غوستاف لوبون وسيكولوجية الجماهير

بقلم: د. هيثم مزاحم – عن صحيفة أفق –
نشأ علم النفس الجماعي في القرن التاسع عشر على يد بعض الباحثين الإيطاليّين قبل أن يتبلور بشكل علمي على يد المفكّر الفرنسي غوستاف لوبون. وكان علم سيكولوجية الجماهير أوّل من اهتمّ بتلك الجاذبية الساحرة التي يمارسها بعض القادة والديكتاتوريّين على الجماهير والشعوب. فهو يشرح لنا جذور تصرّفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما والتحمّس أشدّ الحماس للزعيم، فلا نعي ما فعلناه إلّا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. وربما يجعلنا ذلك الفهم أكثر حذراً من الانبطاح أمام أيّ زعيم جديد.
ويرى روبير ماندرو، أحد روّاد علم النفس التاريخي في فرنسا أن النفسية الجماعية لفئة ما ليست مجموع النفسيّات الفردية لأعضائها، كما أن الجماعة ليست محصلة لمجموع الأفراد. وهذا ما يشبه قول لوبون عن اختلاف الفرد المعزول أو الواحد عن الجمهور، فما أن ينخرط الفرد في الجمهور حتى يتغيّر وينصهر.
إن مناهج التحليل النفسي الخاصة بالأفراد لا يمكن نقلها إلى ساحة الجماعات وتطبيقها عليها إلا في حدود ضيّقة جداً، وبعد التعديل الكثير. ولكن الرأي العام الشائع يطبّق هذه الأشياء على طريقة الأحكام المسبقة كما هو معلوم. وهي أحكام عنصرية في جوهرها لأنها تقول مثلاً بأن المسلم متعصّب لأنه مسلم، أو إن العربي متخلّف بجوهره وعاجز عن صنع الحضارة لمجرّد أنه عربي، وهي أحكام عنصرية منتشرة في أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. إن تركيز المؤلّف غوستاف لوبون على مسألة العرق واعتباره العامل الحاسم في تحديد سلوك الشعوب والأفراد قد أصبح بالياً ومدحوضاً من الناحية العلمية. حتى فرويد لم ينجُ من هذه العنصرية التي كانت سائدة في عصره فهو يكتب مثلاً: ”كلّ فرد ينتمي إلى أرواح جماعية عدّة: روح عرقه، وروح طبقته، وروح طائفته…“.
لكن الجماهير هي الجماهير أينما كانت، ولا معنى للتفريق بين جمهور لاتيني وجمهور أنغلوساكسوني وجمهور إسلامي وعربي. فإذا ما وُجدت في ظروف تاريخية معيّنة انفجرت الجماهير ودمَّرت. ويمكننا إذا استخدمنا مصطلحات التحليل النفسي بذكاء واعتدال أن نفسّر الظواهر الخاصة بالجماهير كظاهرة ”العدوى“ أو ”التحريض“ مثلاً. وهذا ما فعله المؤرّخ الفرنسي الكبير جورج لوفيفر في دراساته عن الثورة الفرنسية، فقد استخدمها لوبون واستفاد منها في بحوثه بشكل إيجابي ومعقول من أجل فهم ظاهرة الجماهير الثورية في كتابه دراسات حول الثورة الفرنسية.

علم الجماهير بين الأيديولوجيات الدينيّة والسياسيّة
في الماضي كان الدين أو الأيديولوجيا الدينية هي التي تهيّج الجماهير وتجيّشها كي تنخرط في الحروب والثورات، كالدعوة العبّاسية والحروب الصليبية، إلخ.. وبعدما تعلمنت أوروبا في العصور الحديثة، حلّت الأيديولوجيات السياسية محلّ الأيديولوجيات الدينية للقيام بمهمّة التجييش. يقول الباحث ب. أديلمان في هذا الصدد: ”لقد حلّت السياسة محلّ الدين، ولكنّها استعارت منه الخصائص النفسية نفسها. بمعنى آخر، أصبحت السياسة ديناً مُعلْمناً“.
الباحثون في العقود الماضية اهتمّوا بظاهرة الجماهير وصعودها القويّ على مسرح التاريخ المعاصر وبدأوا يبحثون عن قدرة القادة المحرّكين لهم على التجييش، على غرار هتلر وموسوليني وستالين وماوتسي تونغ وغاندي. والسؤال الذي يطرحه علم الجماهير، أو علم النفس الجماعي، هو كيف أمكن لهؤلاء القادة أن يجيّشوا الجماهير بمثل هذا الحجم؟
هذا ما عمل عليه غوستاف لوبون لاكتشاف كيفية السيطرة على الجماهير والتحّكم بها. لكن لم يعد الباحثون اليوم يهدفون إلى ذلك من وراء بحوثهم، بل يهدفون إلى دراسة الشروط التي تجعل انبثاق ظاهرة الجماهير ممكنة في هذا البلد أو ذاك، في هذا الظرف الزمني أو ذاك.
أما السياق التاريخي السياسي لكتاب غوستوف لوبون سيكولوجية الجماهير، فهو حالة التمرّد الشعبي في فرنسا، المعروفة بكومونة باريس، إثر خروج فرنسا مهزومة في حربها مع ألمانيا العام 1870. فخلال دراسته لعلم النفس اصطدم لوبون بظاهرة الجماهير هذه وهاله أمرها، وخصوصاً الجماهير المتمثّلة بالحركات الشعبية والإرهاب. وكان الباحثون الإيطاليون قد ألّفوا كتباً عدّة عن هذه الظاهرة واعتبروا هجوم الجماهير على مسرح الأحداث بمثابة عودة أوروبا الحضارية إلى مرحلة البربرية والهمجية. أما لوبون فقد عرف كيف يركّز على هذا الموضوع ويتناوله من وجهة نظر أخرى غير السائدة، ويبني عليه نظرية متكاملة ومتماسكة.
توسّعت الدراسات خلال القرن العشرين في بحث ظاهرة الجماهير من جميع الجوانب، واحتلّ علم النفس موقعاً مهمّاً في هذه الدراسات حتى بات هناك علم قائم في ذاته هو علم نفس الجماهير، يهدف إلى دراسة الشروط التي تجعل انبثاق ظاهرة الجماهير ممكنة في هذا البلد أو ذاك، وفي الظروف التي تجعل الجماهير عنصراً في الوصول إلى حكم ديموقراطي أو إلى أشكال أخرى من الحكم الاستبدادي.
يعلّمنا علم النفس أن هناك روحاً للجماهير، مكوّنة من الانفعالات البدائية، ومكرَّسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي. وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوّم المغناطيسي الذي يجعل شخصاً ما يغطس في النوم، فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات أحد القادة أو المحرّكين وإيعازاته، لكونه يعرف كيف يفرض إرادته عليها. وفي مثل هذه الحالة من الذعر والخوف، فإنّ كلّ شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدّاً إطلاقاً لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلّة. فالقائد الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلاً من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير ويسيطر عليها.
الفكرة الأساسية في نظرية غوستاف لوبون بسيطة وواضحة جداً. فهو يريد أن يقول بأن كلّ كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكلّ هزائمها والصعوبات التي تواجهها تعود إلى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ وعدم معرفة مواجهته.
ومعلوم أن الشيء الذي صعق فلاسفة مدرسة فرانكفورت هو كيف أن الجماهير ثارت باسم الفاشية والنازية في أكثر دول أوروبا تحضراّ ورقياً، أي ألمانيا. وكان سؤالهم الأساسي: لماذا لم يستطع عصر التنوير أن يمنع ذلك؟ لقد اهتمّ علم الاجتماع الألماني بكتاب لوبون واعتبره نموذجاً وقدوة حتى مجيء هتلر إلى السلطة وتعبئة الجماهير بشكل لم يسبق له مثيل من قبل في تاريخ البشرية. فقد تأكّدت معظم أطروحات لوبون في هذا المجال، وانتشرت أفكاره كثيراً وتغلغلت حتى إلى أعماق الناس العاديين وانصهرت في الثقافة العامة.
وليس غريباً أن يجد لوبون في نفسه مكيافيللي جديداً. إنّه ماكيافيلي العصر الجديد، عصر الجماهير. يقول في كتابه ”علم النفس السياسي“: ”إن معظم القواعد والقوانين الخاصة بحكم البشر وقيادتهم والتي استخلصها مكيافيلي لم تعد صالحة منذ زمن طويل. وعلى الرغم من مرور أربعة قرون على هذا الرجل العظيم، فإن أحداً لم يحاول إكمال عمله“. وهو ما سعى لوبون للقيام به.
كانت الحركات الاشتراكية والأحزاب العمّالية هي المعنيّة الأولى بأطروحات لوبون الجديدة الخاصة بالجماهير. وكانت سياستها قائمة على التسليم بوجود العقلانية في ما يخصّ تحريك الجماهير والعمل السياسي ككلّ، مثلهم في ذلك مثل الحركات الليبرالية والأحزاب البورجوازية. فالفكرة الفلسفية التي كانت سائدة في كلتا الجهتين هي أن الناس يتحرّكون بشكل عقلاني ويفكّرون بمصالحهم بشكل منطقي عندما ينخرطون في العمل السياسي ويتجمهرون ويتظاهرون.. ثم جاءت أطروحات لوبون لكي تقلب الأمور رأساً على عقب. فقد صدمهم لوبون بتركيزه على العوامل اللاعقلانية في تسيير الجماهير وقوله بالسمة المحافظة جداً للجماهير. فعلى الرغم من غرائزها الثورية الظاهرة يرى لوبون أن الجماهير تظلّ محافظة جداً، ذلك أنها تعيد دائماً ما كانت قد دمّرته. فهو اكتشف ضرورة وجود أسطورة جبّارة، وبالتالي لا عقلانية، من أجل تحريك الطبقة العاملة وجعلها ثورية. فلولا الحلم والوهم لما ثارت الجماهير الجائعة لا في الماضي ولا في الحاضر تحت قيادة الزعماء والمحرّكين.
هناك سبب لإهمال اسم لوبون هو أن كلّ الأحزاب السياسية من يمينية ويسارية تستخدم وصفاته في دعاياتها وطريقة مخاطبتها للجمهور، ولكنّها لا تريد أن تعترف بذلك، كيلا تفشل خطّتها في التأثير. فهي تستخدم استراتيجية واحدة هي الإيمان بلا عقلانية الجماهير ضمنيّاً ثم التظاهر في الوقت نفسه بأنّها عقلانية ومنطقية. ولهذا السبب يقال بأن كلّ زعيم سياسي يظهر على التلفزيون يضع مسبقاً قناعاً على وجهه لكي يقول ما يدغدغ عواطف الجماهير لا ما يعتقده بالفعل.
كما أن هناك سبباً آخر لإهمال لوبون من قبل التراث الجامعي الفرنسي المعاصر هو تبنّي أفكاره وتحليلاته من قبل الحركة الفاشية في أوروبا. فقد كان هتلر وموسوليني من قرّائه. وعلى الرغم من كونه معادياً للفاشية، لكن هذه التهمة أُلصِقت به، فالإشاعة أقوى من الحقيقة، كما يقول لوبون.
*د. هيثم مزاحم باحث وإعلامي لبناني.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم