجها بعد موته..
ـ التّركيز على مفهوم الصَّدقة الجارية عملاً بمنطوق الحديث عن الرّسول الأكرم #: «يموت الرّجل إلا عن ثلاث: ورقة علم ينتفع بها، وولد صالح يدعو له، وصدقة جارية»، والعمل على توسعة هذا المفهوم ليطال وهب الأعضاء، فيكون هو أيضاً نوعاً من الصَّدقة الجارية.
ـ إعطاء الشموليَّة لهبة الأعضاء، بحيث تدخل تحت عنوان الآية: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وهب الخلايا الجذعيَّة:
في عالم الطبّ، قد لا تمرّ ساعة إلا وتحمل لنا إمّا اكتشافاً جديداً، أو ملامح لاكتشاف جديد. واليوم، يتردَّد موضوع الخلايا الجذعيَّة (stem cells)، الَّذي قد يكون سبيلاً لتأمين أعضاءٍ يحتاج إليها الإنسان، فتحلّ له الكثير من آلامه ومشاكله الصحيَّة، ليحظى بحياةٍ نوعيَّةٍ أسمى.
لهذا، نأمل أن يحظى موضوع وهب الخلايا الجذعيَّة بالأولويّة في التَّدارس والمناقشة والتَّحليل، من قبل الفقهاء والمشرّعين الدّينيين، لتوفير الإجابات وتيسير أمور النّاس الَّذين تمثّل لهم الفتاوى تشريعاً لحركتهم.
وهنا، أغتنمها فرصةً لأدعو إلى تقريب المسافة بين حركة البحث العلميّ من جهة، وحركة البحوث الفقهيَّة من جهة أخرى، بجهدٍ من الطَّرفين، فلا يكون العلم غير آخذ بالاعتبار نظرة الدّين وتأثّر قرارات شريحة واسعة من النّاس به، حتى على مستوى الأنظمة والدّول، وهو ما يعيق حركة تطوّر العلم وإنتاجيَّته، ولا يأخذ الدّين البحوث العلميَّة بنظرة جانبيَّة أو ثانويَّة..
كما ونأمل أيضاً أن تكون الطّروحات الفقهيَّة ملهمةً ومتابَعَة، لأنَّها أولى بالاهتمام بمصلحة الإنسان والرّفق به ومباركته وإحيائه، وهي من يمكنها النَّظر إلى الأمور من عدَّة زوايا؛ جسديَّة وروحيَّة، خاصَّة وعامَّة، إضافةً إلى أنَّها تشكِّل بمنظومتها الأخلاقيَّة الضَّابط لحركة العلم في الكثير من الأحيان، الَّذي يُوجَّه إليه أكثر من علامة استفهام في جنوحه نحو الماديّة والكسب..
وأخيراً، لا بدَّ من كلمة تقدير لكلِّ الَّذين يبذلون جهداً لتطوير زراعة الأعضاء وتنظيم هبتها والباذلين لها، وعلى الجميع أن يسعوا، ونحن نؤمن: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النّجم: 39- 40].
* الكلمة التي ألقيت في الجامعة الأميركيَّة في بيروت 28 ربيع1 1433هـ 20-2-2012
Comments
Post a Comment