الأزهر والمؤسسات الدينية والثورة السورية - بقلم: رضوان السيد


ظهر شيخ الأزهر للمرة الخامسة خلال الشهور الأخيرة، في بيان قوي لنصرة الشعب السوري، ودعوة العرب وأحرار العالم للتدخل من أجل إنهاء أعمال القتل والإبادة. وقد تميز البيان الأخير بلهجة جادة وملتاعة في الوقت نفسه. إذ إنه أعلن عن يأسه من النظام السوري وأعوانه، وطالب العرب وأحرار العالم بالتدخل بشتى السبل لإيقاف أعمال العنف والقتل وسفك الدم التي يقوم بها النظام. ثم توجه إلى جيش النظام وقواته الأمنية، داعياً إياهم إلى التوقف عن قتل مواطنيهم، إذ المفروض أن هذه الأسلاك كلها إنما أنشئت لحماية الأوطان وحياة الناس وحرماتهم، فإذا بها تتحول إلى عدو لهم بالذات من طريق القتل بدون رادع من دين أو ضمير.

وأضاف الإمام الأكبر في بيانه أن هؤلاء لا يستطيعون الاعتذار بأنهم مأمورون، لأن الناس يحاسبون على الأعمال التي ارتكبوها بأنفسهم، إضافة لمحاسبة الذين أمروهم.



وكرر الشيخ أحمد الطيب، أنه لا يتوجه إلى السلطات التي أصرت طوال عام على قتل شعبها لأنه لا أمل فيها من أي نوع، ولا يملك رجالاتها من الإحساسات الدينية أو الإنسانية ما يمكن من خلالها استصراخهم للكف عن ارتكاباتهم. بل إنه يتوجه إلى الشعب السوري ويطلب منه باسم الدين والأخلاق والعروبة وإنسانية الإنسان أن يصبر ويصابر، وألا يتخلى تحت وطأة الإبادة عن مطالبه في الحرية والكرامة والسلمية ومكافحة الظلم والظلام.



وهو في الحقيقة لا يخشى من انكسار الناس مهما بلغ القمع، وإنما تنصب مطالبته الناس بالصبر والمثابرة على ألا يلجأوا للسلاح، بل أن يتابعوا المسار السلمي الذي بدأوه وانتهجته الثورات العربية. لكنه يتابع مقرراً أن حق الدفاع عن النفس محفوظ في الدين وفي الشرائع الإنسانية، ذلك أن من قُتل دون حقه فهو شهيد. والحق هنا هو حق الحرية والكرامة. فالحرية نزوع إنساني عظيم، وهي التي تميز الإنسان عن الكائنات الأخرى. أما الكرامة فإنها تنصب لدى المسلمين، بحسب خطبة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أمور: حرمة الدم، وحرمة الشرف والصون من الإهانة والانتهاك، وحرمة المال والملك.



وهكذا فإن هذه الحرمات الثلاث التي انتهكت في سوريا من جانب النظام، تبيح بل توجب الخروج عليه لرفع الظلم. والأولى والأسلم في الدنيا والآخرة أن يكون هذا الخروج سلميا تخفيفا للأعباء، ومنعاً لحدوث الفتن، إنما من ناحية أخرى، إذا أصر النظام الظالم المستبد على الاستمرار في حجبه للحرية والكرامة عن المواطنين وبالعنف والإرهاب والمغالبة بالسلاح؛ فإن من حق الناس أن يدافعوا عن أنفسهم لعلو شأن الأهداف التي يتقصدونها ويناضلون من أجلها. وقد مضى الإمام الطيب في هذا السياق إلى آفاق عاطفية وإنسانية وتاريخية عندما استشهد في بيانه ببيت الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي:

وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرّجة يدق

والبيت من قصيدة شهيرة أنشدها شوقي تحية للثورة السوريةعلى المستعمرين الفرنسيين عام 1925



إن بيان شيخ الأزهر عن الثورة السورية، ووثيقته التي أصدرها قبل عدة أشهر عن حركات التغيير العربية ومشروعيتها، يشكلان جديداً لعدة جهات:

- الجهة الأولى أنهما يعدان مراجعة نقدية لفقه الثورة في موروث وتقاليد أهل السنة والجماعة.

- والجهة الثانية أنهما يثيران تساؤلات فيما يتعلق بالمؤسسة الدينية السنية ومواقفها من حركات التغيير والثورات.

- والجهة الثالثة أنهما يثيران أسئلة بشأن دور أو أدوار المؤسسات الدينية في زمن التغيير العربي الجديد.

أما فيما يتصل بالمسألة الأولى، أي التغيير في فقه الثورة؛ فإن المعروف أن فقهاء أهل السنة بعد القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي، توصلوا إلى «تحريم الخروج على السلطان» بالسيف إلا بشروط صعبة جداً، وذلك لخشية أو خشيتين: سفك الدم أو التسبب به، والفتنة والانشقاق في صفوف الجمهور أو بين أنصار السلطة وخصومها. وقد ذهب شيخ الأزهر، والشيخ يوسف القرضاوي (ووافقهما علماء آخرون فيما بعد) إلى أن التحريم - إن كان - إنما يتناول الخروج بالسيف ابتداء، وهذا الأمر لم يحصل مع حركات التغيير العربية. فقد كانت جميعاً حركات سلمية وبقيت كذلك في الأكثر. إنما لا يجوز اللجوء إلى «سد الذرائع»، بما يعني عدم الخروج على الظلم خشية أن يؤدي ذلك إلى عنف وسفك دم. وهنا يصبح الافتراق بين الفقه التقليدي، والفقه الجديد، واضحا؛ إذ ما الذي يبرر الخروج أو الاحتجاج الجماعي من جانب الناس؟ العلماء القدامى بعد القرن الثالث يقولون بالصبر ما أمكن على الظلم. أما الطيب والقرضاوي ومؤيدوهما، فيرون أن الظلم الذي يتناول المحرمات الثلاث: الدم والكرامة والمال، دون أن تكون هناك سبل قانونية أو مشروعة للتلافي والإنكار والقصاص؛ يجيز الخروج أو التظاهر سلما بل وبعد المطالبة بالإصلاح دون جدوى، تجوز المطالبة بتغيير النظام.



وهناك بعد هذا اختلاف طفيف – لكنه دال - بين الشيخين الكبيرين، فالشيخ القرضاوي مضى للمطالبة بإسقاط نظام القذافي ولو بقوة السلاح وكذا نظام الأسد، بينما لا يزال الشيخ الطيب يصر على سلمية التغيير ما أمكن، وإن اعترف للمحتجين بحق الدفاع عن النفس إن تعرضوا للعنف الشديد.



إن هذا التغيير في الفتوى - وإن يكن في بداياته - هو أمر شديد الأهمية، ليس لأنه يبيح العمل من أجل التغيير (السياسي)، وإن أدى بالتبع إلى عنف من السلطة أو من معارضيها؛ بل لأنه يغير في سلم القيم باعتبار «الحرية» أصلاً تنبني عليه سائر الاعتبارات الأخرى. والطريف أن هذا الاعتبار لحظه الإصلاحيون من الفقهاء منذ القرن التاسع عشر، لكن الإسلاميين الحزبيين ما وضعوه في اعتبارهم بوصفه من الأولويات، في الخمسين سنة الأخيرة، لسببين: الخوف من التغريب باعتبار أن الحريات والتنوير وما شابه هي مصطلحات ومنتجات غربية، والسبب الثاني أن من اللوازم السياسية لمبدأ الحرية: المواطنة، وصناديق الاقتراع، وهذان الأمران يمكن أن يؤدياً إلى تصادم بين الجمهور وأحكام الشريعة!

إنما على أي حال؛ فإن المسألة الثانية التي ينبغي التطرق إليها هنا، تتعلق بالمؤسسة الدينية السنية ومواقفها في زمن الثورات. فقد أظهر كبار رجالات المؤسسة - باستثناء الشيخ الطيب - تخاذلاً شديداً، ما تجلى في الصمت المطبق وحسب؛ بل تمثل أيضاً في التأييد الفاقع للنظام إما بشكل مبهم مثل القول بالاستقرار والإصلاح السلمي، ورفض المؤامرات على الوطن ووحدة الشعب، أو بالقول علنا وبصراحة إنهم مع النظام القائم، مثلما فعل مفتي سوريا الشهير (بمعنى الذي صار شهرة) أحمد حسون، وكبير علماء سوريا سابقاً الشيخ محمد سعيد البوطي، والذي لا يزال يعتقد أنه إذا ذهب نظام الأسد ذهب الإسلام وسوريا معاً!

وهذا الموقف (صمتاً أو إفصاحاً) ظهر في تونس وليبيا واليمن، وظهر في سوريا على الخصوص. بيد أن وضع المؤسسة ليس أحسن حالاً في أكثر الدول العربية والإسلامية.

وقد ظهر في زمن الثورات أيضاً أن المؤسسات الدينية المسيحية هي أيضاً ليست على ما يرام. فبحجة أنهم أقليات ويخشون من المستقبل وقفوا بوضوح ضد التغيير، وتحدثوا عن تطرف إسلامي يريد الاستيلاء على السلطة، وحرمان المسيحيين من حقوقهم، وإرغامهم على الهجرة!



وهناك أمر دال آخر يتعلق بسوريا على الخصوص. فالملاحظ أن المؤسسة الدينية الشيعية، التي تقودها إيران إلى حد بعيد، وقفت مع المعارضة البحرينية، وضد المعارضة السورية، لأن النظام السوري - كما قالوا - هو نظام ممانعة وإنما يراد إسقاطه بمؤامرة من الولايات المتحدة وأصدقاء "إسرائيل"! وهذا الكلام ظل مؤثراً لأكثر من ستة أشهر في أوساط الإسلاميين السنة أيضاً، وبخاصة «الإخوان المسلمون» والحركات المشابهة (باستثناء الإسلاميين السوريين بالطبع!)، لأنه كما هو معروف، فقد كان هؤلاء جميعاً في المعارضة وبينهم وبين إيران وسوريا علاقات حسنة؛ وفي حالة حماس والجهاد الإسلامي، ما هو أكثر من العلاقات الحسنة!



التحول حاصل، وإنما تجب المتابعة في مجال النهوض بالفكر الإسلامي، وفي مجال إعادة بناء المؤسسات الدينية. وقد صار شيخ الأزهر رائدا في المجالين.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية