الإمام موسى الصدر والنزعة الإصلاحية

د. زكي الميلاد



يعتبر السيد موسى الصدر من المصلحين الذين كانت تحركهم نزعة الإصلاح بوعي شديد، وهي النزعة التي اصطبغت بها تحركاته ونشاطاته الثقافية والاجتماعية والسياسية. وكان متحفزاً لهذا الدور الإصلاحي، وساعياً إلى تقمصه، ومتطلعاً من ورائه إلى إحداث تغيير ونهضة وتقدم في الأمة.وعند النظر لهذا الدور الإصلاحي الذي نهض به الإمام الصدر، يمكن التوقف أمام بعض الملاحظات التي تتصل بالإطار العام، وتكوين المعرفة بطبيعة وملامح ذلك الدور الإصلاحي. وهذه الملاحظات هي:
أولاً:  يعتبر الإمام الصدر من المصلحين الذين تبلورت حركتهم الإصلاحية في مجتمع غير المجتمع الذي كانوا ينتمون إليه من حيث الولادة والنشأة، ومن حيث المكان والأرض. ويصدق هذا الحال على بعض رجالات حركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، كالشيخ محمد رشيد رضا الذي تبلور نشاطه الإصلاحي في مصر، وهو القادم إليها من طرابلس لبنان. وقد اعتبرت الباحثة الفرنسية صابرينا ميرفان في كتابها التوثيقي عن حركة الإصلاح الشيعي في لبنان، أن السيد موسى الصدر كان أول أجنبي جاء إلى جبل عامل في الفترة المعاصرة لملء وظيفية دينية هناك. إلا أنه لم يكن أجنبياً تاماً حسب رأيها، إذ كانت له أصول عاملية تعود إلى أربعة أجيال(1). وتضفي هذه الملاحظة ملامح مميزة وخلاقة على طبيعة الدور الإصلاحي الذي نهض به السيد الصدر، حيث ظهر وكأنه من أوثق الناس ارتباطاً وتجذراً بهذا المجتمع الذي وصل إليه قادماً من إيران.
ثانياً: لقد ورث الإمام الصدر الدور الإصلاحي الذي نهض به من قبل رجالات الإصلاح الإسلامي في لبنان، وفي مقدمتهم السيد محسن الأمين، والسيد عبد الحسين شرف الدين، وهما اللذان عاصرا مرحلة الانتداب الفرنسي على بلاد الشام، والعقود الأولى لمرحلة ما بعد استقلال لبنان وقيام الدولة اللبنانية. والدور الإصلاحي الذي نهض به الإمام الصدر يمثل امتداداً وتواصلاً في تكويناته الفكرية والثقافية والدينية لذلك الدور الذي نهض به كلٌّ من السيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين شرف الدين. وقد جاء الإمام الصدر أساساً إلى لبنان لكي يرث هذا الدور الإصلاحي، حيث جاء كما تنقل روايات المؤرخين بطلب من عائلة آل شرف الدين بعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين سنة 1957م، ووصل السيد الصدر إلى لبنان سنة 1959م. وقد اعتبرت الباحثة ميرفان أن من آخر تجليات بعد النظر السياسي عند السيد شرف الدين هو اختياره موسى الصدر خليفة له لكي يتابع مسيرته(2). وورث الإمام الصدر هذا الدور بكفاءة عالية، وأضاف إليه أبعاداً جديدة خصوصاً في المجال السياسي. ودشن بهذا الدور مرحلة جديدة يمكن أن يؤرخ لها في تاريخ الشيعة المعاصر في لبنان. ويرتبط بهذه المرحلة إلى جانب السيد الصدر، كلاً من الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله. وهؤلاء الثلاثة تحديداً مثلوا الامتداد الديني والفكري والإصلاحي لخطاب وحركة السيد الأمين والسيد شرف الدين، وكانوا الأكثر تأثيراً في نهضة المسلمين الشيعة في تاريخ لبنان المعاصر.
ثالثاً: من الملاحظ أن البعد العملي كان الأكثر هيمنة على الدور الإصلاحي للسيد الصدر. وبين المصلحين هناك من كان يعطي أولوية للجانب العملي في حركته كالسيد جمال الدين الأفغاني، وهناك من كان يعطي أولوية للجانب الثقافي في حركته كالشيخ محمد عبده. وبقيت هذه الثنائية حاضرة في حركة المصلحين منذ عصر الإصلاح الإسلامي وإلى هذا اليوم.
ومن هذه الناحية يمكن أن يقارن السيد الصدر بشخصيتين كان له بهما صلة، وهما الشيخ مرتضى المطهري في إيران، والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان. فالشيخ المطهري الذي تربطه به صلة ثقافية حيث اشترك معاً في حلقات أستاذهما السيد محمد حسين الطباطبائي، لكن المطهري غلب الطابع الثقافي على حركته الإصلاحية. وهكذا الحال مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي ورث الإمام الصدر في رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
ولهذا كانت شخصية السيد الصدر أقرب إلى شخصية السيد جمال الدين الأفغاني، وأميل إليه من الشخصيات الإصلاحية الأخرى، بل وأكثر شخصية حاضرة في إدراك السيد الصدر وهو يتطلع إلى الدور الإصلاحي الذي يزمع النهوض به. ويؤكد هذا الرأي ما ذهب إليه الأستاذ محمد علي مهتدي الذي يرى أن السيد جمال الدين الأفغاني كان القدوة عند الإمام الصدر، والسؤال الذي كان يشغل فكره وباله كثيراً هو لماذا لم تنجح حركة السيد جمال الدين؟ وكان يقول لزملائه: يجب علينا أن نعود إلى الوراء مائة سنة لندرس أخطاء السيد جمال الدين، ونتفادى الوقوع فيها مجدداً. وفي نظر الإمام الصدر، كما يقول الأستاذ مهتدي أن الخطأ الأكبر في حركة السيد جمال الدين هو اعتماده على الحكام، وعلى التغيير الذي يأتي من الأعلى إلى الأسفل. وهذا هو الخطأ الذي حاول الإمام الصدر أن يتفاداه، وذلك على خلفية أن التغيير إنما يبدأ من الناس ويصعد إلى القمة، وليس العكس(3).
وقد ضرب الإمام الصدر مثلاً في الوصول والتواصل مع الناس، والفئات الضعيفة والمحرومة منهم خصوصاً. ويذكر في هذا الشأن أنه قام بزيارة مختلف القرى والأرياف في جبل عامل ومنطقة بعلبك الهرمل، وجلس مع الأهالي، واستمع لهم، وتقرب منهم، وأكل من طعامهم. وكشفت له هذه الزيارات حجم المعاناة عند المسلمين الشيعة، حيث الإهمال والحرمان الاجتماعي والاقتصادي، والعزل والتهميش السياسي والإداري. ووجد نفسه أنه أمام واقع يتطلب عملاً كثيراً وعلى أكثر من صعيد. ولهذا كرس جهده وعطائه للعمل في سبيل إصلاح ذلك الواقع البائس الأمر الذي ساهم في تعزيز الطابع العملي لحركة الإمام الصدر.

ـ 2 ـمرحلة ما قبل لبنان
هناك لاث مراحل أساسية تتصل بدراسة طبيعة الدور الإصلاحي للإمام الصدر، وقد تحددت هذه المراحل بحسب اختلاف وتعدد سياقاتها وأرضياتها من جهة، واختلاف وتعدد مقتضياتها وأولوياتها من جهة أخرى. ولا يكتمل الحديث عن الدور الإصلاحي للإمام الصدر إلا بدراسة هذه المراحل الثلاث، وتحليل مكوناتها الفكرية والثقافية والدينية، متصلة بالشرائط والمتغيرات السياسية والاجتماعية والموضوعية عموماً، حيث تغيرت في هذه المراحل صورة الدور الإصلاحي للإمام الصدر.
وسوف نتناول الحديث عن هذه المراحل بالتركيز على الأبعاد الأساسية المكوّنة لطبيعة هذه المراحل، وهي:

أولاً: مرحلة ما قبل لبنان
هذه المرحلة لا يتسلط عليها الحديث كثيراً في الكتابات والدراسات التي تناولت الحديث عن شخصية وحركة الإمام الصدر وفكره وخطابه. ولعل السبب في ذلك أن هذه المرحلة لم تكن مليئة بالأحداث الساخنة من جهة علاقتها بالسيد الصدر، أو لم تكن منكشفة بأحداثها ووقائعها، ولأنها لا تمثل المرحلة الأهم في مسيرة السيد الصدر. وقد توزعت هذه المرحلة بين العراق وإيران، في العراق دراسة وتحصيلاً، وفي إيران دراسة وعطاء.
والطابع العام المميز لهذه المرحلة هو الطابع الفكري والثقافي، حيث كان السيد الصدر يعد في إيران مفكراً دينياً، وينتمي إلى الحلقة الفكرية التي قام برعايتها السيد محمد حسين الطباطبائي، والذي وصفه السيد الصدر بعلامة العصر. وكان إلى جانبه في هذه الحلقة الشيخ مرتضى المطهري. وفي إطار هذه الحلقة اكتسب السيد الصدر تكويناته الفلسفية، تلك التكوينات التي ترجع في أصولها إلى مدرسة الملا صدر المعروفة بمدرسة الحكمة المتعالية. وهي المدرسة التي مثل فيها السيد الطباطبائي مرحلة متقدمة في تطورها الفلسفي المعاصر. وظهر على السيد الصدر تعلقاً بفلسفة الملا صدرا الذي بالغ في تعظيمه وتبجيله، واعتبره الفيلسوف الإسلامي الكبير والرجل العظيم، وذروة الفلسفة الإسلامية، وخلاصة الأقدمين، وقدوة المتأخرين، ومؤسس الحكمة المتعالية التي جمعت بين فلسفة المشائين وحكمة الإشراقيين وبين العرفان. وحين نقابل الفلسفة الإسلامية حسب قول السيد الصدر ممثلة في شخص صدر الدين الشيرازي، بفلسفة القرن العشرين، نشعر بتفوق نهجه الفكري على كثير من المناهج الفلسفية الحديثة، بالرغم من كونه ابن القرن السابع عشر الميلادي(4).
وقد تجلت هذه النزعة الفلسفية في العديد من أحاديث ومحاضرات السيد الصدر الفكرية والدينية، ولكن ليس بتلك الصورة الشديدة والمعقدة. ولعل أكثر نص تجلت فيه هذه النزعة، المقدمة التي كتبها للترجمة العربية لكتاب المفكر الفرنسي هنري كوربان (تاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر في طبعته العربية عام1966م.
كما أن الناظر إلى تلك الأحاديث والمحاضرات يكتشف أن هناك تشابهاً من حيث الروح العامة لأفكار العلامة الطباطبائي المشبعة بالنزعة الفلسفية.
ومن المعروف أيضاً أن السيد الصدر كان ينتمي في إيران إلى تيار الفكر الديني الذي يتواصل مع العصر، وينفتح على العلوم والمعارف الحديث، ويتبنى اتجاهات الإصلاح والتجديد. وإلى هذا التيار كان ينتمي السيد محمود الطالقاني، والسيد محمد البهشتي، والشيخ مرتضى المطهري، والمهندس مهدي بازركان، والدكتور علي شريعتي، وآخرون أيضاً. وهؤلاء كان لهم أعظم الأثر في بلورة وصياغة الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الفكر الديني، وفي انبعاث النهضة الدينية داخل الجامعات الإيرانية. وتناغماً مع هذا الاتجاه جاءت المقالات التي نشرها السيد الصدر حول الاقتصاد في المدرسة الإسلامية، ووصلت إلى اثني عشر مقالاً. وقد كانت هذه المقالات في وقتها لافتة، وتعبر عن ملامح التجديد في الفكر الديني آنذاك.
ومع هذا المنحى الفكري والثقافي الذي كان عليه السيد الصدر في تلك المرحلة، مع ذلك لم يعرف عنه اهتمامه بالنتاج الثقافي والفكري والديني. ولم أجد تفسيراً واضحاً لهذه الحالة، خصوصاً مع ما يتمتع به السيد الصدر من ثقافة واسعة، ونباهة وذكاء حاد، وكونه كان قريباً من شخصيات عرف عنها غزارة الإنتاج، والاهتمام الكبير بهذا الجانب كالشيخ مرتضى المطهري، والدكتور علي شريعتي، وهكذا أستاذه العلامة الطباطبائي.

ـ 3 ـمرحلة لبنان وصياغة المشروع السياسي للشيعة
شكلت لبنان المرحلة الأساسية في النشاط الإصلاحي للسيد الصدر، وتبلور وتحدد فيها مسلكه الإصلاحي، الذي ساهم هو في صياغته وتنضيجه. ومن لبنان عرف السيد الصدر في العالم العربي، الذي تواصل معه وانفتح عليه. وقد جاء السيد الصدر بروح جديدة إلى لبنان، وإلى الشيعة منهم بالذات، وهي أشبه ما تكون بنفحة من السماء أعادت الأمل إلى النفوس. وبعث يقظة ونهضة تشبه إلى حد كبير ما صنعه السيد جمال الدين الأفغاني في الأمة. وكثيرون في داخل لبنان وخارجه الذين اندهشوا من تجربة السيد الصدر الإصلاحية في لبنان، وعبر هؤلاء على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والثقافية والسياسية عن مثل هذا الاندهاش، حيث وجدوا في السيد الصدر رجلاً مصلحاً بكل مواصفات الرجل المصلح، وفعلاً كان مدهشاً للغاية في هذه التجربة التي تجلت فيها ملامح الإصلاح والنهضة، وهي تجربة تستحق المزيد من الدراسة والنظر.
ومنذ وصول السيد الصدر إلى لبنان بدأ تاريخ جديد للمسلمين الشيعة هناك، حيث بدأت أوضاعهم تتحرك وتنتقل من حالة الجمود إلى حالة الحركة، ومن حالة النسيان إلى حالة التذكر، ومن حالة التهميش والحرمان واللاتكافؤ إلى العمل على تصحيح هذا الواقع انطلاقاً من عناوين العدالة والمساواة والتكافؤ والتوازن.
والذي تغير في هذه المرحلة هو تحول النشاط عند السيد الصدر من دور المفكر إلى دور المصلح، التحول الذي كان السيد الصدر واعياً به ومدركاً له، لأنه وجد نفسه أمام واقع مثقل ومتراكم بالمشكلات، وبحاجة إلى إصلاحات وبرامج عملية، وليس مجرد صياغة أفكار أو صناعة حلول فكرية فحسب. وهذا هو الفارق الذهني بين المصلح والمفكر، فالمصلح يكون أميل إلى المعالجات العملية، في حين أن المفكر يكون أميل إلى المعالجات النظرية من حيث العموم الأغلب.
ولعل أهم تطور أنجزه الإمام الصدر في هذه المرحلة، هو أنه تمكن من صياغة مشروع سياسي للمسلمين الشيعة في لبنان، المشروع الذي شكل لهم نظرة جديدة لأنفسهم في إطارهم الوطني، ونظرة الآخرين لهم. كما شكل لهم أيضاً نظرة جديدة من الدولة ومؤسساتها. وبهذا المشروع عرف الشيعة اللبنانيون ماذا يريدون لأنفسهم، وماذا يريدون من الدولة، ومن الآخرين الذي يمثلون مكونات المجتمع اللبناني. وبالتالي فإن هذا المشروع السياسي قد ساهم في بلورة مسار سياسي واضح على المدى الطويل، ينظم من خلاله الشيعة اللبنانيون حركتهم ومواقفهم واتجاهاتهم ومصالحهم.
وفي تقديري إن هذا المشروع السياسي الذي ساهم الإمام الصدر في بلورته وصياغته يعد واحداً من أنضج المشاريع السياسية التي أنجزها المسلمون الشيعة في تاريخهم السياسي الحديث، ومن أكثر المشاريع تماسكاً ووضوحاً. وتتأكد قيمة هذا الإنجاز إذا علمنا أن من أصعب المعضلات التي واجهت المسلمين الشيعة في دولهم ومجتمعاتهم منذ بداية القرن العشرين، هي معضلة عدم وضوح الرؤية في المشروع السياسي الذي ينظم حركتهم، ويساهم في تصحيح واقعهم السياسي. وإلى اليوم ومازالت هذه المعضلة تشكل هاجساً في بعض المجتمعات الشيعية المعاصرة.
ومن أبرز ملامح ومكونات المشروع السياسي الذي بلوره الإمام الصدر، هي:

أولاً: تحديد علاقة الشيعة بالدولة وبمفهوم الوطن
فقد ورث الشيعة في لبنان واقع القهر والاضطهاد في عصر الدولة العثمانية، وواقع الحرمان والتهميش في عصر ما بعد الانتداب الفرنسي، لهذا فقد التبست علاقتهم بالدولة وبمفهوم الوطن. كما التبست هذه العلاقة على مجتمعات شيعية أخرى في العالم العربي بسبب وضعيات اللاتكافؤ واختلال في قواعد العدالة والمساواة. ومع الإمام الصدر تبلورت علاقة جديدة بين الشيعة والدولة اللبنانية، تقوم هذه العلاقة على قاعدة الاندماج الوطني، والانخراط في الحياة العامة، وبناء جسور الثقة كخيار وطريق لمعالجة المشكلات وتصحيح الوضعيات المعتلة. وبالتالي فإن المشروع السياسي ينبغي أن يكون مشروعاً وطنياً ينطلق من ثوابت النظام والقانون والدستور، ويتأسس على قاعدة الإجماع الوطني العام، وبما يحقق المصالح العليا للأمة والدولة. لا أن يكون المشروع طائفياً أو مناطقياً، أو بعيداً عن التوافقات والتفاهمات والإجماعات الوطنية العامة. وهذه القضية ينبغي أن تكون من ثوابت ومرتكزات أي مشروع سياسي للشيعة في مختلف دولهم ومجتمعاتهم.

ثانياً: الانفتاح والتواصل مع مكونات المجتمع اللبناني
فقد ساهم الإمام الصدر وبزخم كبير في تجسير العلاقات، وتطوير مناخات الانفتاح والتواصل بين المسلمين الشيعة وباقي الطوائف والمذاهب والجماعات الأخرى، الإسلامية والمسيحية وغيرها. وقد وجد هؤلاء في خطاب الإمام الصدر وحركته الثقافية والاجتماعية والسياسية، كل ملامح الانفتاح والتواصل والرغبة الصادقة والأكيدة في بناء العلاقات والتفاهمات. وكل من تعرف على الإمام الصدر نقل هذه الصورة عنه، وباتت من الملامح المعروفة عن شخصيته. ففي أبريل 1975م اعتبر الكاتب إلياس الديري المعلق في جريدة النهار، أنه للمرة الأولى ربما لا تصبغ حركة رجل دين بطابع طائفي، ولا توصم بوصمة التعصب. وذلك أن حركة الإمام الشيعي استقطبت حولها، وجذبت إليها الإعجاب والتقدير والتعاطف من الموارنة والسنة والأرثوذكس، واكتسبت صفة الدفاع عن حق الإنسان في لبنان، لا الدفاع عن حق الطائفة أو الطائفي(5). وبهذا النشاط استطاع الإمام الصدر أن يساهم في إخراج المجتمع الشيعي من واقع العزلة والتغييب إلى واقع الانفتاح والتواصل. النشاط الذي حرض الآخرين أيضاً على الاندفاع نحو الانفتاح والتواصل مع المجتمع الشيعي.

ثالثاً: تنظيم واقع الطائفة الشيعية وبناء العلاقات الداخلية بين مكونات المجتمع الشيعي نفسه
فقد اهتم الإمام الصدر بالتعرف على مختلف الكفاءات والطاقات داخل الطائفة الشيعية، والعمل على تجميع هذه الطاقات في إطار منظم، وتحريكها باتجاه استنهاض الطائفة الشيعية من داخلها، وبواسطة مكوناتها الذاتية. وفي هذا السياق ولهذا المهمة تحديداً جاء تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في عام 1969م، ليكون الإطار المنظم والجامع للطائفة الشيعية. فقد انبثقت فكرة المجلس كما يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين من الإحساس الذي كان يغمر النخبة الشيعية، والشباب الشيعي في لبنان، وشعورهم بالهامشية والدونية والحرمان، وعدم ثقتهم بأن الأحزاب العلمانية قادرة على أن تغير شيئاً من واقعهم. فولدت فكرة إعادة الاعتبار إلى الشيعة اللبنانيين سياسياً وتنموياً واجتماعياً عن طريق التأكيد على هويتهم الخاصة المنفتحة على الهويات الأخرى المكونة للاجتماع اللبناني، وليس المنعزلة والمتباينة. لهذا كان هناك واقع تنظيمي وسياسي ومعنوي وروحي وتنموي يقتضي نشوء هذا المجلس لإظهار شخصية الشيعة، ونيل حقوقهم في النظام السياسي(6).

رابعاً: الانفتاح على العالم العربي وتطوير علاقات الشيعة بالمحيط العربي على المستويين الرسمي والأهلي
ولهذا الغرض جاءت الزيارات التي قام بها الإمام الصدر إلى سوريا ومصر والأردن والجزائر والسعودية والكويت وغيرها. وقد ساهمت هذه الزيارات في تكوين صورة لامعة وخلاقة عن الإمام الصدر، وعن مشروع الشيعة السياسي في لبنان، وعن صورة الشيعة بصورة عامة. وهناك العديد من الشهادات التي يرويها بعض المطلعين وهي تكشف عما تركته تلك الزيارات واللقاءات من أثر وتأثير، كالرواية التي نقلها السيد هادي خسرو شاهي عن اللقاء الذي جرى بين الإمام الصدر والرئيس جمال عبد الناصر في أبريل 1969م، بعد المشاركة في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، حيث نقل عن الرئيس عبد الناصر قوله: “يا ليت كان للأزهر رئيس مثل السيد موسى الصدر”(7) وهذه اللقاءات مثلت لبعض الزعماء والسياسيين أولى لقاءاتهم مع شخصية شيعية من طبقة رجال الدين، وإلى اليوم هناك من يتذكر مثل تلك اللقاءات كولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي يعتبر أن الإمام الصدر هو الذي حدثه عن الشيعة وعرفه بهم. وأشار الأمير عبد الله بهذا الكلام عند لقائه برجال الدين والمثقفين الشيعة في السعودية.
هذه لعلها من أبرز ملامح وأبعاد المشروع السياسي الذي أراد منه الإمام الصدر أن يكون إطاراً سياسياً للمسلمين الشيعة في لبنان. وقد حقق هذا المشروع السياسي نجاحاً وتقدماً في جميع تلك الأبعاد، وبدأت تتغير معه أوضاع الشيعة هناك، وتتجه نحو تطورات ومسارات مختلفة عما كانت عليه من قبل، ودخل الشيعة في عصر جديد لهم كانوا فيه أكثر ثقة بالمستقبل. وفي مرحلة لاحقة اعتبر الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن تجربة الشيعة اللبنانيين تمثل نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع(8). ولا شك أن فضلاً كبيراً لهذا النجاح يعود للإمام الصدر ولمشروعه السياسي الذي بلوره للمسلمين الشيعة هناك.


ـ 4 ـ ما بعد الإمام الصدر
هناك مرحلتان مختلفتان لوضع الشيعة في لبنان، مثلت المرحلة الأولى نكسة وتراجعاً، ومثلت المرحلة الثانية تقدماً وإنجازاً. فقد تأثرت حركة المسلمين الشيعة في لبنان بتغييب الإمام الصدر الذي ترك فراغاً هائلاً، وتعرض الوضع الشيعي إلى إرباكات شديدة، وانقسامات حادة، وصدامات عنيفة، بسبب ما أصاب الساحة الشيعية من اختلال في التوازنات السياسية، وتراجع المشروع السياسي للإمام الصدر، وانتكس بصورة خطيرة. وتحددت هذه النكسة وكشفت عن حالها في ثلاثة تغيرات خطيرة هي:

أولاً: طرح مقولة الجمهورية الإسلامية في لبنان. المقولة التي تتعارض في ماهيتها وطبيعتها ومآلاتها مع المشروع السياسي للإمام الصدر. المشروع الذي رسخ مفهوم الاندماج الوطني للشيعة، وعزز مبدأ التعايش المشترك، واعتبر أن لبنان وطن نهائي لجميع اللبنانيين، بحيث لا يجوز المس بهوية وطبيعة الكيان اللبناني. وفي نظر الشيخ شمس الدين أن هذا المبدأ كان مبدأ الأساس والأهم في تاريخ لبنان السياسي، وهو من المبادئ التي يدين بها لبنان وشعب لبنان للفكر اللبناني الشيعي، ولمؤسسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. ويرى الشيخ شمس الدين أن هذا المبدأ وضع ليس فقط استجابة وترضية للمسيحيين، بل كان ضرورة للاجتماع اللبناني، ولبقاء كيان لبنان(9).

ثانياً: تراجع دور ومكانة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وصعود وتفوق التكوينات السياسية الحزبية، التغير الذي ساهم في اختلال توازنات الوضع الشيعي. وهذا المنحى هو بخلاف ما كان يسعى إليه الإمام الصدر الذي وصل إلى لبنان وهو يحمل تقييماً سلبياً للتجربة الحزبية في إيران، وأراد من مشروع المجلس أن يكون الإطار الجامع لمكونات الوجود الشيعي، والمؤسسة التي تعبر عن الهوية الثقافية والسياسية للشيعة، والمنفتحة على الهويات الأخرى، والمندمجة في الكيان اللبناني والدولة اللبنانية.

ثالثاً: إن أخطر ما حصل للمجتمع الشيعي في لبنان هو التحول من العمل في سبيل التوافق والتفاهم إلى وضع الصدام والنزاع الدامي والعنيف. الحدث الذي يمكن وصفه بأنه من أخطر وأسوأ ما تعرض إليه الوجود الشيعي هناك خلال تاريخه السياسي الحديث. وقد أطاح هذا الحدث في العمق بالمشروع السياسي للإمام الصدر الذي جعل من الحوار والتفاهم والتوافق عناوينه الكبرى والأساسية.
إلى جانب هذا التأثر لوضعيات الشيعة اللبنانيين، هناك جانب آخر لا يلتفت إليه كثيراً، ويتصل هذا الجانب بحركة وفاعلية التجديد والتحديث في الفكر الإسلامي المعاصر. فقد جاء تغييب الإمام الصدر في مرحلة شهدت غياب بعض المفكرين الإسلاميين اللامعين الذين كانت لهم إسهامات فكرية بارزة في مجالات تحديث الفكر الإسلامي وتجديده، ففي سنة 1977م استشهد الدكتور علي شريعتي في ظروف غامضة في لندن، وفي 1979م استشهد الشيخ مرتضى المطهري في إيران، وفي عام 1980 استشهد السيد محمد باقر الصدر في العراق، وفي هذه السنة نفسها أيضاً استشهد السيد حسن الشيرازي في لبنان. ولا شك أن غياب هؤلاء كان مؤثراً على مسارات الفكر الإسلامي واتجاهاته المعاصرة، وعلى حيوية وتقدم حركة النهوض الإسلامي في الأمة، وعلى بناء وتكوين النخبة الدينية في العالم الإسلامي.
هذا عن المرحلة الأولى، مرحلة النكسة والتراجع. وقد تغيرت هذه الصورة في المرحلة الثانية التي شهدت تقدماً وإنجازاً في حركة المسلمين الشيعة، وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن ثلاثة مجالات أساسية لذلك التقدم والإنجاز، وهي المجالات التي تتصل بشكل وثيق بالمشروع السياسي للإمام الصدر. وهذه المجالات هي:

أولاً: المجال الفكري. ويرتبط هذا المجال بالدور الفكري الذي أنجزه وريث الإمام الصدر في رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين حيث قام بدور التقعيد والتأصيل الفقهي والشرعي للمشروع السياسي الذي نهض به الإمام الصدر. وهذا من صور التكامل بين الإمام الصدر الذي غلب الجانب العملي والسياسي في حركته على الجانب الفكري والثقافي، وبين الشيخ شمس الدين الذي غلب الجانب الفكري والثقافي على الجانب العملي والسياسي، فالإمام الصدر كان أقرب إلى شخصية الزعيم السياسي، في حين أن الشيخ شمس الدين كان أقرب إلى شخصية المفكر الديني. وفي هذا الشأن جاءت العديد من مؤلفات الشيخ شمس الدين، منها كتاب (في الاجتماع السياسي الإسلامي) الصادر عام 1990م، وكتاب (الأمة والدولة والحركة الإسلامية) الصادر عام 1994م، وكتاب (لبنان الدور والكيان) الصادر عام 1994م، إلى كتاب (المقاومة في الخطاب الفقهي السياسي) الصادر عام 1998م، وكتاب (فقه العنف المسلح في الإسلام) الصادر عام 2001م.

ثانياً: المجال السياسي. في هذا المجال تغيرت صورة الواقع السياسي للمسلمين الشيعة من واقع العزل والتهميش السياسي والإداري في مرحلة، ومن واقع المشاركة السياسية والإدارية المحدودة والضعيفة، إلى واقع المشاركة السياسية والإدارية الواسعة والفاعلة.

ثالثاً: مجال المقاومة. وفي هذا المجال حقق المسلمون الشيعة أعظم إنجاز تاريخي، بأروع انتصار على آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان. وبذلك أصبحت صورة الشيعة في لبنان من ألمع الصور في العالم العربي.

الهامش: (1) انظر كتاب: حركة الإصلاح الشيعي.. علماء جبل عامل وأدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية استقلال لبنان. صابرينا ميرفان، ترجمة: هيثم الأمين، بيروت: دار النهار، 2003م، ص106.
(2) المصدر نفسه. ص505
(3) الهوية الثقافية.. قراءات في البعد الثقافي لمسيرة الإمام السيد موسى الصدر. أعمال المؤتمر الرابع، بيروت: مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، 2000م، ص60.
(4) انظر كتاب: أبجدية الحوار.. محاضرات وأبحاث للإمام السيد موسى الصدر. إعداد: حسين شرف الدين، صور: دار الأرقم، 1997م، ص67.
(5) انظر كتاب: الإمام موسى الصدر.. السيرة والفكر. عدنان فحص، بيروت: دار الفكر العربي، 1996م، ص111.
(6) الوصايا. الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بيروت: دار النهار، 2002م، ص37.
(7) الهوية الثقافية. مصدر سابق، ص68.
(8) الوصايا. مصدر سابق، ص31.
(9) المصدر نفسه، ص47.ِ

زكي الميلاد

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية