تنظيم "القاعدة" وليد اندماج الفكر السلفي والإخواني
د. هيثم مزاحم
اعتدنا بشكل شبه يومي على هجمات القاعدة الارهابية في العراق وأفغانستان ودول أخرى في الشرق الأوسط, وكذلك الغرب ودول العالم كلها, وتتهم حكومات البلدان المستهدفة الوهابيين و"السلفيين التكفيريين" بتنفيذ هذه الهجمات, شرحنا في مقال سابق عن تشكيل السلفية وفرعها المتطرف "الوهّابية" التي ترتكز على الفتاوى التكفيرية المتطرفة التي تشكك بإيمان بعض المسلمين, وسنركز في هذا المقال على تكوين تنظيم القاعدة نتيجة اندماج تيار في السلفية الوهابية وجماعات متطرفة من الإسلام السياسي.
فالسلفية هي مصطلح فضفاض يختلف تعريفه بين الباحثين. فهي ليست متجانسة في الرؤى والأفكار، بل هي تيارات متنوعة ومتباينة، وهي في كثير من الأحيان متضاربة في اتجاهاتها السياسية. وهي تفتقد الأشكال الحركية الموحدة في البلاد العربية، بل تتسم باختلافات داخلية واسعة وكبيرة، بينها الخلاف على «شرعية» من هو السلفي أولاً، وثانياً، وهو الأهم، الخلاف في شأن الموقف من العمل السياسي واستراتيجيات التغيير والإصلاح، ما بين مجموعات تؤمن بمبدأ «طاعة ولي الأمر»، أي قبول حكم المتغلب، ومجموعات أخرى تقوم على مبدأ «المفاصلة»، أي تكفير الحكام والخروج عليهم.
فتعريف السلفيين التقليديين للسلفية يختلف تماماً عن تعريف السلفيين الجهاديين لها. فعلي الحلبي، أحد شيوخ السلفيين في الأردن، يخرج تنظيم القاعدة والجهاديين من عباءة السلفية، ويرفض توصيفهم بذلك، ويعرفهم بـ«التكفيريين» وحفدة الخوارج. ويعرّف السلفية بأنها «دعوة للعلم والعبادة والعقيدة، والسلوك والمعاملات، والتربية والأخلاق...». ثم يحددها بأنها «أجل من أن تكون حزباً أو حركة أو تنظيماً»، مبعداً المنهج السلفي عن العمل الحركي والحزبي. فيستثني السلفية الجهادية والعمل السياسي من مفهومه للسلفية.
أما مقبل بن هادي الوادعي، شيخ السلفية التقليدية في اليمن، فيتجاوز الآخرين ويضع تعريفاً إجرائياً مفصلاً للدعوة والسلفية ومنهجها في كتابه «هذه دعوتنا وعقيدتنا»، يحدد فيه موقف السلفيين من الحكام، بعدم الخروج عليهم، ومن الأحزاب الإسلامية الأخرى برفض العمل السياسي.
في الطرف الآخر، نجد أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي)، وهو من أبرز منظري السلفية الجهادية، فيقول إن «السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى إلى تحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت... فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي الذي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية».
وينتقد المقدسي السلفية التقليدية متهماً إياها بأنها تركز على «شرك القبور» وتبتعد عن الواقع السياسي الحالي، أو ما يسميه بـ «شرك القصور»، أي الحكام والتشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية، والتعاون مع الغرب بما يناقض عقيدة الولاء والبراء لدى السلفيين.
هذا الاختلاف حول مفهوم السلفية وتعريفها نظرياً وواقعياً، دفع الباحثين في السنوات الأخيرة إلى إضافة وصف ثانٍ للتمييز بين الحركات والدعوات السلفية، كأن يقال السلفية العلمية، والسلفية التقليدية، والسلفية الإصلاحية، والسلفية الجهادية... الخ
هناك أربعة اتجاهات رئيسية في السلفية المعاصرة: الأول هو اتجاه الخط المحافظ أو العلمي والدعوي، وقد اختار الدعوة والتعليم، رافضاً مبدأ المشاركة السياسية، مركزاً جهوده على ما يعتبره تصحيحاً للجوانب العقائدية والعلمية والرد على العقائد والأفكار التي يعتبرها منحرفة (الشيعة، المعتزلة، والخوارج)، وداخل المجتمع السني على العقائد والفرق الصوفية والأشاعرة والماتريدية، وهي في أغلبها خلافات دينية ذات طابع عقائدي. يمثل هذا الخط بدرجة واضحة في السعودية كل من الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وقريب من هذا الخط الشيخ ناصر الدين الألباني في الأردن، وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر.
الاتجاه الثاني يقف على يمين الخط الأول سياسياً، وهو أكثر تشدداً ضد الأحزاب الإسلامية نفسها، وتقوم مقاربته على مبدأ «طاعة أولياء الأمور»، ورفض المعارضة السياسية لهم، ويكاد يكون متخصصاً في الرد على الإسلاميين والسلفيين الآخرين الذين اختاروا طريق العمل أو الخطاب السياسي المعارض. يمثل هذا الخط في السعودية أتباع محمد بن أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي، وفي اليمن مقبل بن هادي الوادعي وأتباعه، وأتباع ناصر الدين الألباني في الأردن، ومحمد سعيد رسلان وأسامة القوصي وهشام البيلي وطلعت زهران في مصر.
أما الاتجاه الثالث هو السلفية الجهادية، تقوم مقاربته على تكفير الحكومات العربية، ما قبل الربيع العربي، وتبني التغيير الراديكالي والمسلح في أوقات معينة. ويمثل هذا الخطاب الحاضنة الأيديولوجية لتنظيم القاعدة، ويتماهى تماماً مع خطها السياسي والحركي. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه: في الأردن، أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني؛ وفي المغرب محمد بن الفزازي وحسن الكتابي، وفي اليمن أنور العولقي، وفي سورية أبو بصير الطرطوسي.
يقف الاتجاه الرابع في الوسط، وهو تيار سلفي يجمع بين العقائد والأفكار الدينية السلفية من جهة، والعمل الحركي والمنظم أو حتى السياسي من جهة أخرى، ويؤمن بالإصلاح السياسي وسلمية التغيير، ومشروعية المعارضة، ورفض الخيار المسلح في إدارة الصراع الداخلي. ومن أبرز منظري هذا التيار، عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت، ومحمد بن سرور زين العابدين (الاتجاه الذي يطلق عليه السرورية)، وتيار الصحوة الإسلامية في السعودية، والشيخ محمد بن مقصود وتياره الفكري في مصر، وغيرهم.
مع ذلك، ثمة قواسم مشتركة بين السلفيين – عموماً – في العقيدة والفقه، سواء كانوا ضد العمل السياسي أو معه، أو ضد الأنظمة أو معها، تتثمل في منح الجانب العقائدي أهمية كبيرة في مواقفهم المختلفة، ومنح قضية التوحيد موقعاً مركزياً في خطابهم، من رفض مظاهر «الشرك «لدى الصوفية، مثل زيارة قبور الأولياء، أو التوسل بالنبي. لكنهم يختلفون اليوم بين من يركز على هذا الشرك التقليدي، والشرك الحديث المتمثل باتخاذ قوانين وشرائع أو أيديولوجيات تصادم الشريعة الإسلامية ولا تقر بوجوب تطبيقها.
والسلفية الجهادية هي اندماج عقيدة السلفية مع النهج السياسي والتنظيمي للمجموعة المتطرفة من الإخوان المسلمين. وقد استلهمت هذه المجموعة أفكارها من كتابات منظر الإخوان المسلمين، سيد قطب، وخصوصاً فكرة جاهلية الدول والمجتمعات المسلمة. وشكّل أتباع سيد قطب في مصر التيار القطبي في حركة الإخوان المسلمين، بعد ذلك شكل بعض المتطرفين منهم جماعات متطرفة متل التكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية، والجهاد الإسلامي بقيادة أيمن الظواهري الذي ألهم فكر تنظيم القاعدة وبعض تكتيكاتها وأساليبها.
أسامة بن لادن مؤسس والزعيم السابق لتنظيم القاعدة اتّخذ المنهج الوهابي السلفي من حيث العقيدة، وتأثر بأفكار وكتابات سيّد قطب والشيخ الباكستاني أبو الأعلى المودودي.
وقد تأثر بن لادن بفكر جماعة الإخوان المسلمين في مدرسته في السعودية حيث هرب الآلاف من الإسلاميين المصريين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي إلى المملكة في أعقاب قمع الجماعة من قبل نظام جمال عبد الناصر في مصر. وذهب بن لادن لاحقاً إلى أفغانستان في عام 1982 للمشاركة في الجهاد ضد الاتحاد السوفييتي الذي غزا أفغانستان عام 1979، والتقى هناك بالشيخ الفلسطيني عبدلله بن عزام، وهو كان من "الإخوان المسلمين"، وقد شجع بن لادن على جلب الأموال وتجنيد المقاتلين العرب الذين أصبحوا الجيل الأول من تنظيم القاعدة.
وفي عام 1998، شكل بن لادن والظواهري وغيرهما من المجموعات الأصولية المتطرفة "الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين"، وهي منظمة قامت تحت مظلة تنظيم القاعدة الذي دعا للجهاد ضد "الكفار" الذين يحتلون البلدان الإسلامية، وضد الحكام المستبدين في الدول المسلمة، وذلك من أجل تحرير العالم الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية أو الخلافة".
Comments
Post a Comment