الجيل الجديد لتنظيم "القاعدة".. غياب المركزية وازدياد التطرف
د. هيثم مزاحم
مرّ تنظيم القاعدة خلال العقدين الأخيرين بثلاث مراحل أساسية أفضت إلى تبلوّر التنظيم ونمّوه وتشعّب فروعه وتطوّر استراتيجياته وتكتيكاته. الأولى هي مرحلة التأسيس وبدأت في أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي مع الشيخ عبد الله عزام وزعيم التنظيم أسامة بن لادن ثم تبلوّر التنظيم عام 1993 عندما بدأ بن لادن بجمع أنصاره من مختلف أنحاء العالم في السودان.
المرحلة الثانية، مرحلة العمل العسكري والأمني، بدأت عام 1996 بإعلان الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والنصارى والتي ضمت "قاعدة الجهاد" وتنظيمات أخرى، مثل تنظيم الجهاد الإسلامي المصري بزعامة أيمن الظواهري، و"الجماعة الإسلامية" المصرية بقيادة رفاعة طه. وتوّجت هذه المرحلة باعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2002.
أما المرحلة الثالثة فقد بدأت مع الغزو الأميركي للعراق في ربيع 2003، وهي مرحلة التوسّع اللا مركزي، وهي أتاحت للتنظيم تجميع صفوفه بعد الضربة التي تعرّض لها في الهجوم الأطلسي على أفغانستان وتدمير معسكراته وهروب قادته ومقتل المئات من كوادره. وخلالها إنطلقت "القاعدة" إلى قتال الأميركيين في العراق وأفغانستان، ومن ثم لتأسيس فروع جديدة لها في اليمن والمغرب العربي والصومال والصحراء الأفريقية وصولاً إلى سوريا وغزة وشبه جزيرة سيناء.
تزامن نجاح الولايات المتحدة الأميركية في اغتيال بن لادن في أبوت أباد - باكستان في أيار/مايو 2011، مع ثورات "الربيع العربي" التي تمكّنت من إسقاط عدد من الحكام الاستبداديين في العالم العربي، واندلاع انتفاضات واحتجاجات شعبية في دول أخرى. حينها ذهب بعض المحلّلين الغربيين إلى أن عصر "القاعدة" قد بدأ بالأفول وأن مقتل زعيمها بن لادن وتصاعد الحراك السلمي الديموقراطي في الدول العربية سوف يضعفان التنظيم المتطرف الذي تغذّى على السخط الشعبي على الأنظمة المستبدة وقمعها وفسادها وتبعيتها للغرب، إضافة إلى مظلومية قضية فلسطين والغزوات والتدخلات الغربية في المنطقة.
لكن "القاعدة" باتت اليوم أكثر قوة وخطراً وأوسع انتشاراً مما كانت عليه بين في الأعوام الماضية. فما هي أسباب تصاعد قوة هذا التنظيم وانتشاره الأفقي في العالم؟
يرى الباحث الأردني في شؤون الحركات الإسلامية حسن أبو هنية أن تنظيم القاعدة المركزي في باكستان وأفغانستان قد عانى كثيراً خلال السنوات الأخيرة كي يبقى منظمة فاعلة ومتماسكة، لكنه استغل مقتل بن لادن ومن ثم تعثّر ثورات "الربيع العربي" لجعل أيديولوجيته أكثر جاذبية وإحداث ولادة ثالثة للتنظيم أكثر قوة وأوسع انتشاراً. ويوضح أبو هنية أن الولادة الأولى تميّزت بقتال العدو القريب المحلي، فيما تميّزت الثانية بقتال العدو البعيد العالمي، بينما تميّزت الولادة الثالثة باندماج البعدين المحلي والعالمي. ويذهب أبو هنية إلى أن أن ولاء الفروع المنتشرة "للقاعدة" في العالم أصبح ولاءً للعقيدة بدون الارتباط التنظيمي، وذلك على غرار ارتباط الأحزاب الشيوعية بالأيديولوجيا الماركسية – اللينينية.
يرى الكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان، في كتابه "ما بعد بن لادن: القاعدة، الجيل التالي" الصادر أخيراً باللغة العربية، أن التنظيم قد طوّر نفسه إلى عقيدة أيديولوجية – سياسية لم تعد معتمدة على قيادة مركزية، ما سمح له بإنتاج نظام من الأمراء الإقليميين والوكلاء المحليين، فأصبح استهدافه والقضاء عليه أصعب كثيراً من قبل.
وينقل عطوان عن مصدر قريب من أمير "القاعدة" أيمن الظواهري أن الأخير لطالما شجّع كل بلد مسلم على امتلاك نسخته الخاصة من "القاعدة"، مشيراً إلى أن التنظيم بات يفضّل البنى القيادية الأفقية بسبب فقدان القادة دوماً عبر الاغتيالات. فلم تعد "القاعدة" تشبه المجموعة الأصلية التي تأسست في التسعينيات، إذ تضاءلت أهمية "المقر" وأصبحت قيادة الظواهري بمثابة هيئة توجيهية واستشارية لا قيادة تنظيمية عسكرية.
يشبّه عطوان شبكة "القاعدة" بـ"الشجرة المعمّرة التي تسهل رؤية أغصانها، لكنها مرتكزة على منظومة جذور قابعة تحت الأرض مخفية عن الأنظار ومتزايدة التشابك". ويقول إن المشكلة التي تجابه الذين يشنّون "الحرب على الإرهاب" هي أن قطع غصن ما، حتى لو كان كبيراً كبن لادن، "لا يجدي نفعاً في إضعاف الجذور التي تتغذى على مزيج خصب من المظالم والتطلعات".
الخبير في شؤون الحركات الجهادية الشيخ اللبناني عمر بكري، والمعروف بتأييده للقاعدة، قال في مقابلة خاصة مع "البديع" "إن تنظيم القاعدة ليس معسكراً واحداً لتكون له قيادة واحدة، وكل شخص له موقعه، فالظواهري هو أمير تنظيم القاعدة، كما يرأس مركز شورى حركات الجهاد في العالم ويترك الإدارة لكل فصيل. وعليه، فإنّ أبا بكر البغدادي البغدادي هو قائد الدولة الإسلامية أو الإمارة الإسلامية، بينما الظواهري هو أمير التنظيم ولكنه لا يتواجد في بلاد الشام". وأضاف: "اليوم يُعتبر البغدادي الإسم الأبرز في التنظيم، ولديه مشروع دولة إسلامية، يطبق الشريعة ويُعتبر من أبرز القيادات وهو أمير تنظيم جهادي ردد مراراً بأنّه سيحرّر الأرض، وهو اليوم قائد بكل ما للكلمة بعيون الكثيرين في العالم".
وعن الصراعات بين فروع "القاعدة"، وخصوصاً بين "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) و"جبهة النصرة" في سوريا، قال بكري: "هناك تنسيق بين المجموعات على أكثر من صعيد، وكل ما هنالك هو التباين في بعض الآراء ولا يشكل خلافاً وتضاداً، حيث الجميع متفق اليوم على محاربة بشار الأسد وتطبيق الشريعة. وما يميّز البغدادي بأنّه يريد أن يطبّق الشريعة فوراً. ليس هناك من تقاتل بل حوادث فردية بسبب عدم التنسيق المسبق، وبالطبع هناك تعاون وتنسيق عسكريان بين المجموعات".
بكري، وهو الزعيم السابق لتنظيم "المهاجرون" الأصولي في بريطانيا، اعتبر أننا اليوم "أمام الجيل الخامس من تنظيم القاعدة، "جيل أهل التوحيد والجهاد، ويمكن اعتباره بأنّه الجيل الأقرب الى أبي مصعب الزرقاوي".
لكن ما هي تمايزات الجيل الجديد على مستوى العقيدة والتكيتيكات والاستراتيجيات؟
يجيب الشيخ بكري: "يمكن وصف هذا الجيل بأنّه أكثر خبرة حيث تعلّم من خبرات الأجيال الماضية، مستفيداً من التجارب العملية ونشاطات الأجيال السابقة وأخطائها". ويضيف: "على مستوى العقيدة يقوم التنظيم على العقيدة السلفية وقد انتشرت العقيدة الجهادية أكثر مما كانت عليه في السابق. واستفاد هذا الجيل من تحوّل الربيع العربي إلى ربيع اسلامي وسقوط الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي".
ويعتبر بكري هذا الجيل بأنّه "أكثر وعياً وأشد قسوة في التعاطي مع العدو حيث لا يقبل بأية أخطاء أو تساهل، حيث كان يتم سابقاً التساهل مع بعض المشايخ. ولكن اليوم لن يقبل الجيل الجديد بأن تكون هناك صحوات جديدة تلغي وجود القاعدة كتنظيم"، في إشارة إلى الصحوات السنّية في العراق التي تعاونت مع القوات الأميركية لمحاربة "القاعدة" بين عامي 2007 و2009. ويعطى مثالاً: "إنّ ما يُسمّى بتنظيم داعش - والذي يتماهى مع تنظيم القاعدة ولكنه تنظيم مستقل - لا يقبل اليوم أن ينسحب من أرض القتال للحفاظ على وجوده وتنظيمه العقائدي، ولن يكرّر ما سبق أن فعلته بعض التنظيمات التي انسحبت مقابل جماعات أخرى".
أمّا على مستوى التكتيكات فيرى بكري أنّ "القاعدة" تستفيد اليوم من التقنيات الجديدة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، وأحدث أجهزة الاتصال والهواتف الجديدة، وأصبح للتيار "الجهادي" وجود على الشبكات الالكترونية، كما استفاد من الدعم المالي والمعنوي الذي زاد أخيراً.
أمّا على مستوى الاستراتيجيات، يرى بكري أنه بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية "أصبحت القضية المركزية هي إقامة الدولة الإسلامية ولم تعد القضية تحرير فلسطين..، فبعد تحرير الأرض والناس سيتم العمل على تحرير فلسطين وكل بقاع العالم من الظلم لتطبيق الشريعة الإسلامية في إمارة اسلامية شاملة".
أعلنت "القاعدة" عام 2005 استراتيجيتها حتى عام 2020، وشملت سبع مراحل لإحياء الخلافة الإسلامية، حيث تصبح في مرحلتها الرابعة "شبكة عالمية؛ مجموعة من المبادئ الهادية؛ عقيدة عابرة للحدود تجعل الانتساب إليها أو نيل تفويض منها أمراً سهلاً إلى درجة استثنائية". وقد بدأت هذه المرحلة بالفعل خلال العامين الأخيرين.
في المرحلة السادسة يتم "إسقاط الحكام الديكتاتوريين العرب المكروهين وإقامة الخلافة الإسلامية في الشرق الأوسط بكامله".
ولا شك أن "الربيع العربي" والفوضى الأمنية الناتجة عنه وتحوّل بعض الدول العربية إلى دول فاشلة، تسهّلان إقامة "القاعدة" لإماراتها في الكثير من هذه الدول بانتظار إعلانها "الخلافة الإسلامية".
مقالتي الجديدة
ReplyDelete