حوار حول المشهد الثقافي في إيران مع الشيخ حيد حب الله


في الصورة: الشيخ حيدر حب الله

 تعيش إيران حراكاً نشطاً على الصعيد الثقافي والفكري، بالرغم من أن القليل من الجدل المحموم الذي يدور هناك يرشح للجوار العربي، كما وبالرغم من أن المثقفين العرب قرأوا أخيراً نظريات وأعمال مثقفين من قبيل : عبد الكريم سروش، محمد مجتهد شبستري، محسن كديفر، كما تابعوا الجدل الكبير الذي أحدثته نظرية (القبض والبسط)، للدكتور سروش، ونظريات تكامل المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، ونسبية المعرفة، وغيرها.
وإذا كانت نظرية سروش تمثل (حدثاً) فكرياً يخرج عن مداه الإيراني، فإن نظريات وآراء مثقفين آخرين اشتعل حولـها الجدل لدرجة أن واحداً بين هؤلاء المثقفين هو محسن كديفر ساقته أفكاره إلى السجن، وآخر هو الدكتور آغاجري ساقته آراؤه إلى المقصلة حيث يواجه حكماً بالإعدام.
ورغم شدّة المواجهة بين التيارات والنظريات المختلفة، فإن المناخ الإيراني لم يعرف السكون يوماً.. وعملت المدرسة الدينية ونظام الحوزات في تدعيم مجالات البحث والتجديد..
المقابلة التالية مع واحد من المثقّفين العرب المقيمين في معقل الجدل الفكري الإيراني (مدينة قم) والأستاذ في الحوزة العلمية لبعض المراحل الدراسية العالية، ورئيس تحرير مجلة (المنهاج) الفكرية، وهو الشيخ حيدر محمد كامل حبّ اللـه، اللبناني الأصل، وعضو دائرة معارف الفقه الإسلامي، وأحد الذين أسهموا في نقل التجارب الفكرية الإيرانية للقارئ العربي، ترجم عدداً من الكتب، ونحو خمسين دراسة من اللغة الفارسية للعربية، اهتم بالفلسفة، وأصدر علاوة على حوالي الخمسين دراسة ومقالة كتاباً اسمه (علم الكلام المعاصر)، وكتاباً آخر (التعددية الدينية)، لتسليط الضوء على صورة المناخ الثقافي الإيراني، وطبيعة المدارس الفكرية هناك، وحقيقة الاتجاهات التجديدية في المدرسة الإيرانية.

ما الذي يميز أعمال المثقفين الإيرانيين عن نظرائهم العرب، يعني مثلاً ما الفرق بين أعمال عبد الكريم سروش، ونصر حامد أبو زيد، أو أعمال مجتهد شبستري ومحمد أركون؟

أمور كثيرة، لكن يمكنني القول من حيث المبدأ فإن أعمال المثقفين الإيرانيين تأتي متميّزة بالحراك على الصعيد الفكري، في الجسم الإسلامي الشيعي، وذلك أن تجارب إخواننا المفكّرين في مصر والمغرب العربي تنمو وتتفاعل في مناخ ديني غير شيعي، وبالتالي كان لـها بعض الخصوصيات كما كان للحركة الثقافية في إيران خصوصياتها.
لقد وجدنا أنّ بعض الأفكار التي أثارها المفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش، كان لـها حضور في نتاجات محمد أركون، إلا أن تجربة الدكتور سروش كانت تحاول استحضار المعطيات الإبيستمية إلى مناخ الفكر الشيعي، ولـهذا شاهدنا مقارناته بين محمد باقر المجلسي ومحمد حسين الطباطبائي، أو استدعاءه نتاج صدر المتألـهين الملا صدرا الشيرازي، والملا هادي السبزواري، فبعد أن كان الدكتور نصر حامد أبو زيد معنياً بقراءة الغزالي في مناخ السلفيّة السنية، كان سروش معنياً بشخصيات شيعية في مناخ إمامي، وهذا ما يشكّل عنصراً متميزاً للتجربة الإيرانية، كونها تضّخ بثقافة في مناخ لم تعرفه مصر ولا المغرب العربي ولا بلاد الخليج إلى حدّ كبير.
كذلك من تلك المفارقات طبيعة التفكير الفلسفي لدى الباحثين الإيرانيين..

 

في الصورة: مجتهد شبستري

هل لـهذا تأكيد لما يقولـه أحد المثقفين العرب بأن العقل الإيراني هو عقل فلسفي؟

هذا الرأي يتبنّاه غير واحد مثل الدكتور رضوان السيّد، الذي يرى أن العقل الإيراني، عقل فلسفي، على النقيض من العقل العربي، وبعيداً عن صحة هذه المناقضة إلا أن السياق الفلسفي بالغ الأثر في الفكر الإيراني، ولـهذا وجدنا أن اهتمام الحداثيين والمدرسيين (نسبة إلى المدارس الدينية ــــ الحوزات) في إيران جاءت منسجمة لجهة وحدة السياق، فالنسق الفكري الذي ينتمي إليه زعماء التيار المدرسي والدفاعي هو نسق فلسفي.

هل هناك نماذج لكلا الاتجاهين..؟

نعم، لك أن تأخذ الشيخ جوادي آملي والشيخ صادق لاريجاني والشيخ مصباح اليزدي والشيخ محمد تقي جعفري نماذج لتأكيد هذا الأمر، في مقابل أمثال الدكتور عبد الكريم سروش، والدكتور مصطفى ملكيان، وغيرهما.

حسناً ما تأثير هذا العقل الفلسفي على المشهد الثقافي الإيراني؟

إن العقل الفلسفي الإيراني هذا جعل المشهد الثقافي في إيران عقلياً بحتاً، ولـهذا لم نجد نـزاعات طويلة حول قضايا إثبات النصّ ونظرية السنّة، أو إشكاليات علوم الحديث والرجال، كما حصل في الساحة المصريّة وفي السعودية ودول الخليج. والاستثناء الوحيد كان تأثيرات مدرسة العلامة (السيد محمد حسين) الطباطبائي القرآنية والتي دخلت حيّز الجدل من زوايا تنتمي هي الأخرى اليوم إلى مجالات عقلية أو عقلانية، كالألسنيات، وفلسفة اللغة، ودراسات التأويل، والـهرمنوطيقا، الأمر الذي شاهدناه مع سروش ومحمد مجتهد شبستري، وأحمد واعظي وصدر الدين طاهري وغيرهم، فيما ظلّت علوم النصّ خارج معركة التجاذب التي غطّت البلاد.
ومن هنا، وجدنا نظريات تكامل المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، ونسبية المعرفة، ومفهوم الدين بالحد الأدنى، وما يسمّى توقعات البشر من الدين وسواها من النظريات البارزة على المشهد الثقافي الإيراني.

تتحدّث عن المعرفة، ولكن الاشتغال بالدراسات الفلسفية سوف يجعل المشهد مشدوداً لجدلية فلسفة الوجود..

لم يكتف المشهد الثقافي في إيران بالاصطباغ بالصبغة الفلسفية، بل تجاوز هذه المرّة فلسفة الوجود إلى فلسفة المعرفة، حتى لو بقي أنصار التيار المدرسي والدفاعي أوفياء لفلسفة الوجود، لكنّ الموضوعات التي شغلت بال الباحثين الإيرانيين سيما في العقد الاخير كانت فلسفات معرفية، لا على طريقة (فلسفتنا) للمفكر السيد محمد باقر الصدر، أو (الأسس الواقعية) للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، وإنما معرفيات ثانوية تعاملت مع الفكر البشري باعتباره واقعاً مفروغاً منه.
إن نظريات من قبيل : (التعددية الدينية)، أو نظرية (القبض والبسط)، أو حتى (التأويل) كلـها معرفيات تُعنى بالقارئ للنصّ والدارس للواقع، أكثر مما تعنى بالواقع نفسه.


غالباً ما يتبادر للذهن، ما الدافع وراء رواج مثل هذه النظريات في بلد كإيران، هل كان المثقف هناك يعاني من سلبية المناهج العقلية هناك؟

السبب الذي دفع المناخ الإيراني للدخول في هذا النوع من الفلسفات هو إحساس المثقف الإيراني، وكما أحسّ بذلك من قبل الدكتور محمد عابد الجابري، بأن ثمة مشكلة في نظم التفكير تبدو الإطلاقية والدوغمة أبرز مظاهرها، لا بل إن مفاهيم الفلسفة الاجتماعية والسياسية تنبنى هي الأخرى على قراءة جديدة للفكر، وآليات العقل الإنساني، فالحرية مثلاً مفهوم مرحبّ به في مناخ التعدّدية المعرفية، وغريب إلى حدّ ما في مناخ الدوغمة، والاحتكار المعرفي.

أين يقع الاتجاه التجديدي في الفكر الديني.. أين موقعه ضمن الإطار المدرسي في الحوزة العلمية، وكذلك في الجامعات؟

من الخطأ إيجاد تصنيف يقوم على أساس الجامعة والحوزة في إيران على الصعيد الفكري والثقافي، وذلك لضخامة التداخل بين الشريحتين الثقافيتين، إننا نجد تجديديين في أجواء الحوزة العلمية يتقدّمون على نظرائهم في الجامعات والعكس صحيح أيضاً، ولـهذا نجد أن ما يسمى بالحركة التجديدية ينساب ــــ على السواء ــــ في الجسمين معاً.

دعنا نتحدث عن الحوزة أولاً.. تقول: إن فيها اتجاهات تجديدية؟

نعم، هناك في الحوزة اتجاهان تجديديان، هما : الاتجاه الداخلي، والاتجاه الخارجي، ونعني بالاتجاه الداخلي الاتجاه الذي يحاول تطوير الفكر الديني من داخل آليات الفكر نفسه. وأما الاتجاه الخارجي فهو ذلك الاتجاه الذي يسعى للاستعاضة عن آليات الاجتهاد المتداولة بآليات ذات أنساق معرفية أخرى.
في الاتجاه الداخلي هناك تياران :
الأول:تيار التجديد الأسلوبي، وهو التيار الذي يحاول إعادة إنتاج نفس معطيات التراث ولكن بلغة عصرية وأسلوب عصري، أي أنه لم يضف إلى الموروث شيئاً أساسياً، بقدر ما أعاد صياغته وآليات عرضه، وتبدو تجربة الشيخ جعفر السبحاني بارزة على صعيد تناولـه علوماً تراثية بأساليب جديدة منها علوم الكلام والرجال والحديث وغيرها، كما تبدو أمامنا تجربة السيد محمود الـهاشمي على صعيد مشروع دائرة معارف الفقه الإسلامي الشيعي، وهو المشروع الأول في التاريخ الشيعي الذي يحاول استعراض مداخل الفقه بلغة موسوعية.
وهكذا تصادفنا أيضاً تجربة الشيخ باقر الإيرواني، وسعيه لتطوير مناهج الدراسة الحوزوية على صعيد علوم الفقه والرجال وآيات الأحكام والقواعد الفقهية. كما لا يمكننا أن نتجاهل تجربة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، التي حاولت مخاطبة الشباب بلغة جديدة، إلى جانب تجربة الشيخ محسن قراءتي التي مزجت خطاب الشباب بروح النكتة والدعابة، وتجربة الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في تطوير منهج الدراسة الفلسفية، وغير ذلك من المشاريع والتجارب الأخرى.
الثاني:تيار التجديد في المضمون الفقهي، ونلاحظ أن هذا التيار حاول أن يقدّم معطيات في الفقه الإسلامي بالخصوص تعيد ضخّ روح التحديث فيه، لكنّ الفئات التي كانت تنتمي إلى هذا التيار كانت متفاوتة في حجم عطائها وسرعة خطواتها، فهناك اتجاه متحفّظ يعتمد الحركة الـهادئة، برز فيه السيد محمود الـهاشمي في نتاجاته الفقهية، كما ظهرت شخصيات من أمثال الشيخ حسن الجواهري والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ممّن سعى لمعالجة موضوعات جديدة وتجاوز بعض الأطر بشكل بالغ التحفظ، ولعل محاولات ناصر مكارم الشيرازي على صعيد فقه الحج كانت أبرز من غيرها.

ألا يوجد اتجاه راديكالي باتجاه التجديد داخل الحوزة؟

كان هناك اتجاه أقلّ تحفظاً حاول تقديم معطيات فقهية وفكرية أكثر جدية ومخالفة للمألوف، برز منهم الشيخ يوسف الصانعي جلياً سيما في فقه المرأة، كما ظهر الشيخ إبراهيم الجناتي كأحد المعارضين لمقولة (الاحتياط)، وكذلك السيد عبد الكريم الأردبيلي الذي كانت لـه بعض المحاولات المحدودة سيما في مسألة (الارتداد) عن الدين.
لكنّ فريقاً ثالثاً كان أكثر تقدماً على صعيد اقتحام بعض الخطوط الحمراء، فحاول هدم بعض المقولات ذات الطابع المنهجي والتي تدرس عادة في علم أصول الفقه، كما حاول الخروج بنتائج قلّما خرج بها فقيه.

هل ثمة أسماء يمكن ذكرها؟

نعم، يمكننا طرح اسم السيد محمد جواد الموسوي الأصفهاني الذي نسف نظرية خبر الواحد وكل المرجعيات الظنية، وهو عمل ليس بالسهل اليسير، كما ويمكن طرح اسم الصادقي الطهراني صاحب كتاب «تبصرة الفقهاء»، والذي اعتمد النصّ القرآني أساساً فاصلاً في آليات الاجتهاد مما جعلـه يخرج بنتائج مذهلة في دراساته الفقهية، قياساً بالمناخ العام، كما أنّ محاولات الحكيمي في مدرسته التفكيكية كانت ذات أثر واضح؛ إذ دعا لفصل المناهج العقلية والنقلية والعرفانية، وهي دعوى تعارض السائد في إيران.

تحدّثت عما أسميته بالاتجاه الداخلي، ماذا عن الاتجاه الخارجي؟

الاتجاه الخارجي والذي يحاول الاستعاضة عن آليات الاجتهاد المتداولة بآليات ذات أنساق معرفية أخرى، فقد بدت لـه في الأفق محاولات عديدة إذ استحضر السيد حسين مدرّسي الطباطبائي آليات القراءة التاريخية المعاصرة في دراسته (تطور علم الكلام الشيعي في القرون الأولى) وخرج بنتائج ملفتة، وهي إحدى المرّات القلائل التي تدرس ــــ حوزوياً ــــ مجريات الفكر فيها دراسة تاريخية (تاريخانية) بما للكلمة من معنى.
 
من هو السيد حسين مدرسي الطباطبائي؟ هل هو المؤلّف المقيم في الولايات المتحدة وكتبه ممنوعة من الدخول لإيران؟

المدرّسي الطباطبائي واحد من علماء الدين الذين قطنوا الولايات المتحدة فترة طويلة، وقد حاول في دراساته أن يهتم بالقراءة التاريخية للفكر فكانت لـه دراسة عن تاريخ الفقه الإسلامي أعتَبِرُها جيدة إلى حد بعيد وإن كانت مقتضبة في معالجاتها، كما كانت لـه دراسة لتطور الكلام الشيعي وخصوصاً نظرية الإمامة، لكن الكتاب الأخير إذا منع في إيران فليس ذلك لأجل معارضة المنهج التاريخاني في قراءة الفكر، لأن المناخ الإيراني يرحب بشكل كبير بهذا المنهج كما اعتقد، وإنما قد يعود لخصوصيات مذهبية تتصل بموضوع الدراسة ألا وهو نظرية الإمامة، رغم أن الدراسات المتعلّقة بنقد الموروث الإمامي مسموح بها في إيران إلى حد بعيد، ولكن مع ذلك فقد نشر أحد فصول الكتاب في مجلة (نقد ونظر) التابعة للحوزة العلمية في قم منذ حوالي الأربع سنوات أو ما يزيد.
كما حاول الشيخ مهدي المهريزي وآخرون، افتتاح علم فلسفة الفقه بما يعزّز قراءة الفقه الإسلامي من زاوية محايدة انطلاقاً من مفهوم الفلسفات المضافة التي راجت في الغرب (فلسفة العلوم)، وكان الشيخ محمد مجتهد شبستري قد أثار اللغط حولـه حين نادى بالتخلّي عن مقولة حقوق الإنسان في الإسلام، ليدافع في دراساته عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان معتبراً إياه المرجعية الوحيدة في هذا الخصوص، وليجعل من فعل النبي 2مجرد استيحاء يوظف لتقنين معاصر لا مرجعية حصرية كما تراه الاتجاهات النقلية في الفكر.
كما أثار شبستري زوبعة من الجدل حول استخدام مناهج التأويل المعاصر (الـهرمنيوطيقا) في قراءة النصّ الديني، فيما يشبه إلى حدّ ما حصل مع الدكتور نصر حامد أبو زيد.
وهكذا نجد أن الاتجاه الخارجي استدعى مناهج التأويل المعاصرة، ومناهج القراءة التاريخية المعاصرة، ومناهج الفلسفة المضافة.. ليعيد على أساسها قراءة التراث، تماماً كما حاول الدكتور شريعتي بالنسبة لعلم الاجتماع ومثلـه الدكتور علي الوردي في العراق.


في الصورة: عبد الكريم سروش

 ماذا على الصعيد الجامعي، أين تقع دراسات عبد الكريم سروش؟

على الصعيد الجامعي ظهرت مساهمات عدةّ، من أبرزها مساهمة الدكتور عبد الكريم سروش الذي أعاد قراءة المنظومة المعرفية وفقاً لتخصّصه في فلسفة العلوم، وقد درس نظم المعرفة في الفقه الإسلامي وغيره أيضاً، لقد كانت محاولته إعادة تركيب آليات المعرفة الدينية عموماً، فلم يقتصر جهده على علم دون آخر، ومن ثمّ كان اهتمامه منهجيّاً بالدرجة الأولى، وقد استشعر معارضوه تداعيات برنامجه في مجمل العلوم الدينية فشعروا بقلق بالغ كونه يفضي ــــ برأيهم ــــ إلى النسبية والشك، مما يجعل كل المعتقدات في موضع حرج ومأزق حادّ، بل ويجعل نظام الفقه الإسلامي محلاً لتساؤل كبير، ويُسقط بشدة من مكانة رجال الدين، كونه يماهي بين فهمهم وفهم الآخرين، لا بلّ إنه يفضل فهم الآخرين على فهمهم.

ما الأساس المعرفي الذي تركته نظرية (القبض والبسط) لسروش؟

نظرية تكامل المعرفة الدينية (القبض والبسط) تستدعي حصول تحوّلات في العلوم الدينية تبعاً لتحوّلات طرأت على العلوم الأخرى، فإذا لم يكن للمدرسة الكلاسيكية مواكبة علمية للعلوم الآخرى فلن تستطيع تحقيق نتائج مضمونة.

كان من الطبيعي إذن أن تثير لغطاً في الشارع الإيراني..

لقد تعرضت طروحات (سروش) لنقد واسع جداً كان أبرزه نقد الشيخ صادق لاريجاني في كتابات عديدة، إلى جانب الدكتور عبد اللـه نصري والشيخ أحمد الواعظي.. كما ساهم في النقد أطراف آخرون كل من موقعه، غير أن بعض المحاولات جاءت بخيبة أمل كونها استعجلت بشكل واضح في الردّ قبل أن تدرك بوعي دقيق طبيعة الأطروحة.
وثمة نقطة أراها بالغة الأهمية، وهي أن طبيعة السجال الذي دار حول نتاج (سروش) كانت معقّدة، لأن مناخات الثقافة التي ينطلق منها الدكتور (سروش) وخصومه كانت مختلفة، لقد كان العقل الأرسطي مسيطراً على حد كبير على انتقادات المعارضين، فيما كان (سروش) قد تجاوز هذا العقل، بل والعقل الاستقرائي كما يظهر من نقده على تجربة (الأسس المنطقية للاستقراء) للراحل السيد محمد باقر الصدر.

على صعيد آخر، ما موقع دراسات العلوم الإنسانية وعلم الكلام الحديث في سلّم اهتمامات الباحثين الإيرانيين؟

عندما يستحضر الباحثون الإيرانيون الدراسات التاريخية على نطاق واسع والقراءة التاريخية للفكر أيضاً، كما يستحضرون اللغة وانشعاباتها فإنهم يوظفون تلقائياً منجزات العلوم الإنسانية، فضلاً عن أنهم ـــــ كما أشرنا ــــ زاملوا الفلسفة القديمة والجديدة.. وأما علم الكلام الحديث أو الجديد فقد طرح في الأوساط الإيرانية واندلع خلاف في مبرّرات الدعوة إلى علم كهذا، وأساساً ما هو هذا العلم؟! وبماذا يمتاز عمّا في أيدينا من علوم؟ وقد كانت فكرة وجود تحوّل شامل موضوعي، وهدفي، ومنهجي في علم الكلام العكاز الذي اعتمد عليه أنصار الدعوة لتأسيس هذا العلم، وقد كان إسهام الدكتور أحد قراملكي واضحاً في تحليل ما وسمه بالـهندسة المعرفية لعلم الكلام، لقد شعر الباحث الإيراني أن آليات وموضوعات الكلام القديم لا تعنيه اليوم كثيراً، ومن هذه العقيدة التي ارتآها وجد نفسه ملزماً بفتح نافذة جديدة لدراسات كلامية من نوع آخر، ثمة ما يجمعها وهو الـهمّ الفكري المعاصر، وإن لم تكن تجمعها دائرة متناغمة تنتمي إلى فرع علمي واحد.

لاحظنا في المدارس الفكرية في العالم الإسلامي اتجاهات نقدية تنال من مسلّمات وأساسات عقائدية، بينما انشغلت المدرسة الإيرانية بأبحاث دفاعية.. لماذا انغمست المدرسة الإيرانية في تبرير ثوابتها عوضاً عن تعريضها للنقد؟

لا أتفق كثيراً مع هذا الافتراض، لأنه يلاحظ زاوية واحدة في رؤيته للمشهد الثقافي، إن الاتجاه الدفاعي كان أحد الاتجاهات المتوقّع ظهورها في مجتمع ديني كالمجتمع الإيراني، وأعتقد أن النقد كان أساساً دارت حولـه معركة الأفكار كما يسمّيها (مالك بن نبي) في العقد الأخير من القرن العشرين في إيران.

ولكن جملة من الأفكار النقدية لنظريات عقائدية شيعية ظهرت خارج إيران، في حين انشغل الباحثون الإيرانيون بأبحاث علم الكلام والفلسفة.

هذا صحيح، لقد ظهرت نقاشات في المحتوى العقائدي في الساحة العربية، ووجدنا أسماء مثل أحمد الكاتب، و(المرجع اللبناني السيد) محمد حسين فضل اللـه، تتعاطى الشأن العقائدي من زاوية المضمون، فيم لم نر هذا المشهد بارزاً في إيران، بل استعيض عنه بالجدل الفلسفي، وأظن أن الاحتكاك المذهبي عند الشيعة العرب وكون الغالبية الساحقة من الإيرانيين على مذهب واحد، كان لـه الدور في تعاطي الشأن المذهبي بروح نقدية في البلاد العربية أكثر منه في إيران.

برأيك لماذا هذا الحراك البطيء في الاجتهاد الكلامي على مستوى الموضوعات والآليات؟
ثمّة أسباب عديدة، من بينها رفض المؤسسة الدينية الرسمية اقتحام المحرّم الفكري، علاوة على القلق الذي ينتاب العقل الديني عموماً من إحداث شرخ في منظومة التفكير، لأن العقل الديني يجد الاطمئنان في حالة الثبات والاستقرار التي تحكم منظومة العقائد والأفكار، لأن الموضوع الديني بنظره هو موضوع ثابت.

هل لذلك تكثر ظاهرة الاحتياط؟

منطق الاحتياط الذي يتبنّاه العقل الديني، وكذلك أيضاً ذهنية التحريم التي يعيشها ترجع إلى الشعور بالخوف على الذات، لأن هذه
الذات غدت مرتهنة لمفهوم الثبات. إن نظرة العقل الديني السائد لموضوع المعرفة جعلـه يركن أكثر لمفهوم الثبات، أما العقل الحداثي، وبالأخص ما بعد الحداثي فقد نظر لظاهرة المعرفة نفسها فكان على استعداد أكبر لفهم التحّول.



في الصورة: مصطفى ملكيان

 نقرأ لمصطفى ملكيان وغيره ما يسمّى بـ (فلسفة الفقه)، هل هي نظرية جديدة لدراسة الفقه وفق مناهج فلسفية؟

أطروحة فلسفة الفقه طرحت في إيران منتصف التسعينات، وهناك عدّة أشخاص لـهم دور في إثارة الجدل حول هذا الموضوع سلباً أو إيجاباً بينهم الشيخ مهدي المهريزي الذي يرأس الآن تحرير مجلة (علوم الحديث) الفارسية الصادرة في إيران، وأيضاً الدكتور مصطفى ملكيان، والشيخ صادق لاريجاني كان لـهما إسهامات إيجابية في هذا الموضوع([2]).
والفكرة جاءت تحت تأثير (فلسفة العلوم) في الغرب، وهي محاولة قراءة كل علم قراءة مضافة، ومنها الفلسفات المضافة، كفلسفة الفيزياء وفلسفة الكيمياء وفلسفة الرياضيات وفلسفة العلوم، ومحاولة قراءة الفقه من زاوية خارجية أي من الخارج لا من الداخل، يفترض الباحث نفسه خارج إطار الفقه ويحاول أن يقرأ الظاهرة الفقهية على مستوى مسارها التاريخي وعلى مستوى تطوّراتها وتفاعلاتها مع العلوم الأخرى، وتأثيراتها مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي حصلت عبر مسارات تاريخية معينة، حتى يستطيع أن يكون مسيرة هذا العلم من نشوئه إلى وضعه الحالي، وكذلك علاقة هذا العلم ببقية العلوم البشرية الأخرى.

ما الإشكال في هذه النظرية.. أعني لماذا خبتت فجأة ولم نعد نلحظ وجودها في الدراسات الدينية؟!

لم يأخذ هذا المشروع مجالـه في إيران، وكانت أهم ملاحظة ضعّفت من حجم التفاعل معه أن أكثر الموضوعات التي يثيرها هذا العلم الجديد كانت تتركز حول استقدام معطيات من علم أصول الفقه وعلم الكلام ومعطيات فقهية من الداخل ومعطيات فلسفية أخرى ونجمع هذه المعطيات لنكون قراءة خارجية لعلم الفقه.
ولذلك فقد رأى البعض أننا لسنا بحاجة لتأسيس علم جديد مادام بالإمكان دراسة مثل هذه المسائل في محلـّها الخاص من علم الأصول أو من علم الكلام أو علم الفلسفة أو غيرها بدون حاجة إلى تكلّف تأسيس علم جديد.

ألا تعتقد بأن المدة الزمنية طويلة بين تاريخ نشر مقالات سروش بالفارسية ونقلـها إلى العربية..لماذا تبدو النخبة العربية بعيدةً عن التواصل مع هذا الجدل الفكري هناك؟ ألا تعيش الأصوات العربية المتواجدة في إيران هذه الأجواء وتتعاطى معها؟ هل ثمة حسابات سياسية وراء ذلك؟

هناك الكثير من التقصير العربي والإيراني معاً في معرفة كل طرف للآخر، فحركة الترجمة من الفارسية إلى العربية بدأت تتحرّك مؤخراً، أما العكس فهو محدود حتى فترة أخيرة، والمؤسف أكثر من ذلك أن الكثير من النخب العربية في إيران نفسها لا تعرف ما يجري من حولـها من حراك ثقافي وتماوج فكري.
كما أن عدم تعاطي الإيراني ــــ سيما الحوزوي ــــ مع اللغة العربية الحديثة أدّى إلى تغييب الطرف الآخر أيضاً.
لكن إسهامات عدد من النخب العربية في إيران على صعيد الترجمة والتأليف والتحاور كان لـها دور بالغ في التجسير ما بين الثقافتين في العالم العربي وإيران، أذكر مثلاً ما قام به الباحث عبد الجبار الرفاعي والباحث جواد علي كسّار والسيد عمار أبو رغيف و..

غريب أن نسمع ذلك، نعرف أن طالب الحوزة والعلوم الدينية لديكم لابدّ أن ينهي بعض الدروس المنهجية في اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة!!.. 

هذا صحيح.. والفقيه يحتاج إلى اللغة العربية لفهم مدلولات النصّ وتراكيبه، ولكن اللغة التي تدرس في الحوزة هي اللغة القديمة، ذات التراكيب التراثية والمصطلحات الفقهية والشرعية، ويتعامل مع النصوص الدراسية التي بين يديه مع تراث، لأن كتب من قبيل : الكفاية، الروضة، اللمعة الدمشقية، هي كتب تراثية، ومن الطبيعي أنه إذا تفاعل مع هذه الكتب فإن ذهنه يأنس بتراكيب وأنساق من اللغة العربية مختلف عما هو متداول.. أما اللغة الحديثة التي يكتب بها المفكّرون والمثقفون العرب كتبهم فهي غريبة عن الوسط الحوزوي، ولذلك فالغالبية لا تقرأ النتاج الفكري العربي إلا ما وصل مترجماً وهو قليل.

كيف يتلقّى المثقف الإيراني النتاج الفكري العربي؟

حتى أوائل التسعينات كان المثقف الإيراني إذا تُرجم لـه نصٌ عربي من مثقفين عرب، فإنه يترجم لـه نصوص لمثقفين دينيين، يمكن أن تجد محمد عبده حاضراً، كما يمكنك أن تجد رشيد رضا، وغيرهما من علماء الدين العرب.
لكن النتاج الفكري الذي لا ينتمي للتيار الديني من قبيل كتب نصر حامد أبو زيد أو محمد أركون أو غيرهما فلم يبدأ المثقف الإيراني التعرّف عليها إلا في العقد الأخير ولو بشكل لايزال قليلاً وبطيئاً.
مرتضى كريمي ترجم بعض كتب نصر حامد أبو زيد، وكذلك فعل محمد تقي كرمي، وقرأه في بعض مقالات، محمد أركون ترجمه محمد مهدي خلجي وقرأه أيضاً في عدة محاولات، لكن ما تـزال حركة الترجمة من العربية إلى الفارسية ـــ في كثير منها ـــ محصورة في الدائرة الدينية.

هل يسعنا أن نعترف بأن الدرس الفلسفي مازال متأخراً ضمن حلقات الدرس في الحوزة؟ وأن النظريات الفلسفية الحديثة بعيدة عن التناول والمراجعة؟([3]

إذا أردنا أن ننظر إلى الدرس الفلسفي في الحوزة بمعناه الرسمي، فإن محاولات إدخال الفلسفة الحديثة ما تـزال محدودة، لكنّ حجم تعاطي بعض رجال الحوزة لموضوعات الفلسفة الحديثة يمكن اعتباره أكبر ويعطي أملاً متـزايداً. ولذلك أسباب منها سيطرة مدرسة الفلسفة العقلية خصوصاً مدرسة الملا صدرا على المناخ الفلسفي في إيران، وكان للإمام الخميني والعلامة الطباطبائي أكبر الأثر في ذلك. فرغم أن الفلسفة علم سابق على عامة العلوم، كما يقولون، إلا أنها خضعت لتأطيرات، ففي الفلسفة في إيران غياب واضح لأمثال ابن رشد والكندي وابن خلدون وغيرهم، كما يغيب صدر المتألـهين، والملا هادي السبزواري عن الفلسفة في العالم العربي، وحيث كان الـهمّ الفلسفي في العالم الشيعي همّاً إيرانياً بالدرجة الأولى كان الانشطار والغياب حاكمين على الدرس الفلسفي سيما في قم.
أمّا عن العلوم الحديثة ودراسات اللغة الإنجليزية في الحوزات فقد حصل تقدّم كبير في الفترة الأخيرة، إن حركة اللغة الأجنبية لا تكاد تنقطع في الجو الحوزوي الإيراني بالخصوص، وكثير من طلبة الحوزة غدوا اليوم أصحاب اختصاصات جامعية خصوصاً في العلوم الإنسانية، وليس لدي إحصاء دقيق عن هذا الأمر، ولكنني أعتقد بأن نسبة كبيرة صارت تمثّل جماع الحوزوي والجامعي، وهذا ما ينبئ عن حصول تحوّلات إيجابية في المستقبل إذا لم تحصل موانع ما.
إن واحدة من مشاكل مفكّرينا السابقين كانت عدم درايتهم باللغات الأجنبية، وهذا ما يسجل على بعضهم كالسيد باقر الصدر وغيره، أما اليوم فإن الكثير من باحثي الحوزة يرجعون إلى المصادر المباشرة في اللغة الأمّ، مما يرشّد ــ بالتأكيد ــ عملية البحث العلمي الناضج.
___________________________________________________
([1]) أجرى الحوار الكاتب السعودي الأستاذ ميرزا الخويلدي، ونشر في صحيفة الشرق الأوسط، في العدد 9123، بتاريخ 20/11/2003م.
([2]) نقصد بالإسهامات الإيجابية، كل تلك الإسهامات العلمية التي ساعدت على تنضيج الفكرة، سواء كانت الأسماء التي ذكرناها مؤيدة لمشروع فلسفة الفقه أو معارضة.
([3]) هذا السؤال جرى ضمن الحوار مع جوابه، ولكن لضيق المجال في الصحيفة لم يُنشر.

Comments

  1. مع تقديري لرأي الكاتب .. المناخات الشيعيه تزدري العقل الفلسفي الناقد المتسائل؛ بشكل كامل مما يسْهُل تعبئة الوعي بالخرافة واللامعنى، وتنمية سلوكيات الكسل والتقديس

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية