مسيحيو سوريا: قرى خاوية وأرقام غائبة ونزيف الهجرة متواصل
تيسير
خلف
يشكل
وضع المسيحيين في سوريا، واحدة من أغرب المسائل تعقيداً واستعصاءً على الفهم، ففي
الوقت الذي تضمن التشريعات والقوانين لهم حقوقاً سياسية واقتصادية واجتماعية
ودينية على قدم المساواة مع باقي الطوائف والأديان التي تشكل المجتمع السوري، نجد
أن أعدادهم في تناقص مستمر، ظهر بشكل مريع خلال السنوات القليلة الماضية، حيث هجرت
معظم القرى العائدة لهم في الجزيرة السورية (أقصى الشمال الشرقي). وفي الكثير من
قرى وادي النصارى، (في سلسلة الجبال الساحلية)، لا تجد اليوم سوى مسنين يلعبون
طاولة النرد، ويحصون ما تبقى لهم من أيام.
ويقف
المراقب حائراً في تفسير هذه الظاهرة، حيث لا يوجد في سوريا أي نوع من الاضطهاد
الديني للمسيحيين، ولا توجد أي قوانين جائرة خاصة بهم يمكن أن تدفعهم إلى طلب
اللجوء الإنساني، كما أنه لا توجد أي قيود على بناء الكنائس أو المدارس أو المعاهد
المسيحية، بل العكس، هناك من يتحدث عن تسهيلات تتعلق بإعفاءات من الضرائب والرسوم.
ويحلو
للبعض أن يتحدث عن أسباب اقتصادية بحتة للهجرة، ولكن عدداً لا بأس به من
المهاجرين، كما تشير بعض الدراسات والأبحاث، كانت لديهم أعمال ومصالح كبيرة، ولم
يشكو من ضيق ذات اليد في يوم من الأيام، فما السبب الذي يجعل المسيحيين السوريين
غير راضين عن واقعهم؟ وما الذي يدفعهم إلى مغادرة بلدهم؟ ولماذا تتناقص أعدادهم باضطراد؟
مهد
المسيحية
ينظر
المسيحيون السوريون إلى بلادهم بوصفها مهد المسيحية، والأرض التي شهدت انطلاق هذه
الرسالة في أرجاء المسكونة. فالقديس بولس الرسول، الذي أتى من طرسوس في أقصى شمال
سوريا القديمة، اهتدى في دمشق وسار في الطريق المستقيم الذي يصل بين الباب الشرقي،
حيث كنيسة القديس حنانيا وباب الجابية، حيث الطريق المفضية إلى القدس، أما موقع
اهتدائه فهو على الأرجح في أول محطة على هذه الطريق، وهي قرية كوكب جنوبي غربي
المدينة، حيث يقام الآن مزار كبير يؤمه الحجاج من كافة أصقاع الأرض.
وعند
تأسيس الكراسي الرسولية كانت أنطاكية، عاصمة سورية القديمة، هي الكرسي الأول مقر
الكنيسة الأم التي انبثقت منها كل الكنائس الشرقية فيما بعد.
وقد
شهدت سوريا مولد عدد كبير من القديسين منهم خمسة من تلامذة يسوع ورسله وهم: سمعان
(بطرس) وأندراوس ابنا يونا، ويوحنا ويعقوب ابنا زبدي، وفيليب، وذلك في مدينة بيت
صيدا الجولانية الواقعة على الساحل الشرقي لبحيرة طبريا. كما وقام المسيح بعدد من
أعاجيبه الكبرى في الجولان، منها السير على الماء وشفاء أعمى بيت صيدا، وإخراج
الأرواح الشريرة من الممسوسين، وشفاء نازفة الدم البانياسية وغيرها، إضافة إلى
مكان تكريس بطرس راعياً لرعاة الكنيسة أمام كهف بان في مدينة بانياس- قيصرية فيليبي
على السفوح الشرقية لجبل حرمون.
كما
شهدت سوريا ميلاد القديسين الأشهر في تاريخ المسيحية أمثال مار سمعان العمودي ومار
سرجيوس ومار مارون، وما تزال أماكن ولادتهم أو استشهادهم تزار حتى اليوم.
أما
اللغة التي نطق بها السيد المسيح وهي الآرامية فقد انقرضت من جميع أنحاء سورية
القديمة باستثناء ثلاث قرى شمالي دمشق ما تزال تنطق بها حتى اليوم، وهي معلولا
وجبعدين وبخعة، القريتان الأخيرتان مسلمتان بينما الأولى مسيحية.. ولكل ذلك يرى
السوريون المعاصرون أنهم الأصل في هذا المعتقد، وأنهم ليسوا طارئين على بلد ما
تزال الآثار المسيحية فيه حتى اليوم تعلن عن نفسها في كل مدينة كبيرة وفي كل قرية
نائية، على الرغم من أنهم لم يعودوا يشكلون نسبة يعتد بها في موطنهم نتيجة الهجرة
المتزايدة وقلة عدد الولادات والعزوف عن الزواج وسوء الأحوال الاقتصادية!.
شرق
وغرب
كان
المسيحيون في سوريا يشكلون أغلبية السكان، منذ الفتح العربي الإسلامي وحتى الحروب
الصليبية، ففي الدولة الأموية لم تتجاوز نسبة المسلمين 10 بالمائة، غير أن الحروب
الصليبية وما جرته من ويلات على المنطقة، ثم حروب المغول والتتار جعلت هذه النسبة
تنقلب رأساً على عقب.
يقول
البطريرك اغناطيوس زكا الأول عيواص بطريرك السريان الأرثوذكس، وهي الكنيسة الأم
للسوريين: "إن المغول الذين استولوا على البلاد واعتنقوا الإسلام لم يكونوا
عادلين مثل العرب المسلمين، فقل عدد المسيحيين جراء ظلم القائد المغولي تيمورلنك
الذي استولى على سوريا وبلاد ما بين النهرين ودمر دمشق وبغداد وعادى المسيحية،
وأرغم السريان وسائر المسيحيين على اعتناق الإسلام واضطهد الذين لن يفعلوا ذلك،
فاستشهد على يده أغلبية هؤلاء، وتبع ذلك أوبئة متنوعة ولم يبق من المسيحيين إلا
عشرة بالمائة".
ويرى
الأب إلياس زحلاوي الكاتب المعروف، أن بعض الدوائر الغربية تحاول أن تدق إسفيناً
بين مسيحيي الشرق وعروبتهم، مؤكداً أنه "عندما دخل الإسلام دمشق استقبله
المسيحيون باعتباره محرراً لهم من ظلم الدولة البيزنطية، وانعكس ذلك من خلال
مشاركتهم في بناء الدولة الأموية الدولة العربية الأولى".
ويؤكد
الباحث منير درويش "أن الهجرة الواسعة للمسيحيين العرب ومسيحيي البلدان
المشرقية تشكل إحدى أهم المخاطر التي تواجهها المنطقة، وذلك بسبب الدور الثقافي
الذي يلعبه هؤلاء المسيحيون، كحلقة وصل بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة
الغربية، واستيعابهم وتفهمهم لكلتا الثقافتين، وفتح إمكانية الحوار بينهما. ولا
يمكن القول إن هذه الصلة ناتجة عن ارتباط ثقافة المسيحيين في المشرق بثقافة الغرب،
بل لتأثير هذه الثقافة على رؤية الغرب لهذا الشرق الذي تتسم غالباً بالسلبية،
والنظرة وحيدة الجانب المتمثلة بكونه مصدراً للإرهاب، ومصْدرا للمواد الخام والثروة.
لقد مارست الثقافة المسيحية المشرقية على مدى تاريخها تأثيراً متبادلا بين
الثقافتين الإسلامية، والمسيحية الغربية، ولعبت دوراً في عقلنة التطرف لدى
الثقافتين وتفاعلهما مع بعضهما البعض رغم الظروف القاسية التي تعرضت لها بسبب هذا
الدور".
مشكلة
النسب والأرقام
تتناقض
الأرقام التي تتحدث عن نسب وأعداد المسيحيين في سوريا، بسبب عدم وجود إحصائيات
رسمية دقيقة تستند إلى سجلات النفوس، لأن سورية أزالت الديانة من الخانة منذ
استقلالها عن الانتداب الفرنسي.
وعلى
الرغم من ذلك يمكن الفول إن هذه النسب والأعداد ترتبط بالأوضاع السياسية السائدة،
بدءاً من الحرب العالمية الأولى التي شهدت أكبر عملية نزوح لمسيحيي سوريا الكبرى
إلى الأمريكيتين وأستراليا، مروراً بالوحدة السورية المصرية، إلى عدوان عام 1967
إلى حقبة الثمانينات القلقة وما عكسته على النسيج الوطني بشكل عام.
وتشير
بعض التقديرات إلى أن المسيحيين السوريين يشكلون الآن ما نسبته 10 بالمائة من
مجموع السكان، يتوزعون كما يلي:
· الروم الأرثوذكس وهم الطائفة الأكبر من
مسيحيي سورية ويعدون 550.000 نسمة أي 3 في المائة من سكان سورية.
· الأرمن الأرثوذكس ويبلغ عددهم 350.000
نسمة أي حوالي 2 في المائة.
· الروم الكاثوليك ويبلغ عددهم
190.000 نسمة أي حوالي 1 في المائة.
· السريان الأرثوذكس وعددهم 180.000 نسمة
أي 1 في المائة.
· الموارنة حوالى 100.000 نسمة أي 0.5 في
المائة.
· السريان الكاثوليك 70.000 نسمة أي حوالي
0.4 في المائة.
· الأرمن الكاثوليك:70.000 نسمة أي حوالي
0.4 في المائة.
· البروتستانت 40.000 نسمة أي
0.2 في المائة.
· اللاتين 25.000 نسمة أي 0.1 في المائة.
· الكلدان أقل من 25.000 نسمة.
· الآشوريون أقل من 25 ألف نسمة.
غير
أن تقديرات أخرى تتحدث عن نسبة أقل لا تتجاوز 8 بالمائة من مجموع السكان. إلا أن
النسبة الدقيقة الوحيدة التي بقيت في السجلات الرسمية هي نسبتهم عشية جلاء
الانتداب الفرنسي عن سوريا عام 1946، إذ كانوا يشكلون في ذلك الوقت 20 بالمائة من
مجموع السكان. يتوزعون على الجزيرة السورية وحلب ودمشق وريفها وحمص وحماة
واللاذقية وطرطوس ومنطقة حوران. أي بمعنى آخر على كامل التراب السوري من أقصى
شماله إلى أقصى جنوبه ومن أقصى شرقه على أقصى غربه، فلا توجد مدينة سورية صغيرة أو
كبيرة إلا وفيها حي أو أكثر للمسيحيين.
ويؤكد
الباحثون في تاريخ سوريا الحديث أن هذه النسبة كانت أكبر من ذلك بكثير قبيل الحرب
العالمية الأولى عام 1917، وقد تكون أكثر من 40 بالمائة، نظراً للهجرة الواسعة إلى
الأمريكتين أيام السفر برلك، ويشير هؤلاء الباحثين إلى أن عدد المنحدرين من أصول
سورية مسيحية في الأرجنتين والبرازيل وباقي دول أمريكا اللاتينية يتجاوز 15 مليون
نسمة.
وأمام
هذه التناقضات في النسب والأعداد، لا يمكن للباحث أو المراقب أن يتحدث عن نسبة
معينة أو عدد محدد، ولكن الأرقام تشير إلى تناقصها، وأن النسبة والأعداد كانت أكبر
بكثير مما هي عليه اليوم، على الرغم من التصريحات المتفائلة لمفتي الجمهورية
العربية السوري الدكتور أحمد بدر الدين الحسون الذي صرح أمام وفد من مجلس كنائس
أميركا الوطني زار سوريا مؤخراً، "أن أعداد المسيحيين تضاعفت في سوريا منذ
عام 1967 في حين أن أعدادهم في مدينة بيت لحم (مهد المسيح) في تناقص مستمر، فمن 65
ألف نسمة في عام 1967 هم اليوم نحو ستة آلاف فقط".
يقول
الكاتب السوري ميشيل شماس في رده على تصريحات المفتي: "يبدو أن سماحته لم
يطلع على تلك الدراسات والأبحاث والمقالات التي تشير بوضوح إلى تناقص عدد
المسيحيين ليس في سوريا وحسب، بل في جميع البلدان العربية كلها، وهي منشورة على
الانترنيت".
ويضيف
شماس: "سواء كانت الأرقام التي أوردتها تلك الدراسات والأبحاث والمقالات
قريبة من الواقع أو مبالغ فيها كثيراً، إلا أننا في المقابل لا يمكننا أن نشك لحظة
في تلك المخاوف التي أبداها الكاتب محمد حسنين هيكل وإشارته إلى خطورة تناقص أعداد
المسيحيين العرب وهجرتهم إلى خارج بلدانهم العربية.. وهذا يؤكد حقيقة واحدة وهي أن
أعداد المسيحيين في تناقص مستمر سواء في سوريا أو في غيرها من البلدان العربية.
وأن هجرتهم ازدادت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بحثاً عن أوضاع
أفضل في أوروبا وأمريكا، فضلاً عن تخوفهم من صعود التيار الإسلامي الأصولي
المتطرف، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وتصاعد التوتر والصراع بين الشرق
المسلم والغرب المسيحي. فهل بات على المسيحيين العرب اليوم أن يدفعوا دائماً ثمن
ذلك التوتر والصراع؟".
أسباب
وأسباب
ويدعو
الكاتب شماس إلى "نشر ثقافة قبول
الآخر واحترامه واستخدام كل الوسائل التربوية والإعلامية والثقافية المتاحة، وعدم
الاكتفاء بالخطابات العاطفية والمجاملات من فوق. بل إن الأمر بات يتطلب العمل من
تحت صعوداً إلى أعلى الدرج، على أن يترافق ذلك مع تحديث الخطاب الديني وتطويره
بحيث يساهم في إزالة الأحكام والتصورات المسبقة عن الآخر، والسعي للتعلم والفهم عن
الآخر المختلف وقبوله، بما يؤدي في النهاية إلى مزيد من التجانس بين أبناء الوطن
الذين يتشاركون معاً في هذه الأرض بحلوها ومرها، وبما يؤدي لوقف هجرة المسيحيين
العرب، وإلى إعادة اللحمة بين أبناء سوريا التي نحبها على قاعدة المواطنة وبغض
النظر عن أي انتماء سياسي أو ديني أو عرقي".
ويرى
الكاتب والناشط السوري سليمان يوسف يوسف أن مسألة الهجرة "ترتبط بشكل مباشر
بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان ولهذا فبقاء المسيحيين عامة واستقرارهم في دول
المشرق رهن بقيام دول مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الجميع، تقوم على العدل
والمساواة وعلى مبدأ حقوق المواطنة الكاملة لكل مواطنيها بدون تمييز أو
تفضيل".
ويؤكد
يوسف أن أسباباً عديدة "تتداخل في
هجرتهم منها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة مع الأحوال السياسية الأسوأ
فضلاً عن تشابك العوامل الدينية والتاريخية مع الجغرافية السياسية والديمغرافيا
البشرية".
ولا
يتفق الكثير من المسيحيين السوريين مع شماس ويوسف في تحديدهما لأسباب الهجرة بل
يكتفون بالأسباب الاقتصادية التي تنطبق على المسيحيين والمسلمين معاً.
ويرى
أصحاب وجهة النظر هذه أن هجرة المسيحيين السوريين هي بسبب عدم توفر فرص العمل فقط،
ولو أن هذه المشكلة يجري حلها وأن يجد الشباب فرص عمل ورواتب جيدة لتوقفت الهجرة.
يقول
الكاتب جوزيف أسمر ملكي وهو باحث سرياني من منطقة الجزيرة السورية، التي تناقصت
أعداد المسيحيين فيها بشكل حاد في السنوات الأخيرة، وخلت معظم القرى المسيحية من
سكانها، "إن السبب الرئيس لفراغ القرى المسيحية في الجزيرة هو السبب
الاقتصادي، وضيق ذات اليد وندرة فرص العمل".
ويضيف
ملكي: "إن نسبة المسيحيين في الجزيرة وأغلبيتهم من السريان، كانت تتجاوز
الأربعين بالمائة في أواخر النصف الثاني من القرن الماضي، وان مدينة القامشلي لوحدها
في أربعينيات القرن العشرين كانت تضم 90 بالمائة من المسيحيين أما اليوم فلا
تتجاوز هذه النسبة عشرة بالمائة".
ويرى
ملكي أن "سياسات الدولة حيال المسيحيين هي على أفضل ما يكون، فالكنائس معفاة من جميع الرسوم،
والماء والكهرباء مجانيين، وكذلك لا قيود على بناء الكنائس، أما العلاقات مع
المسلمين فهي على العموم ممتازة، ولذلك،
فالسبب الأول والأخير للهجرة هو الوضع الاقتصادي، وهو سبب ينطبق على المسلين
أيضاً".
ومع
أن الكلام السابق يشتمل على جانب من الحقيقة إلا أن نسبة من المهاجرين كانوا من
أصحاب المال والمناصب الإدارية العالية.
يقول
الباحث منير درويش "إنه في عام 1985 بلغت الهجرة من سوريا أوجها واستطاع قسم
من الراغبين أن يهاجروا عن طريق أقرباء لهم أو مقيمين في بلدان الهجرة، كندا،
أمريكا، السويد، وكان قسما منهم ميسورا على الصعيد المادي، ولهم مشاريع حيوية في
سورية ولبنان، وكان بينهم من يشغل مسؤوليات إدارية عالية، وعدد من الكفاءات
العلمية، أطباء مهندسين ومحامين.الخ".
ويلاحظ
درويش أن "هجرة المسيحيين من سوريا ترتبط بعدد من المحطات السياسية التي مرت
على سوريا منذ الاستقلال. فهناك موجة
واسعة من المهاجرين المسيحيين نزحوا من سوريا باتجاه لبنان كمحطة أولى في الأعوام
1958 – 1962.(وهي أعوام الوحدة مع مصر) وتقدر الإحصائيات عددهم بحوالي 50 ألف من
أصل 20 ألف هاجروا في تلك الفترة واستقروا بداية في زحلة وبيروت، ثم هاجر قسم منهم
إلى الخارج، وازدادت الهجرة بعد عام 1967، وبلغت ذروتها في فترة الأحداث التي
اندلعت بين السلطة والأخوان المسلمين منذ عام 1980 وبعدها، ثم تعاظمت الهجرة حتى
بدت واضحة تماماً بعد أن انحسرت نسبة المسيحيين لدرجة ملحوظة، ففي عام 1980 كانت
نسبة المسيحيين في سورية حوالي 16.5 %، انخفضت خلال ربع قرن إلى 8 – 10%، ولم تكن
النسبة هي التي انخفضت فقط بل العدد نفسه، إذ كان عدد المسيحيين في تلك الفترة
مليونان، بينما الآن لا يتعدى هذا العدد مليون ونصف المليون، وهناك إحصائية تقدر
عددهم بأقل من مليون، ولكن باعتقادي أنها غير دقيقة".
سياسة
يشترك
المسيحيون السوريون في جميع الأنشطة السياسية والاجتماعية السورية، فمساهمتهم في
الاستقلال ليست بخافية على أحد، وأحد الرموز الوطنية السورية منذ عهد الانتداب
والاستقلال هو الزعيم فارس الخوري الذي تقلد أرفع المناصب السياسية من رئيس لمجلس
النواب إلى رئيس لمجلس الوزراء، كان ذلك في الأربعينيات والخمسينيات، بل إن واحداً
أهم الرموز الوطنية السورية ومفتتح العمليات الاستشهادية إبان العدوان الثلاثي على
مصر وهو جول جمل كان مسيحياً من اللاذقية.. أما اليوم، فمنهم أعضاء كبار في حزب
البعث الحاكم وفي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وأيضاً في أحزاب المعارضة،
ولديهم ممثلين في مجلس الشعب، الهيئة التشريعية السورية، وهناك وزراء في كل حكومة.
ولذلك
لا نجد بين المسيحيين السوريين المعارضين من يتحدث عن اضطهاد سياسي أو مذهبي بحق
المسيحيين السوريين، والسبب أنه غير موجود، بعكس خطاب المسيحيين المصريين
المعارضين، الذين شكلوا لوبي في الولايات المتحدة الأميركية للضغط على الحكومة
المصرية وكالوا لها مختلف التهم.
ومع
ذلك يتحدث البعض عن أن النخب المسيحية العلمية والفكرية والسياسية والاقتصادية في
شتى الميادين، والمتبوئين للمناصب العليّا في الدولة والمجتمع من المسيحيين لا
يمكن عدهم بأي شكل من الأشكال من صناع القرار!.
الأمر
الذي يرفضه البعثيين المسيحيين الذين يؤكدون أن مؤسس حزب البعث الحاكم مسيحي وهو
ميشيل عفلق، وأن أعضاء القيادة من المسيحيين شركاء في صنع القرار على قدم المساواة
مع الأعضاء الآخرين من مختلف أبناء الشعب السوري.
وعلى
العموم يتبنى المسيحيون السورية مبدأ علمانية الدولة ويشجعون عليه، لأنه الضامن
للعيش المشترك، فبحسب اعتقادهم، إن تراجع العلمانية يعني نهاية التعايش وتفاقم
مشكلة الهجرة، لأن سوريا لا يمكن أن تكون إلا علمانية إن أرادت أن تسير على خطى
التقدم والحداثة.
مخطط
مرسوم
يجمع
المثقفون السوريون على أن إفراغ المسيحيين من المنطقة هو مخطط غربي يهدف إلى
القضاء على ثقافة التنوع والاختلاف في المنطقة، وتكريس نمط من الثقافة الأحادية
المتحجرة، ومنع التواصل الحضاري بين دول المشرق العربي، التي كان المسيحيون يلعبون
دوراً مهماً فيه.
والفكرة
السائدة لدى النخبة الثقافية السورية ترى أن بقاء المسيحيين في المشرق هو ترسيخ
لفكرة الدولة العصرية، والتنوع الثقافي، والتعددية، والديمقراطية، ولمنع استنزاف
الطاقات العلمية، والفكرية والثقافية في منطقتنا، وأن المشهد العربي كله سيختلف
حضاريا وإنسانيا مع هجرة المسيحيين، وسيصبح أكثر فقراً، وأقل ثراء لو أن هجرة
المسيحيين ترك أمرها للتجاهل والتغافل، وللمخاوف، حسب تعبير محمد حسنين هيكل، الذي
يضيف قوله "أي خسارة لو أحس مسيحيو الشرق أن لا مستقبل لهم ولأولادهم فيه؟،
ثم بقي الإسلام وحيدا في المشرق لا يؤنسه وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية في
إسرائيل".
وإذا
كان وجود المسيحيين من وجهة نظر المثقفين العرب ضروري لتفاعل الحضارة العربية
الإسلامية لما لهم من دور فيها. فإن الدوائر المعادية تحاول أن تلعب على هذه
الورقة بحجة الاضطهاد الذي يتعرضون له للتدخل في شؤون بلداننا، رغم تأكيد جميع
ممثلي الكنائس أن مثل هذا الاضطهاد لا وجود له.
يقول
الباحث منير درويش: كان عدد الآشوريين في الجزيرة السورية يقارب الـ 50 ألفاً حتى
عام 1980، لم يبقى منهم الآن أكثر من 5000 نسمة أغلبهم من الشيوخ بعد أن هاجر
الشباب إلى أستراليا، ونيوزيلندا، وأمريكا".
ويضيف
درويش: "في اعتقادي إن هجرتهم تمت بمخطط مرسوم، حيث كانوا يشكلون حلقة الوصل
والتواصل بين المسيحيين في سوريا والعراق".
والقول
نفسه ينطبق على مسيحيي وادي النصارى الذين يشكلون حلقة وصل بين سوريا ولبنان،
وكذلك على مسيحيي حوران الذين يشكلون حلقة تواصل مع مسيحيي لبنان والأردن وفلسطين.
خاتمة
لا
يمكن فصل وضع المسيحيين السوريين عن وضع باقي المسيحيين في المشرق، على الرغم من
مكابرة البعض، ومع أن سوريا تتميز عن بعض دول الجوار بوضع امني مستقر وبقوانين
وتشريعات علمانية تضمن لهم حقوق المواطنة كاملة، إلا أن الأوضاع السياسية المتفجرة
في عموم المنطقة كان لها أكبر الأثر عليهم.
*تيسير
خلف صحافي وباحث سوري
المصدر:
مجلة العراق اليوم
Comments
Post a Comment