ما هي وكالات التصنيف الائتماني وكيف تعمل؟؟


إعداد: د. هيثم مزاحم


1- تفاجأ الجميع الأسبوع الماضي بقيام وكالة "ستاندارد اند بورز" للتصنيف الائتماني بتخفيض تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية. من هي هذه الوكالة التي زعزعت الإمبراطورية الأمريكية وأصدرت هذا التصنيف؟ ما هي طريقة عملها؟ وما مدى مصداقية وكالات التصنيف؟
تحتكر السوق العالمية في مجال التصنيف الائتماني ثلاث وكالات هي: "ستاندرد اند بورز" ، "فيتش و"موديز". تتقاسم هذه الوكالات أكثر من 90 بالمئة من السوق، فهي في قلب النظام المالي وهي تُقيّم الصلابة المالية لدولة أو شركة ما، وتقوم بتقيّيم وتنقيط وترتيب الدول والشركات المالية. كما أنها تمنح معلومات مفصلة للمستثمرين.
تلقت وكالات التصنيف انتقادات كبيرة في العام 2008 حين فشلت في تقدير المخاطر المتعلقة بسندات الرهون العقارية والسندات المهيكلة التي أدت للأزمة المالية. وتأثرت مصداقية هذه الوكالات منذ تلك الفترة، لكن مهما قيل عن هذه الوكالات فدورها مهم، وهذه الشركات لا تملك أكثر من سمعتها للقيام بالأعمال التجارية التي تقوم بها. بمعنى أن أي وكالة من هذه الوكالات سوف يثبت ولو جزئياً، أن هناك عدم شفافية أو صحة أو منطق في تقاريرها مستقبلاً، وسوف تخسر هذه السمعة بشكل كامل. وسوف لن يؤخَذ بجميع التقارير التي تصدر عنها مستقبلاً.
وتنتقد هذه الوكالات أيضا فيما يتعلق بأتعابها. فقبل السبعينيات كان المستثمرون هم من يقومون بدفع المال لوكالات التصنيف مقابل الحصول على التقارير. لكن بعد هذا أصبح مُصدرو السندات أو المؤسسات الخاضعة للتقييم هي من تدفع للوكالات. وهذا وضع مصداقية الوكالات على المحك، ودون أن ننسى احتكار ثلاث شركات فقط للسوق العالمية .
وقد دفع هذا الأمر الأوروبيين إلى الحديث عن إمكانية إنشاء وكالة تصنيف، ومن شأن هذا التعدد أن يخلق نوعا من التوازن. وجود وكالات تصنيف مختلفة سوف يساعد على وجود تقارير مختلفة من جهات مختلفة بعيداً عن الضغوط المتنوعة. وبالتالي، سوف يكون لدى المستثمر قدرة على رسم المسار بشكل أفضل مما هو موجود الآن.
مهما قيل عن شفافية أو عدم شفافية وكالات التصنيف فيجب الاعتراف بأن لديها نفوذا كبيرا في الأسواق المالية . وحسب المراقبين، وحدها المنافسة يمكن أن تجعل وكالات التصنيف تعتمد الحزم والصرامة في تقاريرها. وقد سبق وأن تململت الصين من هذه السيطرة الأمريكية وسبقت الأوروبيين بإنشائها في العام 1994 وكالة "داغونغ" للتصنيف الائتماني.

2- ذاع صيت وكالات التصنيف الائتماني خلال السنوات الماضية عبر سلسلة من الأحداث بدأت بفشلها في تقدير المخاطر المتعلقة بسندات الرهون العقارية والسندات المهيكلة والتي أدت إلى نشوء الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008 وتعرضها لانتقادات واسعة على إثر ذلك ، وربما كان من نتائج ذلك أن هذه الوكالات صارت تتخذ مواقف أكثر تشددا من ذي قبل في تقدير المخاطر التي كان آخرها تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية من قبل ستاندرد آند بورز هذا الشهر آب 2011.
وتقوم وكالات التصنيف الائتماني بشكل عام بتقييم المخاطر المتعلقة بإصدارات الدين سواء للشركات أو الحكومات. وتعد قدرة المصدر على الوفاء بتسديد فوائد الدين والأقساط المترتبة عليه أهم مؤشر للجدارة الائتمانية التي تبنى عليها التصنيفات من قبل هذه الوكالات.
 ويوجد العديد من وكالات التصنيف الائتماني حول العالم إلا أن هناك ثلاث شركات بالتحديد يطلق عليها الشركات الثلاث الكبرى وهي "ستاندرد آند بورز" و"موديز" و"فيتش"، وكلها شركات أميركية المنشأ. 
ستاندرد آند بورز هي وحدة تابعة لشركة "ماكجرو هيل" المدرجة بسوق نيويورك وعدد موظفيها تسعة آلاف موظف.
فيتش وحدة تابعة لشركة فيمالاك وعدد موظفيها ألفان وخمسمئة موظف.
موديز مدرجة في سوق نيويورك وعدد موظفيها أربعة آلاف موظف.
وتسيطر كل من "ستاندرد آند بورز" و"موديز" على تصنيف أكثر من ثمانين بالمئة من إصدارات الدين حول العالم سواء للشركات أو الحكومات أو البلديات والحكومات المحلية فيما تعد "فيتش" أقل سمعة نسبياً، مقارنة بالشركتين الأخريين. وبالعموم، فإن الشركات الثلاث تسيطر على ما يراوح بين تسعين وخمسة وتسعين بالمئة من سوق إصدارت الديون في العالم.
 وتعود سيطرة هذه الشركات الثلاث إلى قرار أصدرته هيئة الأوراق المالية الأميركية عام 1975 باعتبار هذه الشركات شركات معتمدة من قبلها. وحيث إن كثيرا من المؤسسات المالية وشركات التأمين لا تستثمر إلا في سندات ذات تصنيف عال، فإن أسهل طريقة من قبل المصدرين للسندات لإثبات جدارتهم الائتمانية هو أن يحصلوا على تصنيف ائتماني من شركة أو اثنتين من هذه الشركات الثلاث، ما جعلها أشبه بمؤسسات محتكرة للتصنيفات الائتمانية حول العالم.
 وتعرضت وكالات التصنيف الائتماني لعديد من الانتقادات في السنوات القليلة الماضية لعل أهمها ضعف قدرتها على تقييم المخاطر المستقبلية، والبطء أو التأخر في رصد الاتجاهات السالبة التي يتعرض لها بعض مصدري الديون بعد عملية الإصدار، وبالتالي رد الفعل المتأخر في تخفيض التصنيفات. كما يتهمها الكثيرون بتضارب المصالح مع مصدري الديون الذين هم في الوقت نفسه عملاؤها الذين يدفعون المال لها مقابل تصنيف إصداراتهم من الديون.
 وترد وكالات التصنيف بأن ما تقوم به ما هو إلا مجرد رأي محايد مبني على أسس محددة لقياس الجدارة الائتمانية وأن للأسواق الحرية الكاملة في الأخذ بهذا الرأي أو تركه.
وتستعمل وكالات التصنيف رموزا لوصف الجدارة الائتمانية تبدأ من AAA كأعلى تصنيف ائتماني نزولاً للتصنيفات الأقل جدارة عبر الحروف AA و A و BBB وهكذا.
وتكمن أهمية الحصول على تصنيف ائتماني أعلى في مستوى الفائدة التي يتوجب على مصدر الديون دفعها، فكلما ارتفع التصنيف الائتماني كلما انخفض مستوى الفائدة، وكلما انخفض التصنيف الائتماني كلما زاد سعر الفائدة التي يتطلب دفعها من قبل الجهة المصدرة.
 كما تكمن أهمية الحصول على تصنيف ائتمان أعلى في عدد المستثمرين الذين يرغبون في شراء إصدار دين معيّن، وذلك نظراً لأن العديد من المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار لا تستثمر إلا في أدوات الدين ذات الجدارة الائتمانية المرتفعة لذلك فإن انخفاض التصنيف لإصدار معين يعني بالضرورة انخفاض الإقبال عليها وصعوبة تغطيتها، نظرا لعزوف هذه الصناديق والمؤسسات المالية عن شرائها. 
وقبل السبعينيات من القرن الماضي كان المستثمرون (مشترو السندات) هم من يقومون بدفع المال لوكالات التصنيف مقابل حصولهم على التقارير المتعلقة بالتصنيفات. إلا أن انتشار ماكينات النسخ في السبعينات أدت إلى انخفاض عوائد هذه الوكالات، وذلك أن تقريرا واحدا يتم شراؤه يمكن نسخه مئات المرات وتوزيعه على الراغبين، بدلاً من القيام بشراء تقرير خاص لكل مهتم. وأدى ذلك إلى قيام وكالات التصنيف بتغيير نموذج عملها بحيث تحصل على أجرها من مصدري السندات أنفسهم، وليس من المستثمرين كما كان الحال عليه سابقاً.

3- وكالات التصنيف الائتماني في دائرة الضوء بسبب تقييم تكبد العالم خسائر بمليارات الدولارات أشبه بكارثة سبتمبر 2008. ستاندرد اند بورز منذ خفضت التصنيف الائتماني للولايات المتحدة والتداعيات تتوالى بشكل غير مسبوق. "


الأزمة المالية العالمية كشفت عن مواطن الضعف في الاقتصاد العالمي، وفي المقدمة الاقتصاد الأمريكي الذي بدأت الأزمة في بنوكه وشركاته وطالت بقوتها اقتصادات الدول الأوروبية وغيرها من الدول. ولكن أكثر ما يزعج الأوروبيين هو خضوعهم لتقييم وكالات التصنيف الائتماني الأميركي، التي قست كثيراً على تصنيف الملاءة المالية لبعض دول الاتحاد الأوروبي، ومنها البرتغال واليونان؛ فقد كانت مفاجأة للأوروبيين وبعد كل الجهود التي بذلوها من خلال المفوضية الأوروبية أن تقوم وكالة (مودا) الأميركية بخفض تصنيف السندات اليونانية إلى عديمة القيمة، وهو ما يعني أن مبالغ تلك السندات التي تمثل دَيناً عاماً على الحكومة اليونانية لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه تلك السندات.
أما البرتغال فقد نالت نصيبها من التقييم في وقت سابق تضمن التحذير من أزمة مالية خانقة ستصيب الحكومة البرتغالية وتجعلها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها. في حين يرى الأوروبيون أن البرتغال لا تزال في المراحل الأولى لخطة التقشف الذي طالبت بها المفوضية الأوروبية قبل الحصول على حزمة إنقاذ مالية تجنبها أزمة مالية، كتلك التي اجتاحت اليونان وكبّدت مجموع الدول الأوروبية ما قيمته 78 مليار يورو، أي ما يعادل 112 مليار دولار أمريكي، وهي بحسب وجهة النظر الأمريكية ممثلة في وكالات التصنيف ليست سوى حزمة أولى ستتبعها حزمة ثانية وربما ثالثة.
والدور الذي قامت به وكالات التصنيف الأمريكي هو تسليط الضوء على ما بدا من عورات الاقتصاد الأوروبي الذي ينافس بقوة في عملته الموحدة الدولار الأمريكي كبديل في التعاملات الدولية، وهي إن كانت حلماً للأوروبيين إلا أن حلمهم لن يكون قريب المنال، فالاتحاد الأوروبي لا يملك مخالب حينما يصطدم مع منافسه الأمريكي؛ ما جعله ضعيفا في مواجهة غير عادلة لا يملك فيها سوى الخضوع للتقييم الأمريكي الذي لا يمكن أن يستبعد روح المنافسة في أي عمل موضوعي، فما دام يملك القدرة على إضعافه فلن يتردد في ذلك.
من هنا جاء تصريح رئيس المفوضية الأوروبية من أنه يتوقع أن تواجه وكالات التصنيف الأمريكية الثلاث منافسة أوروبية قريبة؛ لأن أوروبا فيها الكثير من الكفاءات القادرة على المنافسة، وهو في تصريحه يحث ضمناً على ذلك التوجه نحو محاولات إنشاء وكالة تصنيف أوروبية في المستقبل المنظور ليس مهمتها تقديم الأخبار السارة، بل تقديم الحقيقة كما هي. فالوضع المالي والاقتصادي في الحكومات والشركات يجب أن يكون موضوعياً قدر الإمكان؛ لأن منطقة اليورو عانت تصنيفاً ائتمانياً سلبياً يركز على نقاط الضعف متناسياً حجم الدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي للدول التي تعاني أزمات مالية تؤثر سلباً في مسيرتها الاقتصادية.
ومن المؤكد أنه منذ بداية الأزمة المالية العالمية، وهناك غضب لدى القادة في أوروبا؛ فالبنوك الأوروبية لم تواجه موجة إفلاس، كما واجهت البنوك الأمريكية. كما أنها لم تكن سبباً في أزمة ديون معدومة أو تعثر كبير في تحصيل حقوقها، ويرجعون ذلك إلى تلك الثقافة المصرفية الرصينة التي تكوّنت مع الزمن وقدّمت للعالم خلاصة خبرات مميّزة تتسم بالتوازن بين الربحية والخطر. كما أن للأوروبيين نظرة إلى مسألة الديون على بعض دول الاتحاد الأوروبي، حيث تتم مواجهتها بخطط تقشف وإنقاذ. ورغم ذلك فهذه الديون لا تقارن مطلقا بحجم الدَّين الأمريكي العام الذي قارب 13 تريليون دولار، وهو رقم يتصاعد. أما العملة الأوروبية الموحدة فهي تحقق مكاسب في سوق العملات، وخصوصا في مواجهة الدولار، الذي تجاوزه اليورو في أسواق الصرف؛ ولهذا السبب وغيره من الأسباب، فإن للأوروبيين الحق في إنشاء وكالات تصنيف تنطلق من أوروبا وتضع في اعتبارها أن مهمتها ليس تقديم الأخبار السارة، لكن التصنيف وفق قواعد موضوعية متوازنة.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم