مقدمة كتاب تطوّر المرجعية الدينية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه



د. هيثم مزاحم

   
 تشكّل مسألة الإمامة أصلاً من أصول الدين الخُمسة لدى الشيعة الإثني عشرية وحجر الزاوية في المذهب بل جوهر العقيدة. ومن نافل القول إنّ خلاف المذهب الإثني عشري مع باقي المذاهب الإسلامية وتمايزه عنها يكادان ينحصران في مسألة الإمامة. فالإمامة لدى الإثني عشرية ليست منصباً سياسياً ودينياً فقط كونها "خلافة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" كما يقول أهل السنّة، بل هي أساساً منزلة روحيّة دينيّة تستلزم النص من الله ورسوله على الإمام وعصمة الإمام من الذنوب والأخطاء، فهي "منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء وخلافة الله والرّسول" كما يرى الإثناعشرية.
ولئن كانت عقائد الشيعة الإماميّة قد تبلوّرت بالقول بوجوب الإمامة على الله عقلاً وسمعاً، والنص الإلهي على الإمام، والوصية والعصمة، فإنّ الاعتقاد بغيبة الإمام الثاني عشر دون تحديد موعد لظهوره كمهدي للأمّة "يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً"، قد ولّد فراغاً عملياً في منصب الإمامة السياسية والدينية لدى الشيعة الإثني عشرية. من هنا بدأ علماء الشيعة بالبحث عن آليات لسدّ هذا الفراغ القيادي والمرجعي إنْ لجهة الإجابة على المسائل الفقهية والدينية المستجدة التي تواجه أتباع المذهب من جهة، أو من أجل قيادة الجماعة وترشيد سلوكهم السياسي والاجتماعي تجاه السلطة السياسية سواء أكانوا معارضة أو موالاة لها من جهة أخرى.
وهكذا بدأ علماء الإثني عشرية بتطوير العلوم الدينية، وخصوصاً علوم الفقه والحديث والرجال والتفسير، ومن ثم شرعوا في وضع علم الأصول كأداة لاستنباط الأحكام الفقهية من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن الرسول(ص) والأئمّة الإثني عشر(ع). ومع تطوّر علم أصول الفقه، وُلِد مفهوم الاجتهاد والتقليد، ثم نشأت لاحقاً نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي الغائب في إدارة الأمور الحسبيّة، التي تتضمّن إدارة أموال الأوقاف والخُمس والزكاة وأموال السفهاء وأموال من لا ولي له وتكفّل اليتامى والمحتاجين. ثم تطوّرت نظرية النيابة العامة للفقهاء مع ولادة مفهوم المجتهد الأعلم ووجوب تقليده من قبل المكلّفين ليكون المرجع الأعلم أو الأعلى.
وفضلاً عن مسألة القيادة السياسيّة ــ الدينيّة للإثني عشرية التي شكّلت محور الدراسات والنقاشات بين فقهاء الشيعة خلال القرن الماضي، برزت مسألة المرجعية الدينية كمؤسسة تقليديّة يرتبط بها الشيعة الإثنا عشرية من جهة تقليد المرجع الأعلم في المسائل الفقهية والدينية ودفع مستحقّات الخُمس والزكاة له كي يقوم بصرفها على مستحقيها. وبعد وفاة كبار مراجع الشيعة في أواخر القرن العشرين الميلادي، طرحت مشكلة تطوير المرجعية الدينيّة على بساط البحث ومسألة تحويلها إلى مؤسسة قائمة بحدّ ذاتها على غرار مؤسسة الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليك، وكذلك طرحت قضايا أخرى مثل شروط مرجع التقليد، وخصوصاً وجوب تقليد الأعلم أو عدمه، ومسألة الدمج بين الولي الفقيه ومرجع التقليد.
غير أنّ التطوّر الأبرز في المذهب الإثني عشري تمثّل في ظهور نظرية ولاية الفقيه العامة وتبلورها مع الشيخ محمّد النراقي (ت 1248هـ) الذي رأى أنّ للفقيه ما للإمام المعصوم من ولاية شرعية وصلاحيات دينية وسياسية في مجال الحكم والإدارة والقضاء، وهو تحوّل مهم في المذهب إذ منح الفقيه دور القيادة السياسيّة، بعدما كان دوره مقتصراً على المرجعيّة الفقهية والدينيّة أي السلطة الشرعيّة دون السلطة السياسيّة. وقد شكّلت نظرية ولاية الفقيه خروجاً على سلوك تقليدي عرفه الشيعة الإثنا عشرية هو مبدأ التقيّة والانتظار الذي يعني الامتناع عن السعي إلى تولّي السلطة السياسيّة في عصر غيبة الإمام الثاني عشر وانتظار ظهوره ليقيم دولته وسلطته، بحيث اعتبرت كلّ راية قبل ظهور المهدي "راية ضلال"، لأنّها تعدٍ على صلاحيات الإمام المعصوم الغائب ووظائفه.
لكن اتّجاه ولاية الفقيه لم يستطع أن يصبح اتّجاهاً عاماً وعملياً عند الإثني عشرية بل بقي اتّجاهاً محدوداً ونظرياً، فيما ظهرت نظريات سياسية أخرى في موازاته هي نظرية "السلطنة المشروعة" التي تفصل بين الدين والدولة بحيث تمنح الفقيه السلطات الشرعية الدينية، من قبيل الأمور الحسبيّة من إدارة الأموال الشرعية والقضاء والفتيا، في مقابل الاعتراف للسلطان المسلم ذي الشوكة بالسلطة السياسيّة أو الزمنيّة. كما ظهرت في أوائل القرن العشرين نظرية "الحكومة المشروطة" مع الشيخ محمّد النائيني (ت 1355هـ)، واكبت ثورة الدستور في إيران، عام 1905 ضدّ الشاه المستبد، وهي نظرية تدعو إلى تحديد سلطات السلطان السياسي المستبد وتقييدها بالدستور (المشروطة) ومشاركة بعض الفقهاء في مجلس الشورى (البرلمان) الذي يقوم بسنّ القوانين والتّشريعات لضمان عدم مخالفتها للشريعة الإسلامية ولمنع استبداد الحاكم المسلم.
بيد أنّ التحوّل الأبرز في الفقه السياسي الإثني عشري جاء مع الإمام روح الله الخميني (ت 1989م) في النصف الثاني من القرن العشرين عندما أعاد إحياء نظرية ولاية الفقيه العامة وجعلها ولاية مطلقة واستطاع أن يأخذ بها إلى حيّز التطبيق العملي عبر تأسيس "الجمهورية الإسلامية" في ايران عام 1979 بعد انتصار الثورة الإسلامية على الشاه محمد رضا بهلوي.
وكان الخميني قد نظّر للحكومة الإسلامية على أساس الولاية العامة والمطلقة للفقيه في كتابه "الحكومة الإسلامية" الذي نشر في العام 1969، وقاد المعارضة منذ أوائل الستّينات ضدّ النظام الملكي الاستبدادي في إيران. وقد دمج نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بين نظريتيّ "المشروطة" و"ولاية الفقيه"، بحيث كان دور الولي الفقيه عند وضع دستور الجمهورية الإسلامية أقرب إلى الدور الإشرافي، فيما كان الدور التنفيذي للحكومة المنتخبة من قبل الشعب، وكان الدور التشريعي لمجلس الشورى المنتخب أيضاً. ولكن بعد نحو عقد على قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمّ تعديل الدستور بحيث عُزّزت صلاحيات الولي الفقيه وأصبح دوره تنفيذياً كذلك وسلطاته مطلقة لا يقيّدها حتى الدستور.
كما برزت نظريات أخرى في الفقه السياسي الإثني عشري توافق بعضها نسبياً مع ولاية الفقيه العامة واختلف البعض الآخر معها. وأبرز هذه النظريات نظرية ولاية الأمة على نفسها التي طرحها كلّ من الفقيهين السيد محمد باقر الصدر (ت 1980م) والشيخ محمد جواد مغنية(ت 1978)، ثم طوّرها وبلوّرها الإمام الراحل الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (ت 2001م).
وتستهدف هذه الدراسة رصد التطوّر التاريخي للفقه السياسي لدى الإثني عشرية منذ غيبة الإمام الثاني عشر عام 329هـ ومرحلة الأخباريين الأولى، إلى تبلوّر نظرية المجتهد الفقيه نائب الإمام، ومروراً بمسألة الدعوات إلى تطوير المرجعية الدينية إلى مؤسسة، ووصولاً إلى تطوّر نظرية ولاية الفقيه والنظريات الأخرى المعارضة لها، وانتهاءً بإشكاليّة الدمج بين المرجع والولي الفقيه.
وهكذا يدرس هذا الكتاب تطوّر ولاية الفقيه أو سلطات المجتهد منذ غيبة الإمام الثاني عشر وحتى الوقت الراهن، وذلك عبر متابعة تطوّر الاجتهاد وعلم أصول الفقه لدى الشيعة الإثني عشرية أولاً والذي أتاح للمجتهد الفقيه أن يحتل موقع نائب الإمام المعصوم والمرجع الديني للشيعة في غيبته، ومن ثم دراسة تطوّر الفقه السياسي الإثني عشري من خلال توسّع صلاحيات المجتهد الفقيه "نائب الإمام"، وامتدادها من المسائل الشرعية الدينيّة إلى المسائل العرفية الدنيوية والسياسيّة، أي ما أطلق عليه اسم "ولاية الفقيه العامة"، والتي تطوّرت بدورها مع الإمام الخميني إلى ولاية الفقيه المطلقة.
وتقوم هذه الدراسة على إشكالية التطوّر المستمر الفقهي والفكري لنظرية الإمامة الدينية ــ السياسية لدى الشيعة الإثني عشرية سواء ببعدها الفقهي الديني البحت كمرجعية التقليد أو ببعدها السياسي والاجتماعي كالقيادة السياسيّة للأمة، وفق نظرية ولاية الفقيه أو النظريات الأخرى التي تتراوح بين ولاية الفقيه المقيّدة وبين الشورى وولاية الأمة على نفسها.
أما المنهج المعتمد في الدراسة فهو المنهج التاريخي التحليلي أي عبر دراسة النصوص الشيعية في الإمامة وولاية الفقيه وتحليل تطوّرها التاريخي، وكذلك منهجية التحليل والتركيب الكلاسيكية في التاريخ الثقافي والتي تقوم على تحليل النصوص ونقدها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة دراسات عدّة كتبت في السّنوات الثلاثين الماضية عن الشيعة وولاية الفقيه بالعربية والفارسية والإنكليزيّة والفرنسيّة وغيرها من اللّغات، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وازدياد الاهتمام بالشيعة الإثني عشرية من قبل الباحثين الغربيّين والعرب فضلاً عن الإيرانيين. ولكن الدراسات حول النظريات السياسية الشيعيّة الأخرى لا تزال قليلة جداً ونادرة أحياناً. فباستثناء نظرية الحركة المشروطة للنائيني التي نالت قسطاً لا بأس به من الدراسات بالفارسية والإنكليزيّة والعربية، فإنّ النظريات الباقية، كخلافة الأمة وشهادة المرجعية لآية الله السيد محمد باقر الصدر ونظرية ولاية الأمّة على نفسها للإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين ونظرية ولاية شورى الفقهاء لآية الله محمد الشيرازي وغيرها، لم تنل قسطاً وافراً من الدراسة. ولا بدّ هنا من التّنويه بعمل الشيخ محسن كديفر في كتابه "نظريات الحكم في الفقه الشيعي" الشامل والذي عرض فيه جميع هذه النظريات، خصوصاً النظريات التي لم تنل شهرة في العالم العربي، كونها طرحت باللغة الفارسية أو نشرت في إيران، مما جعل هذا الكتاب دليلاً أساسياً في هذا المجال.
ويتألف هذا الكتاب من عشرين فصلاً وخاتمة وملحق. فالفصل الأول يعرض النظريات المختلفة حول نشأة التشيّع وظهور الشيعة تاريخياً إذ يحاول الباحث التوفيق بين أبرز هذه النظريات مفنّداً بعض المزاعم والاتّهامات التي تنسب التشيّع إلى عناصر يهوديّة أو مجوسيّة.
والفصل الثاني يبحث في عقيدة الإمامة لدى الإثني عشرية القائمة على الاعتقاد بالنّص والوصية والعصمة. أما الفصل الثالث فيدرس عقيدة الغيبة والمهدوية لدى الشيعة الاثني عشرية ويعرض نظرية الشيعة حول غيبتي الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر، الصغرى والكبرى.
أمّا الفصل الرابع فهو يعرض لنشأة علم أصول الفقه ومفهوم الاجتهاد  في مدرسة أهل البيت منذ الأئمّة المعصومين وخصوصاً بعد الغيبة الكبرى وتطوّر علم أصول الفقه مع الشيخ المفيدوالشريف المرتضى. ويخصص الفصل الخامس لدراسة دورالشيخ الطوسي وفقهاء مدرسة الحلة والفقهاء الذين تلوهم في تطوّر الاجتهاد وأصول الفقه وصولاً إلى مرحلة الفقهاء المتأخرين. 
ويعرض الفصل السادس  لظهور الحركة الأخبارية الشيعية في العصر الصفوي والتي شنّت حملة شعواء على الفكر الاجتهادي وأصول الفقه، ممّا أدى إلى صراع شديد بين الأخباريين والأصوليين.
أمّا الفصل السابع فيبحث في نشوء نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام الغائب المعصوم، وخروجها على نظيرة التقيّة والانتظار التقليدية التي وسمت معظم أئمة الشيعة وعلمائهم.  كما يدرس نشأة مفهوم المجتهد الأعلم ومرجع التقليد.
الفصل الثامن يبحث مسألة المرجعيّة الدينيّة لدى الإثني عشرية والطروحات الداعية إلى تطويرها وتحويلها إلى مؤسسة حديثة على غرار الفاتيكان الكاثوليكيّة، وخصوصاً ما طرحه آية الله مرتضى مطهري والشيخ محمد رضا المظفر والشيخ محمد جواد مغنيةمن آراء وبرامج لتطوير الاجتهاد والمرجعية وإصلاح الحوزة الدينية ومناهجها التدريسية.
وخصص الفصل التاسع لعرض نظرية آية الله محمّد باقر الصدر عن "المرجعية الرشيدة". أما الفصل العاشر فيبحث آراء آية الله محمد حسين فضل الله في "المرجعية – المؤسسة" وولاية الفقيه.
القسم الثاني من الكتاب مخصّص لدراسة تطوّر الفقه السياسي لدى الإثني عشرية، ففي الفصل الحادي عشر يستعرض بإيجاز أبرز النظريات الفقهية السياسية منذ زمن الغيبة إلى الوقت الراهن.
أما الفصل الحادي عشر فيدرس نظرية السلطنة المشروعة فيما يدرس الفصل الثاني عشر نظرية الحكومة المشروطة ونقدها. والفصل الثالث عشر فيبحثنشأة نظرية ولاية الفقيه العامة فيما يدرس الفصل الرابع عشر عشر تطوّر ولاية الفقيه الى ولاية مطلقة مع الإمام الخميني.
وقد خصص الفصل الخامس عشر لدراسة نظرية ولاية الفقيه الانتخابية المقيّدة مع فقهاء حوزة قُمّ، فيما يدرس الفصل السادس عشر آراء الشيخ حسين المنتظري في ولاية الفقيه الانتخابية المقيّدة.
أما الفصل السابع عشر فيعرض نظرية "خلافة الأمة وإشراف المرجعية" للسيد محمد باقر الصدر. فيما يبحث الفصل الثامن عشر بشكل مفصّل نظرية ولاية الأمة على نفسها وتطوّرها على يد الإمام الشيخ محمّد مهدي شمس الدين.
ويدرس الفصل التاسع عشر نظرية "ولاية شورى الفقهاء" مع الشيخ محمد الحسيني الشيرازي، فيما خصص الفصل العشرون لعرض نظرية "وكالة مالكي المشاع" مع الشيخ مهدي الحائرياليزدي.
وتتضمّن الخاتمة أبرز الاستنتاجات التي توصّل إليها الباحث في هذه الدراسة.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم