رحلة في تاريخ النجف الأشرف



بقلم: د. هيثم مزاحم

مدينة النجف جنوب العراق(160 كلم جنوب العاصمة بغداد)، يطلق عليها الشيعة تسمية "النجف الأشرف" كونها تضم مرقد الإمام علي بن أبي طالب (599 - 661 م)، إبن عم النبي محمد وصهره، وأول المسلمين  بعد النبي محمد وزوجته خديجة، ورابع الخلفاء الراشدين، والإمام الأول عند الشيعة.


والنجف مركز المرجعية الدينية والحوزة العلمية لدى الشيعة الإثني عشرية، حيث يقيم فيها عدد من المراجع الشيعة بينهم أربعة من أكبر المراجع وعلى رأسهم المرجع الأكبر آية الله علي السيستاني. وتضم النجف نحو 40 حوزة أو مدرسة دينية لتخريج علماء الدين الشيعة من مختلف الأقطار في العالم.



وثمة خلاف بشأن أصل تسمية النجف، يقول البعض إن النجف معناه السد الذي يمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة ومقابرها. فالنجف تسمّى ظهر الكوفة لعلوّها وهي تبعد ستة عنها نحو ستة أميال.   


يقول البعض الآخر إن النجف كان ساحل بحر الملح المتصل بشط العرب، وكان يسمّى بحر "النيّ" ولما جفّ البحر قِيل: "النيّ جفّ" ثم لاحقاً دمجت الكلمتان وسقطت الياء فصار الاسم هو النجف. ومن الأسماء التاريخية للنجف، بانقيا، ظهر الكوفة، الغري، المشهد، الربوة، الطور، وادي السلام، والجودي، وهو الجبل المذكور في القرآن الذي استوت عليه سفينة نوح، وإن كان البعض يعتقد أن الجبل المذكور يقع في أرمينيا.



لكن تاريخ النجف، والتي هي مركز محافظة النجف، لا يقتصر على الشيعة والمسلمين، بل يتصل بتاريخ أديان أخرى وأنبياء آخرين منذ فجر البشرية. ويعتقد الشيعة أن آدم، أبا البشر، والنبي نوح، مدفونان في نفس  القبر الذي دفن فيه الإمام علي، وأن النبيين هود وصالح مدفونان في النجف في مقبرة وادي السلام، التي تعد أكبر مقبرة في العالم وأدرجت ضمن قائمة التراث العالمي، إذ تحتوي على نحو ستة ملايين قبر إذ يوصي الكثير من الشيعة والمسلمين بأن يدفنوا في جوار الإمام علي.


وتقول بعض الروايات الشيعية إن سفينة نوح بعد الطوفان رست في مدينة الكوفة، التي تبعد عن النجف نحو ستة أميال، وهناك شاهد في مسجد الكوفة حيث يعتقد بأنه مكان رسو السفينة التي حفرت حفرة في المكان. وفي ذلك المسجد الشهير، قتل الإمام علي وهو يصلي عام 661م، ولا يزال محجاً للزوار إضافة إلى منزل علي وزوجته فاطمة المجاور للمسجد.


وبعد ظهور قبر الإمام علي في النجف في القرن الثامن ميلادي، اتسع نطاق العمران في المدينة الصحراوية، حتى أصبحت مدينة عامرة. وفي عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن العاشر ميلادي أقيمت أول عمارة لقبر الإمام علي، ثم قام الملك البويهي الشيعي، عضد الدولة، في أواخر القرن نفسه بصرف أموال طائلة لتشييد مقام جميل للقبر.


وقد شهد المرقد، الذي يسمّى بالعتبة العلوية، عمليات ترميم وتجديد وتوسعة على مدار القرون الماضية، حيث تم ترصيع قبة المسجد ومئذنتيه وبعض أبوابه بسبائك الذهب والفضة، بفضل تبرعات بعض ملوك إيران من الصفويين والقاجاريين وآل بهلوي إضافة إلى تبرعات الزوار الشيعة من مختلف دول العالم.


وقال مصدر في الروضة العلوية إن عدد السبائك التي رُصعت بها قبة المسجد ومئذنتاه بلغت 7777 سبيكة.


ولأن النجف ضاحية من ضواحي الحيرة، عاصمة المناذرة، فقد اتخذوها منتزهاً لهم. والمناذرة سلالة ملكية عربية حكمت في الحيرة قبل الإسلام بين 268م و633م واعتنق أحد ملوكها المسيحية النعمان بن المنذر (403 – 431 م)، فانتشرت المسيحية فيها وبُنيت الأديرة فيها، ويقال إنه كان فيها 33 ديراً، وجدت مؤخراً بعض الآثار الدالة عليها في النجف.  


وبعد الفتح الإسلامي للعراق سنة 636م، بقيت الكنائس والمسيحيون فيها. ويروى أن الإمام علي مرّ أثناء خلافته في الكوفة بأحد الأديرة في الحيرة وكان الناقوس يدق ففسّر لأصحابه معاني دقات الناقوس وقال إن الناقوس يقول: "لا إله إلا الله حقاً حقاً. صدقاً صدقاً..".


وفي كانون الثاني / يناير 2013، أقيم قداس في دير عبدالمسيح بن بقيلة الرابض في حيرة النجف بحضور سفير البابا ومبعوثه الى الشرق الأوسط جورجيو لينكو وعدد من الرهبان وممثلي الديانات.


المدير السابق لآثار النجف محمد هادي الميالي يعتبر أن الحيرة كانت فاتيكان المسيحيين القدامى؛ ولذلك لا عجب من انتشار الكنائس والأديرة في الأراضي المنتشرة حولها، مشيراً إلى أنه، منذ ثلاثينات القرن العشرين، لم تتوقف التنقيبات، وقد اكتشف حتى الآن أكثر من 33 ديراً وكنيسة في النجف.


وقد سألت الشيخ جهاد الأسدي، وهو عالم دين وطالب مرحلة البحث الخارج في الحوزة الدينية في النجف، عن وجود اليهود في المدينة، خصوصاً أن هناك زقاقاً، يسمّى "عكد اليهودي"، فقال إنه حالياً لا يوجد أي عائلة يهودية في النجف، وإنما يوجد زقاق صغير (عكد) في المنطقة القديمة يحمل اسم "اليهودي" يقال إنه في القرن الماضي كان يقطنه يهودي، كان بائع قماش له محل صغير في العكد المسمّى باسمه. وكان اليهودي وزوجته يعدان من بقايا يهود الحيرة، وهم مجموعة صغيرة كانوا يعيشون بين ظهراني المسيحية آنذاك. وكان في النجف كنيس يهودي وقد تهدم منذ زمن طويل وتحوّل الى محلات تجارية.


وكانت نسبة اليهود في العراق تشكل 2.6% من مجموع السكان عام 1951، حيث سكنوا في المدن الرئيسية مثل بغداد والبصرة والموصل، وكذلك في السليمانية والحلة والناصرية والعمارة والديوانية والعزير والكفل وأربيل وتكريت.


وقد عبّرت الباحثة العراقية بتول الموسوي للنشرة عن آسفها لهجرة اليهود من العراق إلى الكيان الإسرائيلي، محمّلة الحكم العراقية أنذاك مسؤولية الهجرة القسرية لليهود في خمسينات وستينات القرن العشرين، معتبرة أن وجودهم كان سيساهم في تطوير العراق ونمو اقتصاده بسبب النشاط الاقتصادي والمالي لليهود، مشيرة إلى أن اليهود العراقيين قد ساهموا في بناء العراق حيث كان أول وزير مالية في الحكومة العراقية عام 1921 يهودياً ويدعى حزقيل ساسون.


وأغلب سكان النجف من المهاجرين، فبعضهم جاء من أطرافها ونواحيها. وفي ثمانينيات القرن الماضي، هاجر إليها الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية الذين تضرروا بسبب الحرب العراقية - الإيرانية كالبصرة والعمارة والناصرية، بينما تسكن في النجف عوائل من أصول غير عراقية من إيرانيين وهنود وباكستانيين وأفغان ولبنانيين، سواء من طلاب العلم في الحوزات الدينية وعائلاتهم، أو من الذين أرادوا العيش في جوار قبر الإمام علي حباً وشوقاً.


والزائر لمقام الإمام علي، يجد المئات من الزوار العراقيين والأجانب غير القادرين على الإقامة في فنادق المدينة، يفترشون باحات المقام الخارجية للنوم فيها، بينما يقوم مطعم المقام، الذي يسمّى "المضيف"، بتقديم وجبات الغداء والعشاء مجاناً للزوار والفقراء والضيوف.


أما الكوفة، وهي اليوم مدينة في محافظة النجف تبعد نحو 10 كيلومترات عن النجف، فهي قد بنيت بعد الفتح الإسلامي عام 636م، ثم أقام فيها الإمام علي بعد حرب الجمل نحو عام 657م، وأضحت عاصمة للخلافة الإسلامية لمدة أربع سنوات حتى مقتله خلال إمامته الصلاة في مسجد الكوفة.


وهكذا لا يمكن الفصل بين النجف والكوفة، فهما عملياً مدينة واحدة وإن كانتا مدينتين إدارياً، كما هي بيروت والضاحية، يجمعهما تاريخ واحد وتراث واحد ويوحّدهما الإمام علي سواء في مكان إقامته وحكمه وصلاته في الكوفة، أو في مرقده في النجف التي كان يزورها للصلاة والدعاء، كونها مرقد لأنبياء الله، آدم ونوح وهود وصالح.


وقد عُرفت الكوفة تاريخياً بأنها مدينة العلم والأدب والشعر والفلسفة. والخط الكوفي هو الخط العربي الذي منه تطورت باقي الخطوط العربية الأربع. كما عُرفت الكوفة بمدرستها اللغوية النحوية في مقابل مدرسة البصرة.


أما النجف فاشتهرت بالأدباء والشعراء في العصر الحديث، حيث برز منهم أبرز شعراء العرب المعاصرين الراحل محمد مهدي الجواهري والشاعر مصطفى جمال الدين.  


لكن زائر النجف يلاحظ إهمال السلطات في مجال البنى التحتية حيث الطريق من المطار إلى المدينة سيئة والمنازل على طول الطريق قديمة وعشوائية. وكان سؤال النشرة لعدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين العراقيين عما أنجزته الحكومات المتعاقبة للنجف منذ سقوط النظام صدام حسين عام 2003 أي خلال نحو 11 عاماً. البعض حاول التبرير بأن فترة الاحتلال الأميركي شهدت حروباً في النجف من مقاومة للاحتلال إلى الصراعات الداخلية، فيما قال البعض إن الحكام لم يحققوا شيئاً للعراقيين بسبب الفساد.


وعن دور المرجعية الدينية في النجف في تحسين وضع المدينة، قال عالم دين طلب عدم نشر اسمه، إنه لا توجد أموال كافية لدى المرجعية بسبب فتوى المرجع الديني الأعلى آية الله علي السيستاني بجواز صرف مقلّديه للحقوق الشرعية من أموال الخمس والزكاة على الفقراء والأيتام والمحتاجين مباشرة، بينما كان المرجع الراحل آية الله أبو القاسم الخوئي يرفض تصرّف المقلّدين بالحقوق الشرعية بأنفسهم. 

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية