العراقي الغائب عن ذاكرة العراقيين موسى الصدر.. مفكراً وفقيهاً


بقلم د. علي المؤمن


قد يفاجأ كثير من العراقيين واللبنانيين والايرانيين حين يعرفون ان المصلح النهضوي الشهير السيد موسى الصدر هو عراقي، وانه مهاجر الى لبنان، وابن مهاجر الى ايران. فهذا الرجل الذي قاد تجربة إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية في لبنان، تساوي عدة ثورات وانتفاضات مجتمعة، هو ابن آية الله السيد صدر الدين الصدر، الذي ولد هو وابوه وجده في العراق، ومن أسرة كاظمينية ضاربة الجذور في أرض العراق. كما انه ابن عم الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وشقيق زوجته، وانه عاد الى العراق قبل سفره الى لبنان عام 1959، ودرس في النجف الاشرف، وكان قريبا جدا من مخاضات الحركة الاسلامية العراقية.
و النجاحات المتفردة التي حققها آية الله السيد موسى الصدر على مختلف الصعد، جعلت الايرانيين واللبنانيين يتنافسون على تبعيته، فاللبنانيين يقاتلون من اجل اثبات لبنانية السيد موسى الصدر، وكذا يفعل الايرانيون، وهذا حقهم؛ لأن الشعوب الحريصة على كسب العقول وضمها اليها، وعدم التفريط بها؛ فانها تفخر بانتماء المبدعين اليها؛ وإن كانوا من أصول أخرى. وإذا فهمنا تنافس اللبنانيين والايرانيين على أن يكون السيد موسى مواطنهم، لأنه ولد في ايران من اب عراقي مهاجر، وعاش فيها اوائل شبابه، ثم انه عاش في لبنان مايقرب من عشرين عاما، ولكن الذي لانفهمه؛ لماذا لايتحدث العراق عن ابنه الكبير السيد موسى الصدر، ويفخر به، ويحيي ذكراه، ويطالب به، وهو العراقي الأصيل؟
ربما هو تقليد عراقي عريق؛ انتجته الايديولوجيا الطائفية العنصرية للسلطة العراقية التي حكمت العراق مئات السنين؛ ومن خلالها لا يكتفي الوطن بالتخلي عن ابنائه؛ بل يبذل المستحيل ليثبت انهم ليسوا منه، لأنهم ينتمون لمدرسة أهل البيت، وإن كانوا وحيدي زمانهم. وهذه مشكلة السيد موسى الصدر وامثاله مع وطنهم الأم.
ان هذا المدخل هو باب واسع أردت ان أدخل عبره؛ للتعريف بالسيد موسى الصدر الى النخبة العراقية المثقفة، من خلال جانب واحد من جوانب عبقريته، وهو الجانب الفكري والفقهي.

في البدء .. اكتشاف

 


 في الصورة: آية الله الشهيد السيّد محمد باقر الصدر

تمثل تجربة الكتابة عن فكر الامام موسى الصدر وفقهه ، بالنسبة لي ، اكتشافاً مذهلاً، حفزني لقراءة معظم التراث الثقافي و الفكري للسيد المغيب ، اضافة الى ما كتب عن نبوغه الفقهي والفكري ، وتحديداً ما كتبه كبار فقهاء قم والنجف الاشرف، وهو ما يثير الدهشة .
ان أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات بحركييها ومثقفيها – تحديدا التي تنتمي جغرافياً الى المنطقة العربية ـ تكاد تنحصر مرجعيتها الفكرية الاسلامية برموز ظلت افكارها تقرأ وتدرس وتشرح خلال ما يقرب من اربعين عاماً ، ومن أبرزها: السيد محمد باقر الصدر ومالك بن نبي والشيخ مرتضى مطهري والدكتور علي شريعتي وسيد قطب والشيخ ابو الاعلى المودودي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم . وأسباب ذلك كثيرة. وليس بين هذه الرموز للأسف السيد موسى الصدر. اي ان جيلنا لم يتعرف على موسى الصدرالمفكر والفقيه، بل ظل يبهره موسى الصدر القائد الاجتماعي والسياسي والحركي والمناضل، وظلت تبهرنا أساليبه ومنهجه في العمل، وبالتالي فهو ظاهرة متفردة على مستوى الاجتماع السياسي لبنانياً وشيعياً واسلامياً، وهذه تحديداً هوية السيد موسى الصدر الذي عرفناه؛ بسبب طغيان البعد السياسي والاجتماعي والحركي والجهادي على شخصيته ، والذي حال دون تسليط الضوء على البعد الفقهي والفكري فيها ، اضافة الى اسباب تقنية اخرى سنأتي عليها.
تجدر الاشارة هنا الى ان صديقين حميمين للسيد موسى الصدر لم تعرفهما هذه الاجيال ـ غالباً ـ الا قيادات اسلامية ميدانية أيضاً، الاول: السيد محمد حسين بهشتي في ايران ، الذي ترك مؤلفات معمقة في الاقتصاد الاسلامي والفكر الفقهي والتجديد الفكري والفلسفة الاسلامية، والثاني : السيد محمد باقر الحكيم في العراق، الذي له باع طويل في علوم القرآن والفقه السياسي الاسلامي والفكر الفقهي. هذه الشخصيات الثلاث، التي عاشت بيئة اجتماعية وسياسية ودينية متشابهة تقريباً، وجمعتها صداقة مشتركة، فرضت عليها الظروف أن تتفرغ للشأن العام السياسي والجهادي، وبالتالي حالت هذه الظروف دون تسليط الاضواء على الصدر وبهشتي والحكيم كفقهاء ومفكرين.
ولاشك في ان شخصية موسى الصدر الفقيه والمفكر ظلت معروفة في وسط معين، هو الوسط الحوزوي الذي رافق رحلته العلمية في قم والنجف الاشرف، سواء اساتذته أو زملاؤه أو اصدقاؤه ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال الشهادات التي سجلوها، بل ان هناك اجماعا عند هؤلاء بأن السيد موسى لو بقي في النجف الاشرف لكان مرجعاً للطائفة وأحد أساطين التجديد في الفقه الاسلامي .

ملامح التكوين الفكري والفقهي

هناك عشرات الشهادات من فقهاء كبار تؤكد أن السيد موسى الصدر ( ولد عام 1928) كان مجتهداً حين ترك قم الى النجف الاشرف عام 1954، اي انه بلغ درجة الاجتهاد وهو في اوائل العقد الثالث من عمره (21-24 سنة). وكانت دراسته في الفقه والاصول والمنطق والفلسفة على كبار فقهاء قم وفلاسفتها ، كالسيد حسين البروجردي والسيد محقق داماد والعلامة الطباطبائي والامام الخميني. وفي النجف الاشرف قويت لديه ملكة الاجتهاد، وأصبح لرأيه الفقهي حضور في دروس " البحث الخارج " ( وهي اعلى مراحل البحث العلمي والتخصص الفقهي والاصولي في الحوزة العلمية)، ولاسيما بعد أن حضر سنوات عدة دروس السيد محسن الحكيم والسيد ابوالقاسم الخوئي والشيخ محمد رضا آل ياسين .
وعلى مستوى تكوينه الفكري ، فانه كان يشكل مع عدد من اصدقائه وزملائه في قم ظاهرة ثقافية وفكرية غير عادية، تعبر عن نفسها من خلال المحاضرات والندوات وجلسات البحث الفكري والمقالات وغيرها . وتزامن ذلك مع انفتاحه على الاجواء الثقافة والفكرية خارج الحوزة ، والمتمثلة في الوسط الجامعي ، وتحديداً دراسته في كلية الحقوق.
وفي النجف الاشرف انخرط السيد موسى الصدر في الاجواء النخبوية الفكرية والثقافية والادبية . والنجف هي في الواقع حاضرة أدب وثقافة وفكر اضافة الى كونها حاضرة علم ، فكان لهذه الاجواء تأثيرها في تعميق بنيته الفكرية وتنويع تجربته الثقافية . وهكذا فانه حين عاد الى قم اسس مع بعض زملائه واصدقائه اول مجلة علمية وفكرية في تاريخ قم سماها "دروس من المدرسة الاسلامية " ، وكتب فيها العديد من البحوث ولاسيما في الاقتصاد الاسلامي ، وكان يعبر فيها عن رؤاه الفكرية والفقهية.
ومن هنا فان ستة عشر عاما من التأهيل العلمي والفقهي والفكري المتواصل في قم والنجف الاشرف ، والمدعوم بالنبوغ المبكر والذكاء الحاد والعقل الابداعي والانفتاح الفكري والثقافي، خلقت من السيد موسى الصدر فقيهاً ومفكراً مبدعاً . ويكفي في هذا المجال ان استاذه آية الله السيد محمد باقر سلطاني الطباطبائي يقارنه بالسيد محمد باقر الصدر، فيقول:

إقتباس:
ان السيد موسى لم يكن من ناحية الذكاء والملكات والوعي العلمي أقل شأناً من المرحوم السيد محمد باقر الصدر، ولكن السيد محمد باقر له سابقة حوزوية أطول ، وبقي في الحوزة مدة اكبر
هذه الشهادة من فقيه كبير كآية الله سلطاني تثير اكثر من تعليق، فأن يقرن ذكاء عالم دين وابداعه وملكاته بذكاء السيد محمد باقر الصدر وملكاته فذلك مؤشر في غاية الاهمية ، على اعتبار ان السيد محمد باقر الصدر يعد من ناحية الابداع العلمي والفكري احد عباقرة عصره عراقياً وشيعياً واسلامياً وانسانياً . واذا تجاوزنا الانتاج العلمي والفكري للسيد محمد باقر الصدر، وقارنا بينه وبين ابن عمه السيد موسى الصدر، بالاعتماد على معيار السن، لما يمثل من دليل على الذكاء والنبوغ والعبقرية المبكرة، فسنرى ان المحصلة لافتة للنظر:
- السيد محمد باقر الصدر، أصبح أستاذاً في الحوزة العلمية في النجف الاشرف في سن 14 عاماً ، امتلك ناصية الاجتهاد في سن 18 -20 ، ألف أول كتبه في سن 17، اسس حزب الدعوة الاسلامية في سن 22 ، الف كتاب فلسفتنا في سن 24 ، اشرف على مجلة الاضواء الفكرية في سن 24-27 ، الف كتاب اقتصادنا في سن 27 ، أصبح مرجعاً دينياً في سن 39 ، فجرالثورة ضد نظام صدام وقادها في سن 44 ، استشهد في سن 45 . اي ان السيد محمد باقر الصدر بلغ ما بلغ من المراتب العلمية والفكرية والجهادية وهو لما يبلغ الخامسة والاربعين من عمره.
- اما السيد موسى الصدر فانه اصبح استاذا في الحوزة العلمية بقم في سن 19 عاماً، بلغ مرتبة الاجتهاد في سن24، اسس مجلة المدرسة الاسلامية في سن 29 -30 ، كتب بحوثاً في الاقتصاد الاسلامي في سن 29، تصدى للواقع الشيعي اللبناني في سن32 ، أصبح زعيماً لهذا الواقع في بعده الاصلاحي التغييري في سن35، اسس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في سن38 وترأسه في سن 39، اسس حركة المحرومين في سن45 ، غيب في سن 49 ، و قدم العديد من البحوث في مجالات الفكر الاسلامي والتفسير والعقيدة في الثلاثينات والاربعينات من عمره .
تجدر الاشارة الى ان ابناء الاسرة الصدرية يتمتعون غالبا بذكاء ونبوغ فطريين، حتى ان عدد مراجع الدين والفقهاء والزعماء والمفكرين والمبدعين الذين انجبتهم هذه العائلة التي تنتشر في لبنان والعراق وايران؛ يندر مثيله.

ترك الحوزة العلمية والتضحية بمستقبل ٍ مرجعي

المقارنة بين السيد محمد باقر الصدر والسيد موسى الصدر تكشف مدى التقارب على مستوى التكوين والظهور الاولي بين العبقريين ، الا ان الفارق الاساس الذي ميز السيد محمد باقر الصدر عن السيد موسى الصدر في البعد العلمي والفكري - فيما بعد- هو التصاق السيد محمد باقر بالنجف الاشرف واجوائها حتى استشهاده ، وابتعاد السيد موسى عنها حتى تغييبه . وهنا يقول آية الله سلطاني الطباطبائي بأن :

إقتباس:
السيد موسى كان من الشخصيات العلمية البارزة في النجف، ولكنه كان شاباً اولاً، وذهب الى لبنان ثانياً ، ولو لم يذهب السيد موسى الى لبنان وبقي سنين اخرى في النجف لاصبح من مراجعها المعروفين ... لقد بلغ السيد موسى درجة الاجتهاد، وكان أقوى (علمياً) من أغلب السادة المراجع الحاليين
وأن يكون الانسان شخصية علمية بارزة في النجف ـ كما وصف آية الله سلطاني السيد موسى الصدرـ لهو من الصعوبات الكبيرة ؛ لان المقاييس العلمية في النجف معقدة وقاسية جداً ، ولايمكن للحوزوي النجفي ان يبرز بسهولة ـ على اساس هذه المقاييس من بين آلاف الفقهاء وعلماء الدين والاساتذه والطلبة.
وابتعاد السيد موسى الصدر عن الحوزة العلمية النجفية، ولاسيما بعد أن برز اسمه فيها وكان مرشحاً لاحتلال موقع علمي مهم في وسطها ، يعد من كبريات مناقب السيد موسى، لأن من النادر أن يقوم فقيه بترك الحوزة العلمية و التوجه الى العمل الديني العام (التبليغي أو الاجتماعي أو السياسي أو الجهادي)؛ بالنظرالى ان الحوزة هي الموقع الطبيعي للفقيه من حيث التدريس والتأليف والتطور العلمي، وصولا الى مراتب المرجعية، فضلاً عن الشرعية العلمية الفتوائية التي يمنحها الاندكاك في الحوزة، و يحرص كل فقيه على المحافظة عليها. وهكذا فان الفقهاء الذين توجهوا نحو العمل الديني العام لم يتركوا الحوزة العلمية، بل جمعوا الاثنين معا، واذا لم يجمعوا بينهما فانهم يعودون الى الحوزة بعد حين. وهي في الحقيقة شرعية تعارف عليها الوسط العلمي الحوزوي، الذي يقول بأن الفقيه اذا ابتعد عن الحوزة والتواصل العلمي والتدريس، فانه غالبا ما يفقد ملكة الاجتهاد تدريجيا.
ومن هنا فقد كان ترك السيد موسى الصدر للحوزة العلمية ايثاراً وتضحية كبيرين منه ومبادرة تاريخية نادرة.
والحقيقة ان هذه المبادرة لم تعجب الذين لمسوا المستوى العلمي الذي بلغه السيد موسى، وكانوا يعتقدون ان مفارقته الحوزة خسارة كبرى له وللحوزة ؛ لانها موقعه الطبيعي الذي سيدفعه الى زعامة الحوزة والامة ، وهوما يؤكده زميله في الدراسة آية الله السيد محمدعلي الابطحي بقوله:
إقتباس:
لقد حدث ذهاب السيد موسى الصدر الى لبنان في فترة غيابي عن النجف ، والا فانني كنت سأمنعه بأي ثمن كما فعلت سابقاً حين غيرت رأيه بشأن السفر الى ايطاليا
والسبب كما يضيف ابطحي :
إقتباس:
لقد كان للسيد موسى مستقبل عظيم في النجف.. لقد كانت له ارضية زعامة التشيع، بل كان يمتلك ارضية المرجعية العليا للتشيع في العالم أجمع
ويقول زميل آخر له :
إقتباس:
لقد تأسفنا وتأثرنا من ابتعاده عن الحوزة العلمية... و لم نكن نريد أن يحصل مثل هذا
ويقول ثالث:
إقتباس:
لقد كان في سفر السيد موسى الصدر الى لبنان تضحية كبيرة، والا لو بقي مثل السيد محمد باقر الصدر في الحوزة لأثمر كثيراً
واللافت ان شهادة الامام السيد محمد باقر الصدر باجتهاد السيد موسى الصدر قدمت في اطار حادثة تعيدنا الى بداية الحديث؛ فخلال فترة التجديد لرئاسة الامام موسى الصدر للمجلس الشيعي الاعلى عام 1970وما رافقها من ملابسات وتشكيكات اطلقت بشأن اجتهاد السيد موسى ، فبادر بعض علماء الدين اللبنانيين الى السؤال من الشهيد الصدر عن هذا الموضوع فأجاب :
إقتباس:
لقد كان السيد موسى في النجف الاشرف مجتهداً بالتاكيد ، اما الان فالامر واضح ، والبائن للعيان ليس بحاجة الى بيان
ويذهب الذين يعرفون المستوى العلمي للامام موسى الصدر الى انه لم يكن مجتهدا فحسب ، بل مجتهداً مبدعاً و مجدداً ، ومن هؤلاء : استاذه آية الله سلطاني الطباطبائي والمرجع الديني السيد موسى شبيري الزنجاني وآية الله جعفر سبحاني والمرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي الذي يقول :
إقتباس:
بلغ الامام موسى الصدر درجة الاجتهاد وهو في سن الشباب
كما يقول احد كبار علماء قم :
إقتباس:
لقد كان السيد موسى الصدر مجتهداً قطعاً... كان ممتازاً جداً من ناحية النبوغ والفهم العلمي ، بل لقد كان نابغة .. إما لانظير له أو يمكن العثور على نظير له بصعوبة
ويضيف أحد الفقهاء الذين تخرجوا في النجف الاشرف :
كان السيد موسى من المفكرين وعلماء العالم الاسلامي الكبار . لقد كان متخصصاً ومتبحراً في معظم العلوم الاسلامية ، وبالتالي فان
إقتباس:
هذه الشمولية العلمية جعلته من مفاخر العالم الاسلامي . لقد كان المحققون والدارسون والباحثون يرون فيه هذه الخصوصية ، وهو انه عالم مجدد ومبدع

من تراثه الفكري

مع ان السيد موسى الصدر كان يدرّس في قم والنجف مناهج مرحلة " السطوح " ( شرح اللمعة الدمشقية ثم المكاسب والرسائل) في فترة الخمسينات، الا ان تركه المبكر الحوزة العلمية حال دون أن يكون لديه كتب ومحاضرات مدونة في الفقه الاستدلالي أو علم اصول الفقه وغيرهما من العلوم الاسلامية . وقد اكد بعض زملاء السيد موسى في الحوزة انه كان يدوّن دروس " البحث الخارج " في قم والنجف، وهو ما يعرف في الحوزة بـ "التقريرات" . وهذه التقريرات هي في الواقع مادة علمية دراسية مهمة جدا ، ولكن لم تأخذ هذه التقريرات التي دونها السيد المغيب طريقها الى النور.
كما ان العمل الميداني المكثف الذي مارسه الامام الصدر في لبنان ، كان يستنزف معظم وقته ، مما حال ايضا دون ان يكون لديه تأليفات في المجالين العلمي والفكري. ولاشك في ان الاسف في هذا المجال شبيه بأسف علماء قم والنجف من عدم بقائه في الحوزة العلمية . والحال ان الامام الصدر كان قد حدد المصلحة ، و هو أعرف بها، والدليل هو التركة العظيمة التي تركها في لبنان على كل المستويات .
اما تراثه العلمي والفكري والفقهي ـ المنشور ـ فيتلخص في احاديثه ومحاضراته ، وهي مع قيمتها العلمية والفكرية الكبيرة وما تحتويه من لمحات استدلالية فقهية ،الا انها لو كتبت على شكل بحوث وكتب أو أنه حررها بنفسه ، كما هو الحال مع بحوثه في الاقتصاد الاسلامي التي كتبها في نهاية الخمسينات ، لظهرت هذه القيمة العلمية بصورة اوضح واكثر لفتاً لنظر الوسط العلمي والفكري والثقافي في البلدان العربية والاسلامية الاخرى.
وعبر استعراض تراث الامام موسى الصدر يمكن الوقوف على أهم المحطات الفكرية التالية:
اولاً : دروس في الاقتصاد الاسلامي، وهي عبارة عن سلسلة بحوث كتبها لمجلة " مكتب اسلام " في عام 1959 ، وهي ذات قيمة فكرية عالية ، وتعد من اوائل البحوث التي عرفها الوسط الاسلامي في مجال التأصيل للاقتصاد الاسلامي .
ثانياً : محاضراته الخمس في كوادر حركة المحرومين ( حركة أمل فيما بعد ) حول فكر الحركة ونشأتها.
ثالثا : محاضراته الخمس حول الايديولوجيا والتراث وخيار التغيير والرؤية الكونية والاقتصاد. وقد احتوت هذه المحاضرات على مقولات فكرية وفقهية مهمة . واكثر ما يلفت النظر فيها محاضراته في الاقتصاد، اذ تحدث عن الفكر الاقتصادي والمذهب الاقتصادي في الاسلام بشخصية الفقيه المفكر.
رابعاً : محاضراته في البعد الايماني والعقيدي ، وتضمنت مقولات كلامية جديدة مهمة.
خامساً : دروس التفسير، التي القيت على كوادر حركية، و احتوت على تأملات عميقة في كتاب الله تعالى واستيعاب للآراء التفسيرية ، فضلاً عن الرؤى التي اختص بها السيد موسى الصدر نفسه.
سادسا: كتابات ومحاضرات متنوعة ، ابرزها "الاسلام وثقافة القرن العشرين"، وقد تحولت بعد تحريرها الى نص فكري وثقافي مهم ، اذ احتوت على مقولات ابداعية حول الاصالة والمعاصرة لم تكن مألوفة حينها ، وكذلك مقدمة ترجمة كتاب "هنري كوربان" وغيرها.

إعادة اكتشاف

لقد نجح أبناء مدرسة السيد موسى الصدر في جمع تراثه الفكري والثقافي والسياسي والحركي ، والذي تضمن نصوصه ومحاضراته واحاديثه ، في كتب وموسوعات. و كانوا أمناء في المحافظة على مضمون هذا التراث وشكله . وهو مايمكن عبره تحقيق هدف اعادة اكتشاف تراث السيد المغيب من قبل الاوساط الفكرية والثقافية والحركية خارج لبنان ، ولاسيما العراقية ، وهو هدف يمثل خطوة مهمة واساسية في طريق استثمار هذا التراث استثماراً نوعياً وواسعاً. وبالتالي؛ فهذا التراث يمثل مادة غنية ومهمة للتثقيف الانساني والوطني والاسلامي ولتنمية الوعي الفكري .
ان اعادة اكتشاف التراث الفكري و الثقافي للامام موسى الصدر، والتعرف عليه مفكرا وفقيها ، يمثل للباحث والمثقف متعة فكرية رائعة ؛ لأنه سيقف على مقولات في غاية الاهمية لم يسبق ان اطلع عليها خلال سنوات طويلة من التكوين الفكري والثقافي ومن البحث والكتابة ، كما سيدهش كيف انه في رحلة الفضول الثقافي الذي يدفعه للتقصي والتعرف على أكبر عدد من الرموز الفكرية وتراثها ، فاته ان يتعرف على السيد موسى الصدر الفقيه والمفكر .
كما ان اعادة العراقيين اكتشاف السيد موسى الصدر، سيشكل اضافة نوعية للمشهد الوطني العراقي على كل الصعد، ولاسيما الانسانية والثقافية والحركية؛ لان السيد كان يعمل في أجواء طائفية سياسية غاية في الصعوبة و تشابه الاجواء العراقية في ألوانها وطبيعة حراكها، ولكن نجح عبر سلوك انساني راق أن يؤسس لثقافة التسامح والتعددية وقبول الآخر والتعايش في لبنان، وهو مايحتاجه العراق اليوم بالتحديد.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم