بيكاسو: نجاحه وإخفاقه - د. هيثم مزاحم



" كتاب للكاتب البريطاني جون بيرجر نقله إلى العربية فايز الصياغ ونشرته المنظمة العربية للترجمة في بيروت عام 2010. نشر الكتاب لأول مرة في العام 1965، فتوالت عليه الهجمات من أكثر من مكان، باعتباره يطرح موقفاً نقدياً متغطرساً وخبيثاً، تنقصه الحساسية، من أعمال الفنان الإسباني ـ الفرنسي الشهير بابلو بيكاسو. نبذ الكتاب في انجلترا بوصفه فاسد الذوق.
وكان بيكاسو آنذاك على قيد الحياة وفي أوج عظمته. يقول الكاتب بيرجر إنه تفاجاً من رد الفعل النقدي الذي واجهه كتابه هذا، فقد اعتقد أنه وضع مقالة تنبض بالتعاطف مع الفنان ومع الإنسان الذي يمثله. وتبدأ المقالة على سبيل المثال بمناقشة ثروة بيكاسو، وإذا قدرت المبالغ التي ذكرها الكاتب آنذاك بما يعادل أسعارها بالعملة الراهنة لكان علينا مضاعفة الرقم عشر مرات على الأقل. وما إن توفي بيكاسو في العام 1973 عن واحد وتسعين عاماً، حتى بدأت جولات مضنية من التقاضي أمام المحاكم حول ثروته.
ويقر الكاتب بيرجر أنه عندما ألف الكتاب لم ينوه بما فيه الكفاية بجملة من الأعمال النموذجية التي رسمها بيكاسو بين عامي 1902 ــ 1905، إذ كان ينتظر بفارغ الصبر الوصول إلى المرحلة التكعيبية. ويضيف بيرجر أنه نتيجة إخفاقه بإيلاء ما يكفي من العناية لهذه الفترة المبكرة، فقد فاته واحد من المؤشرات عن طبيعة بيكاسو بوصفه فناناً. فقد تلمس عبقريته ودار حديثه حولها من دون أن يتغلغل في صلبها. وفشل بالتالي في صوغ أفكاره على نحو كاف. ويقول إنه يمكن أن يعوض عن هذا التقصير الآن.

لوحة "صورة ذاتية"
إن الرسم هو الفن الذي يذكرنا بأن الزمن والشيء الظاهر للعيان إنما يتجليان أمامنا سوياً، في وضع تزاوجي. أما المكان الذي يتجليان فيه فهو العقل البشري، الذي يستطيع أن ينسق الأحداث في متولية زمانية وتمظهرات على هيئة عالم ظاهر للعيان. وفي اللحظة التي يتبلور فيها العنصران الزمني والمرئي، يبدأ الحوار بين الحضور والغياب، ونحن جميعنا نعيش هذا الحوار. فلننظر سوية إلى لوحة بيكاسو "صورة ذاتية" المرسومة عام1906
ما الذي يحدث في هذه اللوحة، لماذا تستطيع هذه الصورة الساكنة ظاهرياً أن تحرك مشاعرنا بهذا العمق؟
إن تعبيرات هذا الفتى، وهي لا تدعو إلى الاستغراب في شاب في الخامسة والعشرين من العمر، توحي بالوحشة والتنبه والفضول. إنها تعبيرات يجتمع فيها الإحساس بالفقد والانتظار. غير أن ذلك هو الانطباع على المستوى الأدبي فقط. ولكن ما الذي يحدث تشكيلياً؟ إن الرأس والجسد يتوجهان إلى ما هو مرئي، وما زالا يبحثان عن شكل ملموس دون أن يجداه تماماً حتى الآن. إنهما يوشكان على استكشافه والهبوط عليه، كما يفعل طائر على سطح بيت. إن الصورة تتحرك، لأنها تمثل حضوراً يوشك على الترائي والظهور للعيان.
غير أن ما هو خارج عن المألوف هنا هو أن بيكاسو يجد ــ أي يعثر على شيء ولكنه على نحو ما يتبينه ــ أساليب الرسم الضرورية للتعبير عن ذلك "الترائي" الطارئ إلى حد الاستماتة. وفي الفترة الممتدة بين عامي 1902 و1907 ، وهي السنوات التي أدت إلى ظهور لوحة آنسات أفينيون وصوراً عديدة تعبر عن بوادر الأمل بتسوية قضية المرئي ــ وهي تسوية تمثل الضمان الذي كان مستحيلاً قبل ذلك ــ بأنه قد أخذ بالترائي. إن في هذه الصورة الذاتية أدوات تصويرية تساعد في التعبير عن لحظة الترائي تلك: الطريقة التي تندلق فيها بقع اللون اللحمية على الملامح العامة؛ التصوير الاختزالي المنقوص للظلال؛ خطوط قسمات الوجه المرسومة على الوجه لا فيه، كما لو كانت أشكالاً مرسومة على مزهرية.(إنه مثل آدم في البرهة التي أعقبت خلقه وقبيل أن يأخذ أول أنفاسه).
وقد استخدم أدوات أخرى في لوحات أخرى رسمها خلال تلك الفترة ذاتها، يشك الكاتب في أنه استخدمها استخداماً واعياً. لم يقبل بيكاسو الواقع البصري بوصفه أمراً صميمياً أصيلاً لا محيد عنه. لقد كان مدركاً على الدوام أن كل شيء يراه ربما كان قد اتخذ شكلاً آخر، وأن ثمة مئة رؤية ممكنة أخرى وراء كل مرئي لم يقع عليها الاختيار بعد.
بيد أن بيكاسو، في مواجهة المرئي الماثل أمامه، وفي غمرة توقه لبلوغ إجابة ما، قد بدأ يبعث بمرئيات محتملة ممكنة، قبل التأكد من ضمان المرئي كما نعرفه. وكا اندفعاه الشيطاني العارم للاختراع مستمداً من ذلك الإيمان البعيد الغور بأن المرئي، أصلاً، هو أمر اعتباطي.
ومن الأساليب الأخرى لوصف الحدة الشعورية في الصورة الذاتية المرسومة في عام 1906 القول إنها صورة لحالة ما قبل الوجود، صورة تتمخض عن ولادة موضوعها. إن تساؤلات بيكاسو وبحثه عن ضالته المنشودة لم ترتكز على التجربة الفنية وحسب، بل انبثقت وترسخت في سياق تجارب إنسانية أعرض بكثير، ولا سيما تلك التي تتجاوز فيها طاقة الجسد النزعات الفيزيائية المعتادة. ولهذا السبب كان بيكاسو مسكوناً بصورة العاطفة المشبوبة والألم، وكان قادراً على خلقها كذلك: صور تتجاوز فيها الطاقة ما هو موجود، صور تكشف لنا النقاب عن أن ما هو موجود ليس كاملاً أو ناجزاً على الإطلاق.
لقد كان بيكاسو هو المعلم السيد لما هو ناقص غير مستكمل، بل لتجربة عدم الاستكمال. فإذا كان الرسم معنياً بحوار يدور حول الحضور والغياب، فإن فن بيكاسو، في أعمق حالاته يتموضع على العتبة التي تفصل بين هذا وذاك، على باب ما هو آخذ بالتبلور، باب ما قد بدأ للتو، وما لم يكتمل بعد.



ثروة بيكاسو
كان بيكاسو يتمتع (عام 1965) ، أي قبل وفاته، بثروة وشهرة لم يتمتع بمثلها فنان آخر في أي وقت مضى، فثروته أكبر من أن تحصى. فهو يحتفظ بمجموعة تضم مئات عدة من لوحاته الزيتية من جميع مراحل حياته. وكانت تساوي نحو خمسة وعشرين مليون جنيه استرليني آنذاك. ومجموعة بيكاسو الخاصة من أعماله تضم خمسمئة لوحة على القماش على الأقل، وهي أكبر وأهم من لوحات الطبيعة الصامتة، مما مثل ثروة كبيرة له بملايين الجينيهات أنذاك. وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية، ابتاع بيكاسو بثمن لوحة واحدة من نوع "الطبيعة الصامتة" بيتاً في جنوب فرنسا. ووصلت شهرة بيكاسو وثروته ونفوذه في العقد الخامس من القرن العشرين، مرحلة جعلته قادراً على امتلاك ما يريد. فإذا رغب بامتلاك شيء ما ليس عليه إلا أن يرسمه. فيحصل ثمنه من بيع الرسم. لكن بيكاسو كان ثرياً قبل ذلك بوقت طويل، فقد شرع السماسرة بشراء لوحاته منذ عام 1906، وفي عام 1930 اشترى قصر بواجيلو الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر. وتحرر بيكاسو في سن الثامنة والعشرين من الهموم المالية وبعد الثامنة والثلاثين أصبح ثرياً، وبعد الخامسة والستين أضحى مليونيراً.
أما شهرته ففاقت شهرة بوذا ومريم العذراء ورؤساء الوزراء عند البعض. لكن معرفة اسم بيكاسو لم ترق إلى معرفة شخصيته والتعرف على لوحاته من قبل الناس. وما خلق أسطورته الشخصية هي تلك المتداعيات التي تحيط ببيكاسو: فهو عجوز ما زال بوسعه أن يتزوج الصبايا.. بيكاسو عبقري.. مجنون.. أعظم الفنانين الأحياء.. ثري مليونير.. شيوعي بيكاسو يضحك على ذقوننا.. إنتاجه هراء في هراء.. ففي العقود الخمسة ما بين العشرينات والسبيعينات منت القرن الماضي، استفحل ظمأ رهيب لكل ما هو غير معقول. يقول جيم سابارت، رفيق بيكاسو طيلة حياته والمؤرخ الرسمي لسيرته: "لو كان بوسع بيكاسو أن يعوق مسيرة الزمان، فسوف تتوقف الساعات، وسوف يفنى الزمن، وتنتهي الأيام. وسيتعين على الأرض أن تكف عن الدوران وتنتظره إلى أن يغير فكره.. هكذا وجد بيكاسو، وهكذا سيبقى". بهذه الطريقة يدخل سابارت بيكاسو الإنسان عالم الآلهة الأسطوري.
يقول بيرجر إن بيكاسو هو أشهر رسام في العالم، وتكمن شهرته في معاصرته. إنه إمبراطور الفن الحديث بغير منازع. وعلى الرغم من ذلك، فإن في موقفه من الفن ومن مصيره الشخصي جنوحاً عن روح العصر، ينتمي على نحو أكثر ملاءمة إلى أوائل القرن التاسع عشر. وثمة علاقة بين الغموض التاريخي لبيكاسو وبين طبيعة نجاحه وعلو شأنه. إن أسطورة بيكاسو الشعبية التي تدعمها شهادة أصدقائه ليست في واقع الحال تشويهاً فظيعاً للحقيقة، كما يراها بيكاسو. فإن إيمانه الرومانسي بعبقريته بوصفها حالة كينونة لا بد أن يفضي إلى الأسطورة. وأوشكت العبقرية تلك أن تكون على بعد خطوات فقط من قدسية شبه الإله.
فبيكاسو يتمتع بشخصية قوية غاية القوة تستثير حولها الخرافات، وربما كان هناك وجه للمقارنة بينه وبين نابليون في هذا المضمار. فلديه قدرة على اجتذاب الولاء والاحتفاظ به، وهو ما نادراً ما يتعرض للنقد ممن يعرفونه شخصياً. إن ماهية بيكاسو، بمعزل عما يعمله، أمر جدير بالاعتبار، وربما كان ذلك هو السبب في عدم إمكانية تحديده وتعريفه.
ويرى المؤلف أن ما كتب عن بيكاسو، بوصفه شخصية، أصبح مجرد عبث لا طائل منه. فقد أحاط نفسه بحاشية، وأضحى هو الملك. وكان للتملق والعزلة الناجمين عن ذلك أثر مخرب لا على أحكام معارفه فحسب، بل على عمله نفسه، وابتدع نوع خاص من التهويم الشعري المقرف للتعبير عن آيات الإجلال والتكريم.

عزلة بيكاسو
ولد بيكاسو في ملقا عام 1881، ومنها يمكن مشاهدة سلسلة جبال الأطلس. وفي عام 1900، وكان عمره تسعسنوات، غادر إسبانيا لأول مرة في حياته وأمضى عدة أشهر في باريس واتسقر فيها عام 1904 بصورة دائمة. ومنذ عام 1934 لم يزر موطنه إسبانيا قط، فقد أمضى جل حياته في منفى اختياري.
وقد تبنى بيكاسو فرنسا مثلما تبنته، وكان أصدقاؤه من الفرنسيين، وكان يتكلم الفرنسية ثم أصبح يكتب بها. وأتيح له أن يسهم في الكفاح الوطني الفرنسي ضد الغزو الألماني. ومع ذلك كله، يعتقد بيرجر أن بيكاسو كان يحس بالنفي بشكل متزايد. فهو لم يجد في فرنسا ما يشبع نوازعه العميقة. لقد بقي وحيداً، والوحدة الظاهرة تعم عالم المدينة في هذه الآونة في غرب أوروبا وأميركا الشمالية.ووحدة بيكاسو هي من النوع الذي لا يندرج في فئة الذين يشعرون بالوحدة كالأثرياء والشيوخ المتقاعدين والعظماء. إنه وحيد وحدة المجنون: إذ يخيل للمجنون أن بوسعه عمل أي شيء ما دام لا يلقى اي معارضة. إنها وحدة الاكتفاء الذاتي، هي الوحدة التي تستثير في النفس نشاطاً موصولاً ولا تسمح بالراحة. لكن بيكاسو ليس مجنوناً.. ولتفسير الأمر، علينا العودة إلى الموطن الذي نفي منه بيكاسو، إسبانيا طفولته وصباه.
فقد عاش بيكاسو في ملقا حتى العاشرة من عمره. ثم انتقلت عائلته إلى كورونا على شاطىء إسبانيا الشمالي. وعندما كان في الرابعة عشر انتقل ثانية إلى برشلونة. وتختلف كل واحدة من هذه المدن عن الأخرى، من حيث المناخ والتاريخ والمزاج. فلقد كانت إسبانيا لم تحقق وحدتها بعد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ما أوجد عدداً كبيراً من الإسبانيات. وإسبانيا بلد معزول لأنها كانت لا تزال بلداً إقطاعياً، ومساهمتها في الحصارة الأوروبية خادعة أيضاً إذ تقتصر على الأدب والرسم، ولا تشتمل الفنون أو العلوم، ولم تساهم إسبانيا إلا قليلاً في فن العمارة أو الموسيقى أو الفلسفة أو الطب أو الفيزياء في أوروبا.

تأثير إسبانيا في بيكاسو
كانت إسبانيا معزولة إذاً، وكان الإقطاع هو الطابع المهيمن على اقتصادها. ولم تقم طبقتها الوسطى بالثورة البورجوازية التي قامت بها مثيلاتها في أوروبا. إن مأساة إسبانيا كانت ــ وما تزال ــ تكمن في هذا التناقض التاريخي.. وكانت الفوضوية هي الحركة السياسة النموذجية الحديثة في إسبانيا. وعاش بيكاسو مرحلة شبابه في برشلونة على هامش تلك الحركة. وكانت الفوضوية التي ضربت جذورها في الأرض الإسبانية من نوع فوضوية باكونين، أعتف المفكرين الفوضويين وأكثرهم ضراوة.
إننا هنا أمام سمة إسبانية مميزة: ألا وهي الاعتقاد بأن كل شيء ــ الوضع الإنساني برمته ــ يمكن تغييره بصورة فجائية ومهولة في لحظة واحدة. وقد تولد مثل هذا الاعتقاد لأن شيئاً ما لم يحدث منذ زمن بعيد زمن بعيد، ولأن الإسباني مدفعو للإيمان بتحول سحري تستطيع فيه قوة الإرادة أن تنتصر على جميع الشروط المادية، وأن تنتصر على التراكم البطيء لوسائل الإنتاج المستجدة، التي هي الشرط الوحيد للتقدم.
وثمة منطق اقتصادي أيضاً في فورة هذا الفوضوي المطل على ملقا، مؤداه أن الطبقة الإسبانية الحاكمة لم تؤسس شيئاً يمكن أن يفيد منه الفلاحون الذين أطاحوا بسلطانها ولو شروى نقير: انزعوا ملكية نازعي الملكية.
لوحة غرنيكا
في مثل هذا الوضع، لا مندوحة للطاقة الثورية من أن تنكص على عقبيها، أي أن تنزع إلى إقامة شكل من تنظيم العلاقات الاجتماعية أكثر بدائية، ولكنه أكثر عدالة، يعتق البشر من العبودية الإنسانية، غير أنه يحول بينهم وبين إمكانية إعتاق أنفسهم من عبودية الطبيعة. ويقال إن لوحة بيكاسو (غيرنيكا) تجسد الاحتجاج ضد الحرب الحديثة، حتى أن بعضهم ليزعم أحياناً أنها احتجاج تنبؤي ضد الحرب النووية. غير أن في الوقت الذي كانت فيه قاذفات القنابل الألمانية من نوع "هاينكل" تدمر مدينة "غيرنيكا" عن بكرة أبيها، كان أغلب الفوضويين في أندلوثيا(الأندلس)، الذين أشاعوا الملكية الجماعية للأرض، عاجزين عن انتزاع قطعة واحدة من الآلات الزراعية. وهكذا يكون التعذيب على المخلعة. وقد يقول قائل إن برشلونة ليست أندلوثيا، فهي مدينة صناعية والفوضوية التي عايشها بيكاسو كانت خلاف ذلك. نعم لقد كانت خلاف ذلك في الظاهر فقط. لقد قرأ بيكاسو نيتشه وسترندبرغ. لم تكن برشلونة فاشية بل كانت ببساطة مدينة متمردة، وبدأ إلقاء القنابل عليها منذ العقد التاسع من القرن التاسع عشر. وفي كل عام كان يجري أكثر من مئة اغتيال سياسي. ونجمت حالة العصيان هذه عن المخلعة التاريخية نفسها، إذ كانت هناك ثلاث مجموعات ذات مصالح تتناحر في سبيل البقاء. كانت مدريد تحارب من أجل حقها المطلق الذي أقره آل هابسبرغ في القرن السابع عشر في التمتع بالثروات المتدفقة من مصانع إقليمها. وكان أصحاب المصانع في برشلونة يحاربون من أجل الاستقلال عن مدريد، وتأسيس دولة رأسمالية. وهناك أخيراً طبقة البروليتاريا قليلة الخبرة، ولكنها عنيفة ضارية يتألف أغلبها من الفلاحين الذين هاجروا مؤخراً هرباً من الفقر في الجنوب.
وقد عملت مدريد على إذكاء التناحر بين أصحاب المصانع والعمال لمصلحتها. وقد ضرب أصحاب المصانع بالشرعية عرض الحائط وحكموا بالسلطة المباشرة لضبط عمالهم الذين كان عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد ممثلي مدريد(أي الجيش والكنيسة) وضد أصحاب المصانع. وكانت أهدافهم انتقامية وقصيرة المدى فاكتسبت الفوضوية قدرتها على الاستهواء الدائم. وهكذا فإن كل ما سوي في البلدان الأخرى بصورة قانونية، إنما سوي في برشلونة بطريقة خاصة في زنزانات قلعة مونخويش أو في حرب عصابات في الشوارع.
يقول المؤلف بيرجر أنه قد يخيل للقارىء أن كل ما قاله عن إسبانيا لا يمت بصلة قوية لتجربة بيكاسو الذاتية.بيد أننا لا نستطيع أن نشارك الآخرين تجاربهم الحاصة إلا في القصص، ولا أحد يعرف جميع الوقائع والصور التي كانت تعتمل في وجدان بيكاسو، وجميع الأفكار التي كونت نفسيته. لكنه من خلال تجربة أو أخرى أو أكثر لا بد أنه تأثر تأثراً عميقاً بطبيعة البلد والمجتمع اللذين ترعرع فيهما. وكل ما يمكننا عمله هو أن نستخدم تلك الحقائق لنعلل ـ بالرجوع إلى معاناة بيكاسو الذاتية ــ بعض الظواهر اللاحقة في حياته وفنه.

نبوغ بيكاسو
إن أبسط الحقائق الجلية عن بيكاسو أنه إسباني والثانية أنه كان نابغة منذ طفولته، وظل كذلك في ما بعد.
لقد استطاع بيكاسو الرسم قبل أن يستطيع الكلام. وفي العاشرة من عمره كان بوسعه أن يشكل سبائك الملاط مثلما يفعل والده الذي كان معلماً للرسم في الإقليم. وقبل أن يبلغ الرابعة عشرة، أعطاه والده لوحة الألوان والفراشي، وأقسم أنه لن يرسم منذ ذلك الحين، لأن إبنه قد تفوق عليه. وفي سن الرابعة عشرة، قدم بيكاسو امتحان الدخول إلى القسم الأعلى من مدرسة الفنون في برشلونة.وقبل بحفاوة في أكاديمية مدريد الملكية، وهو في السادسة عشرة.
لقد أثر نبوغ بيكاسو الطفل على موقفه من الفن طيلة حياته. وذلك هو السبب الذي يجعله معجباً كل هذا الإعجاب بقدرته الخلاقة، ويدفعه إلى أن يعلق عليها أهمية أكبر مما يعلقه على ما ينتجه. ومن هنا نراه يعتبر الفن جزءاً من الطبيعة.

يقول بيكاسو: "إنني لا أكاد أفهم الأهمية التي تعلق على البحث الكلامي في الرسم الحديث. وفي اعتقادي أن البحث لا يعني شيئاً في الرسم، أما المهم فهو العثور والاكتشاف".
هذه العبارات هي أكثر ملاحظات بيكاسو ذيوعاً واقتباساً أوقعت الناس في حيص بيص منذ أن قالها في عام 1923. ولا مراء في أنها تصدق على الفن الحديث بصورة عامة. فهل قالها لمجرد إثارة الدهشة؟ أم أنها مجرد طريقة أخرى للإدلاء بالملاحظة العادية بأن النسيات الحسنة لا تكفي؟
كلا. إنها ــ شأنها شأن كل منا يقوله بيكاسو ــ إنما تصدق عليه أكثر مما نتصور. إن تجربته كلها لغزية في طابعها، وهو يؤمن بما يقوله لأن تلك هي الطريقة التي حدث الأمر بها بالنسبة إليه.إنه يستسلم كل الاستسلام للفكرة أو للحظة الراهنة. ويتخلى عن الماضي والمستقبل وعن الخطط والعلة والمعلول جميعاً. إنه يضع نفسه كلياً تحت تصرف التجربة الراهنة. وكل ما عمله أو حققه، إنما يكتسب أهميته بمقدار ما يؤثر في وجدانه في لحظة الاستسلام تلك. تلك هي الطريقة التي يعمل بها بيكاسو من الوجهة النظرية على الأقل، وهي كثيرة الشبه بالطريقة التي يستسلم بها النابغة للقوة التي تعتمل في داخله.
وتلك هي النتيجة الإيجابية لهالة الغموض التي وجد بيكاسو نفسه محاطاً بها في طفولته. وباحترامه لهذا الغموض، أصبح أكثر الفنانين قدرة على التعبير في هذا العصر. بيد أن ثمة نتيجة سلبية، ربما كانت تتصل بنجاحه في طفولته بقدر ما كانت تتصل بالغموض. فبيكاسو ينكر قوة العقل وينكر الرابطة السببية بين البحث والاكتشاف. كما أنه ينكر أن هناك نمواً في الفن، ويمقت النظريات والتفسيرات. إنه يمقت التفكير بصورة عامة ويزدري تبادل الآراء. فهو يريد أن يكون كل شيء بدهياً مسلماً به من دون نقاش وأبعد من أن تطاله البينة.

تطوّر بيكاسو
يرى الباحث بيرجر أن الفترة الوحيدة التي تطور فيها بيكاسو كفنان على نحوة متسق هي الفترة التكعيبية الممتدة بين عامي 1907 و1914، وهي الاستثناء الكبير في حياته. ولولا ذلك لما تتطور.ويتعذر رسم خط بياني دائم الصعود لتبيان مسيرة حياة بيكاسو. فهو مختلف عن الفنانين العظام الآخرين بهذا الأمر، إنه نسيج وحده. ولا نجد في إنتاج أي فنان آخر أن كل مجموعة من الأعمال مستقلة استقلالاً تاماً عما سبقها، وغير ذات قيمة في ما يتعلق بما تلاها. ويمكن ملاحظة انعدام الاستمرارية هذا في إنتاج بيكاسو بمجرد النظر إلى ثلاث لوحات رسمت في غضون سنتين ومقارنتها بلوحتين نموذجيتين بريشة الفنان براك، رسمتا في الوقت ذاته.
وكثيراً ما يعتبر عدم استمرارية بيكاسو دليلاً على حيويته وعلى الطريقة المذهلة التي ظل بها محتفظاً بشبابه، وذلك ما يفترض جدلاً أن بيكاسو قد ظل يحتفظ بشبابه بالفعل، ويتحايل على التضمينات الفاجعة لعدم استقراره. فقد ظل متدفقاً بالعنفوان لأنه لم يتطور على نحو منسق. وذلك أنه، باستثناء الفترة التكيعبية القصيرة، لم يكن منفتحاً على التفسيرات والاقتراحات والمجادلات. وبدلاً من ذلك، كان عليه أن يعتمد أكثر فأكثر وبشكل كامل على غموض قدرته العبقرية الخلاقة.
فنبوغ بيكاسو في طفولته قد أطال وزاد في الآثار التي خلفتها سنواته الأولى. فقوة عبقريته التي يوليها كل ثقته، وقفت حائلاً دون التأثيرات الخارجية، بل ودون أي خطة واعية خاصة به. لقد استسلم لإرادتها في حضور أبدي. لقد بقي شاباً.

إقامته في باريس
في عام 1904 وفد بيكاسو على باريس بقصد الإقامة فيها. لقد كان غازياً شقولياً، هبط من اسبانيا، عبر الباب السفلي لبرشلونة، على مسرح أوروبا. ولقي الصدود أول الأمر. وبسرعة فائقة استولى على رأس أحد الجسور. وأصبح آخر الأمر فاتحاً. فقد كان بيكاسو حاذقاً إلى درجة الخبث، وسرعان ما عرف مقياس المجتمع الذي وجد نفسه فيه. ولا نجد دلائل على أن السنوات الأولى ن الفقر والإهمال قد غيرته أو أضرت به، بل سرعان ما اتضح أن لهذه الميزة فوائدها، إذ منحته معايير معينة ينتقد على أساسها ما يراه.
ولم يشك بيكاسو قط في أن عليه أن يقيم في باريس، فقد كان بحاجة إليها، وإلى الاقتداء بالرسامين الآخرين واحتذاء حذوهم، وللأصدقاء الذين تعرف عليهم، ولفر النجاح التي مهدتها باريس وطابع المدينة المعاصرة ومقاييسها الأوروبية. ولم تكن تعمر رأسه الأوهام بشأن إسبانيا، إذ أدرك أنه لو بقي رساماً في إسبانيا، لكان عليه أن يتعامل مع أفراد الطبقات الوسطى بمفاهيم الإقليمية الضيقة. وأدرك تمام الإدراك أم باريس تمثل التقدم وأن علي أن يسهم في هذا التقدم الذي ألقى الرعب في قلبه. فالفقر الذي عرفه في باريس كان مختلفاً، ففي اللوحة الذاتية المرسومة عام 1901 في باريسن نرى وجه رجل لم يقتصر أمره على الإحساس بالجوع والبرد، بل هو أيضاً صامت لا يكلمه الآخرون. وليست وحدته ناجمة عن كونه غريباً، بل إنها تمثل بشكل جوهري فقر المنبوذين في المدينة العصرية.
ويمكن تبين أهمية إقامة بيكاسو في باريس بما حدث بعد عام 1907، فبدأ يعقد صداقات مع الرسامين والشعراء الفرنسيين، وبخاصةمع ماكس جاكوب وغيوم أبولينير. وفي عام 1907 التقى براك، وما حدث بعدئذ هو تاريخ الحركة التكعيبية، التي ولدت على أيدي الرسامين لكن الشعراء هم الذين تكفلوا بالحفاظ عليها وإمدادها بالروح والثقة بالنفس. ومنذ 1907 وحتى 1914، حولت التكعيبية بيكاسو، وذلك يعني أن باريس وأوروبا هما اللتان حولتاه. فالتكعيبية منحته الفرصة كي يخرج خارج نفسه ويهيىء لحنينه إلى موطنه وسيلة يصبح معها شاهداً حاد الطباع ليس على الماضي بل على المستقبل. فبيكاسو كان أحد مؤسسي الحركة التكعيبية التي كانت ثورة عظيمة في الفنون البصرية تعادل تلك التي حدثت في أوائل عصر النهضة الأوروبية. أما آثارها في ما تبعها من فنون، سواء في صناعة الأفلام أو في الهندسة المعمارية، فهي من الكثرة بحيث لا نكاد نلاحظها. فقد أسهمت في إثراء لغة الفن أكثر من مجرد ثورة أسلوبية على ما سبقتها، إذ غيرت طبيعة العلاقات القائمة بين الصورة المرسومة والواقع. وبفعلها هذا وضعت الإنسان في منزلة لم يكن فيها من قبل.
إن بيكاسو برسمه لوحة "آنسات أفينيون"، قد ابتعث الحركة التكعيبية. وكانت انتفاضة عضوية وبدائية تطورت عنها الثورة التكعيبية. وبعد هذه اللوحة لم يعد متوحداً وأصبح جزءاً من مجموعة وعمل مع براك وغدا متورطاً في الحركة التي ابتعثها.

عبثية بيكاسو
عندما عثر بيكاسو على موضوعاته، أنتج عدداً من روائع الأعمال الفنية. أما ما عدا ذلك ــ في رأي بيرجرــ فيندرج في عداد العبثي واللا معقول. ويشير الباحث الناقد أن لا أحد تمتع بالشجاعة الكافية للجهر بذلك آنذاك، خوفا من استفزاز أدعياء الثقافة الذين يعتبرون الفن كلع عبثاً، لأنه ليس مرآة يتملونها ويتملقون أنفسهم من خلالها. وقد حاول المؤلف من خلال الاعتماد على سبع لوجات أن يبين كيف أن بيكاسو، منذ عام 1920، كان يخفق أحياناً في العثور على موضوعات يعبر من خلالها عن نفسه، وكيف أنه في تلك الحالة يكاد يدمر موضوعه الأصلي الذي اختاره، ومن ثم يجعل اللوحة كلها عبثية. وهناك لوحات كثيرة من هذا النوع، مثلما أن ناك لوحات أخرى عثر فيها على موضوعه الناجح.
ومن الغباء إنكار الأصالة التي تتجلى في إخفاقات بيكاسو، مثلما أن من الغباء الادعاء بأن أصالته تضع هذه الإخفاقات في مصاف الروائع. إن بيكاسو نسيج وحده، إلا أن كونه إنساناً لا إلهاً يضع على عاتقنا مسؤولية الحكم على قيمة تفرده هذا.

وإذا استثنينا سنوات المرحلة التكعيبية، فإن جميع لوحات بيكاسو الناجحة تقريباً قد أنجزت بين عامي 1931 و1942 أو 1943. وحدث إبان هذه الفترة أن امتنع عن الرسم كلياً، عام 1935. لقد كانت فرتة من الإرهاص الوجداني، إلا أنها الفترة التي نجح فيها كل النجاح في العثور على موضوعات ارتبطت بتجربتين شخصيتين عميقتين هما: علاقة غرامية لاهبة، وانتصار الفاشية في إسبانيا أولاً ثم في أوروبا.
إن الكتب العديدة التي وضعت عن بيكاسو لا تتكتم قط على علاقاته الغرامية العديدية، فقد غدت جزءاً من الأسطورة. غير أن ثمة علاقة واحدة يمر عليها الدارسون مرور الكرام، وهي تشهد بالافتقار إلى الواقعية الذي يحيط بسمعة بيكاسو. إن لوحاته ومنحوتاته ومئات الرسوم في دفاتر مسوداته تدلنا على أن أهم علاقة في حياته من الوجهة الجنسية كانت مع ماري تيريز والتر التي تعرف بها عام 1931. إنه لم يرسم امرأة قط بمثل الطريقة ولا بنصف عدد المرات التي رسمها بها. وربما غدت بمنزلة الرمز لديه وأن نجرد فكرتها أصبحت تعني بمرور الوقت أكثر مما تعغنيه هي نفسها في الواقع. فقد ظلت لثماني سنوات تسكن وجدانه. ومن أصل لوجاته التي تربو عن الخمسمئة لوحة يحتفظ بها بيكاسو من إنتاجه السابق، هناك أكثر من خمسين لوحة تدور حول ماري تيريز. إن ما يميز هذه اللوحات هو حدة الطابع الجنسي فيها.
تكريم وداعي
إن أكثر اللوحات التي رسمها بيكاسو الشيخ، عندما كان بين السبعين والتسعين من العمر، لم تعرض على نطاق عام إلا بعد وفاته، وبعد وضع هذا الكتاب. وتظهر أغلبية هذه اللوحات نساء أو قرينين كأنما تجري مراقبتهما أو تخيلهما ككائنات جنسية. لقد أخذ بيكاسو يتحول إلى عجوز ولكنه ظل كعهده دائماً معتداً بنفسه ومولعاً بالنساء مثلما كان من قبل، وواجه العبثية التي كانت تنطوي عليها عنته النسبية الخاصة.
وكان في الوقت نفسه يعيش في عزلة غير عادية عن العالم، لم يخترها كلياً بنفسه، بل كانت من نتائج شهرته التي دوت في الآفاق. وهكذا وجد نفسه وحيداً شأنه شأن المعمرين على الدوام.
لقد أصبح الإسبان مضرب المثل في اعتزازهم بالطريقة التي يكيلون بها اللعنة والسباب. وهم يتباهون ببراعتهم في الحلف بالإيمان المغلظة، ويدركون أن التجذيف قد يكون من الشمائل الكريمة، بل من الخصال الدالة على علو المقام. غير أن أحداً لم يسبق له أن كال السباب بالألوان قط. هذه عبقرية بيكاسو.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم