إيران بعد ثورتين.. نموذج للتغيير الجذري

د. هيثم مزاحم  
 

تفتقد معظم الثورات العربية لنموذج تحتذيه في معركتها ضد الاستبداد والاستعمار الذي يدعمه. كما يفتقر بعضها إلى آيديولوجية موّحدة تتبعها، فيما يفتقد جميعها إلى قيادة جامعة توجّهها.
لكن أخطر ما تواجهه الثورات العربية هو محاولات الغرب لاحتوائها وتوجيهها لخدمة مصالحه في العالم العربي والإسلامي في ما يشبه الانقلاب
 على أهداف الثورات ومنطلقاتها الرافضة للاستبداد والاستعمار. 
والثورة الإسلامية في إيران التي أجّجت الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي في نهاية السبعينات، تشكّل نموذجاً للدراسة والاقتداء والتعلّم من تجربتها وصراعها مع الإمبريالية والصهيونية، الذي لم ينتهِ بعد برغم مرور 33 عاماً على انتصارها.

 
عرفت إيران خلال عهد الملوك القاجاريين استبداداً شديداً إذ كان هؤلاء الملوك يوسعون صلاحيّاتهم بلا حدود ويعزّزون سلطانهم، إلى الحدّ الذي جعل الشاه ناصر الدين (1848 ــ 1896م) يمنح الامتيازات للشركات الأجنبية بلا حدود وبلا استشارة أحد من الشعب الايراني بمن فيهم مراجع الدين.
وكان من أبرز هذه الامتيازات اتفاقية حصر بيع وشراء التبغ مع شركة بريطانية، إذ ضرب الشاه ناصرالدين بعرض الحائط كل الاعتراضات والمطالبات الشعبية بإلغاء هذه الاتفاقية الاحتكارية الاستعمارية التي كانت تؤدي إلى هيمنة بريطانيا على 20 في المائة من الاقتصاد الإيراني، وألحق ضرراً كبيراً بفئات كبيرة من الشعب الإيراني.

 
في الصورة: الشاه القاجاري ناصر الدين.

وهذا ما دفع بالمرجع الديني الأعلى للشيعة، الميرزا محمدحسن الشيرازي، الذي كان يقيم في مدينة سامراء في العراق آنذاك، إلى إصدار فتواه التاريخية الشهيرة بحرمة التدخين واستعمال التنباك بأية صورة، زراعة وشراء وبيعاً وتدخيناً، وذلك سنة 1309هـ/ 1891م.
وكان لهذه الفتوى أثر كبير جداً في الشعب الإيراني الذي يطيع المرجعية الدينية بصورة تامة، حيث التزم الإيرانيون بمن فيهم زوجات الشاه بعدم التدخين ممّا اضطرّ ناصرالدين إلى إلغاء امتياز الشركة البريطانية عام 1892 ودعوة العلماء إلى طهران للتعهد لهم باستشارتهم في المستقبل في جميع الأمور.
وقد فتحت المواجهة على خلفية انتفاضة التنباك بين العلماء الشيعة والشعب الإيراني وخاصة الطبقات الوسطى والنخب المثقفة من جهة، والشاه القاجاري ناصرالدين من جهة أخرى، ملف الاستبداد والفساد والانحلال في الحكم القاجاري وتزايد النفوذ الروسي والبريطاني في إيران.
حيث بدأ علماء الدين والمثقفون يطالبون بتطور النظام السياسي الإيراني وإصلاحه، داعين إلى حكومة مشروطة ودستور للبلاد يقيّدان صلاحيات الملك المطلقة بمجلس شورى (برلمان) منتخب من قبل الشعب، على أن يحكم الشاه وفق حكم ملكي دستوري مشروط بالبرلمان.

الثورة الدستورية
تأثرت هذه الحركة الدستورية التي عُرفت بحركة "المشروطة"، بعوامل داخلية وخارجية عدة أبرزها: انتشار الحركات الدستورية في أوروبا والعالم منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والاستياء الشعبي وخاصة العلماء والتجار من الحكم القاجاري الفاسد والمستبد بسبب تهديده لمصالح الطبقة الوسطى عبر سياسة الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية، وتهديده لسلطات الفقهاء وتبنّيه لسياسات التغريب.
وقد نشأ تحالف بين علماء الدين والمفكرين والمثقفين الإيرانيين بهدف تغيير النظام الإيراني، وعمل السيّد جمال الدين الأسدآبادي المعروف بــ"الأفغاني" على نسج هذا التحالف وذلك لعلاقته وتأثيره في الجماعتين.
قُتل الشاه ناصرالدين عام 1896م على يد أحد تلاميذ جمال الدين، فخلفه ابنه مظفر الدين شاه (1896 ــ 1907م) الذي استوعب هذا الدرس بشدّة فحاول استرضاء المعارضة التي كانت تضغط لإقرار الإصلاحات السياسية والديموقراطية من قبيل وضع دستور وقيام نظام دستوري وإجراء انتخابات للبرلمان.


 
في الصورة: مقاتلو ثورة الدستور "المشروطة" في إيران

وعلى الرغم من تنامي دور المثقفين الليبراليين واليساريين المطالبين بهذه الإصلاحات، إلاّ أنّ تبنّي الفقهاء لها ووضعهم لها في إطار شرعي إسلامي قد كفلا نجاح هذه الثورة الدستورية.
وقد قاد هذه الثورة كل من الشيخ محمدكاظم الخراساني والملامحمد عبدالله مازاندراني والشيخ محمدحسين النائيني والشيخ محمد الطباطبائي.
وكان أهم منظّر للثورة والدستور الإيراني الشيخ النائيني (1860 ــ 1936م) الذي كان مرجعاً دينياً كبيراً مقيماً في مدينة النجف في العراق.
فأصدر كتاب "تنبيه الأمة وتنزيه الملة في لزوم مشروطة الدولة المنتخبة لتقليل الظلم على أفراد الأمة وترقية المجتمع"، عرض فيه الأدلة على شرعية الحكومة المشروطة ورد على اعتراضات الفقهاء الذين حرّموا هذه النظرية وخاصة الشيخ فضل الله النوري الذي كتب رسالة في حرمة المشروطة.
أسست نظرية الحكومة المشروطة لقيام حركة سياسية وشعبية للمطالبة بالديموقراطية وتحديد سلطات الشاه القاجاري حيث انطلقت التظاهرات والاعتصامات والإضرابات وخصوصاً في العاصمة الإيرانية طهران بقيادة علماء الدين.







في الصورة: طابع إحياء لقادة ثورة الدستور

وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن رضوخ الشاه مظفرالدين وقيام أول مجلس برلماني دستوري، بإعلان الشاه في 15 آب 1906 "فرمان" أو قرار المشروطة، فأصبحت إيران لأول مرة في تاريخها المعاصر دولة ذات حكم دستوري.
وتشكلت لجنة من العلماء وبعض الشخصيات الوطنية والليبرالية وبعض أعضاء الحكومة وقامت بصياغة قانون الانتخابات وتشكّل البرلمان وصدر الدستور.
وفي كانون الثاني/يناير1907 صادق الشاه مظفرالدين على الدستور الذي استغرق إعداده أربعة أشهر، وكان شديد التأثر بالدستورين الفرنسي والبلجيكي.
وعندما توفي الشاه مظفرالدين، خلفه ولده محمدعلي الذي استغل الحركة المضادة لإصلاح الدستور التي كان يقودها السيد كاظم اليزدي، بدعوى أنّ الحرية ضد الدين، فألغى الدستور وعطّل مجلس الشورى، الأمر الذي أثار غضب زعيم الحركة الدستورية آنذاك الشيخ كاظم الآخوند الخراساني (ت 1330هـ/ 1911م) الذي كان يقيم في النجف، فأصدر بياناً شديد اللهجة ضد الشاه، بالنيابة عن مجتهدي النجف وعلمائها.


فقد فجّر الخراساني ثورة جديدة ضد الشاه محمدعلي، الذي رفض الرضوخ لمطالب الحركة الدستورية الديموقراطية، أدت إلى خلع الشاه عن عرشه في سنة 1327هـ / 1909م، وإقامة مجلس الشورى مجدداً في إيران. 
على الرغم من أن نجاح الثورة الدستورية كان محدوداً، إلا أنه كشف عن ضعف الدولة القاجارية سياسياً واجتماعياً، ما أفقدها الهيبة في عيون الجماهير التي تأكدت ارتهان الحكومة للسفارتين الروسية والبريطانية، الأمر الذي شجّع على ظهور حركات التمرد والعصيان من قبل العشائر والقبائل ضد السلطة المركزية في طهران. وعلى الرغم من إعلان إيران الحياد في الثاني من أكتوبر 1914، إلا أنها أصبحت أشبه برقعة الشطرنج التي أحكم المتحاربون سيطرتهم على أطرافها، خلال الحرب العالمية الأولى.
وبدأت القوى الروسية والإنجليزية والألمانية تدس عملاءها في كل مكان بين العشائر الكبرى، فأمدتهم بالسلاح واستمر سلوك بعض زعماء العشائر في التمرّد ضد الحكومة المركزية.

أصبح النفط المتدفق في إيران عامل إغراء لبريطانيا التي أقنعت مؤتمر الصلح بمسؤوليتها تجاه إيران، فوقّعت معها عام 1919 معاهدة تضمنت تنظيم المالية والجيش والجمارك وتطويرها في إيران.
وهكذا فرضت هذه المعاهدة الوجود البريطاني بغطاء قانوني، وهو ما أثار غضب الناس ضد الحكومة القاجارية، إذ شعرت الجماهير بأن هذه المعاهدة انتداب جديد لبريطانيا، فانفجرت التظاهرات في كثير من المدن.
ونتيجة التظاهرات، أعلنت الحكومة الإيرانية الأحكام العرفية، وهددت المعارضة بالسجن والنفي، وشددت الرقابة على الصحف. لكن بريطانيا فشلت في الحصول على موافقة البرلمان الإيراني على المعاهدة.





في الصورة: الشاه رضا خان بلباسه العسكري مع الزعيم التركي مصطفى أتاتورك.
 
انقلاب رضا خان
بعدما ظهر بوضوح ضعف الدولة القاجارية، تطلّع الإيرانيون إلى قيادة سياسية جديدة، فيما شعرت بريطانيا بأنه بات ضرورياً استبدال العرش القاجاري بزعامة قوية قادرة على نيل احترام شعبها وإقناعه بأهمية تطوير العلاقات معها.
وكان المرشح على الساحة قائد قوات القوزاق الفارسي رضا خان، الذي نجح بمساعدة بعض القوى الداخية والخارجية، في قيادة انقلاب عسكري ناجح ضد العرش القاجاري في 12 فبراير 1921. وتمكن رضا خان بعد سنة ونصف من تولّي رئاسة الحكومة في أواخر أكتوبر 1923، بدعم من البريطانيين من خلع الأسرة القاجارية وتأسيس الأسرة البهلوية رسمياً في الثامن من فبراير 1925.
أجرى رضا خان بهلوي بعض الإصلاحات الاقتصادية لتعزيز سلطته، فسعى لاستصلاح الأراضي الزراعية البور أو المهملة، واستقدم خبراء زراعيين لزيادة الإنتاج.

كما اهتم بالصناعة والتجارة الخارجية وألغى الامتيازات الأجنبية، وأنشأ السكك الحديد وشبكة طرق وموانئ وشبكة البرق والهاتف والبريد.
كما إهتم بالتعليم فأنشأ المدارس المدنية وخصوصاً مدارس الإناث، وسمح بخلع الحجاب فيها ومنع الملابس القومية والدينية وفرض ارتداء الملابس الأوروبية، وقلّص عدد المدارس الدينية وألغى بعض المناسبات الدينية وأحل محلّها مناسبات قومية.
كما أنشأ المحاكم المدنية ومنع رجال الدين من ممارسة القضاء إلا بعد الحصول على شهادة الحقوق من جامعة معترف بها. هنا بدأ الاصطدام برجال الدين حيث شنّ حملة دعائية ضد ما اعتبره "تخلّفاً" واتهمم بـ"العمالة للأجانب". كما شجّع الطلاب على الالتحاق بالمدارس العيا المدنية والعسكرية وقدّم لهم حوافر مالية، وأرسل البعثات العلمية إلى أوروبا.
افتتحت جامعة طهران عام 1934 ما ساهم في زيادة عدد الطلاب والطالبات. ثم أصدر الشاه رضا بهلوي قراراً بإلغاء الحجاب نهائياً عام 1936.
في عام 1935، جاءت الضربة القاصمة للمؤسسة الدينية باستيلاء الشاه على ممتلكات الأوقاف التابعة لها. وبذلك فقدت المؤسسة الدينية أهم مصادر الدخل الذي كان يعيش عليه رجال الدين ويضمن استقلالها عن الدولة.
وبرغم جهود الشاه لقمع المعارضة وشلّ الحركة الحزبية، إلا أن المعارضة برزت من المؤسسة الدينية والمثقفين واليساريين الذين شكلوا حزب توده الشيوعي.
إتسّمت سياسة رضا شاه بالاستبداد المطلق وآحادية التفكير والقرار، برغم أن مشروعاته الإصلاحية إستهدفت تحديث إيران، لكن وسائل تحقيقها اعتمدت على القهر وفرض التغيير عنوة.
إعتمد الشاه على فرض الضرائب المتنوّعة في تمويل خزانة الدولة، وكانت في الغالب تفرض على المواد الاستهلاكية الضرورية لعامة الناس، مما أرهق السكان.
إذ إرتفعت تكاليف معيشتهم، وانخفضت القدرة الشرائية لرواتبهم، وانتشرت البطالة، وأصبح الموظفون والعمال ينفقون أكثر من نصف دخولهم في تسديد فاتورة الطعام. واشتدت أزمة الطعام والسلع الضرورية إبان الحرب العالمية الثانية، وفرضت الدولة تصدير المنتجات الزراعية إلى الخارج، وانتشر تهريب السلع، وبدأت الرشوة والفساد بالانتشار، وتفسخ الجهاز الإداري والرقابي، ونخر الفساد ضباط الشرطة والجيش.


في الصورة: الشاه رضا خان

 في هذه الأثناء، واصل الشاه رضا بهلوي في التضييق على المعارضة وإغلاق الصحف المعبّرة عن السخط العام، والتي كانت تفضح بعض حالات الفساد والرشوة. وكتب الوزير المفوّض البريطاني إلى حكومته يقول: "الشاه أصبح موضع كره عام ولايستطيع الاعتماد على مساندة جيشه، وإزاحة الشاه أو حتى إمبراطوريته ستكون شعبية ومطلوبة".
وانتهى حكم الشاه بفعل الغزو الأنجلو– سوفياتي لإيران في11 سبتمبر1941، وأجبر على مغادرة طهران على متن بارجة بريطانية إلى منفاه في جزيرة موريشيوس ومن ثم إلى جنوب أفريقيا، حتى توفي عام 1944. 
لقد أجبر الشاه على التنازل عن العرش لإبنه محمدرضا في 19 سبتمبر 1941، بتوافق بين البريطانيين والسوفيات والأميركيين، بذريعة عدم تعاونه معهم في طرد عناصر المحور من اليابانيين والإيطاليين من إيران.
واضطر الشاه الجديد محمد رضا للتعهد للأميركيين والبريطانيين بالتعاون معهم، وتطبيق بعض الإصلاحات الضرورية وتطبيق الدستور الإيراني.


في الصورة: الشاه رضا خان مع الرئيس الأميركي نيسكون

جذور الثورة الإسلامية
بدأت جذور الثورة الإسلامية تنبت تدريجياً منذ عام 1949 عندما فكر الشاه محمد رضا في إنشاء دولة إستبدادية تحت حكمه الفردي المباشر، تقوم أعمدتها الأولى على سحق المعارضة بكل أجنحتها.
وكان للولايات المتحدة دور أساسي في تشجيع الشاه على الانفراد بالسلطة، على الرغم من أنها كانت مشاركة في عزل والده بحجة استبداده واستيلائه على موارد الدولة الزراعية والصناعية.
 





في الصورة: الشاه محمد رضا بهلوي

تعرّض الشاه لمحاولة اغتيال في الرابع من فبراير 1949، فاستغلها لقمع المعارضة وتبرير توسيع صلاحياته، فأعلن الأحكام العرفية في البلاد، ومنع الصحف من نشر أي نقد موجّه للأسرة الحاكمة، ثم ألغى حزب "توده" الشيوعي رسمياً، واعتقل الكثير من السياسيين، بينهم الدكتور محمد مصدّق.
كما أنشأ جمعية تأسيسية جديدة كانت باكورة أعمالها منح الشاه الحق بحلّ البرلمان. كما نجح الشاه في تأسيس مجلس للنواب يعيّن نصف أعضائه من أعوانه المقرّبين. وقد وافق هذا المجلس على منح الشاه الحق باسترداد جميع الإقطاعيات والأراضي التي سبق أن صادرها والده من الشعب، وأكره محمدرضا على إعادتها إلى أصحابها تحت إلحاح الحلفاء إبان الاحتلال عام 1941.


في الصورة: الدكتور محمد مصدّق.

 قوبلت هذه القرارات الجديدة بمعارضة شديدة من الإيرانيين، وخصوصاً مجموعة محمد مصدّق ومن إنضم إليه من التجار والأعيان وعلماء الدين برئاسة آية الله كاشاني، وجماعات من الوطنيين الليبراليين والأحزاب الاشتراكية الوطنية، الذين كوّنوا "الجبهة الوطنية".
هذه الجبهة بدأت معارضتها بالمطالبة بإجراء انتخابات حرة وبحرية الصحافة، وإنهاء الأحكام العرفية، وتنفيذ القانون طبقاً للدستور، وتأميم شركة النفط الإنجليزية الإيرانية.
بعدما لقيت "الجبهة الوطنية" تأييداً كبيراً من مختلف فئات الشعب، اضطر الشاه إلى تعيين محمد مصدّق في مايو 1951 رئيساً للوزراء.
ازدادت مخاوف الأميركيين من نفوذ مصدّق الذي ازداد بعد تأميم النفط، فأنذرته الإدارة الأميركية بتجميد مساعداتها لإيران، إذا لم يضمن التسويات النفطية المعقولة التي تضمن حماية مصالحها.
لم يستجب مصدّق لذلك التحذير بل كثّف من تعاونه مع حزب "تودة" الشيوعي ليضمن تأييد السوفيات.
نجح مصدّق في صراعه مع الشاه على السلطة في وضع القوات المسلحة تحت سيطرة وزارة الداخلية التي كان يرأسها، ما حيّد الجيش وشكّل هزيمة للشاه.
كما أعاد جميع الأراضي المصادرة إلى أملاك الدولة، وقام بتطهير الجيش من العناصر الموالية للشاه، وأبعد130 من كبار قواد الجيش، وشكّل لجان تحقيق في الفساد المنتشر في المؤسسة العسكرية.
ونجح أخيراً في إجبار الشاه وعائلته على مغادرة إيران إلى إيطاليا عام 1953.
في أعقاب ذلك، بدأت مجموعة من الضباط المفصولين الاتصال بالاستخبارات المركزية الأميركية وطلبوا منها تمويل انقلاب عسكري للإطاحة بمصدّق وحكومته. تمكّن هؤلاء الضباط بمساعدة الاستخبارات الأميركية وتمويلها من تنفيذ انقلابهم والإطاحة بحكومة مصدّق عبر احتلال مقار الوزارات واعتقال الوزراء، ونسف مسكن رئيس الوزراء مصدق واعتقاله.
عاد الشاه إلى إيران، ولديه رغبة أقوى من ذي قبل في إقامة ديكتاتورية معتمدة على جهاز استخبارات قوي وجيش كبير وجهاز شرطة فعّال.
وبذلك أصبح قادراً على قمع المعارضة واستمر في سياسته القمعية هذه حتى عام 1963، عندما أعلن عن "الثورة البيضاء" حيث هدد كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم، وأنذر رجال الدين بسحب الأراضي التي بحوزتهم.
لكن إصلاحات الشاه هذه واجهت معارضة شديدة من علماء الدين، واتّسعت المعارضة لتشمل الطلاب والتجار والحرفيين.
وكان على رأس هؤلاء الغاضبين الإمام روح الله الخميني، وآية الله طالقاني.
في مراسم عاشوراء عام 1963، بدأ الإمام الخميني يحرّض الجماهير على التظاهر والإضراب احتجاجاً على سياسات الشاه، فأضربت الأسواق وتحوّلت المواكب العاشورائية إلى تظاهرات ومواجهات مع النظام، وسقط فيها نحو ألفي شهيد من المتظاهرين. ومنذ ذلك الحين، استمر الحراك الجماهيري والثوري بفعل خطابات الإمام الخميني التي كانت توّزع عبر منشورات وأشرطة تسجيل(كاسيت) سراً من جهة، وكذلك عبر جهود المفكرين والمناضلين الآخرين، وخصوصاً المفكر علي شريعتي وخطبه وكتبه، والشيهد آية الله مرتضى مطهري وآية الله طالقاني، وغيرهم من المنظّرين والأحزاب والحركات السياسية المعارضة.
 

لكن الدور الأبرز والأكثر تأثيراً كان للإمام الخميني، الذي تمكن من منفاه في النجف الأشرف ثم في فرنسا، من قيادة الحركة الإسلامية الثورية التي نجحت في الإعداد للثورة وتنظيم صفوفها وتحريض الجماهير وتوجيهها في تظاهرات مليونية أسقطت نظام الشاه في شباط/ فبراير 1979، ومن ثم عاد الامام الخميني من نوفل لوشاتو قرب باريس، ليحصد الانتصار الجماهيري، ويؤسس جمهورية إسلامية جمعت بين مبادئ حركة المشروطة الدستورية ومبدأ ولاية الفقيه الديني الشيعي.

أسباب الثورة الإسلامية في إيران
يرى الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون أن سبب الثورة الإيرانية يعود إلى فساد الشاه وقمع الشرطة، وأن الادعاء بفقر الإيرانيين إن هو إلا أسطورة، لأن حياة الشعب الإيراني في عصره كانت أفضل من أي دولة أخرى في الشرق الأوسط.
وقد أكد له الشاه ذلك عندما قال لنيكسون أثناء لقائهما في المكسيك عام 1979، إنه "أرسل عشرات الألوف من الطلاب إلى العديد من الجامعات في الولايات المتحدة وحدها، ليعودوا وينضموا إلى الثورة ضده".
لكن ما أغفله نيسكون يتمثل في عاملين أساسيين هما: أخطاء الشاه ومساوئ نظامه، وخصوصاً تبعيته للولايات المتحدة، وغرقه في الترف والتبذير والفساد وتقليد الغرب، وهو ما أثار غضب فئات كبيرة من الشعب الإيراني، المتديّن في معظمه، والمتمسّك بثقافته الإسلامية، والفخور بحضارته العريقة.
أما العامل الثاني، فهو إيمان معظم الشعب الإيراني بالعقيدة الدينية، والتي استطاع الإمام الخميني من خلالها تعبئة الجماهير، وكذلك ارتباط الإيرانيين الديني بمرجعية التقليد، حيث حوّل الإمام الخميني مرجعيته الدينية إلى مرجعية سياسية استناداً إلى مفهوم ولاية الفقيه.
وقد دفعت معارضة الشاه للاعتراف بالمعارضة الإيرانية والقيام بإصلاحات جوهرية استجابة لمطالبها، تجار البازار للمشاركة في الثورة، الذين كانوا يشكلّون طبقة رأسمالية كانت تعدّ القوة الثالثة في إيران، بعد مؤسسات رجال الدين والبلاط الملكي. ولرجال الدين سلطة كبيرة على رجال البازار الذين تضرّروا من سياسات الشاه الاقتصادية، نتيجة "الثورة البيضاء" والتضخّم والركود الاقتصادي، بفعل سياسة التسليح والتصنيع الضخمة للشاه بين عامي 1973 و1977.
 

في الصورة: الشاه محمد رضا بهلوي وزوجته وإبنه.
 
وكان الشاه قد أعلن عام 1975 حزبه "راستاخيز" الذي استهدف بسط يده على الأسواق والمؤسسات الدينية. تلك السياسة أدت إلى سجن ثمانية آلاف تاجر من أصحاب المحلات التجارية، ونفي ثلاثة وعشرين ألفاً منهم. كل هذا دفع بالبازار إلى أن يلقي بثقله إلى جانب علماء الدين وخصوصاً آية الله الخميني، ما أدى إلى تدعيم معسكر الثورة، وضعضعة النظام الملكي، ومن ثم إنتصار الثورة.
لقد هيأت الظروف الداخلية والدولية للإمام الخميني فرصة زعامة الثورة التي اندلعت قبل عودته بسنتين، وقد تفوّق جناحه الإسلامي الثوري على ألاجنحة الأخرى من تيارات دينية وقومية وليبرالية ويسارية، لأسباب عدة أبرزها:

أولاً: كان الشاه قد نجح بشكل كبير في القضاء على الأحزاب السياسية وإضعافها، وأغلق الجمعيات المهنية والنقابات العمالية وصهرها في بوتقة الحزب الواحد الموالي له "رستاخيز". لكنه استهان بقوة علماء الدين فتركهم داخل أروقة المساجد يشحنون طلابهم بافكارهم، ويعزّزون أواصر صلاتهم بالبازارات المنتشرة في جميع أنحاء إيران.
ثانياً: أجّج لجوء الشاه إلى القوة العسكرية في إخماد التظاهرات الميول الثورية وأثار السخط الشعبي ضده، ومنح الإمام الخميني فرصة كي يعلن رفضه لأي تسوية مع النظام، ويدعو لتغيير جذري وقيام حكم إسلامي يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة ويقضي على الفساد وينصف الفقراء.


 
في الصورة: الإمام الخميني

 ثالثاً: تمكن الإمام الخميني من وضع آيديولوجية إسلامية بسيطة وملائمة لطبقات الشعب الإيراني الفقيرة، مثل الدعوة إلى إعادة توزيع الثروات، ونقل السلطة من الأثرياء إلى الفقراء، والقضاء على الفساد، وتسهيل القروض لصغار المزارعين، وإمداد القرى بالتيار الكهربائي، وبناء المدارس والعيادات الطبية والطرق والمساكن المناسبة للفقراء، فاكتسب تيار الإمام الخميني شعبية واسعة فاقت شعبية التيارات الأخرى.
رابعاً: شخصية الخميني التي جمعت بين الذكاء والوقار وبلاغة الخطاب وكاريزما القائد، وزهده وعرفانه الصوفي، فضلاً عن مرجعيته الدينية الفقهية، وتجسيده لولاية الفقيه باعتباره نائباً للإمام المهدي الغائب، يقوم بمهامه القيادية تمهيداً لظهوره.
كل هذه الصفات القيادية أضفت عليه قداسة وجعلته القائد المطلوب لإنجاح الثورة ومن ثم تأسيس الجمهورية الإسلامية.
دور علماء الدين في الثورة
يقول الباحث الإيراني مسعود كمالي إن إيران قد عرفت ثورتين خلال القرن العشرين، وتفسير هذه التغييرات بمصطلحات اقتصادية وسياسية يطرح أسئلة غير مجاب عليها أو أجيب عليها نصف إجابة.
منها على سبيل المثال: "لماذا نجح العلماء الذين فشلوا في الثورة الأولى(1905) في مجتمع أكثر تقليدية، في قيادة الثورة الإسلامية(1979) وتحقيق انتصارها في مجتمع أكثر حداثة؟

ويوضح كمالي أن جزءاً من تحليله يظهر كيف لعبت العقائد الثقافية الإسلامية دوراً مفصلياً في الثورة الإسلامية، فيما عزّز برنامج الشاه لتحديث إيران من قوة المجموعات الدينية والعلماء الإسلاميين في مجتمع سريع التطور.
 ففي فبراير1979 تولّت السلطة مجموعة ثورية يقودها علماء الدين. وبعد شهرين، وعبر استفتاء عام، استبدل نظام الملكية الذي دام لآلاف السنوات، بجمهورية إسلامية يتولى فيها رجال الدين موقعاً قيادياً.
ففي القرن العشرين، شارك علماء الشيعة وقادوا ثورتين كبيرتين في إيران، ثورة الدستور والثورة الإسلامية.
ويرى كمالي أن تحليلنا الثورة الإسلامية في إيران ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أن الإسلام هو عامل اجتماعي وثقافي لعب ويلعب دوراً جوهرياً في الحياة السياسية في إيران.
ويقول إن الفرضية الأساس لدراسته هي أنه بينما شارك العلماء في ثورة الدستور(1905-1909) بهدف التأثير في النظام السياسي وتعزيز موقعهم في المجتمع المدني في إيران، فإن العلماء قد شاركوا في الثورة الإسلامية (1977-1979) بهدف الوصول إلى السلطة السياسية وإعادة بناء المجتمع الإيراني، أي القيام بتغيير جذري وليس إصلاحات جزئية.
لقد هُمِّشَ علماء الدين بوتيرة متزايدة وأقصوا عن مكانتهم المرموقة في المجتمع المدنيّ في إيران، خلال أكثر من خمسين عاماً من سياسة التحديث التسلّطيّة التي اعتمدها نظام بلهويّ.
واغتنم العلماء الفرصة التاريخية الفريدة التي أتاحتها الثورة الإسلامية، من أجل أن يصبحوا قادة المجتمع المدنيّ.

فقد كانت الثورة عمليّةَ إعادة بناء اجتماعي- سياسيّ للمكانة القياديّة للعلماء في المجتمع المدنيّ الإيرانيّ، فهي ثورة تحدث في زمن معاصر وفي مجتمع معاصر. وكان التحالف بين العلماء والبازار موجّهًا نحو إزاحة الشاه ونظامه المَلَكي الحاكم، وكان لعلماء الدين الحضور القياديّ الفعّال.
فقد كان لأحدهم أي الإمام الخميني نظريّةٌ لدولة بديلة عن النظام المَلَكيّ، كما عرف كيفيّة مخاطبة الجماهير الشعبيّة بلغة بسيطة يفهمونها.
بعد انتصار الثورة، جرى استفتاء للشعب في آذار/مارس 1979 أقرَّ الدستور الإسلاميّ بأغلبيّة ساحقة تخطّت الـتسعين في المائة من أفراد الشعب.
وأعلن الإمام الخمينيّ أنَّ الجمعيّة الشرعيّة الوحيدة المُخَوَّلة كتابة الدستور الجديد للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة هي مجلس الخبراء. فانتُخب هذا المجلس، والتَأَم أعضاؤه وَشَرَعوا في كتابة الدستور الإسلاميّ للدولة، ثم أجرِيَت الانتخاباتُ الرئاسيّة في يناير/كانون الثاني 1980.
ولاتزال الثورة الإسلامية في إيران تجربة جديرة بالدراسة لأنها آخر الثورات الكلاسيكية الجذرية حيث اقتلعت النظام الملكي الشاهنشاهي من جذوره وغيّرت البنى السياسية والثقافية والاقتصادية في البلاد لتقيم مكانها بنىً جديدة على أسس إسلامية ووطنية ترفض التبعية لأي دولة لا شرقية ولا غربية، وتنتهج التنمية وصولاً إلى هدف الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والعلمي

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية