أين هي دولة فلسطين؟
بقلم : د. هيثم مزاحم
طرح الكاتب الفرنسي المعروف ألان غريش تساؤلاً هو: "علامَ يُطلق اسم
فلسطين؟" ليجيب عليه في كتابه الجديد الذي نقل إلى العربية مؤخراً في عرض
تاريخي، يفضح فيه المشروع الاستيطاني العنصري الصهيوني من خلال الوقائع على
الأرض والاستشهاد باقتباسات من قادة الصهيونية، لتكون الإجابة التي تدين
الصهاينة من أفعالهم وأفواههم.
لعل غريش أراد القول وهل بقي ثمة أراضٍ ذات وحدة جغرافية يمكن أن تشكّل دولة فلسطين في المستقبل.
يقول غريش: "ماذا كان يعني وقتذاك الاعتراف بفلسطين دولة يتعيّن قيادتها نحو الاستقلال؟ لقد أريد للفلسطينيين المشاركة في سلب أنفسهم بأنفسهم.
وكثيراً ما توجّه إليهم لائمة الافتقار إلى المرونة والحسّ التكتيكي والواقعيّة، فالبصيرة السياسية والعدالة لاتجتمعان.
لكن أي شعب يقبل عن طيب خاطر رؤية شعب آخر يحلّ في مكانه؟! في أثناء حرب 1948-1949، بينما كانت الجيوش العربية تجتاح فلسطين، تساءل الفيلسوف اليهودي مارتن بابر المؤيد للتعاون اليهودي-العربي، قائلاً: "من هاجمنا؟ أولئك الذين شعروا بأننا اعتدينا عليهم بغزونا السلمي، والذين يتهموننا بأننا لصوص [فكيف للفلسطينيين أن يقتنعوا بحجة أن هذا البلد كان بلدنا قبل ألفَي عام؟...] هل نأمل حقاً أن يتمّ تقبّل هذا التبرير من دون مناقشة، وهل كنا لنقبله لو كنا نحن في مكانهم؟!"
كانت السيطرة على الأراضي في فلسطين كما هي الحال حيث استقرّ المستعمرون، هي قلب المواجهة.
وكلّف الصندوق القومي اليهودي منذ العام 1901 بشراء الأراضي من المالكين (الأفندية) الذين كانوا يعيشون في بيروت أو دمشق. وبعد 1918، تنازل البريطانيون عن بعض أراضي الدولة، وتمّت مصادرة أراضي دولة أخرى من البدو الذين لم تكن في حوزتهم صكوك ملكية.
وعلى الرغم من أن أغلبية الأراضي قد تمّ نقل ملكيتها إلى المستعمرين بصورة تبدو "قانونية" فقد ظلت مشكلة الأرض الزراعية هي جوهر النزاع وتسببت بأعمال العنف الأولى.
ذلك أن سلب الأراضي كان يفقد الفلاح الفلسطيني جزءاً من هويته. كانت الأراضي التي يتمّ شراؤها تعد "ملكية خاصّة للشعب اليهودي غير قابلة للتصرّف".
إذ لم يكن في الإمكان وهبها إلى من ليس يهودياً (تبعاً للقوانين الصادرة عن الوكالة اليهودية).
وفي 1939، أضحت 25% من الأراضي الزراعية تحت سيطرة الوكالة اليهودية، وفي الوقت عينه، كانت تتواصل عملية غزو العمل: فقد طرد الفلاحون العرب الذين كانوا يزرعون الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي، الأمر الذي أدّى إلى إفقار عشرات الآلاف من الفلاحين.
وتواصلت تلك السياسة الإقصائية بمباركة من لندن.،إذ كتب رئيس الوزراء البريطاني في 13 شباط/فبراير 1931 مايلي: "لاترى حكومة جلالة الملك أي غضاضة في أن للوكالة اليهودية الحق في صوغ تلك السياسة أو قبولها أو ممارستها، إذ إن مبدأ أفضلية اليد العاملة اليهودية وحصريتها في المنظات اليهودية إنما هو مبدأ تملّك الوكالة اليهودية جميع المبرّرات للأخذ فيه".
لعل غريش أراد القول وهل بقي ثمة أراضٍ ذات وحدة جغرافية يمكن أن تشكّل دولة فلسطين في المستقبل.
يقول غريش: "ماذا كان يعني وقتذاك الاعتراف بفلسطين دولة يتعيّن قيادتها نحو الاستقلال؟ لقد أريد للفلسطينيين المشاركة في سلب أنفسهم بأنفسهم.
وكثيراً ما توجّه إليهم لائمة الافتقار إلى المرونة والحسّ التكتيكي والواقعيّة، فالبصيرة السياسية والعدالة لاتجتمعان.
لكن أي شعب يقبل عن طيب خاطر رؤية شعب آخر يحلّ في مكانه؟! في أثناء حرب 1948-1949، بينما كانت الجيوش العربية تجتاح فلسطين، تساءل الفيلسوف اليهودي مارتن بابر المؤيد للتعاون اليهودي-العربي، قائلاً: "من هاجمنا؟ أولئك الذين شعروا بأننا اعتدينا عليهم بغزونا السلمي، والذين يتهموننا بأننا لصوص [فكيف للفلسطينيين أن يقتنعوا بحجة أن هذا البلد كان بلدنا قبل ألفَي عام؟...] هل نأمل حقاً أن يتمّ تقبّل هذا التبرير من دون مناقشة، وهل كنا لنقبله لو كنا نحن في مكانهم؟!"
كانت السيطرة على الأراضي في فلسطين كما هي الحال حيث استقرّ المستعمرون، هي قلب المواجهة.
وكلّف الصندوق القومي اليهودي منذ العام 1901 بشراء الأراضي من المالكين (الأفندية) الذين كانوا يعيشون في بيروت أو دمشق. وبعد 1918، تنازل البريطانيون عن بعض أراضي الدولة، وتمّت مصادرة أراضي دولة أخرى من البدو الذين لم تكن في حوزتهم صكوك ملكية.
وعلى الرغم من أن أغلبية الأراضي قد تمّ نقل ملكيتها إلى المستعمرين بصورة تبدو "قانونية" فقد ظلت مشكلة الأرض الزراعية هي جوهر النزاع وتسببت بأعمال العنف الأولى.
ذلك أن سلب الأراضي كان يفقد الفلاح الفلسطيني جزءاً من هويته. كانت الأراضي التي يتمّ شراؤها تعد "ملكية خاصّة للشعب اليهودي غير قابلة للتصرّف".
إذ لم يكن في الإمكان وهبها إلى من ليس يهودياً (تبعاً للقوانين الصادرة عن الوكالة اليهودية).
وفي 1939، أضحت 25% من الأراضي الزراعية تحت سيطرة الوكالة اليهودية، وفي الوقت عينه، كانت تتواصل عملية غزو العمل: فقد طرد الفلاحون العرب الذين كانوا يزرعون الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي، الأمر الذي أدّى إلى إفقار عشرات الآلاف من الفلاحين.
وتواصلت تلك السياسة الإقصائية بمباركة من لندن.،إذ كتب رئيس الوزراء البريطاني في 13 شباط/فبراير 1931 مايلي: "لاترى حكومة جلالة الملك أي غضاضة في أن للوكالة اليهودية الحق في صوغ تلك السياسة أو قبولها أو ممارستها، إذ إن مبدأ أفضلية اليد العاملة اليهودية وحصريتها في المنظات اليهودية إنما هو مبدأ تملّك الوكالة اليهودية جميع المبرّرات للأخذ فيه".
إقصاء سكان فلسطين الأصليين
لاتدع سجلات الوثائق المتعدّدة المتاحة حالياً، ولاسيما تلك التي تخص الوكالة اليهودية والكيان الإسرائيلي، أي مجال للشك في شأن توافر الرغبة الصهيونية في طرد الفلسطينيين، حتى وإن كانت الحركة الصهيونية تموّه ذلك بلغة سلام.
فديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية منذ عام 1935، ومؤسس "الكيان إلاسرائيلي"، الذي سيصبح رئيساً لوزرائها عامَ 1948، لم ينكر ذلك يوماً في مراسلاته الخاصة.
وفي عام 1937، اقترحت لجنة بيل البريطانية، التي ألفت في إثر الثورة الفلسطينية الكبرى الناشبة قبل عامٍ لمواجهة الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، تقسيم فلسطين إلى دولتين أول مرة.
وفي ردة فعل على الاستنتاجات التي خلصت إليها تلك اللجنة، ألمح بن غوريون إلى أنه ثمة نقطة تعوّض الجوانب السلبية المطروحة كلها، هي "التهجير القسري لعرب السهول"، إذ كتب في يومياته: إذا لم يكن في وسعنا أن نقتلع العرب من مكان وجودنا، وأن نرسل إلى المناطق العربية [...]، فسيتعذر علينا ذلك بصورة أكبر بعد إقامة دولتنا".
شهدت الفترة (بين 1936و1937) انتقال بن غوريون من فكرة الترحيل الاختياري إلى الترحيل القسري، وفي 5 تشرين الأول/أكتوبر 1937، كتب إلى ابنه: "علينا طرد العرب وأخذ مكانهم. وإن اقتضى الأمر استخدام القوة – لا لانتزاع ملكيات عرب النقب وشرق الأردن، وإنما لضمان حقوقنا في الاستقرار في تلك المناطق – فإن القوة حينذاك ستكون في متناولنا".
في البداية، استولت التجمعات اليهودية في داخل الكيبوتزات والمستعمرات على الأراضي، واحتلت مئات القرى العربية التي هجرها سكانها بقوة السلاح، في الفترة بين تشرين الثاني/نوفمبر 1947 ونهاية الحرب الأولى التي اندلعت بين العرب وإسرائيل عامَ 1949، ومن دون أن تنعم بأية شرعية قانونية بالاستيلاء.
وقد دُمر بعض تلك القرى ومُحيت أسماؤها من على الخريطة، أما البعض الآخر فاحتلها المستعمرون وأطلقت عليها أسماء عبرية. وأصدر الكنيست الإسرائيلي عام 1959 قانوناً خاصاً بملكية الغائبين، وتمّت بمقتضاه مصادرة أراضي جميع الفلسطينيين الذين لم يكونوا موجودين شخصياً في بلداتهم أو قراهم في زمن الحرب (حتّى وإن كانوا داخل إسرائيل)، إذ عدّت ممتلكاتهم ممتلكات "مهجورة"، وقد أعيد تفعيل هذا القانون في السنوات الأخيرة الماضية للعمل على طرد الأسر الفلسطينية المستقرة في القدس الشرقية.
كانت سياسة "التهويد" تحظى بإجماع واسع، إذ كانت تمثّل إجابة عن المخاوف التي كان يثيرها التهديد الديموغرافي العربي.
وهو ماحدا بالصحافي الإسرائيلي المشهور يشعياهو بنبورات إلى الكتابة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 28 كانون الأول/ديسمبر 1962، في شأن منطقة الجليل التي يقطن فيها قسم كبير من الفلسطينيين: "الجليل ملكنا؟ نعم، على الخريطة، لكن الأمر في الواقع على الأرض، يختلف تماماً. فهذه إمبراطورية عربية داخل الدولة من دون هبة حكومية قوية[...]، لن نتمكّن من تحرير الجليل" والخلاصة هي أنه كان يندب بطء عملية التهويد في الجليل.
دولة يهودية
كانت المطالبة بالطابع اليهودي لهذا الكيان هي التي برّرت التمييز ضد "السكان الأصليين العرب"، كما أكّد يسرائيل شاحاك حتّى قبل نشوب حرب 1967.
ولد شاحاك في مدينة وارسو عاصمة بولندا، وأمضى عامين في معسكر اعتقال نازي، هو معسكر برغن بلسن، ثم هاجر إلى فلسطين عامَ 1945، عمل أستاذاً للكيمياء في الجامعة العبرية في القدس، ثم رئيساً لرابطة حقوق الإنسان والمواطن عامَ 1970، وفي كتاب شجاع صدر بالفرنسية عامَ 1975م حمل عنوان "العنصرية في دولة إسرائيل"، طرح فيه سؤال "ماهي الدولة اليهودية؟" ليخلص إلى القول: "تعاني أغلبية الكتابات المتعلقة بإسرائيل وبجوهر ما يقال عنها خارج حدودها قصوراً أساسياً، هو تجاهلها حقيقة أن إسرائيل ليست دولة إسرائيلية، وليست دولة للإسرائيليين، وإنما دولة يهودية" فما من إحصائية تتعلق بالإسرائيليين، مثلما أوضح شاحاك مردفاً: "لايتوقف الأمر عند عدم وجود إسرائيليين في إسرائيل، وإنما جرى فرز الدوابّ والنباتات إلى يهودية وغير يهودية كذلك. فرسمياً، تحصي إسرائيل البقر والخراف والبندورة والقمح، ثمّ تصنفها منتجات "يهودية"، وأخرى "غير يهودية"".
وعام 1970، أكّد شمعون أغرانات، رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، أن من غير الممكن الحديث عن "جنسية إسرائيلية"، فلم تكن ثمة أمّة إسرائيلية منفصلة عن الأمة اليهودية، ولأن إسرائيل لم تكن حتّى كيان خاصة بمواطنيها اليهود، بل هي كيان يهود العالَم، فإسرائيل تعبّر عن شعب يهودي لاتاريخيّ وجد عبر القرون".
يعلّق الكاتب غريش: "على الرغم من أن إسرائيل تعتمد مسلكاً ليبرالياً نحو مواطنيها اليهود، فهي طوّرت مفهوماَ قديماَ للجنسية عفّ عليه الزمن، إذ يقصي المواطنين الفلسطينيين، ويتبنّى رؤية ثيوقراطية في مؤسساتها.
صحيح أن الصهيونية كانت تسعى لتقديم إجابة عن "المسألة اليهودية" دون غيرها، وأن من المستحيل إدراك جميع المأساة الدائرة في فلسطين إذا ما تجاهلنا هذا البُعد التاريخي والأيديولوجي الذي يميّز النموذج الإسرائيلي من التجارب الاستعمارية الأخرى".
هل الإبادة تعني اليهود وإسرائيل وحدهم، أم أنها تعني الإنسانية جمعاء؟ بالنسبة إلى بن غوريون، لم يكن ثمة مجال للشك فالإبادة تندرج عنده في صميم التاريخ اليهودي، وفي سياق "الكراهية الأبدية" لليهود، وإسرائيل هي المؤتمن الشرعي عليها، والوارث الوحيد لها.
أوهام السلام
يقول غريش: "من السهل تصوير النزاع في فلسطين بالقول إنه طريق محفوف بالدم تغذّيه مشاعر الكراهية والمخاوف..فالحل الوحيد الذي كان يبدو واقعياً حتّى وقت غير بعيد، وهو حل الدولتين المتجاورتين، بات يبتعد بالوتيرة عينها التي تنتشر فيها المستعمرات في الضفة الغربية وفي القدس وفي الوقت عينه ترفض الأغلبية العظمى للإسرائيليين وقسم كبير من الفلسطينيين مشروع الدولة الواحدة الممتدة من نهر الأردن حتّى البحر المتوسّط.
ويرى غريش أن منظور الأمن المطلق في نظر الإسرائيليين يرتبط بإقصاء السكان الأصليين بعيداً، إذ لا يزال الملايين من الفلسطينيين متشبثين بأراضيهم ويظل "التهديد السكاني" هو الخوف الأساس لدى قادة إسرائيل وللتصدي لهذا التهديد لاضير من اعتماد الوسائل كافة، بما في ذلك استقدام مهاجرين قد لايكونون جميعاً من اليهود، ولكنهم يتميّزون بأنهم "بِيض" فكما أقر وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك، بصراحة كبيرة، في شباط/فبراير 2010: "مادام لايوجد إلا كيان سياسي واحد اسمه إسرائيل بين نهر الأردن والبحر المتوسّط، سيكون عليه الاختيار بين أن يكون غير يهودي أو غير ديموقراطيّ.
لو صوّت الفلسطينيون لكانت الدولة ثنائية القومية، ولو لم يصوّتوا لكانت دولة فصل عنصريّ(...)".
فلسطين والثورات العربية
وعن تأثير ثورات الربيع العربي على قضية فلسطين يقول غريش: "أصابت تلك الموجة السلطتين الفلسطينيتين في رام الله وغزّة. وعلى الرغم من ذلك، حظّرت سلطتا فتح وحماس التظاهر للتضامن مع الشعب المصري في كفاحه ضدّ الرئيس المخلوع حسني مبارك في إثر ذلك، قمعت السلطتان بشدّة حركة 15 آذار/مارس، التي حاولت أن تترجم مطالب الكرامة، ومكافحة الفساد، ووضع حدّ للاستبداد، في محاولة منها لنقلها إلى الوضع الفلسطيني".
يقول بعض المحلّلين الغربيين إن الثورات العربية الراهنة غير مهتمّة بالنزاع مع إسرائيل، وغير آبهة بفلسطين، وأن برنامجها لايعنى إلا بالسياسة الداخلية، وأنها ليست مناهضة لأميركا والغرب.
لكن غريش يعتبر أن تلك التحليلات خاطئة من دون شكّ، مثلما أثبتته حوادث عدة، بدءاً باقتحام سفارة الكيان الإسرائيلي في القاهرة، وصولاً إلى استقبال الحكومة التونسية الجديدة إسماعيل هنية، رئيس وزراء الحكومة الفلسطينية في غزة لكن ذلك لايستطيع أن يجيب "عن السؤال الخاصّ بالموقع الذي تتبؤّأه فلسطين في تلك الثورات العربية"!.
Comments
Post a Comment