ظهور دار الإسلام وزوالها - د. رضوان السيّد

ظهور دار الإسلام وزوالها
قراءة في متغيرات الفقه والسياسة والتاريخ
د. رضوان السيد


يقدم الفقيه الكبير والمؤرخ الأشهر محمد بن جرير الطبري(310هـ/922م) للحديث عن الجهاد في الباب المخصّص لذلك من كتابه في "اختلاف الفقهاء" وبإيراد أربع آيات توضّح رؤية الفقهاء المسلمين للعالم، ودور المسلمين فيه، مطلع القرن الرابع الهجري. والآيات هي:
- (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) (سورة الأنبياء:105).
- (وما أرسلناك إلا كافةّ للناس بشيراً ونذيراً ولكنَ أكثر الناس لا يعلمون) (سورة سبأ: 28).
- (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (سورة آل عمران:104).
- (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (سورة التوبة:33)(1).

إن ما يريد الطبري قوله: والذي كان قد تحول إلى إجماعٍ فقهي في القرن الثالث الهجري أن الأمة الإسلامية مكلفّفة بحكم إسلامها بأن تكون شاهدة ومهيمنة على الأرض التي أورثها إياها الله عز وجل، وعلى البشر الذين استخلفها الله عليهم. ولقد توصل نخبةٌ من المسلمين إلى هذا التأويل لآيات التوريث والإظهار والشهادة والهيمنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في وقتٍ مبكّر نسبياً فيما يبدو(2). ففي تاريخ الطبري(3) أنّ عمر بن الخطاب خطب في الكتائب المتوجهة إلى العراق عام 14 للهجرة قائلاً: "سيروا في الأرض التي وعدكم الله أن يورثكموها في الكتاب.." كما أنّ سعد بن أبي وقاص، قائد جند المسلمين في القادسية عام 16 للهجرة، أو بعض ضباطه قال لرستم قائد الجيش الفارسي(4): "إن محمداً جاء باستخلاف العرب وتوريثهم الأرض. فإن الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". وقتيبة بن مسلم الباهلين يحاول عام 96هـ/714م إقناع المقاتلين المسلمين بمشروعية قتال الترك بالقول(5): "إن الله أحلّكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات.. وعد نبيه النصر بحديثٍ صادقٍ، وكتابٍ ناطقٍ، فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله ولو كره المشركون...".
بيد أن هذا التصور للإسلام ومهماته في العالم، والذي كان وراء ظهور منظومة دار الإسلام ودار الحرب، ما كان تصوراً مسلماً لدى جمهور الفقهاء حتى أواخر القرن الثاني الهجري . فهناك مجموعة من الفقهاء المكيين والمدنيين في القرن الأول والثاني ما كانت ترى فرضية الجهاد. أبرز هؤلاء سعيد بن المسيب (94هـ/712م) الذي ينقل عنه عبد الرزاق الصنعاني(211هـ/826م) في كتابه المصنف تفضيله الرباط والمحارسة على الحرب الهجومية(6). أما عطاء بن أبي رباح(114هـ/732م)، وعمرو بن دينار (172هـ/774م) فإنهما لم يكونا يريان فرضية الجهاد(7). في حين كان إبن جريج(150هـ/767م) يقدّم الحجّ والعمرة على الجهاد في الأجر. ويمتدّ هذا الخطّ من دعاة المسالمة والمدافعة وحسب إلى النص الثاني من القرن الثاني الهجري عبر سفيان الثوري فتذكر المصادر عنه ذهابه إلى أن الغزو يعطّل أعمال العبادة الأخرى(8). وكان الفضيل ابن عياض يرى أنّ المجاورة في الحرم أفضل من الجهاد(9). بينما كان مالك بن أنس لا يرى الذهاب للجهاد إلاّ إذا هوجمت ديار المسلمين. ثم إنه ما كان يجيز القتال قبل الدعوة، كما كان لا يرى الإستقتلال(10).
لكنّ هذا الموقف المتردد أو السلبي إزاء الحرب الهجومية، بدأ يواجه معارضة قوية في صفوف الفقهاء أنفسهم حوالي منتصف القرن الثاني الهجري. فإبراهيم ابن أدهم
(161هـ/778م) كان يرى أنّ الجهاد هو أبرز مظاهر الزهد، إذ لا زهد أعظم من التضحية بالنفس في سبيل الله(11). وقد أتى خراسان للمرابطة، والمشاركة في الهجمات على البيزنطيين. وفي شمال وسواحلها قابل ابن أدهم الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي(157هـ/744م) الذي ألف في الجهاد والسير، وقضى حياته مرابطاً ومقاتلاً بين سواحل الشام وشمالها(12). كما قابل هناك عبد الله ابن المبارك المروزي (181هـ/797م) الذي قدم بدوره من خراسان، فسمع من الأوزاعي، وجاهد معه، وشار في تمويل المتطوعين الذي يريدون البقاء على الجبهة الشامية المهدّدة من جانب البيزنطيين(13). وقد أضيف إلى المجتمعين والمرابطين من حول الإمام الأوزاعي أبو إسحاق الفزاي(186هـ/802م) الذي جاهد ورابط وألف في الإستحثاث على الجهاد والإستشهاد في سبيل الله(14). وما اكتفى عبد الله بن المبارك بالمشاركة في الغزو، والتأليف في الجهاد، بل جادل أيضاً زملاءه الذين قدموا العبادات الأخرى على الجهاد، إذ أرسل إلى الفضيل بن عياض من طرسوس عام 170هـ إثر إحدى المعارك مع البيزنطيين البيتين التاليين(15):
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
والذي يبدو من النصوص أن ذهاب الإمام الشافعي(205هـ/820م) إلى أنّ علة القتال الكفر، في حين كان أبو حنيفه(150هـ/767م)، ومالك بن أنس (179هـ/795م) قد ذهبنا إلى أنّ علّة القتال العدوان أو خوفه- إتجاه الإمام الشافعي هذا كان إيذاناً باكتمال الخلفية الفقهية لمنظومة دار الإسلام ودار الحرب(16).
لكن: لماذا انتصرت وجهة نظر الأوزاعي وإبن مبارك، وتراجعت الرؤية الأخرى، رؤية الفضل بن عياض ومالك بن أنس؟ أو بعبارة أخرى: لماذا تراجعت الرؤية الدعوية أو التبشيرية للإسلام لحساب الرؤية القتالية أو النضالية؟ هناك من يذكر تعرض بلاد الشام –التي كانت فيها عاصمة الدولة أيام الأمويين- للخطر والهجوم الدائم من جانب البيزنطيين، إذ عليها شواهد من النصوص والتاريخ القريب. وفي المصادر فعلاً جدالات بين الفقهاء الشاميين وفقهاء الأمصار الأخرى حول ضرورات الجهاد، والحرب البحرية، وبشارة النبي(ص) لأهل الشام بأنهم الباقون المجاهدون بعد خراب الأمصار(17). والمعروف أنّ الأمويين درجوا على إرسال الصوائف والشواتي إلى الأراضي البيزنطية في جهد مستمر لإبقاء الجبهة مفتوحة، إمّا بقصد الفتح، أو لمنع البيزنطيين من تجميع صفوفهم للقيام بهجمات مضادّة بعد أن تمكنوا من ذلك خلال الحربين الأهليتين في القرن الهجري الأول. ومع الوقت تحول ذلك إلى أيديولوجيا أسهمت في دعم شرعية الأمويين، باعتبارهم المنافحين عن الدين وبيضة الإسلام. يقول أبو زرعة الدمشقي نقلاً عن الفقيه الشامي سعيد بن عبد العزيز(18): "أغزى معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم ست عشرة صائفة، تصيف وتشتو ثم تقفل وتدخل معقبتها. ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين في جماعة من أصحاب رسول الله (ص) في البر والبحر حتى جاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل".
على أن تطوراً آخر كان يجري بالتساوق مع الحاجة لإستمرار الجبهة في مواجهة البيزنطيين، فقد تطورت رؤية إمبراطورية للدولة الإسلامية ووظيفتها في العالم، وليس وظيفة الدين والأمة وحسب. تجلّى ذلك في إطلاق الخلفاء الأمويين والعباسيين على أنفسهم لقب "خليفة الله" وتوجه آيات الإستخلاف والإظهار في القرآن، بحيث تعني استخلاف وهيمنة خلافة المسلمين على العالم بقيادة الخلفاء أمراء المؤمنين. وقد تجلّى ذلك بالإضافة إلى التلقب بخليفة الله، في ألقاب أفراد الخلفاء العباسيين مثل السفاح والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون والمعتصم...إلخ
(19).
وهكذا فقد كانت هناك من جهة سياسات الدولة القائمة على الغزو والجهاد، واجتهادات الفقهاء الذاهبين اضطراراً (كفقهاء الشام) أو اختياراً باتجاه التلاؤم مع تلك الاحتياجات والسياسات. ولا شك أنّ العلائق بين الفقه والدولة ما مضت- في القرون الثلاثة الأولى على الخصوص باتجاه واحد، أو أن التأثير ما كان وحيد الجانب. لكنّ التفسير السابق يملك مسوغات قوية إذا أخذنا تباين الإجتهادات الفقهية حول علائق المسلمين بالعالم مأخذ الجدّ. ففي الوقت الذي كان فيه الشافعي يتجاوز آراء الفقهاء الأوائل في معنى الحرب وعللها بالنسبة للمسلمين، كان فقهاء الدولة العباسية من تلامذة أبي حنيفة مثل أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني يذهبون في تحديد دار الكفر أو الحرب إلى أنها هي الدار التي تسود فيها أحكام الكفر، وتكون متاخمة لدور كفرٍ وحرب، ولا يبقى مسلم أو ذمّي آمنا بالآمان الأول الذي كان يتمتع به(20). وفي دار معاديةٍ للمسلمين وأهل ذمتهم كتلك الدار الموصوفة تتضاءل الإعتبارات الأخرى الخاصة بالتردد في المشاركة في مجاهدتها بعلل مثل افتقار السلطة في دار الإسلام إلى الشرعية: فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يضرّه عدل عادل ولا جور جائر، حتى إذا تعذر الجهاد فإن المتاح للخلاص من دار الكفر- عند المالكية على الخصوص- الهجرة إلى دار الإسلام، كما كان عليه الحال قبل فتح مكة أيام الرسول(ص)(21).

11
تعرض المفهوم الإمبراطوري لدار الإسلام إلى تحديات قوية في العصور الوسطى في عدة حالات:
-في الحروب الصليبية ابتداء بالعام 500 للهجرة/1106م عندما جرى احتلال سواحل الشام وبعض دواخلها.
-وفي استعادة الإسبان لطليطلة عام 470هـ/1077م.
-وفي انتزاع النورمان لصقلية نهائياً عام 483هـ/1087م.
-وفي سقوط آخر المعاقل الأندلسية(غرناطة) عام 898هـ/1492م.
لكن كان بوسع الفقهاء والسياسيين التعلل بعدة حجج للحفاظ على استقرار الوعي الإسلامي بالتفوق واستمراره:
-فما كانت هناك تنازلات رسمية من جانب سلطات اسلامية مركزية. وفي حالة وجود هدنة، فإنّ تلك الهدنة كانت تؤقت بعشر سنوات (تبعاً لسياسة النبي في صلح الحديبية). وكان يمكن تجديد الهدنة عند الضرورة.
-كما أنّ مبدأ الجهاد ظلّ قائماً عند التمكن من ذلك. وبالجهاد استعدت كل السواحل والدواخل التي احتلها الصليبيون، ولو بعد حين.
-حتى إذا استحال الجهاد، فإنّ مبدأ الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، كان يجري اللجوء إليه. وهذا ما تشير إليه فتاوى الفقهاء المالكية بشأن صقلية، والمدن والنواحي الأندلسية المختلفة. فقد كانت الفتوى العامة بالتضحية بالأهل والمال والوطن من أجل الإلتحاق بدار الإسلام (كما فعل المسلمون عندما غادروا مكة إلى المدينة)، إلاّ إذا كان المسلم المقيم في الدار الساقطة في حكم المقعد أو المأسور(22).
على أن هذه الصور المختلفة للمشروعية والإستمرار تعرضت للإهتزاز في عدة حالات على مشارف العصور الحديثة:
-في معاهدة كوجك كينارجه عام 1774م بين الروس والسلطان العثماني. وقد تنازل فيها رسمياً عن جزء من دار الإسلام (شبه جزيرة القرم). غالبية سكانه من المسلمين، في مقابل النصّ على امتيازات للسلطان في شؤون الأوقاف والقضاة والمساجد. وبذلك جرى لأول مرة اعتبار السلطان المسلم(الذي سمى نفسه عقب ذلك خليفة المسلمين وأمير المؤمنين) زعيماً دينياً للمسلمين، لا يتمتع بصلاحيات سياسية ولو شكلية على الرعية في القرم(23).
-واحتلت هولندا جاوه وجزر الملايو دونما عقد أو عهد، وأبقت للسلاطين والخلفاء هناك صلاحيات دينية لا علاقة لها بالسياسة.
وطالب فقهاء سلفيون ومالكية المسلمين في الهند (بعد تزايد السيطرة البريطانية هناك)، وفي الجزائر (بعد احتلال الفرنسيين لها عام 1830م) طالبوهم، بالهجرة إلى دار الإسلام. فوقعت كوارث لأولئك الذين حاولوا الهجرة من الهند على الخصوص. إذا أن الهجرة ما كانت كبيرة رغم تهديد الفقهاء للباقين بالتكفير للخضوع للكفار. ثم إنّ الذين هاجروا (آخر أفواجهم عام 1920م) سقطوا صرع المرض والجوع في الطريق (24). أما الجزائريون (وقد غادرت قلة منهم فقط) فقد كان بوسعهم التسويغ بأنهم إنما يتحشدون بتلمسان ونواحي المغرب، من أجل الجهاد والعودة تحت قيادة الأمير عبد القادر. وقد جاهدوا فعلاً إلى أن نفي الأمير عبد القادر إلى الشام، وخمدت الثورة. بينما لم يتمكن المسلمون بالهند عملياً بعد هزيمة العام 1857 أن يقوموا بأي من الأمرين الهجرة أو الجهاد، فسيطرت على نخبهم الدينية والسياسية حالة من القلق الشديد، أفضت فيما بعد، إلى الدخول في حركة إحياء الخلافة في الشرق، تحت إشراف العثمانيين طبعاً.
-واتفق العثمانيون مع الإيطاليين على الإنسحاب من ليبيا وتركوها تقاتل المستعمرين وحدها.
ولا شك أن حركات الإصلاح والتحرير بإسم الإسلام، أعادت نوعاً من الجدلية المرنة بين مبدأي الجهاد والهجرة. لكن نتائج الجهاد حتى في حالة النجاح، ما كانت لصالح العودة للإنتماء لدار الإسلام أو للجامعة الإسلامية، بل بزغ فجرٌ جديد هو زمان الدولة الوطنية والقومية، وكانت تركيا أول من دخل فيه، مبطلة المظلة الشرعية والرمزية للمسلمين بإلغاء الخلافة عام 1924م. وبذلك قام في ديار الإسلام التقليدية أيضاً نظام محلي ودولي جديد مثلته "عصبة الأمم" ثم تطور إلى إمم متحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك من يرى دخول الكيان السياسي للمسلمين في النظام الدولي القديم، الذي ظهرت معالمه بعد انتهاء الحقبة النابليونية. فقد توصلت الدولة العثمانية إلى مجموعة من الإتفاقيات مع أطراف النظام الدولي آنذاك (النمسا وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا البروسوية ثم الموحدة) قامت على نوعين من أنواع التواصل أو التنازل: إنسحاب التدريجي من أوروبا البلقانية، والإعتراف بمنظومة من الإمتيازات للدول الكبرى الأوروبية ورعاياها داخل السلطنة كانت لها من قبل، لكنها اكتسبت معاني جديدة مع تعاظم نفوذ تلك الدول في النظام الدولي، وبروز المشاكل الإثنية والقومية في ممتلكات الدولة العثمانية في البلقان وخارجها.
واجه المسلمون أفراداً وهيئات ودولاً النظام الدولي وآثاره على دار الإسلام بعدة وسائل كما سبق ذكره: بالمجاهد ضدّه، وبالإنسحاب تبعاً لمبدأ الهجرة عندما تتعذر المواجهة، ثم بالتفكير في بدائل للمنظومة الأيديولوجية القائمة مثل "الجامعة الإسلامية"، التي كان المقصود بها التلاقي والتضامن فيما هو أوسع من الكيانات السياسية القائمة، أو بين الكيانات السياسية القائمة. وعندما رئي تعذّر ذلك ظهرت فكرة المؤتمر(25)، الذي يضم أهل الرأي والنفوذ والإجتهاد من المسلمين، للتشاور في طرائق المواجهة والتضامن. ومع أن الأفكار الجديدة أسهمت إسهامات جدية في بعث الوعي والتضامن الإسلامي، بيد أنها لم تحل دون انتصار نظام الغلبة الأوروبي الجديد بعد الحرب الأولى، وبخاصة بعد اتجاه تركيا قلب دار الإسلام للتلاؤم مع مستجدات النظام الجديد المتكون. وهكذا انتهى نظام دار الإسلام رسمياً بإلغاء الخلافة عام 1924 بعد سقوط طرفي الثنائية التاريخية: الجهاد والهجرة.

111
استند نظام دار الإسلام في قيامة الأول على أساس عملّي أو وقائعي هو الدولة الإسلامية، التي اتخذته غطاءً أيديولوجياً وقانونياً لتنظيم علاقاتها بالعالم. لكن بسبب المستندات النصية والرمزية التي زوده بها الفقهاء، صار ذلك النظام نظرةً حاكمةً أو مكيّفةً لعلاقات المسلمين –وبالتالي الإسلام- بالعالم. وما أمكن طبعاً البقاء في صفاء النموذج المتكوّن مطلع القرن الثالث الهجري، وإلاّ لإنتحر الإسلام باعتباره دين دعوة عالمياً، أو لانتحرت الدولة لعجزها عن استيعاب العالم خارجها بالقوة. فإلى أي جانب داري الإسلام والحرب، ظهرت فقهياً دور وسيطة مثل الموادعة والعهد(26). كما أنّ علائق المسلمين بالعالم لم تستوعبها تفاصيل النظام فقامت علائق تجارية وإنسانية وعلمية مع العالم حتى في ظروف الحرب، كما تشير إليه كتابات أسامة بن منقذ، وكتب الرحالة والجغرافيين، بل ووثائق الدول المتكونة على أنقاض أجزاء من دار الإسلام في صقلية واسبانيا والبرتغال. وظلّ المحيط الهندي والبحر المتوسط بيئتي سلام وتجارة مع الأصدقاء والخصوم، إلى أن دخل البرتغاليون مطلع القرن السادس عشر رامين للإستيلاء على التجارة وليس مجرد الإشتراك فيها.
بيد أنّ مرونة النظام الفقهي الإسلامي كانت لها حدودها. فقد قامت في نموذجها الصافي على أساس مبدأي الإيمان والكفر. وقد ظهر الوجه الآخر للمسألة في الإتجاه لطرف الثنائية الآخر(الهجرة)، في الوقت الذي كان فيه الإسلام/الدين ينتشر في مناطق جديدة في شرق آسيا وشمال إفريقيا. وما استطاع المسلمون فعل شيء إزاء ضيق الحدود الكلامية والفقهية للمنظومة، وبخاصة أنّ الزمان كان زمن أزمة وليس مستحسناً وسط تلك الظروف مناقشة جدوى الجهاد على سبيل المثال. ومع ذلك فإن رجلاً كسيد أحمد خان بالهند جرؤ على طرح هذا السؤال، سؤال: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا التاج البريطاني؟ أو ماذا يحدث لإيمانهم وإسلامهم إن لم يقاتلوه(27)؟ وكانت إجابته التي استنكرتها أكثرية العلماء المسلمين بالهند والعالم الإسلامي أن الجهاد وما عاد فريضة، مذ ثبت أنه يعني بعد فشل تمرد العام 1857م موتاً محققاً بدون فائدة. ولجأ السيد أحمد خان تسويغاً لآرائه إلى آيات القتال في القرآن محاولاً إعادة تأويلها تبعاً لأسباب النزول بحيث لا تنطبق على حالة الهند، وبالتالي الهروب من فرضية القتال أو الهجرة(28).
أما في المجال العربي، فإنّ المسلمين بدأوا بداية أخرى. فتحدث كلّ من الطهطاوي وخير الدين التونسي عن إقامة الأحكام على المصالح. ثم جرى اكتشاف مخطوط كتاب الشاطبي: الموافقات فنشره محمد عبده بعد تعريف طويل به في دروسه في تونس وبيروت في فترة نفيه. وبواسطة الموافقات صارت "مقاصد الشريعة" التي تتجاوز الطرائق القياسية على كل شفةٍ ولسان (29). بيد أن مسائل المواطنية والمساواة والعلاقات مع العالم، كانت تناقش في اسطنبول أيضاً منذ الأربعينات من القرن التاسع عشر. فلم يعد التمييز على أساس الدين (التفوق الإسلامي) ممكناً ولا منطقياً وسط الهجمة الأوروبية على الدولة، والامتيازات الهائلة للرعايا الأجانب، ولغير المسلمين من رعايا الدولة العثمانية المشمولين بحماية إحدى الدول الأوروبية. هكذا نص دستور العام 1876م على المساواة بين مواطني الدولة دونما تمييز على أساس عرقي أو ديني أو مناطقي(30). ولأن الإشكالية الحاكمة أواخر القرن التاسع عشر كان إشكالية التقدم، فإنّ صون مصالح المسلمين حسب قاعدة مقاصد الشريعة كانت تقتضي التوجه نحو الغرب من أجل التعلم. وما وجد المسلمون حرجاً في "التشبه بالكفار" فيما هو مصلحة ضرورية من وجهة نظرهم. وقد بلغ هذا الإتجاه ذروته في مثل عبارة رشيد رضا بالمنار عام 1907 رداً على سؤال سائل: "لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم المقيد بالشورى(الحكم الدستوري) أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الإعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام". فالنظام الدستوري نظام إسلامي في نظر السيد رشيد، رغم أنّ أصوله وآلياته أوروبية بحته.
بيد أن الأمر اليوم على غير هذا النحو. فمنذ العشرينات من هذا القرن، بدأ فكر الهوية الإسلامية الإحيائي بالظهور إلى أن استتب في الستينات والسبعينات، فتغيرت الاهتمامات والأولويات، وانقلبت عناية شديدة بالهوية ورموزها وشعائرها. ورغم أن أبا الأعلى المودودي وسيد قطب يصران على ضرورة "استعلاء"(31) المسلم، وقد بلغت حالة الإنفصال هذه في السبعينات حدود الأيديولوجيا القديمة لدار الإسلام ودار الحرب، لكنّ العالم في الحقيقة ما كان مدركاً لدى الإحيائيين الإسلاميين من ضمن رؤية الإيمان والكفر، بل من ضمن موضوعة المقدّس والمدنّس، للتأزم الشديد الذي كان يسود ذاك المفكر، والذي ما تزال بعض آثاره باقية حتى اليوم.
إن الرؤية الفقهية القديمة للعالم قاصرة عن الإحاطة بتعدديته وغناه. أما الإحيائية المعاصرة فإنها معادية له، ولذلك تعجز عن فهمه والتعامل معه على أساس ذاك الفهم. وللإصلاحية الإسلامية إسهاماتها التي لا يمكن إنكارها. لكنّ التاريخ لا يعيد نفسه. وقد رأينا أن ّ المنظومة القديمة منظومة إجتهادية. وأنّ النصوص نصبت فيما بعد للتدليل عليها. فيستطيع المسلمون المعاصرون الإفادة من تجارب القرنين الماضيين، للوصول إلى رؤية واجتهادات تعين على المشاركة في مصائر هذا العالم بطريقةٍ فعالة. إنّ الإقتراح على النظام الدولي، وعلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. يتطلب القابلية والقدرة على التأثير من الداخل من أجل مصالح المسلمين، ومصالح الإنسانية جمعاء. أما الإقتراح من الخارج فإنه يعني اشتراطاً لا نملك إمكانياته فضلاً عن الشكوك في الصلاحية. ثم إنّ هناك فرقاً شاسعاً بين إسلام الدعوة وإسلام الهوية والخصوصية. وقد كانت تجربتنا مع الخصوصية الإحيائية في نصف القرن الأخير بائسة وموحشة، فلنعد إلى إسلام الدعوة، إسلام العالم ليعود إلينا.

الهوامش

1- الطبري: اختلاف الفقهاء(قطعة فيها كتاب الجهاد والجزية والمحاربين)، نشرة جوزف شاخت، لايدن 1933، ص1-2.
2- قرن عن ذلك بكتابي: الجماعة والمجتمعع والدولة، بيروت 1997، ص ص 61-74، ودوروتيا كرافولسكي: نظرة في الحركة التاريخية لأيديولوجيا الجهاد في الإسلام، بمجلة الاجتهاد، م12، 1991، ص 110-115.
3- تاريخ الطبري 1/2160.
4- تاريخ الطبري 1/2271-2272.
5- تاريخ الطبري 1/1179.
6- المصنّف 5/171-172 رقم 9272.
7- المصنّف 5/171 رقم 2971.
8- الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/269ويذكر الشيباني (أو السرخسي) في شرح السير الكبير 1/187 عن سفيان أنه لم يكن يرى فرضية الجهاد إلا إذا هوجم المسلمون.
9- سير أعلام النبلاء 8/421-422.
10- الطبري: اختلاف الفقهاء، مصدر سابق، ص 4 رقم 5، 194-195، والمدونة لسحنون 3/2-5، 31، 32، MajidKhadduri, The Islamic Law of Nations, p. 57-58.
11- سير أعلام النبلاء 8/388-389.
12- عبد الله الجبوري: فقه الإمام الأوزاعي، بغداد 1977، م2، ص 471-472، ودائرة المعارف الإسلامية، النشرة الجديدة، مادة الأوزاعي، كتابة جوزف شاخت.
13- عبد الله بن المبارك: كتاب الجهاد، نشرة نزيه حمّاد، 1971، ص 4.
14- أبو إسحاق الفزاوي: كتاب السير، تحقيق فاروق حمادة، بيروت 1987، واختلاف الفقهاء للطبري، مصدر سابق، ص 78-79. وقارن بمقالة بعنوان التدين والفقه والدولة، بمجلة الاجتهاد، م2. 1989، ص 100-102.
15- ديوان عبد الله بن المبارك، نشره محمد بهجت المنصورة، 1987، ص 36-37.
16- الشافعي: الأم، مصر 1321هـ، م4، 90، 96، 97، والطبري اختلاف الفقهاء، مصدر سابق، ص9، وقارن بوهبة الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي، دمشق 1983، ص 106-112. MajidKhadduri, The Islamic Law of Nations, p.57-58, R. Peters, Jihad in medival and modern islami, P. 16-17.
17- ابن عساكر: تاريخ دمشق الكبير، تحقيق صلاح الدين المنجد، م1، ص 103، 129،163، 185، وكتاب الجهاد لعبد الله بن المبارك، مصدر سابق، ص 157، وسنن سعيد بن منصور، م3، رقم 2381، والمصنف لعبد الرزاق، م5، ص 173.
18- تاريخ أبي زرعة الدمشقي، م1، ص188.
19- قارن بكتاب: الجماعة والمجتمع والدولة، مرجع سابق، 1997.
P. Crone, M Hinds, God(s Caliph, 86-87; WadadKadi, The Religious foundation of Late Umayyade Ideology and Practice; in : Saber Religiosa Y Poder Politico En El-Islam. Madrid, 1994, 231-273.
20- السرخسي: شرح السر الكبير 3/81-82، والكاساني: بدائع الصنائع 7/130-131.
21- ابن رشد: المقدمات 2/285، وابن العربي: أحكام القرآن، م1، ص 484. وقارن برضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، بيروت 1997، ص 83-95.
22- الونشريشي: أسنى المتاجر فيمن غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، بمجلة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، م5، ص 175-176.
23- Roderic H. Davison, Essays in Ottoman and Turkish History (1774-1923, pp 30-50.
24- A.C. Nie Meijer, The Caliphate Movement in India (1919-1924), 1965, p43.
25- قارن بمحمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة 196، ص52-54، وصبحي المحمصاني: القانون والعلاقات الدولية، ص 5-52، وعبد اللطيف حسني: التصور الإسلامي للعالم، في مجلة الاجتهاد، السنة الثالثة، م12، 1991، صص 95-100.
26- W.W. Hunter. The Indian Musulmans: Are They Bound in Conscience to Rebel against the Queen? (1874,1979).
27- قارن بدوروتيا كرافولسكي: الإسلام والإصلاح، الوزير رشيد الدين والتجديد الإسلامي بإيران في القرن الرابع عشر الميلادي، بمجلة الاجتهاد، م8، 1990، ص 82-111.
28- قارن بكتابي: سياسات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 161-167.
29- قارن بكتابي: سياسات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 161-167.
30- Roderic H. Davison, Essays in Ottoman and Turkish History (1774-1923, pp CIT, 112-132.
31- كتب المودودي رسالته الأولى في الجهاد عام 1928 رداً على اتهامات هندوسية بأنّ الإسلام انتشر بالسيف. وهناك رسالتان في الجهاد لحسن البنا وسيد قطب. وقد نشرت الرسائل الثلاث في كتاب واحد بالقاهرة (1977).



نقلاً عن مجلة الحياة الطيبة(بيروت)، العدد الرابع

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم