رؤية الإمام الصدر للتنوّع الطائفي اللبناني
د. هيثم مزاحم
- صحيفة البلد - الخميس 20 أيلول 2012
من المسائل التي لفتتني خلال متابعتي لسيرة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر هي لقاءاته مع زعماء "الجبهة اللبنانية" المسيحيين خلال الحرب الأهلية، وهم الذين وصفوا في تلك الفترة باليمين الانعزالي وغيرها من التسميات التخوينية. كان مصدر تعجّبي ينبع من كيف أن الإمام الصدر يهادن هؤلاء القادة "الانعزاليين" الذين تحالف بعضهم لاحقاً مع إسرائيل. لكن بعد مرور نحو عقد من الزمن، وانتهاء الحرب الأهلية ضمن تسوية اتفاق الطائف، أدركت حكمة الإمام ورؤيته الثاقبة في إبقاء التواصل مع جميع اللبنانيين وعدم تخوين أو مقاطعة أحد منهم، وذلك لسببين، أثبت التاريخ تحقّقهما. الأول هو أن مقاطعة "الجبهة اللبنانية" آنذاك قد دفع قادتها أو برّر لهم التحالف مع العدو الإسرائيلي. أما السبب الثاني فهو أن انقطاع التواصل والحوار بين أطراف الصراع في لبنان قد ساهم في تعميق الخلافات وتسعير الحرب الطائفية، ما سمح للأطراف الخارجية في التدخل في الصراع لمصلحة هذا الطرف أو ذاك وبالتالي إطالة الحرب، ومنع اللبنانيين من التوصّل إلى تسوية داخلية.
لم يكن الامام الصدر زعيماً سياسياً ودينياً تقليدياً للطائفة الشيعية، بل كان مفكراً اسلامياً ومجتهداً مجاهداً وناشطاً ضد نظام الشاه، حيث لعب دوراً كبيراً في نصرة الثورة الاسلامية في ايران، والدفاع عن الامام الخميني حين اعتقله الشاه وقرّر اعدامه.مع ذلك فان السيّد موسى الصدر الذي جاء من ايران الى لبنان في أواخر العام 1959 كعالم دين خلفاً للامام الراحل السيّد عبد الحسين شرف الدين، قد فهم مبكراً فرادة التركيبة اللبنانية، من النظام السياسي والاجتماعي الى تنوّع لبنان الطائفي وأبعاده الحضارية والدينية. ورغم مطالبات الامام بتغيير النظام الطائفي وقيام دولة الانسان والمؤسسات في لبنان، ورغم حركته الاحتجاجية على الحرمان والفقر والظلم الاجتماعي لبعض المناطق في الجنوب والشمال والبقاع، الا أنه لم يدعُ يوماً الى قيام دولة اسلامية في لبنان، كما ذهب لاحقاً بعض الأحزاب والحركات الاسلامية، ومن ثم تراجعوا عن هذه الدعوة بعد ادراكهم قصورها وعدم واقعيتها.
هذه المسألة كانت تؤخذ على الامام الصدر من قبل بعض العلماء والاسلاميين في لبنان وايران الى أن توصل هؤلاء الى قناعة الامام بخصوصية النظام اللبناني وأهمية تعدديته الدينية وتنوّعه الطائفي والمذهبي، وذلك بعدما اصطدموا بالواقع وأدركوا تعقيداته وخصوصية لبنان وموقعه كملتقى للديانات السماوية وكجسر للحوار بين الشرق والغرب.
يقول الامام الصدر في محاضرة ألقاها في مدرسة القديس يوسف في عينطورة في 20 نيسان 1970: "نحن في لبنان أمام واقع أرادهُ الله لنا ذلك هو وجود طوائف، ولكن الذي ما فرضه الله علينا وتركه نتصرف فيه أنه ما فرض نظامًا باسم الطائفية في لبنان. الطوائف موجودة في لبنان ولكنها هل تحتاج الى الطائفية؟... الطوائف في مجتمع ما تتمكن أن تكون مصدر خير وغنى؛ بامكان الطوائف أن تكون تنوعًا هو طبيعة الخلق في العالم، ومقصود الأديان بصورة خاصة. علينا أن نستفيد من وجود الطوائف في المجتمع ونجعل الطوائف وسيلة خير لا بديل عنها...".
ويعتبر السيّد الصدر أن وجود التنوع بين الأفراد هو السبب الأصيل في تكوين التفاعل بين الأفراد، وبالتالي في تكوين المجتمعات، ويخلص الى أن وجود طوائف مختلفة، بما للطوائف من تجارب ومنجزات، "معنى ذلك وجود ينابيع مختلفة في مجتمع واحد. كل ينبوع له تجارب ومكاسب ودراسات وحضارات تسهّل مهمة التعاون يعني تسهّل مهمة العطاء للآخرين والأخذ من الآخرين، وبالتالي تتمكن الطوائف المختلفة أن تقوي علاقات مجتمع واحد من دون خطر.. ولذلك الطوائف المختلفة غنى حضاري واسع لخدمة الانسان في كل مكان...".
ويستدل الامام الصدر بآية خاطب الله بها جميع الأنبياء تقول: ﴿لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات﴾ [المائدة، 48].
وفي رد على سؤال يقول الامام ان "وجود المسيحية في لبنان بما لها من العلاقات الحضارية والدينية في العالم ثروة كبرى للبنان لا يمكن أن نتنكر لها اطلاقًا، ثم وجود المسيحية في لبنان يسهّل كون لبنان مفتاحًا وبابًا للتمازج بين الشرق والغرب". ويخلص الى أن المسيحيين هم "ثروة كبرى للبنان وثروة كبرى للعرب وثروة كبرى للشرق".