ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ: نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات

ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ: نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات

مراجعة: هيثم أحمد مزاحم
2011/10/12


الكتاب: ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ:
نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات
الكاتب: علي حرب
النّاشر: الدار العربيّة للعلوم ناشرون - بيروت
الطّبعة الأولى - 2011



جذبت الثّورات التي تشهدها بلدان عربيّة الكاتب والفيلسوف اللّبنانيّ علي حرب وحملته على التّأمّل فيها وعلى «تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات». وقد صدر له حديثاً كتاب في هذا الصّدد عنوانه "ثورات القوّة النّاعمة في العالم العربيّ: نحو تفكيك الدّيكتاتوريّات والأصوليّات"، وهو مجموعة مقالات تابعتْ هذه الثّورات.

يقول حرب إنّه لم يكن في حسابه إصدار هذا الكتيّب عن الثّورات الجارية في أكثر من ساحة عربيّة، فما يضمّه من مقالات متفرّقة هو قراءات من مداخل متعدّدة وزوايا مختلفة، في الأحداث المتسارعة والمتلاحقة، بمفاجآتها وصدماتها، بتداعياتها ومفاعيلها. وقد وجد أنّ جمْعها في كتاب يشكّل مساهمة قد تُغني المناقشات الدائرة، عربيّا وعالميّا، حول ما يشهده العالم العربيّ من تحوّلات وانعطافات تنْقله من عصرٍ إلى آخر، لِتغيِّرَ وجهَ الحياة فيه، وتحرّره من أسر التّاريخ وحتميّاته ولتشرِّع أبواب المستقبل وتفتح آفاقه.

ركّز حرب على ما جرى في تونس، ثمّ في مصر، لأنّ الثّورة في كلٍّ من هذين البلدين، نجحت بأقصى سرعة، وبأقلّ الخسائر في الأرواح والأرزاق، في تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافها، ألا وهو سقوط النّظام السّياسيّ، لأنّ ما يُنتظر من الثّورة هو أن تغيِّر النّظام الفكريّ بعدّته وعاداته وآليّاته.

ويرى حرب أنّ ما يشهده العالم الـعربيّ هو انتـــفاضات متـــعدّدة الأبعاد. إنّها انتفاضاتٌ مدنيّة وسياسيّة واقتــــصاديّة، بقدْر ما هي تــقنــية وعــقليّة وخلــقــيّة، وهــي إلـى ذلك عـــالمــيّة بقدر ما هي عربيّة. إنّها ثورات فكريّة تجسّد نموذجا جديدا تتغيّر معه علاقة الإنسان بمفردات وجوده، بالزّمان والمكان والإمكان، كما بالواقع والعالم والآخر، فهي أتت من فتح كونيّ جسّدته ثورة الأرقام والمعلومات التي خلقت أمام الأجيال العربيّة الجديدة إمكانات هائلة للتّفكير والعمل على تغيير الواقع، بتفكيك الأنظمة الدّيكتاتوريّة وخلخلة المنظومات الأصوليّة.

ستُفضي هذه الثّورات إلى تشكيل عالم مختلف، تتغيّر معه برامج العقول وخرائط المعرفة وقواعد المداولة، وتتغيّر اللّغات والعقليّات والحساسيّات، بقدر ما تتغيّر طرق إدارة الأشياء وممارسة السّلطات وترسيخ الهويّة الوطنيّة.

وهذا ما يؤمل من الثّورات العربية أن تنجزه برأي حرب، فلا تكتفي بإسقاط الأنظمة السّياسيّة، ولا تقتصر على استعادة شعارات الحريّة والدّيمقراطيّة والعدالة وحقوق الإنسان أو تطبيقها، وإنّما تحاول تطوير هذه العناوين وإغناءَها وإعادة بنائها، من خلال ابتكار الوسائل والصّيغ والأنماط الجديدة والفعّالة ، وهي بذلك تشكّل إضافة قيِّمة إلى الرّصيد البشريّ، بقدر ما تغيِّر وجه العالم العربيّ.

الشّعوب العربيّة تخرج من سجونها"
ستُفضي هذه الثّورات إلى تشكيل عالم مختلف، تتغيّر معه برامج العقول وخرائط المعرفة وقواعد المداولة، وتتغيّر اللّغات والعقليّات والحساسيّات
"



يقول حرب: مع أنّ العالم العربيّ بلغ مأزقه الحضاريّ منذ زمن، بمختلف عناوينه ونسخه، فإنّ العرب تأخّروا عن الانخراط في تغيير واقعهم والمشاركة في التّحوّلات العالميّة، على غرار التّغيّرات المتعدّدة الجوانب التي شهدتها مناطق أخرى من العالم.. حتّى عندما انهار المعسكر الاشتراكيّ، بشعاراته ودوله، استمرّت الأنظمة العربيّة التي احتذت نموذجه أو دارت في فلكه ووقفت في صفّه في اتّباع سياستها السّابقة. والنّتيجة مزيد من التّراجع والتّخلّف. ولا غرابة في ذلك، فمن لا يحسن أن يتغيّر بفهم المجريات وإدارة التّحوّلات، لا يحافظ على ثوابته وخصوصيّته، بل يعود القهقرَى في واقعٍ كونيّ سمته الحراك الدّائم والتّغيّر المتسارع.

ويضيف حرب: ولكن ها هي الثّورات تندلع بالجملة في معظم البلدان العربيّة، مطالبةً بتغييرٍ شامل وجذريّ يتعدّى الإصلاحات الجزئيّة أو الشّكليّة، في الدّساتير وأنظمة الحكم، ليطال طريقة الدّول في إدارة الشّأن العامّ وكيفيّة ممارستها للسّلطات، فضلاً عن طريقة تعاطيها مع الحقوق والحرّيّات.

ويرى حرب أنّ الأنظمة أخفقت على المستوى الدّاخليّ في شعارات التّقدّم والحرّية والعدالة الاجتماعيّة، بل حوّلت الجمهوريّات إلى ملكيّات والجيوش إلى ميليشيات تحت اسم الحرس الثّوريّ، والشّرطة المدنيّة إلى أجهزة مخابرات تتجسّس على النّاس، إضافة إلى جيوش العاطلين عن العمل من حملة الشّهادات وسواهم. وبذلك خسرت المجتمعات العربيّة المكتسبات التي كانت تؤمّنها الأنظمة التّقليديّة على محدوديّتها، ولم تربح جديدا، ممّا جعل النّاس يترحّمون على عهود الملكيّة والاستعمار.

وبعد ظهور الموجة الجديدة لعصر العولمة والمعلومة، لم تنجح الأنظمة في تحقيق إنجازات في مسائل الدّيمقراطيّة والتّنمية وتحديث الاقتصاد، بل أضافت إلى آفة الاستبداد آفة الفساد، من هدر للموارد ونهْبٍ للأموال العامّة والخاصّة.

وفي القضايا الخارجيّة، لم تكن الأمور أحسن حالا خصوصا في القضيّة المركزيّة فلسطين والأراضي المحتلّة، إذ تراجعت بعد ستّين عاما من شعارات التّحرير والمقاومة والممانعة.

يضاف إلى ذلك أنّ صعود الأصوليّات الدّينيّة، والتي استفادت من إخفاق المشروع القوميّ والبرنامج الاشتراكيّ، أدّى إلى مزيد من التّردّي والتّراجع، لأنّ الأصوليّات هي موجات ارتداديّة تحكمها الذّاكرة الموتورة والعقائد الاصطفافيّة التي يفكّر أصحابها بعقليّة الثّأر والانتقام ممّا هو حديث ووافد. وما بوسعها أنْ تفعله هو تقويض نظام أو تخريب عمران. ولكنّها لا تقدر على الإصلاح أو تحسين البناء. والأصوليّات في نظر حرب كالدّيكتاتوريّات تأخذ من الغرب التّقنيات والتّجهيزات والأسلحة التي تستثمرها في حروبها، كما تفيد من انفتاح الأسواق غير المحدود لجمع الثّروات الطّائلة غير المشروعة. لكنّها ترفض القيم والمفاهيم والنّظم التي يمكن استثمارها في أعمال التّحديث والإنماء، أو تجسيدها في احترام الحقوق وإطلاق حريّات التّفكير والتّعبير والتّنظيم.

وبذلك جمعت الأصوليّات مساوئ المشاريع السّابقة، القوميّة واليساريّة، فأضافت الإرهاب والفتن المذهبيّة إلى الفقر والتّخلّف والاستبداد، ممّا وضع المجتمعات العربيّة بين فكّي الكمّاشة الخانقة: استبداد مضاعف وفساد منظّم، ثراء فاحش، وفقر مدقع، وجزر أمنيّة ومافيات ماليّة، جحيم المخابرات وجهنّم الإرهاب.

ويرى حرب أنّ هذا الإخفاق المتواصل قد وجد ترجمته في ما وصلت إليه الأوضاع العربيّة من انسداد الأفق واستهلاك الأفكار واستنفاد الوسائل وفشل البرامج وسقوط الدّعوات، سواء على جبهة الدّيكتاتوريّات أو على جبهة الأصوليّات، حيث المعسكران المتناحران متواطئان على ما يشهده العالم العربيّ من العجز والتّخلّف والتّقهقر وسوء السّمعة في الخارج.

وهكذا فالانسداد قد ولّد الانفجار، كما تشهد الثّورات الجارية، التي تعبّر من خلالها المجتمعات العربيّة عن حيويّتها الخلاّقة، بتفجير مخزونها الوجوديّ وإطلاق قواها المعطّلة، على النّحو الذي يمكّنها من استعادة مبادرتها وممارسة فاعليّتها، مستفيدة من الإمكانات التي فتحها عصر العولمة والمعلومة والصّورة.

إنّ لكلّ عصرٍ ثوراته وقواه، حيث أدّت العولمة بتقنياتها وتحوّلاتها إلى تشكيل فاعل جديد على المسرح، يمثّله نموذج الإنسان الرّقمي، والذي بدأ يتصدّر الواجهة، منذ عقدين، لكي يسهم في صنْع العالم وتغيير الواقع، كما هي حال العاملين على الشّبكات بمختلف أنواعها.

ويرى حرب أنّ الحكّام والأصوليّين وكذلك المثقّفين والدّعاة والمنظّرين وأصحاب شعارات التّقدّم والتّحديث لم يحسنوا قراءة المجريات، فمنهم من خشي على هويّته وعقائده وحداثته من المتغيّرات، ومنهم مَن شنّ الهجوم على العولمة بوصفها الشّرّ المحض، ومنهم من دفن رأسه في الرّمال، متعاميا عمّا يحدث، في انتظار حصول المعجزة على يد نبيّ مبشّر أو بطل منقذ.

وكان العالم يتغيّر بأدواته ومفاهيمه وخريطته وقواه والفاعلين على مسرحه، فيما كان أصحاب مشاريع التّغيير خائفين أو غير مصدّقين، فإذا بالثّورات الجديدة توقظهم من سباتهم الأيديولوجيّ والثّقافيّ، وتفاجئهم بأنّ المعطى قد تغيّر بقدر ما تغيّر مشهد العالم.

القوّة الفائقة"
الأنظمة أخفقت على المستوى الدّاخليّ في شعارات التّقدّم والحرّية والعدالة الاجتماعيّة، بل حوّلت الجمهوريّات إلى ملكيّات والجيوش إلى ميليشيات تحت اسم الحرس الثّوريّ
"



إذا كان لكلّ عصر ثوراتُه، فلكلّ ثورة أساليبها ومفرداتها. فمن حيث الأسلوب، نحن إزاء ثورات سلميّة، تشتغل بالقوّة النّاعمة لا بالقوّة العارية، كما كان من أمر الثّورة في تونس ومصر بشكل خاصّ. فالعنف خرّب الثّورات السّابقة وبدّد الأحلام وقوّض الشّعارات وهو لا ينتج سوى الدّمار المتبادل في عصر الاعتماد المتبادل.

وإذا كان للثّورة الرّقميّة دروسها، فهي تعني أنّ القوّة النّاعمة والفائقة هي أقوى من الأنظمة الأمنيّة وأجهزتها المخابراتيّة. وهكذا نحن إزاء ثورات لم تصنعها الرّشّاشات، بل الكتب الرّقميّة والشّاشات الخارقة للجدران الحديديّة والعقائد المغلقة.

وإذا كانت الثّورات السّابقة، بثنائيّاتها المانويّة الضدّية، واستراتيجيّتها القاتلة والمدمّرة، تنظر إلى الفرد، كعبد خاضع يمارس طقوس العبادة للثّورة وآلهتها وأبطالها، فإنّ الثّورات الجديدة النّاعمة المدنيّة تتعامل مع الفرد كمنتج ومشارك في بناء بلاده، كما شارك في صنْع ثورته.

ويقول حرب: كان لافتاً ما أبدعه شباب مصر في ميدان التّحرير من الأساليب والمفردات والطّرائف والقصائد التي جعلتهم يتعاملون مع الثّورة كعمل فنِّي جماليّ أي بوصفها مصدر إبداع وفرح. ولهذا جرى التّركيز على قيم الحرّية والكرامة لكي تتراجع شعارات التّحرير والمقاومة والممانعة، كما رفعت شعارات الدّيمقراطيّة والتّعدّديّة والشّراكة والتّنمية، لكي تتراجع مقولات الأحاديّة والمركزيّة والفوقيّة.

عالم عربيّ مشترك

يرى المفكّر علي حرب أنّنا إزاء ثورات عربيّة وليس ثورة عربيّة كبرى، ثورات متعدّدة تجري في أكثر من بلد عربيّ. وإذا كانت لكلّ بلد خصوصيّته، فالمجتمعات العربيّة تتماهى مع بعضها البعض، بمعنى أنّ الواحد يؤثّر في الآخر كما يفيد منه، يستدعيه كما يعمل على دعمه وتعزيزه، وذلك من جهة التّأثيرات المتبادلة بين الثّورات والانتفاضات. وبذلك تثبت الشّعوب العربيّة أنّها تمارس وحدتها من غير ادّعاءٍ أو تنظير. وتلك هي المفارقة، فما يجري من ثوراتٍ عابرة يحطّم الحدود المادّية والمعنويّة، لكي يفسح المجال واسعاً للتّبادل بين بلد عربيّ وآخر.

ويرى حرب أنّ ما لاقته هذه الثّورات من تأييدٍ عالميّ وخصوصا من الرّئيس الأميركيّ باراك أوباما يسجّل نهاية لنظريّة المؤامرة والأجندات الخارجيّة، كما يسجّل نهاية سيادة الدّول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، خصوصا عندما يتحوّل الحكّام إلى جزّارين يسفكون دماء شعوبهم، مستشهدا بالعقيد معمّر القذّافي وحربه على شعبه اللّيبيّ الذي يستغيث بالدّول الغربيّة وحلف شمال الأطلسي لإنقاذه.

ويعتقد حرب أنّ هذه المجازر تعطي الأمم المتّحدة الحقّ في التّدخّل ضدّ أيّ حاكم يعتدي على مواطنيه العزّل، وفي هذا السّياق يندرج التّدخّل الدوليّ في ليبيا من أجل حماية المدنيّين وتجنيبهم تلك المجازر. ولا شكّ في أنّ هذا الكلام مثار جدلٍ وخلافٍ وخصوصا بعدما تجاوزت الولايات المتّحدة وحلف الأطلسي تفويض مجلس الأمن الدوليّ في قراره رقم 1973 الذي نصّ على حظْر جوّيّ فوق ليبيا، حيث قامت بضربات جويّة ضدّ القوّات اللّيبيّة ومنشآت ومواقع تابعة للقذّافي وحكومته، أسفرت عن مقتل مدنيّين. كما لا يمكن استبعاد نظريّة المؤامرة كلّيا مع وجود عامل النّفط في ليبيا وما يثيره من لعاب الدّول الغربيّة. وكذلك لا نرى هذا التّدخّل الدوليّ والغربيّ البتّة ولا حتّى بالإدانات ضدّ العدوان الإسرائيليّ المستمرّ في فلسطين وحصار قطاع غزّة، ممّا يعيدنا إلى مربّع المعايير المزدوجة.

نظام عربيّ جديد"
إنّ لكلّ عصرٍ ثوراته وقواه، حيث أدّت العولمة بتقنياتها وتحوّلاتها إلى تشكيل فاعل جديد على المسرح، يمثّله نموذج الإنسان الرّقمي
"



يقول حرب إنّ الأكثريّة من عرب وغربيّين، بينهم مفكّرون كبار، كانوا يخشون على الهويّة والخصوصيّة والحريّة، من العولمة وثوراتها وتحوّلاتها، فإذا بها تفتح الإمكان الواسع لكسْر القيود والتّحرّر من نير الاستبداد. وهذا ما يذهب إليه علماء ومعلّقون اقتصاديّون أمثال الفرنسيّ جاك بوفريس والأميركيّ مارتن وولف. ولا عجبَ، فالاقتصاد الحديث، بنمط إنتاجه وسلعه وأسواقه المفتوحة، يتيح حريّة التّبادل للأفكار والأشخاص والأشياء، في حين أنّ الثّورات العربيّة السّابقة بشعاراتها وأيديولوجيّاتها الجديدة تعمل على تقويض الحرّيات واستعباد العقول.

ويرى حرب أنّ سقوط نظام الرّئيس زين العابدين بن علي في تونس بهذه السّرعة وهو الذي كان يبثّ الرّعب في النّفوس بأجهزته الأمنيّة، معناه أنّه كان نظاما هشّا يخشى شعبه أكثر ممّا يخشاه شعبُه. وما تكشفه ثورة تونس أنّ الأنظمة الاستبداديّة هي أعجز وأضعف من أن تصمد أو تتغلّب على شعبٍ كسر حاجز الخوف وأجمع على تغيير نظامه السّياسيّ وواقعه الاجتماعيّ. ولعلّ هذا هو الدّرس الأوّل من الانتفاضة التّونسيّة والزّلزال المصريّ.

وكان من الطّبيعيّ أن يكون لما حدث في تونس أصداؤه في العالم العربيّ، خشية وتوجّسا، أو استلهاما واحتذاء، سواء لدى الرّؤساء والزّعماء، أو لدى الشّعوب.

ويعتقد حرب أنّ ما يحدث من انتفاضات في أكثر من بلد عربيّ لا يصبّ في مصلحة شرق أوسط إسلاميّ، كما يعتقد الإيرانيّون، لأنّ مفهوم الشّرق الأوسط، الذي هو مفهوم غربيّ أميركيّ، يقوم على استبعاد المصطلح العربيّ. بهذا المعنى يلتقي الأميركيّ والإيرانيّ على استبعاد العرب من الفاعليّة والدّور. وما يجري في العالم العربيّ اليوم من فراغ إستراتيجيّ تسدّه الآن دول إقليميّة تحت شعارات دينيّة، يعود في بعض عوامله إلى ضعف مصر وفقدانها الدّيناميكيّة والحركة والمبادرة. وهو يرى أنّ استعادة مصر لدورها الفعّال سيكون لها أثرها عربيّا، على المستوى الإستراتيجيّ والقوميّ. وإذا قُدّر لهذه الانتفاضات العربيّة أنْ تنجح فسوف تُفضي إلى تغيير وجه العالم العربيّ، بحيث يغادر عجزه ويستعيد عافيته وفعاليّته وحضوره على المسرح العالميّ، بما يعني ذلك من تراجع التّدخّل الأميركيّ والنّفوذ الإيرانيّ على حدٍّ سواء.

صدمة النّخب والمثقّفين

ويوجّه حرب نقده للكثير من المثقّفين الذين لا مصداقيّة لهم في ما يعلنون من مواقف، بحسب قوله. فهم ضدّ الاستبداد في مكان ومعه في مكان آخر. فهم ضدّ المجازر الإسرائيليّة في غزّة، ويصفّقون لمجازر تنظيم القاعدة في العراق بحقّ مدنيّين عراقيّين. وهم مع الحريّة في تونس ومصر، ولكنّهم ضدّها في لبنان. وبذلك يثبت المثقّفون من أصحاب المشاريع الأيديولوجيّة والثّوريّة والتّحرّريّة انكشاف عجزهم وهشاشتهم وجهلهم بالنّفس وبالآخر والمجتمع والعالم.

فما جرى في تونس ومصر وقد يجري في بلدانٍ عربيّة أخرى تنتظر دورها، يفكّك ثنائيّة النّخبة والجماهير، ويكسر عقليّة الوصاية على القيم والمجتمعات بعقل نرجسيّ وفكر أحاديّ. والدّرس المستفاد من الحدث التّونسيّ هو أن لا مجال بعد اليوم لأن تدار الدّول بعقل مركزيّ فوقيّ أو سلطويّ بوليسيّ أو استبداديّ شموليّ، يحوّل المجتمعات والسّلطات والثّروات إلى سجونٍ أمنيّة أو أجهزة مخابراتيّة أو احتكارات ماليّة. ففي عصر القنوات والشّبكات، حيث تنتشر المعلومات وتتعولم الأفكار وتتشكّل الهويّات العابرة والمتداخلة، تنفتح الحكومات النّاجحة والفعّالة على الحراك الاجتماعيّ بكلّ دوائره ومستوياته، بقدر ما تعمل بمنطق أفقيّ ديمقراطيّ تبادليّ.

ومن الدّروس أيضا أن ليس لأحد أن يتعامل مع بلده بوصفه مشروعه الخاصّ، لكي يحتكر شؤون الحقيقة والسّلطة والثّروة والمشروعيّة، وليس لأيّ فئة أو قوّة سياسيّة معارضة أو موالية، أن تحتكر الوصاية على العدالة والتّنمية والحريّة أو على الهويّة والأمّة والمقاومة، وسواها من القيم العامّة. فهذه ليست ملكا لأحد، لأنّ كلّ مواطن له صلة بها، ويشارك في بناء بلده بعمله واختصاصه وإنتاجه وإبداعه. إنّ عصر الأيديولوجيّات الثّوريّة والأصوليّات الاصطفافيّة التي يدّعي أصحابها امتلاك الأجوبة النّهائيّة والحلول القصوى للمشكلات، قد أفضى إلى الإخفاق أو إلى الكوارث.

وما حدث في تونس وترك أصداءه المدوّية وآثاره العميقة في النّفوس، لا يعني أنّه سوف يحدث بحَرفيّته في بلدان عربيّة أخرى تعاني من الفساد والفقر والاستعباد. وإذا كان الحدث لا يتكرّر، فإنّ معنى ذلك أنّ كلّ بلد عربيّ يعاني من القهر والعبوديّة، إنّما يصنع نموذجه ويغيّر واقعه على طريقته.

الفاعلون الجدد"
يرى المفكّر علي حرب أنّنا إزاء ثورات عربيّة وليس ثورة عربيّة كبرى، ثورات متعدّدة تجري في أكثر من بلد عربيّ
"



والأهمّ أنّ ما حدث في تونس ويحدث في أكثر من بلد عربيّ، وخاصّة مصر، هو وليد ثورة المعلومات والاتّصالات التي أتاحت البثّ والاتّصال للصّور والمعلومات بسرعة البرق، كما أنّه ثمرة للقوى الجديدة الصّاعدة على المسرح، والتي باتت من معطيات الواقع العالميّ الرّاهن، كالصّين والهند والبرازيل وتركيا، ممّا عنَى كسر النّموذج والقطب والمركز في التّنمية والسّياسة والمعرفة.

وهناك صعودُ الأجيال الجديدة الشّابّة التي استطاعت الخروج من عقال الأيديولوجيّات الإسمنتيّة والمنظّمات الجهاديّة الإرهابيّة. لهذه العوامل وبخاصّة الشّباب، ووسائل الإعلام، الدّور الأكبر في الثّورة الجارية، التي هي ثورة سلميّة مدنيّة لا تشبه ما سبقها.

ويرى حرب أنّ الانتفاضات الجارية تعطي مصداقيّة للفيلسوف الأميركيّ فرانسيس فوكوياما وليس لصاموئيل هانتنغتون، لأنّ الأوّل نظر بعين الذّاكرة الموْتورة المشدودة إلى الماضي، كما تشهد مقولته "صدام الثّقافات". أمّا فوكوياما فقد نظر بعين البصيرة العاقلة فتوقّع انتصار الدّيمقراطيّة في زمن تحوّلات العولمة اللّيبراليّة.

ويقول حرب ثمّة صورة لافتة وسط المشهد هي صورة وائل غنيم النّاشط الإلكتروني في ثورة مصر، فهو لا يهدّد بحرق البلاد والعباد تحت شعار "أنا أوْ لا أحد"، بل يبكي بعد خروجه من السّجن، معترفا بأنّه ليس بطلا بل هو واحد كسواه ممّن يشاركون في صنْع ما يحدث. هذا نموذج لا يشبه النّماذج الثّوريّة السّابقة بأشكالها المختلفة. لا يشبه الحاكم الدّيكتاتوريّ أو السّياسيّ الفاشيّ، ولا المنظّر العقائديّ أو الحداثيّ. إنّه يشبه غاندي ومانديلا، إنّه نموذج الفاعل الجديد الذي يشارك في صنْع عالمٍ مختلف وافتتاح عصر جديد لا تصنعه الكتب السّماويّة ولا الفلسفات المادّية، بل الكتب الرّقميّة والانتفاضات السّلميّة التي تسجّل نهاية زمن البطولات الدّمويّة والبيروقراطيّة الثّقافيّة.

ويأمل حرب أنْ تنجح الانتفاضات الجارية أو التي يمكن أن تحدث في امتحانات الدّيمقراطيّة والتّنمية والعدالة والكرامة، لكي تصنع مستقبلا جديدا تنكسر معه الصّور النّمطيّة السّلبيّة عن العرب، لكي تتشكّل صورة جديدة مشرقة، بوصفهم من بناة الحضارة ومن صنّاع المعرفة والحداثة والتّقدّم، للمشاركة مع بقيّة الجماعات والأمم في رسم مستقبلٍ أفضل للبشريّة.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية