سلاح المقاومة لبناء دولة بدلاً من المزرعة - بقلم قاسم عزالدين
إعاقة تسليم قرار الحرب والسلم إلى "المجتمع الدولي"(1)
مفارقة نادرة في التاريخ السياسي تجمع بين فاشيين صليبيين،
وإسلاميين تكفيريين، ومتغرّبين نيوليبراليين، سوياً، على نزع سلاح المقاومة.
المفارقة الأدهى أن الجمع المتحارب في أصوله ومقاصده يجتمع على القول إن سلاح المقاومة
هو دولة داخل دولة مزعومة ليست في حقيقتها وفلسفتها أكثر من مزرعة غرائز بدائية.
وهذا الجمع ممن ضم مجلسهم يقول، كل من مرقد عنزته، إن على المقاومة تسليم سلاحها
إلى دولة مزعومة كي تصبح مزرعته دولة. سنحاول في هذه المقالة الدلالة على أن هذا
القول يستهدف إزالة سلاح الردع الذي يوفر
إمكانية بناء دولة على أساسه، ولا يستهدف توفير سلاح إلى مزرعة تصبح به دولة. وفي
القسم الثاني الدلالة على أن المقاومة أتاحت انتشار هذه الترهات العدوانية حين
أهملت توظيف انجازات المقاومة في العمل على بناء دولة بديلاً من المزرعة.
يتصوّر الجمع أن سلاح المقاومة الرادع حديد أصم من
الصواريخ والذخائر يمكن نقله من مخزن المقاومة إلى مخازن "الدولة"،
فتغتني به الدولة وتقوم به مقام المقاومة. والحقيقة أن هذا التصوّر هو بحد ذاته
مبرر كاف لعدم تسليم السلاح الرادع إلى جمع أرعن على رأس مزرعة، يتصوّر سلاح الردع
حديداً يمكن اقتناؤه في المخازن لشوفة الحال أو للتخلص من وباء فيه شبهة
"العنف". فأهمية السلاح الرادع ليس في السلاح الأصم نفسه مهما تضخم عدة
وعديداً، بل في ضمان طرق امداداته وتجديده وتطويره على الدوام. والأهم من كل ذلك
هو تراكم الخبرة الطويلة في بناء منظومة سلاح معيّنة تتناغم مع الأرض وبيئة
المقاتلين وثقافتهم، والهيكلية التنظيمية، وتخطيط القيادة... لمجابهة استراتيجية
حربية بعينها. وكل عنصر من هذه العناصر أهم من نوع السلاح وحجمه، فالمثل الشعبي
العراقي يقول "دابة محملة بالسلاح يأكلها الذئب". والقول في هذا السياق
إن المؤسسة العسكرية تتدبر الأمر ما أن يصبح السلاح في مخازنها هو إمعان في الكشف
عن جموح لإزالة سلاح الردع، لا توفير سلاح مستعار لبناء المؤسسة العسكرية. فمن الناحية
الذهنية المجردة يمكن للمؤسسة عسكرية أن تراكم خبرة قتالية وأن تعدّ العدة والعديد
للردع، مع الوقت، إذا توفر لها القرار السياسي. لكن هذه الغاية لا ترتهن مطلقاً
إلى رغبة المقاومة أو عدم رغبتها بتسليم سلاحها. إنما هي في أول المطاف وآخره
مرهونة لقرار سياسي من الدولة في بناء المؤسسة العسكرية بأدوات الدولة الخاصة.
فارتهان بناء المؤسسة العسكرية إلى أن تتسلَم سلاح المقاومة هو ضرب من الخبَل مثل
ارتهان بناء الاقتصاد الوطني إلى أن يسلّم رجال الأعمال والتجار رساميلهم. فلا
سلاح المقاومة يبني مؤسسة عسكرية رادعة ولا رساميل رجال الأعمال تبني اقتصاد دولة.
فالدولة ــ الدولة تبني مؤسسة الردع
وتنظّم الاقتصاد الوطني والاستقرار الاجتماعي والسياسة الخارجية ... في منطوق
الدولة بمعزل عن كل المكونات الاجتماعية
والسياسية، عندها فقط تنتظم كل مكونات المجتمع تحت جناحها طوعاً أو اضطراراً. قبل
ذلك على هذه الدولة أن تثبت جدارتها في تسليح المؤسسة العسكرية كما باقي الدول
التي تحترم نفسها، وتثبت أيضاً أهليتها في امتلاك قرار الحرب والسلم في يدها لا في
يد "المجتمع الدولي"، وأن تثبت صدقية في منحاها نحو دولة مسؤولة لا
عصابات فاسدة (كأن تنجح مثلاً بتوفير معجزة الكهرباء أوإشارات السير في أقل من
خمسين سنة!).
لم يحدث في التاريخ أن سلّمت مقاومة سلاحها إلى سلطة "انكشارية"
لا تملك من عدّة شغل الدولة غير " الكبلك والجربندية". ما حدث هو أن
مقاومة تحرّر الأرض تصل تلقائياً إلى السلطة فتدمج سلاحها ورجالها وخبرتها
وقياداتها في دولة ناتجة عن المقاومة. الإشكال في لبنان أن المقاومة ارتكبت خطأ
تاريخياً إذ تركت السلطة السياسية سلطة مزرعة ناهيك عن إدارة ظهرها لإصلاح النظام
وبناء دولة بديلة من المزرعة. أدى هذا
الخطأ إلى ازدواجية سلطة على أرض الواقع، وليس صحيحاً ما يشاع أن المقاومة هي جزء
من تحالفات السلطة والطبقة السياسية. فالمقاومة تبني تحالفاتها السياسية في السلطة
أملاً منها المحافظة على ازدواجية سلطة واقعية، بانتظار متغيرات استراتيجية في
المنطقة لصالح استراتيجية المقاومة. لكن أطراف السلطة المناوئة للمقاومة تستغل
انتظار المقاومة، للعمل على إدراج حزب المقاومة وسلاحها في سلطة المزرعة والعودة بالسلطة
إلى نقطة الصفر ما قبل احتلال الأرض وتحريرها. فهي تعمل للعودة بسلطة دولة المزرعة
إلى الخمسينات حين كانت السلطة جزء لا يتجزأ من المعسكر الغربي وحلف بغداد والأمن
الإسرائيلي. حينها كانت السلطة تعوّل على المعسكر الغربي لردع الاعتداءات
الاسرائيلية وتعتقد أن المعسكر الغربي قام بردع اسرائيل على خير ما يرام، ويمكنه
أن يقوم به اليوم وغداً إذا تضافرت جهود اللبنانيين و"المجتمع الدولي"
للقضاء على "الإرهاب". وبحسب قناعة دفينة لدى بعض أطراف السلطة المناوئة
للمقاومة، لم تعتدِ إسرائيل يوماً على لبنان ولا على جنوبه والجنوبيين، بل دافعت
عن نفسها طيلة ما كان "الزعران" يتحركشون بها وعلى أنفسهم يجنون. كانت
هذه الأطراف تتخيل وقتها أنها تقتني "قرار الحرب والسلم" كمقتنيات صك
على بياض يحق لها أن تسلمه للمعسكر الغربي "المتحضّر"، كونها تتخيل أن قرار
الحرب والسلم "ممسحة" يحق للسلطة أن ترمي به في أي سلّة تشاء. وهذا سبب
أساس من أسباب الخراب الذي لحق بلبنان الدولة واستجلب اكتساحه من كل حدب وصوب. فلبنان
الدولة لم ينل السلم يوماً واللبنانيين (أو قسمهم الجنوبي على الأقل) ولم يردع
المعسكر الغربي إسرائيل يوماً، وكان هذا تحصيل حاصل تأويل سلطة المزرعة لقرار
الحرب والسلم على ما تحاول أن تعود به في التحريض على المقاومة وسلاحها.
إلى جانب هذا البعض من أطراف سلطة دولة المزرعة، وفَدَ
دعاة "الاستقلال الثاني" للعودة بالسلطة إلى نقطة الصفر بعد جريمة
اغتيال رفيق الحريري. هؤلاء يلجأون، إلى "حدّوثة العروبة المنفتحَة"
أمام جمهور لا يستسيغ كثيراً "خبرية" قرار الحرب والسلم في يد المعسكر
الغربي وإسرائيل. فهذه العروبة كانت في الخمسينات والستينات كما هي اليوم مزارع
خاصة للمعسكر الغربي، لا تضع قرار الحرب والسلم فقط في يد الأطلسي بل تضع أيضاً
النفط والقواعد العسكرية والصناديق السيادية والقرار السياسي. كانت وما زالت
طائفية موغلة في استخدام التعصب الديني لتبرير تبعيتها الذيلية إلى المعسكر الغربي،
بمقدار انفتاحها على "الحداثة" في بذاءة استهلاك السلع الغربية. استخدمت
التعصب الديني لخدمة استراتيجيات وسياسات المعسكر الغربي في محاربة كل المناوئين
للمعسكر الغربي في مصر والعالم العربي والاسلامي وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
تستخدمه اليوم كما بالأمس أينما كان ولا سيما في محاربة إيران وحزب الله، جامعة في
جيبها خليط عجيب غريب من "ديمقراطيين" وتكفيريين ومتغرّبين في ثقافة
"الحداثة" الاستهلاكية. ورب ساذج بريء يقول إنه "تلاقي مصالح"
بين أطراف متباعدة يجمعهم "التهديد الإيراني" مع المعسكر الغربي. وهذا
لعمري عذر أقبح من ذنب في تسويق "تلاقي المصالح" بين الفيل والنملة. ما
هو أقبح من ذنب ليس تهويل "التهديد الايراني" ضد العرب، (وهو في جانب
منه حقيقي نتيجة الاحتلال الغربي للفراغ العربي)، بل تنحيف مصالح المعسكر الغربي
والاسرائيلي إلى حد تلاقيها في خرم الإبرة مع مصالح سلطات المزارع العربية.
إن مقاومة حزب الله شيعية مرتبطة بإيران وسلاحها إيراني
في معظمه. لكن هذه المقاومة ليست سلاحاً وحسب ولا هي شيعية مرتبط بإيران وحسب. هي
تراكم خبرة وقيادة وطنية وتضحيات طويلة لا يمكن إعادتها إلى نقطة الصفر كأنها ما
كانت لكي تبدأ المقاومة من جديد عند أول اعتداء اسرائيلي. ولا يمكن نزع سلاحها
بدعوى تسليمه لمؤسسة عسكرية في دولة ــ مزرعة تضع قرار الحرب والسلم في يد
"المجتمع الدولي"، أو تنحازعن "تلاقي مصالح"،بل عن ذيلية
بلهاء "للعالم الحر" من طريق "حدّوثة العروبة المنفتحة".
فالمقاومة التي تتهمها سلطة المزرعة المناوئة للمقاومة بأنها "دولة داخل
الدولة" هي سلطة أمر واقع اكتسبتها المقاومة بدماء شهدائها وتضحياتها، نتيجة
تخلّي سلطة المزرعة عن أبسط واجباتها في الدفاع عن الأمن الوطني. وما تسعى إليه
المقاومة بعد نجاحها في توفير القدرةعلى الردع هو إعاقة عمل سلطة المزرعة للعودة
إلى الخمسينات في أحضان المعسكر الغربي ونفط الخليج، وإلى ما قبل تضحيات المقاومة
في تحرير الأرض حتى عام ألفين وهزيمة إسرائيل عام 2006. ففي إعاقة سلطة المزرعة
نحو العودة إلى نقطة الصفر، لا تهدد المقاومة الطوائف الأخرى بل تهدد منحى تسليم
قرارالحرب والسلم إلى "المجتمع الدولي" دون أن تمس(للأسف) بمعادلات
احتراب الطوائف في غابة المزرعة. في هذه المزرعة حال الغالبية الساحقة من الشيعة
في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية هو كحال الغالبية الساحقة من السنّة في
الشمال وعكار والبقاع الغربي، وكحال الغالبية الساحقة من الطوائف الأخرى تعيش كلها
في غابة ذئاب. كما أن حال الأقلية الشيعية القليلة من زبائنية السلطة هو كحال
الأقلية القليلة من الطوائف الأخرى تعيش على استباحة هيكل عظام الدولة والثروة
العامة. فالأقليات القليلة تتقاتل فيما بينها على توزيع النفوذ وتقاسم المغانم
لكنها تحرص يداً بيد على بقاء دولة المزرعة وسلطتها دجاجة تبيض لها ذهباً. ولا تترك
هذه الأقلية القليلة للأغلبية الغالبة من كل الجماعات الطائفية سبيلاً غير
الاحتراب الطائفي والمناطقي والعائلي على ما يتساقط من أفواه نافذي سلطة المزرعة
"حسنات ومكارم"، أو أملاً بحظوة من فتات.
الجماعة الشيعية التي " تشعر بفائض قوة" نتيجة
انتصار المقاومة لا تزيد أوتقل طائفية عن بقية الجماعات الطائفية والمذهبية. لكن
طائفية الجماعة الشيعية والجماعات الأخرى لا تؤدي إلى احتراب طائفي ومذهبي بين
الجماعات بدون احتراب سياسي على المكانة في توزيع النفوذ الغريزي والثروة الخام.
ومن العبث وقف الاحتراب الطائفي ما بقيت سلطة المزرعة دجاجة تبيض ذهباً، وما بقيت
تدفع الجماعات إلى أن تأكل من حصص بعضها البعض نفوذاً غريزياً وثروة خام، ولا تنتج
ثروة حقيقية مشترَكة مع بعضها البعض تتراكم كلما توسعت على الجماعات والمناطق
وانقسمت. فدرهم مصالح مشترَكة في انتاج ثروة حقيقية اقتصادية واجتماعية وثقافية
بين الجماعات والمناطق خير من قناطير نفاق في "العيش المشترك" بين الآخر
من كوكب المريخ والآخر من كوكب الزهرة. المقاومة في هذا السياق لم تعمل على تغيير
أسس سلطة المزرعة ولا على بناء دولة ونظام مصالح مشتركة بين الجماعات والمناطق.
لكنها تعمل على إعاقة نزع سلاح الردع من يدها والعودة إلى نقطة الصفر في البكاء
على أبواب مجلس الأمن. تعمل على إعاقة تسليم قرار الحرب والسلم إلى "المجتمع
الدولي"، وعلى إعاقة "تلاقي مصالح" سلطة المزرعة مع "عروبة
منفتحة" ليست أكثر من مزارع للأطلسي ومحميات. تنتظر المقاومة تحولات
استراتيجية في المنطقة تنأى بها عن الدخول في معضلة نظام بلد "متعدد
الطوائف" شديد التقلبات والاستقطابات الخارجية. المقاومة تنتظر الوقت لكن
أحوالاً كثيرة تتغير بمرورالوقت.
السلاح لخيار آخر بين الاستبداد والاستعمار. (2)
التحريض على المقاومة وسلاحها بأنها جماعة شيعية ايرانية
"دولة داخل الدولة"، يستهدف إزالة سلاح الردع وهو أساس بناء دولة على
أنقاض المزرعة، إذا قُيّض للدولة أن ترى النور يوماً ما. على أرض الواقع لا تجد
سلطة تعيث في الأرض نهباً وفساداً من أدوات التحريض الممكنة ضد سلاح الردع الوطني،
غير الاحتراب الغريزي والطائفي. فحزب المقاومة ديني شيعي يؤمن بولاية الفقيه مرتبط
استراتيجياً بإيران، ما يسهّل اللعب على توتير الغرائز البدائية وإعادة إحياء
موروث حروب داحس والغبراء بين الشيعة والسنّة والعرب والفرس... إلخ. لكن كيف يسهل
لسلفية خليجية موغلة بالتعصب الأعمى، أو استعمار يفيض بجموح النهب والاستغلال،
توتير الغرائز في استقطاب جمهور واسع ضد المقاومة وإيران. ولماذا انقلب هذا
الجمهور العريض من عدائية صلبة لأميركا وإسرائيل ونفط الخليج، إلى "تلاقي
مصالح" وإلى "عروبة منفتحة" ذيلية للأطلسي، وإلى اعتبار إيران
العدو القومي والديني لا اسرائيل وأميركا؟ في بحث هذه الاشكالية لا معتقدات حزب الله الدينية الشيعية سبب أساس في
"شيطنة" المقاومة، ولا التحريض السلفي الغريزي سبب حاسم في العداء
الأعمى ضد المقاومة. إنما الأسباب معظمها على الأرض والمصالح والخيارات السياسية
في سبُل المعاش وأحوال العمران، لا في الرأس والمعتقدات والأفكار الذهنية. فعدا
الموجة التكفيرية التي أنتجتها السعودية
والمخابرات الأميركية قبل أن تنقلب على بعض أتباعها في أفغانستان، الأساس في هذا
الانقلاب هو مشروع أوهام "الحريات
الديمقراطية" الفردية والإقتصادية ــ الاجتماعية ــ الحداثوية .... في تبعيتها
إلى استراتيجيات ومصالح الدول الغربية. أوهام هذا المشروع هي التي تدغدغ أحلام
الجمهورالعريض في "الارتقاء" ضد ما تسميه الدول الغربية ومؤسساتها
الدولية "العنف والتخلف والشمولية والتعصب والظلامية...." . وفي المقابل
لا تواجه المقاومة أوهام هذا المشروع بمشروع سياسي وخيارات بديلة أوحتى برؤية على
مستوى كلّية المشروع المعادي. بل بقيت المقاومة في موقع الدفاع ورد الاتهام ورد الفعل. وغني عن البيان أن رد الفعل ينقصه
دوماً خطوة أوخطوتين في قراءة الأحداث وتوظيفها.
مقاومة حزب الله حركة وطنية ورثت ضعف طموحات الحركات
الاستقلالية العربية والوطنية، مثلما ورثت تجاربها بحسناتها وسيئاتها. ولدت من
ارتدادات موجة الثورة الإيرانية في العالم العربي ــ الاسلامي، لكنها ولدت على
أنقاض هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينيةــ اللبنانية واحتلال ثاني عاصمة عربية بعد
القدس. هذه الهزيمة لم تكن عسكرية في معركة، إنما كانت هزيمة سياسية قاتلة أدّت
إلى إدخال المقاومة الفلسطينية في نفق
"السلام"، وإلى تلاشي الحركة الوطنية اللبنانية، برغم ولادة
"جمّول" بعد احتلال بيروت. فالتوافق الدولي ــ الإقليمي على "الحل
السلمي" قصم ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية ــ اللبنانية، إنما لم يكن ظهرها
من الصلابة بما يعينها على حملٍ أقل من ذلك بكثير على الصعيدين العسكري والسياسي :
على الصعيد العسكري لم تتجاوز الحركة الوطنية بعض العمليات الانتحارية دون استعداد
جدي لأي مواجهة حتى في التحصينات والملاجىء، ناهيك عن التخطيط وإرادة القتال. ولم
تتجاوز القنص والتراشق المدفعي على خطوط التماس وهما قتل على الهوية بدعوى
"محاربة الانعزالية والطائفية". هذه المعضلة العسكرية تجاوزتها مقاومة
حزب الله باكراً، برغم التوافق الدولي ـ الإقليمي نفسه، قبل أن يرى النظام السوري
أن المقاومة أصبحت قوّة فعلية يمكنه الإفادة من قوّتها في لعبة التجاذب الإقليمي
ــ الدولي. وعلى الصعيد السياسي أدارت المقاومة ظهرها "لبرنامج الإصلاح
الوطني"، لا بسبب معتقداتها الدينية الشيعية بل نتيجة مأزق هذا البرنامج ودعوات الإصلاح العرقوبية التي رافقته وما تزال.
البرنامج تعبير عن طموح مجموعات "حداثوية" في إصلاحات دستورية للمشاركة
في السلطة، دون استنادها إلى قوى أجتماعية يلبي "البرنامج" طموحاتها
ومصالحها. فالقوى التي ينبغي أن تدافع "من حيث التجربة التاريخية" عن
هذه الاصلاحات كالصناعيين وكبار المهنيين والمثقفين وكوادر "الدولة" من
الطبقة الوسطى فما فوق.... هي بغالبيتها في المقلب الآخر تقاتل أي إصلاح يحدّ من
زبائنيتها لسلطة المزرعة. والقوى الاجتماعية الأخرى الأوسع كالمزارعين والعاملين
وصغار الكسبَة والحرفيين وشباب الفئات الشعبية.... لم يجرِ اختبارها في برنامج
سياسي ــ اجتماعي جدّي يلبي،" من حيث التجربة التاريخية"، طموحاتها ومصالحها.
فما يلبي طموحاتها هو مشروع بناء الدولة لا مشروع الاصلاحات الدستورية ومشاركة
الاصلاحيين في السلطة.
خوف اصطدامها في مأزق السلطة، اختارت المقاومة
استراتيجية تحرير الأرض ومجابهة العدو الاسرائيلي دون المساس بمعادلات السلطة وبمصالح
القوى الاجتماعية والسياسية المستفيدة من زبائنيتها وتوزيع فتاتها. رأت المقاومة
وما تزال أن مجابهة العدو الأسرائيلي مفتاح التحولات الاستراتيجية في لبنان
والمنطقة، وأن المساس بمعادلات السلطة يفجّر حرباً أهلية تؤدي على الدوام إلى
إعادة صياغة مقولة "لاغالب ولا مغلوب". وفي حقيقة الأمر لم تكن المقاومة
تملك من القوى لتحمّل مسؤولية تحرير الأرض وبناء الدولة في انجاز المهمتين الوطنية
والاجتماعية على السواء. لقد ولدت في أعقاب فرز مناطقي طائفي وهزيمة مقولات
الاصلاح الدستوري والسياسي، وفي ظروف إقليمية ودولية ناءت كل الحركات الوطنية
والتحررية في العالم تحت أثقال مشابهة. والحقيقة الأخرى أن المقاومة لم تجد ما
تبني عليه في انجاز المهمتين الوطنية والاجتماعية وبناء الدولة في المنطقة
العربية. فالحركات الوطنية والاستقلالية العربية لم تنتج تجربة ولا تراثاً في بناء
الدولة، إنما خلطت، وما تزال، بين السلطة والدولة وأسهبت على اختلاف مشاربها
القومية واليسارية والإسلامية في انتاج تراث فكري ــ سياسي يعيق الوصول إلى الخطوة
الأولى في بناء الدولة، اعتماداً على القوى الاجتماعية الواسعة التي تلبي الدولة
مصالحها وطموحاتها. أشاعت، على اختلاف مشاربها، ما لذّ لها وطاب من"شروي
غروي" طقوس وآداب التكيّف مع النموذج الرأسمالي الغربي في ملحقاته وتوابعه،
برغم معارضته السياسية حيناً والثقافية حيناً آخرا والقومية العرقية حيناً ثالثاً
ورابعاً. أشاعت، وما تزال، ما يخطر على البال وما لا يخطر من "نشر
الوعي" في طقوس التنمية والتكامل وزيادة الانتاجية والدخل القومي وفي آداب
"الحداثة" وثقافة "الحيز العام".... عدا أولى الأسس المؤسسة
لبناء الدولة وهي الاعتمادعلى القوى الاجتماعية التي تلبي الدولة مصالحها
وطموحاتها. وعدا دور الدولة في تنظيم السياسية الاقتصادية ــ الاجتماعية لصالح
قطاعات حياة غالبية الناس على حساب الأقلية في الداخل، ودورها في تنظيم السياسية
الخارجية والدفاعية، ضد التبعية إلى استراتيجيات ومصالح دول "المجتمع
الدولي"، لحماية تبادل المصالح الوطنية (التي تفيد قطاعات الفئات العليا
أساساً) وتوسعها في الخارج.
في هذا المسار نحو توفير الظروف التي تؤدي "للعبور
إلى الدولة"، أخذت مقاومة حزب الله على عاتقها أولوية تحربر الأرض في
المجابهة العسكرية لاستراتيجيات ومصالح دول "المجتمع الدولي". والأصح أن
دول "المجتمع الدولي" هي التي فرضت على المقاومة مجابهتها ليس بسبب
حمايتها أمن اسرائيل فحسب، بل أيضاً نتيجة
استراتيجياتها ومصالحها المعادية في المنطقة لأي من الحقوق العربية. ففي ظروف
انهيار داخلي وفراغ عربي تحتله اسرائيل ودول "المجتمع الدولي"، وفي ظروف
دولية طاغية لصالح استراتيجيات البيت الأبيض وحلفائه، نجحت حفنة من المقاومين
والقيادة المصممة على المجابهة بوقف المحدلة وكسر قرون الثور الهائج بالعنف
المسلّح رداً على العنف المسلّح. فهل كانت هذه المجابهة جزء من المجابهة الإيرانية
مع الولايات المتحدة وحلفائها، وهل كانت "لصالح لبنان" على ما يتساءل
أطراف سلطة المزرعة المناوئة للمقاومة ومزارع عروبة النفط المنفتحّة؟ كانت هذه
المجابهة لصالح كل القوى التي تتعارض مصالحها وطموحاتها مع استراتيجيات الولايات
المتحدة وحلفائها وملحقاتها. وقد أفادت منها إيران بطبيعة الحال لكن أفادت منها
أيضاً المقاومة في فلسطين، وأفادت بعض
الدول الصاعدة في اختلال موازين القوى الاستراتيجية لصالحها، وأفادت منها كذلك
حركات الاستقلال والتحرر في أميركا اللاتينية، وما كان لحديقة أميركا الخلفية أن
تتنفس الصعداء دون نقل الترسانة الأميركية العسكرية والأمنية إلى الشرق الأوسط، ودون
كسر شوكتها في لبنان والعراق وفلسطين وأفغانستان. وعلى هذا الصعيد الاستراتيجي
ساهمت مقاومة حزب الله بإماطة اللثام عن الثورات العربية ضد القهر والاستبداد
والإلحاق، فالإحباط لا يولّد الثورات، ولا تثور الشعوب ما لم تنكسر شكيمة
الاستبداد الأكبر الذي يحمي الاستبداد الأصغر وما لم ترَ مثلاً ناجحاً في عين
تقاوم المخرز.
المقاومة ساهمت في كل هذه التحولات الاستراتيجية من حيث
تريد ومن حيث لا تريد. لكنها لم تستثمر أياً منها في استراتيجيتها وفي سياساتها،
بل على العكس من ذلك تركت القوى المعادية حرة اليدين لاستثمار التحولات في شن حرب
على المقاومة هي جزء من حرب أوسع وأشمل لتفتيت المنطقة واهترائها. في هذه الحرب
ليست الترسانة العسكرية الأميركية ــ الاسرائيلية في المقدمة منذ هزيمة اسرائيل
عام 2006، بل هي في الخلف لحماية حروب التفتيت والاهتراء في إطار استراتيجة إعادة
الاستعمار. والحال أن السلاح الصلب لمواجهة استراتيجية عودة الاستعمار هو في نهاية
المطاف الضمانة الخلفية الأخيرة والحاسمة. لكن أسلحة أخرى لا بد منها لمواجهة
مشروع التفتيت والاهتراء بمشروع بديل اعتماداًعلى مصالح وطموحات القوى الاجتماعية
التي يلبي المشروع البديل مصالحها وطموحاتها. فخطاب التنديد ب"الفتنة السنية
ــ الشيعية" هوخطاب دبلوماسي لا يطفىء لهيب الاحتراب العصبوي بين كل الجماعات
الطائفية والإثنية والعشائرية والقبلية. وخطاب تذكية الشعور بالقضية الوطنية
والقومية والإسلامية في فلسطين، لم يعد يكفي لإقناع من يأملون توحيد جهود كل القوى
نحو فلسطين، دون إذلال كراماتهم الانسانية ودون اضطهادهم السياسي والاجتماعي.
فمشروع التفتيت والاهتراء يلعب على هذا الأمل بفصل المسألة الوطنيةــ القومية عن
الحقوق الاجتماعية والحريات المدنية والديمقراطية، بدعوى التخلّص من القمع
والاستبداد الأصغر. ينشر الأوهام بكل السبُل والامكانات الهائلة بشأن حق الأفراد
أن يتمتعوا بحرياتهم "الديمقراطية" في مواجهة استبداد السلطة بمعزل عن
تحررهم الوطني والاجتماعي من نهب واضطهاد الاستبداد الأكبر. هذه الحريات تفضي إلى
تحرر كل جماعة من هيمنة السلطة، لكنها تفضي في الوقت نفسه إلى احتراب الجماعات على
النفوذ والمكانة للاستيلاء على الثروة الطبيعية الخام وتبديدها في خدمة مصالح دول
"المجتمع الدولي" ومصالح أتباعها المؤهلين "للديمقراطية".
المقاومة لا يشغلها شاغل عن الاستعداد لرد عنف الحرب
الصلبة بالعنف المسلّح. هذا الأمر مطمئِن لضمان فشل عودة الاستعمار. لكن هذا الأمر
لا يعفي طاقات واسعة في حزب الله وحوله امتداداً إلى المنطقة من المنشغلين بالدعاء
للمقاومة، أن يجعلوا مع الدعاء قطراناً. فالتنديد بمشروع التفتيت والاهتراء وفضح
المؤامرة هو خطاب رد فعل حرَفي بدائي على فعل صناعي بتقنيات عالية. فالتقنيات
الصناعية المعادية تفعل فعلها ككرة الثلج في زرع أوهام التخلص من الاستبداد
السياسي والقهر الاجتماعي في حضن الاستعمار، إذا استعادت الجماعات حقوقها
المفترضَة من جماعات أخرى وقاتلتها وكسرت عصبيتها. ولا بدّ من تقنيات فعل أرقى منها
تعمل مع قواعد الجماعات التي تلبي المصلحة العليا المشتركَة (الدولة) مصالحها
وطموحاتها، لا بالحوار مع زعمائها ومشايخها فحسب، لطمأنتها وإقناعها بأن حقوق
الفئات الدنيا من أبناء الجماعات هي حقوق مشتركَة غير قابلة للقسمة، أو لا تكون
حقوق لأي منها. هذا ما يفضي إلى بناء دولة حقوق سياسية واجتماعية تضمن الحريات
المدنية والديمقراطية، ويفضي أيضاً إلى فلسطين وإلى قطع دابرالاستبدادين الأكبر
والأصغر. فالسلاح هو الضمانة الأخيرة في الحروب الصلبة، لكن من أجل خيار آخر بين
الاستبداد والاستعمار.
Comments
Post a Comment