النظام الثوري وولاية الفقيه*




الأستاذ الدكتور رضوان السيَد**



توشك الثورة الإسلامية في إيران على تجاوز عامها الإثنين والثلاثين دون أن تفقد زخمها أو تتراجع تأثيراتها في المحيط الإقليمي. ويختلف المراقبون في أسباب هذه القوة والحيوية، فيعيدها بعضهم إلى قوة الدولة الوطنية والقومية في إيران بغضَ النظر عن الأيديولوجيا السائدة في رأس الدولة. ويُعيدها البعض الآخر إلى النهوض الشيعي الديني العام، والذي وصل إلى ذروة تأثيره في إيران من خلال الثورة، وما تزال اندفاعاته الأولى مؤثرة حتى اليوم بالداخل كما بالخارج. ويُعيدها فريق ثالث إلى ضخامة التحديات الإقليمية، والتي هدَدت إيران مراراً من الغزو العراقي لإيران عشية الثورة، وإلى الغزو الأميركي للمنطقة المجاورة لها منذ العام 2001.
وأياً تكن أسباب القوة على الاستمرار، والنفوذ الإقليمي؛ فإن أطروحة الباحث هيثم مزاحم لا تُعنى بها بشكل مباشر. بل إنها تقدَم قراءة فقهية وتاريخية وسياسية لنظام "ولاية الفقيه" السائد في الدستور، وفي الممارسات داخل مؤسسات السلطة بالبلاد.  ونظام "ولاية الفقيه" جديدُ باعتباره نظام دولة وعقيدة عمل سياسي، لكنه قديمُ من حيث إنَ "الفقيه" كان يمارسُهُ ضمن الجماعات الشيعية في الشؤون الدينية والحسبية والمعاملات بين الأفراد. ونتيجة التعارُض فالصدام بين السلطة الاجتماعية للفقيه باسم الدين، والسلطة السياسية للدولة الوطنية، حصل انقسامٌ متمادٍ أفضى إلى انحياز قطاعات واسعة من الجمهور إلى مؤسسة المرجعية التي يقودها الفقهاء؛ فشجَع ذلك شخصية فذَة مثل الإمام الخميني على استحداث اجتهادات وسَعت من صلاحيات الفقيه/ المرجع لتشمل الشأن العامَ أيضاً.
وعلى وقع الحركة الجماهيرية الهائلة التي حملت الإمام الخميني من المنفى إلى السلطة، جرى تطوير "الدستور الإسلامي" للدولة، والذي تضمَن الصيغة الأولى المكتملة لولاية الفقيه باعتبارها نظاماً للدولة أو الجمهورية الإسلامية.
يبدأ هيثم مزاحم من أعماق التاريخ، من ظهور الجماعات الشيعية، وفكرة أو عقيدة الأئمة الإثني عشر والتي صارت جزءاً من "قانون الإيمان"؛ بحيث يتعذر الاستغناء عنها. وقد كانت للفقيه وظائفه في حضور الإمام باعتباره مبلَغاً عنه. إنما عندما غاب الإمام؛ فإن وظيفته صارت ضرورية، وإن غلب عليها البُعد الديني والاجتماعي للحفاظ على وجود الجماعة وتضامُنها وسط الظروف الصعبة والمتمثلة في وجود السلطة السياسية خارج متناول الجماعة، ووجود جماعات دينية واجتماعية أخرى مُعارضة أو غير متلائمة معها.
وقد كان من الطبيعي بعد القرن الثالث الهجري، وقد صارت للفقيه أدوارُه البارزة؛ أن تظهر مدارس وحوزات عند المشاهد والمزارات المقدسة للتعليم والتربية وتحمل العلم المذهبي وتوارُثه. وفي تلك الحوزات نشأت التقاليد العلمية الأولى منذ القرن الخامس الهجري، متأثرة بالطبع بالآليات والأواليات التي سادت في الثقافة الإسلامية جديدها وموروثها عن التقاليد التربوية الكلاسيكية.
وما نوقشت في الحوزات بدايةً أمورٌ أساسيةٌ مباشرة؛ بل جواز وحدود التعامُل مع السلطان غير الشيعي. ومع أنَ "التقية" على اختلاف تفسيراتها وتأويلاتها ظلت هي العنوان؛ فالواقع أنَ هذه الرؤى الهادئة والمهدَئة، ما واجهت  تحدياً حقيقياً إلا عند سقوط الخلافة العباسية على يد المغول(656هـ/ 1258م)، وبدء ظهور سلطات شيعية زمنية، أي أنها تتبنى العقيدة الشيعية عنواناً في غيبة الإمام.
لقد سادت في البداية حيرة ٌ شيديدةٌ، وعمل عشرات الفقهاء الكبار في الدول الشيعية التي قامت بإيران وخارجها. واعتبرها بعضُهم دُول تمهيد لعودة الإمام الغائب؛ بينما آثرت قلةٌ معتبرةٌ أن تبقى بعيدةً في حوزاتها عن "العمل مع السلطان" حتى لو كان شيعياً وعادلاً. لكن في هذه الأعصُر، احتدم النقاش حول صلاحيات الفقيه وحدودها في زمن الغيبة، وإزاء السلطات السياسية أو في زمن السلطان "العادل". وقد قبل بعضُ الفقهاء في القرنين السابع عشر والثامن عشر أن يلعبوا دور "وكيل الإمام" إلى جانب السلطان أو الشاه الصفوي والقاجاري، في وضع مشابه لوضع "شيخ الإسلام" في السلطنة العثمانية.
وما نجت المؤسسة الفقهية الشيعية ـ شأنها في ذلك شأن المؤسسة الفقهية السنية ـ عن تأثيراتت الحداثة. فكلتا المؤسستين امتلكت شكوكاً قوية في الدولة الوطنية البازغة على النمط القومي الأوروبي. وبسبب الموقف التقليدي من السلطة في غيبة الإمام، كان أسهل على المؤسسة الفقهية الشيعية أن تقف موقف المعارضة من الدولة الجديدة أو ما سمَي بالسلطة الوطنية. وظهر بالطبع تيارٌ إصلاحيٌ وصل إلى حدود تبنَي دولة ديموقراطية حديثة، سعى لإيجاد مسوَغات لها في الفقه القديم. بيد أن "جسم" المؤسسة بقي خارج الطرفين: فقهاء السلطان المذهبيين، وفقهاء الإصلاح المُحدثين.
وظهر الإسلام السياسي الأصوليَ المُعارض لدى السنة قبل الشيعة. وكان له موقفٌ سلبيٌّ من المؤسسة التقليدية، ما لبثت أن تابعته فيه نخبة فقهية شيعية أرادت أيضاً إنشاء دولة إسلامية في مواجهة سلبية المرجعية التقليدية والسلطة الوطنية والإمبراطورية في الوقت نفسه. وتجلَت عبقرية الإمام الخميني في الجمع بين الأمرين: الروح المتمردة للأصولية الإسلامية، والتقليدية العريقة لمؤسسة المرجعية، و"ولاية الفقيه" هي حصيلة الجمع والملاءمة بين الأمرين، دون أن يعني ذلك اختفاء أهل التقليد التقوي، والإصلاح غير الأصولي.
لقد نجح الأخ هيثم مزاحم في قراءة هذه التطوّرات، وعشرات الرؤى والاجتهادات بشأن المرجعية وحدود صلاحيات الفقيه وولايته. ولذلك، ورغم ظهور الدراسات والبحوث الكثيرة، يبقى عرضُه ورأيُهُ مفيداً ومفيداً جداً في قراءة المشهد من الناحيتين الفقهية والسياسية.

*النص هو تقديم لكتاب الدكتور هيثم مزاحم، "تطوّر المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه".  

**الأستاذ الدكتور رضوان السيَد مفكر عربي بارز، وأستاذ الإسلاميات في الجامعة اللبنانية، ورئيس تحرير مجلة "الاجتهاد" الفكرية. له الكثير من الكتب والدراسات والمقالات والتحقيقات والترجمات، أبرزها: "سياسات الإسلام المعاصر"، "الأمة والجماعة والسلطة: دراسات في الفكر السياسي العربي - الاسلامي"، "مفاهيم الجماعات في الإسلام"، "الجماعة والمجتمع والدولة"، "الصراع على الإسلام".

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم