العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية مراجعة كتاب:
"العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"
تأليف: أحمد داود أوغلو
مراجعة: د. هيثم مزاحم*(باحث وصحافي لبناني)
ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، مراجعة: بشير نافع وبرهان كوروغلو
(الدار العربية للعلوم – بيروت، مركز الجزيرة للدراسات - قطر – الطبعة الأولى – 2010، 645 صفحة)
كتاب "العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية" هو نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة، هي خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة. وما يميّز الكتاب هو تجاوزه للأطر النظرية المجردة؛ ليصوغ رؤية استراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية. هذه الرؤية وضعها المؤلف أحمد داود أوغلو قبل عشر سنوات في العام 2001 في النسخة التركية للكتاب، أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، وقبل سنوات من تبوؤ أوغلو لمنصب وزير الخارجية. وتمثل هذه النظرية الخطوط الرئيسة والاستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الحكومة، بل تجسدت واقعاً حياً ملموساً لكل متابع لتطورات الأحداث التركية داخل تركيا وخارجها، حيث توافر لداود أوغلو منذ توليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيراً للخارجية العام 2009، أن يعمل لتنفيذ هذه الرؤية وشهدنا بصماته في الانفراج في العلاقات التركية - العربية ومواقف تركيا من السياسات الإسرائيلية والأميركية في السنوات الأخيرة.
يقول أوغلو في هذا الصدد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه: "منذ صدور هذا الكتاب في طبعته التركية، وقعت متغيرات جذرية في السياسة الخارجية التركية، التي ما تزال تشهد عملية تغيير مستمرة إلى يومنا هذا. فمع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، اجتهدت الحكومة التركية لإعادة تعريف مبادئ السياسة الخارجية، وإعطاء هذه السياسة أبعاداً جديدة". ويشير أوغلو إلى أن التعريفات الجديدة للسياسة الخارجية التكرية لم تبقَ حبيسة أطرها النظرية، بل وجدت فرصتها للتطبيق والتفعيل، وأحرزت نجاحات باهرة وملموسة. ولعل أبرز الأمثلة على هذه النجاحات هو التحوّل الذي طرأ على علاقات تركيا بالدول العربية، التي باتت ترتكز إلى أرضية تضامنية ذات محور تعاوني، بعد أن كانت تخيم عليها أجواء الخلافات والنزاعات قبل ثماني سنوات".
ويؤكد أوغلو أن تركيا ترغب في تحويل هذا التضامن والتعاون في الشرق الأوسط إلى واقع راسخ ومؤثر على المدى البعيد، معتبراً أن مصيراً مشتركاً يجمع تركيا بالدول العربية، ولهذا فهي تعمل بكل ما أوتيت من جهد وتأثير على حل مشكلات المنطقة باعتبارها مشكلاتها الخاصة! كما تسعى إلى مقاربة متعددة الأبعاد، حيوية ومستديمة، تجاه كل الأقاليم الجغرافية المرتبطة بها، إذ تنظر تركيا إلى هذا التفاعل متعدد الأطراف على أنه لوحة فسيفسائية متناسقة الأجزاء ومتكاملة. ويشير في هذا السياق إلى دور تركيا في السعي إلى حل أزمات المنطقة وإلى إيمانها بضرورة الحوار السياسي.
وقد أضاف أوغلو إلى كتابه في ترجمته العربية فصلاً جديداً لم يكن موجوداً في طبعته التركية، يتناول أهم التطورات التي جرت منذ نشر الكتاب في العام 2001 وحتى يوليو 2010. ويتعلق الفصل بقراءة توجهات السياسة الخارجية التركية خلال هذه السنوات، ومكانة ووضعية تركيا الحالية في السياسة الإقليمية والعالمية.
تركيا بعد انتهاء الحرب الباردة
يقول المؤلف في تقديم الكتاب إن عملية تحديد الوضع الاستراتيجي لتركيا بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة وتقييمه من جديد، تعتبر أصعب من غيرها، لارتباطها بفهم طبيعة بناء هذه الدولة الديناميكي والمتغير إلى حد كبير، الدولة التي تعيش داخل محيط ديناميكي متبدل بشكل كبير كذلك. فتركيا تعيد بناء نفسها من جديد، وربما تعيش أهم تحوّلاتها التاريخية من جهة، وتتشكل ضمن محيط دولي ربما يشهد أهم تحوّلاته التاريخية من جهة أخرى.
ويلفت أوغلو إلى أن ما سيتم تناوله في هذا الكتاب من مواضيع يتعلق بوصف عملية التطور الديناميكي لهذه الدولة، مشيراً إلى أن التمهيد النظري الذي عرض فيه مفاهيم الوصف والتوضيح والتفسير والتوجيه، يشكل كل منها على انفراد أو معاً، عملية تفكير دقيق وعميق. ويقول إنه على الرغم من الصعوبات المنهجية الحادة، فإن هذا الصعوبات تحمل في طياتها تحليلاً استراتيجياً منسجماً من الناحية المنطقية، ومستوعباً لعاملي الزمان والمكان، وصالحاً للتعميم في جميع الأوضاع الدولية. ويعتبر أن ما تحتاجه الدولة اليوم أكثر من أي شيء آخر، هو مجموعة من أطر التحليل الاستراتيجي التي تقدم مجموعة من البدائل لوجهات النظر المختلفة، مشيراً إلى أن كتابه هذا يهدف إلى تقديم مساهمة متواضعة في هذا المجال.
ويرى أوغلو أن الباحث الذي لا يستطيع أن يوفق بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية العلمية يصعب عليه أن يحقق لشخصيته التماسك والانسجام، وأن يحقق الانتماء الاجتماعي والثقافي، وأن يكون له دور مؤثر في تكوين الواقع العالمي. وأي عالم أو مفكر لا بد أن يمتلك حساً انتمائياً لتعبيرات الزمان والمكان، أو التاريخ والجغرافيا، كأي إنسان، بل يجب أن يكون إحساسه هذا أقوى من إحساس أي إنسان آخر. فالحس الإنساني بالانتماء إلى القضايا الكونية والاهتمام بها، يستوجب الوعي العميق بهذا الوجود، وكذلك فإن الشعور بالانتماء إلى نشاط حضاري فاعل في زمان معيّن، يستوجب وعياً تاريخياً عميقاً. كما أن الأحاسيس التي يعكسها التفكير بمكان ما والانتماء إليه تستوجب إيجاد وعي استراتيجي وكذلك تعميق هذا الوعي. كذلك فإن الارتقاء من مستوى النموذج الأصغر للوعي في المستوى الشخصي إلى مستوى النموذج الأكبر للوعي في المجتمعات والحضارات والمستوى التاريخي ككل، هو في حقيقته بحث عن الكمال، وهذا ما تحققه كل بيئة ثقافية عن طريق تحديدها الذاتي لمعاني الحقيقة عندها.
ويسعى أوغلو من خلال كتابه إلى دراسة العمق الاستراتيجي الذي تبديه مستويات الوعي المذكورة أعلاه ضمن توازن بين المسؤوليتين الأخلاقية والعلمية، آملاً أن يشكل جسراً استراتيجياً، من جهة استيعابه لعامل الزمان، من الماضي إلى المستقبل، ومن جهة استيعابه لعامل المكان، من المركز نحو المحيط.
التمهيد النظري للتحليل الاستراتيجي
لعل التمهيد النظري الذي وضعه المؤلف للكتاب هو الأكثر أهمية وجدة فيه، إذ يوضح منهجه في فهمه لتركيا وتاريخها وإرثها التاريخي والثقافي ومحيطها الجيواستراتيجي وفي وضع رؤيته الاستراتيجية لسياساتها الداخلية والخارجية بناء على هذين المعطيين: التاريخ/ الزمان، والجغرافيا/ الزمان. فالأبحاث الاجتماعية، وكذلك في مجال العلاقات الدولية، تأخذ خمسة أبعاد رئيسية هي: الوصف، والتوضيح، والفهم، والتفسير، والتوجيه. ويعتمد الوصف على رسم صورة لموضوع البحث حسب الشكل الذي شوهد عليه. أما الهدف الأساس لبُعد التوضيح فهو استخراج الديناميكيات التي تبدو من خلال عملية معاشة، أو ظاهرة ملاحظة في إطار العلاقات السببية للحدث (السبب ــ النتيجة). ويتطلب الربط بين الوصف والتوضيح إيجاد مجموعة من المفاهيم المنسجمة بعضها مع بعض، ولا بدّ أن يرتبط الانتقال من مستوى "الوصف" إلى مستوى "التوضيح" بتطوير إطار مفاهيمي جديد، وهكذا دواليك. أما الفهم الذي يعطي عمقاً لبعد التوضيح، فإنه يستلزم استيعاب الظواهر في إطار عملية منطقية. فعملية التوضيح هي محاولة لإيجاد العلاقة السببية بين الظواهر محل البحث، فيما يستهدف الفهم محاولة الوصول إلى حقيقة الظاهرة من خلال التصورات الذهنية عنها، ويتطلب هذا عملية تجريد ذهني منسجمة ومنظمة.
أما التفسير فيعني امتلاك موقف يكسب هذه الرؤية اتجاهاً معيّناً. وكما أن "وصف" كل ظاهرة من الظواهر منفردة أو إمكانية "توضيحها" في بعد متقدم، لا يعني تحقيق "فهمها"، فإن فهم كل ظاهرة على حدة لا يعني بالضرورة إمكانية "تفسيرها" بشكل متكامل، لأن التفسير يتطلب موقفاً أصيلاً، وإطاراً نظرياً جوهرياً ومبتكراً. وعلى كل محاولة للتفسير أن ترتكز على إطار نظري منسجم ومتماسك من الداخل. وتعتبر عملية الانتقال من الملاحظة إلى وضع المفاهيم، ومن وضع المفاهيم إلى الفهم التجريدي، ومن التجريد إلى النظرية، المفاتيح المنهجية للانتقال من "الوصف" إلى "التوضيح"، ومن "التوضيح" إلى الفهم"، ومن "الفهم" إلى "التفسير".
أما "التوجيه" فهو إمكانية استخراج النتائج من إطار "التفسير"، والتأثير في الظواهر والعمليات بناء على هذه النتائج. ولا بد لمحاولة "التأثير" هذه أن تحفز ساحة المسؤولية السياسية والاجتماعية، والتي تفعل بدورها البعد الأخلاقي للجهود المبذولة في هذا المجال. وبينما بتقى الأبعاد الأربعة المذكورة على أرضية ذهنية، يشكل البعد الخامس(التوجيه) جسراً بين العمليات الذهنية وبين عملية التطبيق. ويعتبر هذا الوضع متداولاً في مجال العلاقات الدولية إلى حد كبير، حيث تشكل الأبعاد الأربعة الأولى مراحل ذهنية للوصول إلى البعد الأخير، التوجيه، عند كثير من المحلّلين الاستراتيجيين الذين أحدثوا تأثيراً في الاستراتيجيات لبلادهم، أمثال ماكيندر وماهان وسبكمان وبول كينيدي، وصاموئيل هانتنغتون.
وفي عملية التوجيه، ينحو الباحث إلى أن يحلّل الظواهر ويصبغها بالصبغة التي عليها مجتمعه أو دولته أو حضارته التي ينتمي إليها، فنرى أن هانتينغتون، الذي بدأ مسار حياته كعالم اجتماع قد قدم مثالاً نموذجياً على ذلك من خلال ربطه بين الإطار النظري الذي وضعه وبين منظار الاستراتيجية الأميركية في دراسته "صراع الحضارات". ومن خلال التصنيفات التي طرحها في دراسته السابقة تحت عنوان "الغرب والبقية"، نرى أن هانتنغتون قد وضع إطاراً "تفسيراً" كمقياس ذهني، وبيّن في نهاية دراسته بشكل مباشر توصياته الاستراتيجية للمسؤولين الأميركيين في إطار عملية "التوجيه".
ويعتبر أوغلو أن العلاقة بين موضوعية "الوصف" التوضيحي وبين ذاتية "التفسير" الموجّه، تشكّل إحدى أهم نقاط ضعف التحليلات الاستراتيجية. كما تبقى الأعمال التي لا تستطيع تجاوز مشكلة الموضوعية ــ الذاتية في مستوى "الوصف"، وتفقد قدرتها على التعميم، وتفقد كذلك قدرتها على إثبات موضوعيتها في مستوى "التوجيه".
وهو يرى أن كل تحليل متين ودائم لا بدّ أن يحتوي في داخله على جميع المكوّنات أو الأبعاد الخمس المذكورة سلفاً، مشيراً إلى أن ما يقصده من كلمة "العمق" في عنوان الكتاب من الناحية المنهجية، هو تبنّي أسلوب يفسر عمق الظواهر والعمق الجيوسياسي والاستراتيجي، وبناءً على هذا العمق المنهجي، يحقق هذا الأسلوب التكامل الداخلي المطلوب. لذلك فإن الشرط الأساس لإمكانية القيام بتحليل استراتيجي يتصف بالعمق، هو عدم البقاء تحت تأثير المشاهد الخادعة للصور الساكنة التي تستند إلى تصورات مرحلية للظواهر، وعدم تحوّل الوصف إلى وصف سطحي يهمل البعدين الزمني والجيو استراتيجي. من هنا يجب ترك بساطة "الوصف" أحادي الأبعاد، وتبني عملية تحليل متعددة الأبعاد، إذ يستحيل لاي تحليل استراتيجي ملاحظة الانزلاقات الاستراتيجية وتفسيرها في حال أهمل عملية الجريان التاريخي وتطوره.
إن التحليل المعمق والقادر على تحقيق التكامل والتناسق في موضوع العلاقات الدولية يستوجب وجود نظرية مبنية على فروع المعرفة المختلفة. فالصورة السياسية والدبلوماسية التي تبدو من ظاهرة ما في مجال العلاقات الدولية تشبه الجزء البارز فوق سطح الماء من الجبل الجليدي. فكما أنه من الصعب الوصول إلى أحكام صحيحة حول الجبل الجليدي من خلال هذا الجزء، فإنه كذلك من الصعب الوصول إلى نتائج صحيحة للظواهر في مجال العلاقات الدولية من خلال ظواهرها فقط. فتفسير عملية ما يتطلب عمقاً تاريخياً يستوعب عامل الزمن، وعمقاً جغرافياً يستوعب عامل المكان. يحقق العمق التاريخي دخولنا إلى روح الأحداث، ويحقق العمق الجغرافي دخولنا إلى المجال المادي الذي تجسدت فيه هذ الروح.
خصوصية تركيا في الدراسات الاستراتيجية
وعليه، فإن أي عمل علمي يهدف إلى دراسة وضع تركيا في الساحة الدولية، يتوجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الضرورات المنهجية. مثلاً، إن الوصف الذي يعرف تركيا بأنها "دولة قومية حديثة ظهرت على المسرح التاريخي في القرن العشرين" لا يمكنها الإجابة عن السؤال التالي: لماذا وجدت تركيا نفسها أمام مشاكل شاملة في علاقاتها الدولية أكثر من أي دولة قومية حديثة أخرى ظهرت في القرن العشرين؟". لكن إذا أضفنا أبعاداً جديدة للتعريف المذكور بقولنا إن تركيا "دولة قومية حديثة قامت على ميراث الدولة العثمانية، إحدى الإمبراطوريات التاريخية الثماني ذات القوميات المتعددة، والتي خضعت لسيطرتها مناطق أورو ـ آسيوية، نكون قد قدمنا وصفاً يحتوي معياراً تاريخياً يميّز تركيا عن عدة دول تشبهها، ويشكل في الوقت نفسه أرضية للأطر التوضيحية في هذا المجال. كذلك عندما نقول إن تركيا "دولة قومية حديثة تقع في التأثير المتبادل لمجموعة العناصر الجيوسياسية الأساسية الموجودة في القارة الأساسية للعالم" نكون قد قدمنا وصفاً يفتح المجال أمام بعد توضيحي يميّز هذه الدولة عن غيرها.
إن الوضع الدولي الثابت خلال فترة الحرب الباردة، الذي جعل هيكل السياسة الخارجية أكثر سكوناً واستقراراً، شكّل عائقاً أمام تحديد العمق التاريخي والجغرافي لجميع المجالات الاستراتيجية. في مقابل ذلك، فإن الوضع الدولي الديناميكي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، الذي سمح بتنشيط العوامل الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية، قد فتح المجال أمام تأثيرات العمقين التاريخي والجغرافي لتطفو على سطح المجالات الاستراتيجية، وفي نقلات مفاجئة وسريعة. ومن الأمثلة على ذلك، التحوّل السريع من حالة الاستقرار التي كانت سائدة في البلقان في مرحلة الحرب الباردة إلى حالة عسيرة من الغموض والفوضى والاقتال بعد فترة زمنية قصيرة من انتهائها.
ويعتبر أوغلو أن تركيا دولة محورية في مركز الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، وهي دولة ممزقة، على مستوى الهوية. وهذا ما يستلزم تغييراً في طبيعة البنية الديناميكية لتركيا، من حيث إنها تمثل بنية ديناميكية ذات مقياس صغير، توجد ضمن إطار ديناميكي عالمي ذي مقياس كبير. ويؤدي مثل هذا الوضع إلى تكوين أبعاد "وصف" و"توضيح" متنافرة باتجاهين متعاكسين، وهو ما يؤدي بدوره إلى وجود تمايز جذري في مستويات "الفهم" و"التفسير" بين الاستراتيجيين الذين يتخذون مواقف مختلفة. ويرى أوغلو أن التخبط الفكري الذي تشهده تركيا على مستوى صانعي القرار السياسي أو على مستوى المفكرين والمثقفين ناجم عن تأثير كل ما نتج عن كل من البناءين الديناميكيين كمظاهر فوضوية، من دون النفاذ إلى أبعاد العمق التاريخي والجغرافي، ومن ثم إنشاء إطار تفسيري متكامل ومتناسق. إذ في كل مرحلة جديدة يشهد فيها النظام الدولي تحوّلاً ديناميكياً، تقع التصوّرات الاستراتيجية المتعلقة بتركيا في مشكلة عدم انسجام جديدة. ويتطلب مثل هذا الانسجام تفسيراً جديداً للعمق التاريخي والجغرافي لتركيا.
فتركيا تقف أمام مفترق طرق مهم في تاريخها، وإذا ما استطاعت تحقيق تكامل بين عمقها التاريخي والجغرافي، مع تخطيط استراتيجي حقيقي، ستتاح لها فرصة أكبر من أجل التأثير في هذه الديناميكية مزدوجة الأقطاب من أجل أن تتحوّل إلى قوة تستطيع أن تحقق نقلة نوعية. إن دراسة أبعاد الوصف والتوضيح والفهم والتفسير والتوجيه بشكل متكامل، سواء على صعيد عناصر ديناميكيات تركيا الداخلية، أو على صعيد العناصر الديناميكية ذات المقياس الدولي والقاري والإقليمي في العلاقات الدولية، سيحول دون قصور النظرية الاستراتيجية، وهو الشعور المنتشر في تركيا، ويعمل على طرح وجهات نظر بديلة في هذه المجالات.
يقول أوغلو: "إن كل مجتمع واعد يزعم بأنه يؤثر في التاريخ وليس كمًّاً مهملاً، وأنه يكتب التاريخ وليس يقرأه، إنما هو مجتمع مضطر أولاً لإعادة تفسير زمانه ومكانه، وبلورة وعي متجدد بعمقه الاستراتيجي: الجغرافي، والتاريخي، والحضاري". هذه هي الرؤية التي كان يحملها أوغلو منذ أن خطى أولى خطواته الأكاديمية في مجال العلاقات الدولية، واضعاً وطنه ومجتمعه في بؤره أهدافه البحثية. وقد درس بوعي النظريات الغربية، وقبل منها ورفض، إلى أن بلوّر نظريته الخاصة لاستعادة وطنه ومكانته التاريخية والحضارية داخل محيط السياسة الدولية ومنظماتها المعاصرة.
أهمية الشرق الأوسط في رؤية أوغلو
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب رئيسة تعرض لنظرية العمق الاستراتيجي، والتطبيقات المطروحة لها على الحالة التركية. ويحمل الباب الأول عنوان "الإطار المفاهيمي والتاريخي" ويتناول في فصوله الثلاثة "مقاييس القوة والتخطيط الاستراتيجي"، و"قصور النظرية الاستراتيجية والنتائج المترتبة على ذلك"، والإرث التاريخي ومكانة تركيا في الساحة الدولية، والبنية التحتية للثقافة السياسية التركية، وتطوراتها بعد انتهاء الحرب الباردة.
يشرح أوغلو في الباب الثاني وعنوانه "الإطار النظري: الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية"، في أربعة فصول نظرية العمق الاستراتيجي وعناصرها، مع التركيز على العمق الاستراتيجي التركي في المناطق ذات الارتباطات الجغرافية معها.
وأما الباب الأخير فيمثل القسم الأكبر من الكتاب، ويشتمل على الوسائل الاستراتيجية والسياسات الإقليمية التي ستحقق لتركيا مكانتها المرموقة في الساحة الدولية. ولعل ما يمكن التوقف عنده في الكتاب هو الحجم الذي حازته عليه منطقة الشرق الأوسط في الفصل الثالث في هذا الباب، من زاوية إبراز ماهية الدور الذي يمكن أن تضطلع به تركيا أن في المنطقة على نحو يعزز من مكانتها الدولية، مستفيدة من عمقها التاريخي والجغرافي والثقافي مع دول الشرق الأوسط.
ويُقَيم أوغلو السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط بقوله: "لقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط في الربع الأول من القرن العشرين وعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرة لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذري". ويؤكد على ضرورة أن تعنى تركيا "أولاً وقبل أي شيء، بتطوير وجهة نظرها على نحو يجعلها قادرة على التحسس المستمر لنبض العالم العربي، وتلمس إيقاع التغير الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد أولي للدبلوماسية التركية".
ويمكن تلخيص أطروحة أوغلو للاستراتيجية التركية تجاه الشرق الأوسط في عدة عناصر تمثل الركائز الأساسية التي يجب توافرها من أجل نجاح تركيا في انتهاج استراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية، وتؤسس لسياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين الأداء الدبلوماسي والعسكري، والتحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية.
ويعتقد أوغلو أن معطيي الجغرافيا والتاريخ معطيان أساسيان في تحقيق التوازن للجيوسياسية في الشرق الأوسط، من خلال إحداث التوازن للمثلث الاستراتيجي الحساس الذي يقع في أطرافه الثلاثة كل من: مصر وتركيا وإيران، وأن التوازنات الخارجية لهذا المثلث تشكل شبكة من العلاقات المتداخلة مع مثلث (العراق- سوريا- السعودية)، وأن على تركيا وهي تحلل التحالفات القائمة في الشرق الأوسط وتوازناتها المقابلة أن تنظر بعين الاعتبار إلى مثلث أصغر ظل مهملاً في هذه التوازنات، وهو مثلث (الأردن – فلسطين – لبنان، بالإضافة إلى شمال العراق مؤخراً) ذلك المثلث الذي يرتبط بعلاقة مجابهة مباشرة بإسرائيل والذي تتحدد توازناته من قبل العلاقات داخل المثلثات الخارجية.
ركائز الاستراتيجية التركية في المنطقة
ولعل أهم الركائز في هذه الاستراتيجية التركية في الشرق الأوسط هي، أولاً: التخفف من الارث التاريخي السلبي الذي خلف عوائق نفسية، باتت في العديد من اللحظات التاريخية عائقاً حقيقياً أمام الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة. ثانياً: الحرص على توفير فهم دقيق ومعمق قائم على عمل مراكز بحثية ومعاهد أكاديمية متخصصة، للمنطقة وتحوّلاتها. ثالثاً: العمل على التحرك وفق معادلة دقيقة بين التوازنات الدولية وبين السياسة الواقعية الإقليمية، ضماناً لعدم انتكاس الرؤية. رابعاً: تقديم مشروعات ومخططات شاملة للمنطقة بأسرها، تشجع مكوّناتها على التفاعل ضمن منظور مشترك. خامساً: المبادرة بتشكيل مجالات المصالح المشتركة التي تعزز السلام في المنطقة، ومن ثمة الحيلولة دون تشكل تكتلات قومية مضادّة تمثل ساحات أخطار جيوسياسية وجيوثقافية، وتعزيز العلاقات الثنائية لاحتواء أي ردود أفعال سلبية يمكن أن تثار وتنعكس سلباً على المنطقة، وتبني مقاربة عالية التأثير والفاعلية والمبادرة في كل مجالات المشكلات الإقليمية وخاصة عملية التسوية العربية – الإسرائيلية.
ويحمل أوغلو رؤية جديدة تدعو تركيا إلى أن تقيم علاقاتها وتجربتها المتراكمة بطريقة بعيدة عن الهواجس الأيديولوجية لتحدد بعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع العالم الإسلامي. ويقول إن "تركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله، كما أنها ليست في مواجهة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية. ولذلك فإن ردود الأفعال ذات البعد النفسي لن تتوقف عند التأثير على علاقات تركيا مع العالم الإسلامي بشكل سلبي فحسب، بل ستتعدى كذلك إلى تضييق ساحة مناورة تركيا الدبلوماسية في العمق الآسيوي والإفريقي كذلك".
وفيما يخص القضية الفلسطينية يرى أوغلو أن "تركيا يمكن لها أن تضطلع بدور دبلوماسي فعال بما تملكه من وضعية متميّزة؛ حيث أنها دولة مسلمة غير عربية"، فهي مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي عضو في حلف الأطلسي (الناتو) تتمتع بعلاقات استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة الأميركية. فإن حجم العلاقات التي يمكن لتركيا تفعيلها في هذا الإطار، إضافة إلى "ما تمتلكه تركيا من تراث تاريخي لمدينة القدس ووثائقها الأرشيفية، لهما كفيلان بإكساب تركيا وضعية دبلوماسية مهمة".
أما عن العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، فيرى أن هذه العلاقة لم تحقق لدولة مثل تركيا، وهي من أقوى الدول ذات العمق التاريخي والجغرافي في المنطقة، دوراً فعالاً في عملية السلام في الشرق الأوسط، وجعلتها تبدو وكأنها عنصر مهمل مهمش في هذه العملية.
وينظر أوغلو إلى العلاقات التركية ـ الإيرانية باعتبارها علاقات استوجبتها البنية الجيوسياسية متعددة الاتجاهات لدى كلا الدولتين، وأن ثمة ثلاثة أجنحة على الأقل تربط بين هاتين الدولتين هي: الشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى؛ إذ إن موقع الدولتين في غرب آسيا يفترض على كل منهما تطوير سياسات تراعي فيها كل دولة منهما الأخرى في السياسات المعنية بهذه المناطق، وفي ساحات التأثير المتبادل بين هذه المناطق.
وبالنسبة لمشكلة الأكراد داخل الشرق الأوسط وداخل تركيا خصوصاً، يعتقد أوغلو أن التوصل إلى حل دائم للمشكلة يكون من خلال تقوية مشاعر المرجعية الاجتماعية باعتبارها كلاً لا يتجزأ، ودعم العناصر التاريخية والدينية الثقافية والجغرافية التي تؤكد هذه المشاعر من جهة، وضمان الوعي بحق المساواة للمواطنين باعتباره أساس للشرعية السياسية، من دون الشعور بالحاجة إلى تدخل أي قوى خارجية، من جهة أخرى.
وفي الخلاصة فإن رؤية أوغلو لسياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط قد ارتكزت على ما تتمتع به تركيا من عمق استراتيجي تاريخي داخل المناطق العربية والإسلامية، وعلى الأوضاع الجيواستراتيجية والجيوثقافية والجيواقتصادية الراهنة في المنطقة. ويؤكد ذلك بقوله: "ولأن تركيا هي الوريث التاريخي لآخر كيان جامع جيوسياسياً، وجيوثقافياً، وجيواقتصادياً في المنطقة؛ فهي مضطرة إلى اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكنها من تجاوز هذه التمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، وتمكنها كذلك من الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلاً متكاملاً، ويجب عليها تطبيق هذه المقاربة مرحلياً في ظل مرونة تكتيكية".
تأليف: أحمد داود أوغلو
مراجعة: د. هيثم مزاحم*(باحث وصحافي لبناني)
ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، مراجعة: بشير نافع وبرهان كوروغلو
(الدار العربية للعلوم – بيروت، مركز الجزيرة للدراسات - قطر – الطبعة الأولى – 2010، 645 صفحة)
كتاب "العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية" هو نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة، هي خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة. وما يميّز الكتاب هو تجاوزه للأطر النظرية المجردة؛ ليصوغ رؤية استراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية. هذه الرؤية وضعها المؤلف أحمد داود أوغلو قبل عشر سنوات في العام 2001 في النسخة التركية للكتاب، أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، وقبل سنوات من تبوؤ أوغلو لمنصب وزير الخارجية. وتمثل هذه النظرية الخطوط الرئيسة والاستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الحكومة، بل تجسدت واقعاً حياً ملموساً لكل متابع لتطورات الأحداث التركية داخل تركيا وخارجها، حيث توافر لداود أوغلو منذ توليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيراً للخارجية العام 2009، أن يعمل لتنفيذ هذه الرؤية وشهدنا بصماته في الانفراج في العلاقات التركية - العربية ومواقف تركيا من السياسات الإسرائيلية والأميركية في السنوات الأخيرة.
يقول أوغلو في هذا الصدد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه: "منذ صدور هذا الكتاب في طبعته التركية، وقعت متغيرات جذرية في السياسة الخارجية التركية، التي ما تزال تشهد عملية تغيير مستمرة إلى يومنا هذا. فمع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، اجتهدت الحكومة التركية لإعادة تعريف مبادئ السياسة الخارجية، وإعطاء هذه السياسة أبعاداً جديدة". ويشير أوغلو إلى أن التعريفات الجديدة للسياسة الخارجية التكرية لم تبقَ حبيسة أطرها النظرية، بل وجدت فرصتها للتطبيق والتفعيل، وأحرزت نجاحات باهرة وملموسة. ولعل أبرز الأمثلة على هذه النجاحات هو التحوّل الذي طرأ على علاقات تركيا بالدول العربية، التي باتت ترتكز إلى أرضية تضامنية ذات محور تعاوني، بعد أن كانت تخيم عليها أجواء الخلافات والنزاعات قبل ثماني سنوات".
ويؤكد أوغلو أن تركيا ترغب في تحويل هذا التضامن والتعاون في الشرق الأوسط إلى واقع راسخ ومؤثر على المدى البعيد، معتبراً أن مصيراً مشتركاً يجمع تركيا بالدول العربية، ولهذا فهي تعمل بكل ما أوتيت من جهد وتأثير على حل مشكلات المنطقة باعتبارها مشكلاتها الخاصة! كما تسعى إلى مقاربة متعددة الأبعاد، حيوية ومستديمة، تجاه كل الأقاليم الجغرافية المرتبطة بها، إذ تنظر تركيا إلى هذا التفاعل متعدد الأطراف على أنه لوحة فسيفسائية متناسقة الأجزاء ومتكاملة. ويشير في هذا السياق إلى دور تركيا في السعي إلى حل أزمات المنطقة وإلى إيمانها بضرورة الحوار السياسي.
وقد أضاف أوغلو إلى كتابه في ترجمته العربية فصلاً جديداً لم يكن موجوداً في طبعته التركية، يتناول أهم التطورات التي جرت منذ نشر الكتاب في العام 2001 وحتى يوليو 2010. ويتعلق الفصل بقراءة توجهات السياسة الخارجية التركية خلال هذه السنوات، ومكانة ووضعية تركيا الحالية في السياسة الإقليمية والعالمية.
تركيا بعد انتهاء الحرب الباردة
يقول المؤلف في تقديم الكتاب إن عملية تحديد الوضع الاستراتيجي لتركيا بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة وتقييمه من جديد، تعتبر أصعب من غيرها، لارتباطها بفهم طبيعة بناء هذه الدولة الديناميكي والمتغير إلى حد كبير، الدولة التي تعيش داخل محيط ديناميكي متبدل بشكل كبير كذلك. فتركيا تعيد بناء نفسها من جديد، وربما تعيش أهم تحوّلاتها التاريخية من جهة، وتتشكل ضمن محيط دولي ربما يشهد أهم تحوّلاته التاريخية من جهة أخرى.
ويلفت أوغلو إلى أن ما سيتم تناوله في هذا الكتاب من مواضيع يتعلق بوصف عملية التطور الديناميكي لهذه الدولة، مشيراً إلى أن التمهيد النظري الذي عرض فيه مفاهيم الوصف والتوضيح والتفسير والتوجيه، يشكل كل منها على انفراد أو معاً، عملية تفكير دقيق وعميق. ويقول إنه على الرغم من الصعوبات المنهجية الحادة، فإن هذا الصعوبات تحمل في طياتها تحليلاً استراتيجياً منسجماً من الناحية المنطقية، ومستوعباً لعاملي الزمان والمكان، وصالحاً للتعميم في جميع الأوضاع الدولية. ويعتبر أن ما تحتاجه الدولة اليوم أكثر من أي شيء آخر، هو مجموعة من أطر التحليل الاستراتيجي التي تقدم مجموعة من البدائل لوجهات النظر المختلفة، مشيراً إلى أن كتابه هذا يهدف إلى تقديم مساهمة متواضعة في هذا المجال.
ويرى أوغلو أن الباحث الذي لا يستطيع أن يوفق بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية العلمية يصعب عليه أن يحقق لشخصيته التماسك والانسجام، وأن يحقق الانتماء الاجتماعي والثقافي، وأن يكون له دور مؤثر في تكوين الواقع العالمي. وأي عالم أو مفكر لا بد أن يمتلك حساً انتمائياً لتعبيرات الزمان والمكان، أو التاريخ والجغرافيا، كأي إنسان، بل يجب أن يكون إحساسه هذا أقوى من إحساس أي إنسان آخر. فالحس الإنساني بالانتماء إلى القضايا الكونية والاهتمام بها، يستوجب الوعي العميق بهذا الوجود، وكذلك فإن الشعور بالانتماء إلى نشاط حضاري فاعل في زمان معيّن، يستوجب وعياً تاريخياً عميقاً. كما أن الأحاسيس التي يعكسها التفكير بمكان ما والانتماء إليه تستوجب إيجاد وعي استراتيجي وكذلك تعميق هذا الوعي. كذلك فإن الارتقاء من مستوى النموذج الأصغر للوعي في المستوى الشخصي إلى مستوى النموذج الأكبر للوعي في المجتمعات والحضارات والمستوى التاريخي ككل، هو في حقيقته بحث عن الكمال، وهذا ما تحققه كل بيئة ثقافية عن طريق تحديدها الذاتي لمعاني الحقيقة عندها.
ويسعى أوغلو من خلال كتابه إلى دراسة العمق الاستراتيجي الذي تبديه مستويات الوعي المذكورة أعلاه ضمن توازن بين المسؤوليتين الأخلاقية والعلمية، آملاً أن يشكل جسراً استراتيجياً، من جهة استيعابه لعامل الزمان، من الماضي إلى المستقبل، ومن جهة استيعابه لعامل المكان، من المركز نحو المحيط.
التمهيد النظري للتحليل الاستراتيجي
لعل التمهيد النظري الذي وضعه المؤلف للكتاب هو الأكثر أهمية وجدة فيه، إذ يوضح منهجه في فهمه لتركيا وتاريخها وإرثها التاريخي والثقافي ومحيطها الجيواستراتيجي وفي وضع رؤيته الاستراتيجية لسياساتها الداخلية والخارجية بناء على هذين المعطيين: التاريخ/ الزمان، والجغرافيا/ الزمان. فالأبحاث الاجتماعية، وكذلك في مجال العلاقات الدولية، تأخذ خمسة أبعاد رئيسية هي: الوصف، والتوضيح، والفهم، والتفسير، والتوجيه. ويعتمد الوصف على رسم صورة لموضوع البحث حسب الشكل الذي شوهد عليه. أما الهدف الأساس لبُعد التوضيح فهو استخراج الديناميكيات التي تبدو من خلال عملية معاشة، أو ظاهرة ملاحظة في إطار العلاقات السببية للحدث (السبب ــ النتيجة). ويتطلب الربط بين الوصف والتوضيح إيجاد مجموعة من المفاهيم المنسجمة بعضها مع بعض، ولا بدّ أن يرتبط الانتقال من مستوى "الوصف" إلى مستوى "التوضيح" بتطوير إطار مفاهيمي جديد، وهكذا دواليك. أما الفهم الذي يعطي عمقاً لبعد التوضيح، فإنه يستلزم استيعاب الظواهر في إطار عملية منطقية. فعملية التوضيح هي محاولة لإيجاد العلاقة السببية بين الظواهر محل البحث، فيما يستهدف الفهم محاولة الوصول إلى حقيقة الظاهرة من خلال التصورات الذهنية عنها، ويتطلب هذا عملية تجريد ذهني منسجمة ومنظمة.
أما التفسير فيعني امتلاك موقف يكسب هذه الرؤية اتجاهاً معيّناً. وكما أن "وصف" كل ظاهرة من الظواهر منفردة أو إمكانية "توضيحها" في بعد متقدم، لا يعني تحقيق "فهمها"، فإن فهم كل ظاهرة على حدة لا يعني بالضرورة إمكانية "تفسيرها" بشكل متكامل، لأن التفسير يتطلب موقفاً أصيلاً، وإطاراً نظرياً جوهرياً ومبتكراً. وعلى كل محاولة للتفسير أن ترتكز على إطار نظري منسجم ومتماسك من الداخل. وتعتبر عملية الانتقال من الملاحظة إلى وضع المفاهيم، ومن وضع المفاهيم إلى الفهم التجريدي، ومن التجريد إلى النظرية، المفاتيح المنهجية للانتقال من "الوصف" إلى "التوضيح"، ومن "التوضيح" إلى الفهم"، ومن "الفهم" إلى "التفسير".
أما "التوجيه" فهو إمكانية استخراج النتائج من إطار "التفسير"، والتأثير في الظواهر والعمليات بناء على هذه النتائج. ولا بد لمحاولة "التأثير" هذه أن تحفز ساحة المسؤولية السياسية والاجتماعية، والتي تفعل بدورها البعد الأخلاقي للجهود المبذولة في هذا المجال. وبينما بتقى الأبعاد الأربعة المذكورة على أرضية ذهنية، يشكل البعد الخامس(التوجيه) جسراً بين العمليات الذهنية وبين عملية التطبيق. ويعتبر هذا الوضع متداولاً في مجال العلاقات الدولية إلى حد كبير، حيث تشكل الأبعاد الأربعة الأولى مراحل ذهنية للوصول إلى البعد الأخير، التوجيه، عند كثير من المحلّلين الاستراتيجيين الذين أحدثوا تأثيراً في الاستراتيجيات لبلادهم، أمثال ماكيندر وماهان وسبكمان وبول كينيدي، وصاموئيل هانتنغتون.
وفي عملية التوجيه، ينحو الباحث إلى أن يحلّل الظواهر ويصبغها بالصبغة التي عليها مجتمعه أو دولته أو حضارته التي ينتمي إليها، فنرى أن هانتينغتون، الذي بدأ مسار حياته كعالم اجتماع قد قدم مثالاً نموذجياً على ذلك من خلال ربطه بين الإطار النظري الذي وضعه وبين منظار الاستراتيجية الأميركية في دراسته "صراع الحضارات". ومن خلال التصنيفات التي طرحها في دراسته السابقة تحت عنوان "الغرب والبقية"، نرى أن هانتنغتون قد وضع إطاراً "تفسيراً" كمقياس ذهني، وبيّن في نهاية دراسته بشكل مباشر توصياته الاستراتيجية للمسؤولين الأميركيين في إطار عملية "التوجيه".
ويعتبر أوغلو أن العلاقة بين موضوعية "الوصف" التوضيحي وبين ذاتية "التفسير" الموجّه، تشكّل إحدى أهم نقاط ضعف التحليلات الاستراتيجية. كما تبقى الأعمال التي لا تستطيع تجاوز مشكلة الموضوعية ــ الذاتية في مستوى "الوصف"، وتفقد قدرتها على التعميم، وتفقد كذلك قدرتها على إثبات موضوعيتها في مستوى "التوجيه".
وهو يرى أن كل تحليل متين ودائم لا بدّ أن يحتوي في داخله على جميع المكوّنات أو الأبعاد الخمس المذكورة سلفاً، مشيراً إلى أن ما يقصده من كلمة "العمق" في عنوان الكتاب من الناحية المنهجية، هو تبنّي أسلوب يفسر عمق الظواهر والعمق الجيوسياسي والاستراتيجي، وبناءً على هذا العمق المنهجي، يحقق هذا الأسلوب التكامل الداخلي المطلوب. لذلك فإن الشرط الأساس لإمكانية القيام بتحليل استراتيجي يتصف بالعمق، هو عدم البقاء تحت تأثير المشاهد الخادعة للصور الساكنة التي تستند إلى تصورات مرحلية للظواهر، وعدم تحوّل الوصف إلى وصف سطحي يهمل البعدين الزمني والجيو استراتيجي. من هنا يجب ترك بساطة "الوصف" أحادي الأبعاد، وتبني عملية تحليل متعددة الأبعاد، إذ يستحيل لاي تحليل استراتيجي ملاحظة الانزلاقات الاستراتيجية وتفسيرها في حال أهمل عملية الجريان التاريخي وتطوره.
إن التحليل المعمق والقادر على تحقيق التكامل والتناسق في موضوع العلاقات الدولية يستوجب وجود نظرية مبنية على فروع المعرفة المختلفة. فالصورة السياسية والدبلوماسية التي تبدو من ظاهرة ما في مجال العلاقات الدولية تشبه الجزء البارز فوق سطح الماء من الجبل الجليدي. فكما أنه من الصعب الوصول إلى أحكام صحيحة حول الجبل الجليدي من خلال هذا الجزء، فإنه كذلك من الصعب الوصول إلى نتائج صحيحة للظواهر في مجال العلاقات الدولية من خلال ظواهرها فقط. فتفسير عملية ما يتطلب عمقاً تاريخياً يستوعب عامل الزمن، وعمقاً جغرافياً يستوعب عامل المكان. يحقق العمق التاريخي دخولنا إلى روح الأحداث، ويحقق العمق الجغرافي دخولنا إلى المجال المادي الذي تجسدت فيه هذ الروح.
خصوصية تركيا في الدراسات الاستراتيجية
وعليه، فإن أي عمل علمي يهدف إلى دراسة وضع تركيا في الساحة الدولية، يتوجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الضرورات المنهجية. مثلاً، إن الوصف الذي يعرف تركيا بأنها "دولة قومية حديثة ظهرت على المسرح التاريخي في القرن العشرين" لا يمكنها الإجابة عن السؤال التالي: لماذا وجدت تركيا نفسها أمام مشاكل شاملة في علاقاتها الدولية أكثر من أي دولة قومية حديثة أخرى ظهرت في القرن العشرين؟". لكن إذا أضفنا أبعاداً جديدة للتعريف المذكور بقولنا إن تركيا "دولة قومية حديثة قامت على ميراث الدولة العثمانية، إحدى الإمبراطوريات التاريخية الثماني ذات القوميات المتعددة، والتي خضعت لسيطرتها مناطق أورو ـ آسيوية، نكون قد قدمنا وصفاً يحتوي معياراً تاريخياً يميّز تركيا عن عدة دول تشبهها، ويشكل في الوقت نفسه أرضية للأطر التوضيحية في هذا المجال. كذلك عندما نقول إن تركيا "دولة قومية حديثة تقع في التأثير المتبادل لمجموعة العناصر الجيوسياسية الأساسية الموجودة في القارة الأساسية للعالم" نكون قد قدمنا وصفاً يفتح المجال أمام بعد توضيحي يميّز هذه الدولة عن غيرها.
إن الوضع الدولي الثابت خلال فترة الحرب الباردة، الذي جعل هيكل السياسة الخارجية أكثر سكوناً واستقراراً، شكّل عائقاً أمام تحديد العمق التاريخي والجغرافي لجميع المجالات الاستراتيجية. في مقابل ذلك، فإن الوضع الدولي الديناميكي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، الذي سمح بتنشيط العوامل الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية، قد فتح المجال أمام تأثيرات العمقين التاريخي والجغرافي لتطفو على سطح المجالات الاستراتيجية، وفي نقلات مفاجئة وسريعة. ومن الأمثلة على ذلك، التحوّل السريع من حالة الاستقرار التي كانت سائدة في البلقان في مرحلة الحرب الباردة إلى حالة عسيرة من الغموض والفوضى والاقتال بعد فترة زمنية قصيرة من انتهائها.
ويعتبر أوغلو أن تركيا دولة محورية في مركز الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، وهي دولة ممزقة، على مستوى الهوية. وهذا ما يستلزم تغييراً في طبيعة البنية الديناميكية لتركيا، من حيث إنها تمثل بنية ديناميكية ذات مقياس صغير، توجد ضمن إطار ديناميكي عالمي ذي مقياس كبير. ويؤدي مثل هذا الوضع إلى تكوين أبعاد "وصف" و"توضيح" متنافرة باتجاهين متعاكسين، وهو ما يؤدي بدوره إلى وجود تمايز جذري في مستويات "الفهم" و"التفسير" بين الاستراتيجيين الذين يتخذون مواقف مختلفة. ويرى أوغلو أن التخبط الفكري الذي تشهده تركيا على مستوى صانعي القرار السياسي أو على مستوى المفكرين والمثقفين ناجم عن تأثير كل ما نتج عن كل من البناءين الديناميكيين كمظاهر فوضوية، من دون النفاذ إلى أبعاد العمق التاريخي والجغرافي، ومن ثم إنشاء إطار تفسيري متكامل ومتناسق. إذ في كل مرحلة جديدة يشهد فيها النظام الدولي تحوّلاً ديناميكياً، تقع التصوّرات الاستراتيجية المتعلقة بتركيا في مشكلة عدم انسجام جديدة. ويتطلب مثل هذا الانسجام تفسيراً جديداً للعمق التاريخي والجغرافي لتركيا.
فتركيا تقف أمام مفترق طرق مهم في تاريخها، وإذا ما استطاعت تحقيق تكامل بين عمقها التاريخي والجغرافي، مع تخطيط استراتيجي حقيقي، ستتاح لها فرصة أكبر من أجل التأثير في هذه الديناميكية مزدوجة الأقطاب من أجل أن تتحوّل إلى قوة تستطيع أن تحقق نقلة نوعية. إن دراسة أبعاد الوصف والتوضيح والفهم والتفسير والتوجيه بشكل متكامل، سواء على صعيد عناصر ديناميكيات تركيا الداخلية، أو على صعيد العناصر الديناميكية ذات المقياس الدولي والقاري والإقليمي في العلاقات الدولية، سيحول دون قصور النظرية الاستراتيجية، وهو الشعور المنتشر في تركيا، ويعمل على طرح وجهات نظر بديلة في هذه المجالات.
يقول أوغلو: "إن كل مجتمع واعد يزعم بأنه يؤثر في التاريخ وليس كمًّاً مهملاً، وأنه يكتب التاريخ وليس يقرأه، إنما هو مجتمع مضطر أولاً لإعادة تفسير زمانه ومكانه، وبلورة وعي متجدد بعمقه الاستراتيجي: الجغرافي، والتاريخي، والحضاري". هذه هي الرؤية التي كان يحملها أوغلو منذ أن خطى أولى خطواته الأكاديمية في مجال العلاقات الدولية، واضعاً وطنه ومجتمعه في بؤره أهدافه البحثية. وقد درس بوعي النظريات الغربية، وقبل منها ورفض، إلى أن بلوّر نظريته الخاصة لاستعادة وطنه ومكانته التاريخية والحضارية داخل محيط السياسة الدولية ومنظماتها المعاصرة.
أهمية الشرق الأوسط في رؤية أوغلو
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب رئيسة تعرض لنظرية العمق الاستراتيجي، والتطبيقات المطروحة لها على الحالة التركية. ويحمل الباب الأول عنوان "الإطار المفاهيمي والتاريخي" ويتناول في فصوله الثلاثة "مقاييس القوة والتخطيط الاستراتيجي"، و"قصور النظرية الاستراتيجية والنتائج المترتبة على ذلك"، والإرث التاريخي ومكانة تركيا في الساحة الدولية، والبنية التحتية للثقافة السياسية التركية، وتطوراتها بعد انتهاء الحرب الباردة.
يشرح أوغلو في الباب الثاني وعنوانه "الإطار النظري: الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية"، في أربعة فصول نظرية العمق الاستراتيجي وعناصرها، مع التركيز على العمق الاستراتيجي التركي في المناطق ذات الارتباطات الجغرافية معها.
وأما الباب الأخير فيمثل القسم الأكبر من الكتاب، ويشتمل على الوسائل الاستراتيجية والسياسات الإقليمية التي ستحقق لتركيا مكانتها المرموقة في الساحة الدولية. ولعل ما يمكن التوقف عنده في الكتاب هو الحجم الذي حازته عليه منطقة الشرق الأوسط في الفصل الثالث في هذا الباب، من زاوية إبراز ماهية الدور الذي يمكن أن تضطلع به تركيا أن في المنطقة على نحو يعزز من مكانتها الدولية، مستفيدة من عمقها التاريخي والجغرافي والثقافي مع دول الشرق الأوسط.
ويُقَيم أوغلو السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط بقوله: "لقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط في الربع الأول من القرن العشرين وعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرة لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذري". ويؤكد على ضرورة أن تعنى تركيا "أولاً وقبل أي شيء، بتطوير وجهة نظرها على نحو يجعلها قادرة على التحسس المستمر لنبض العالم العربي، وتلمس إيقاع التغير الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد أولي للدبلوماسية التركية".
ويمكن تلخيص أطروحة أوغلو للاستراتيجية التركية تجاه الشرق الأوسط في عدة عناصر تمثل الركائز الأساسية التي يجب توافرها من أجل نجاح تركيا في انتهاج استراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية، وتؤسس لسياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين الأداء الدبلوماسي والعسكري، والتحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية.
ويعتقد أوغلو أن معطيي الجغرافيا والتاريخ معطيان أساسيان في تحقيق التوازن للجيوسياسية في الشرق الأوسط، من خلال إحداث التوازن للمثلث الاستراتيجي الحساس الذي يقع في أطرافه الثلاثة كل من: مصر وتركيا وإيران، وأن التوازنات الخارجية لهذا المثلث تشكل شبكة من العلاقات المتداخلة مع مثلث (العراق- سوريا- السعودية)، وأن على تركيا وهي تحلل التحالفات القائمة في الشرق الأوسط وتوازناتها المقابلة أن تنظر بعين الاعتبار إلى مثلث أصغر ظل مهملاً في هذه التوازنات، وهو مثلث (الأردن – فلسطين – لبنان، بالإضافة إلى شمال العراق مؤخراً) ذلك المثلث الذي يرتبط بعلاقة مجابهة مباشرة بإسرائيل والذي تتحدد توازناته من قبل العلاقات داخل المثلثات الخارجية.
ركائز الاستراتيجية التركية في المنطقة
ولعل أهم الركائز في هذه الاستراتيجية التركية في الشرق الأوسط هي، أولاً: التخفف من الارث التاريخي السلبي الذي خلف عوائق نفسية، باتت في العديد من اللحظات التاريخية عائقاً حقيقياً أمام الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة. ثانياً: الحرص على توفير فهم دقيق ومعمق قائم على عمل مراكز بحثية ومعاهد أكاديمية متخصصة، للمنطقة وتحوّلاتها. ثالثاً: العمل على التحرك وفق معادلة دقيقة بين التوازنات الدولية وبين السياسة الواقعية الإقليمية، ضماناً لعدم انتكاس الرؤية. رابعاً: تقديم مشروعات ومخططات شاملة للمنطقة بأسرها، تشجع مكوّناتها على التفاعل ضمن منظور مشترك. خامساً: المبادرة بتشكيل مجالات المصالح المشتركة التي تعزز السلام في المنطقة، ومن ثمة الحيلولة دون تشكل تكتلات قومية مضادّة تمثل ساحات أخطار جيوسياسية وجيوثقافية، وتعزيز العلاقات الثنائية لاحتواء أي ردود أفعال سلبية يمكن أن تثار وتنعكس سلباً على المنطقة، وتبني مقاربة عالية التأثير والفاعلية والمبادرة في كل مجالات المشكلات الإقليمية وخاصة عملية التسوية العربية – الإسرائيلية.
ويحمل أوغلو رؤية جديدة تدعو تركيا إلى أن تقيم علاقاتها وتجربتها المتراكمة بطريقة بعيدة عن الهواجس الأيديولوجية لتحدد بعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع العالم الإسلامي. ويقول إن "تركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله، كما أنها ليست في مواجهة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية. ولذلك فإن ردود الأفعال ذات البعد النفسي لن تتوقف عند التأثير على علاقات تركيا مع العالم الإسلامي بشكل سلبي فحسب، بل ستتعدى كذلك إلى تضييق ساحة مناورة تركيا الدبلوماسية في العمق الآسيوي والإفريقي كذلك".
وفيما يخص القضية الفلسطينية يرى أوغلو أن "تركيا يمكن لها أن تضطلع بدور دبلوماسي فعال بما تملكه من وضعية متميّزة؛ حيث أنها دولة مسلمة غير عربية"، فهي مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي عضو في حلف الأطلسي (الناتو) تتمتع بعلاقات استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة الأميركية. فإن حجم العلاقات التي يمكن لتركيا تفعيلها في هذا الإطار، إضافة إلى "ما تمتلكه تركيا من تراث تاريخي لمدينة القدس ووثائقها الأرشيفية، لهما كفيلان بإكساب تركيا وضعية دبلوماسية مهمة".
أما عن العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، فيرى أن هذه العلاقة لم تحقق لدولة مثل تركيا، وهي من أقوى الدول ذات العمق التاريخي والجغرافي في المنطقة، دوراً فعالاً في عملية السلام في الشرق الأوسط، وجعلتها تبدو وكأنها عنصر مهمل مهمش في هذه العملية.
وينظر أوغلو إلى العلاقات التركية ـ الإيرانية باعتبارها علاقات استوجبتها البنية الجيوسياسية متعددة الاتجاهات لدى كلا الدولتين، وأن ثمة ثلاثة أجنحة على الأقل تربط بين هاتين الدولتين هي: الشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى؛ إذ إن موقع الدولتين في غرب آسيا يفترض على كل منهما تطوير سياسات تراعي فيها كل دولة منهما الأخرى في السياسات المعنية بهذه المناطق، وفي ساحات التأثير المتبادل بين هذه المناطق.
وبالنسبة لمشكلة الأكراد داخل الشرق الأوسط وداخل تركيا خصوصاً، يعتقد أوغلو أن التوصل إلى حل دائم للمشكلة يكون من خلال تقوية مشاعر المرجعية الاجتماعية باعتبارها كلاً لا يتجزأ، ودعم العناصر التاريخية والدينية الثقافية والجغرافية التي تؤكد هذه المشاعر من جهة، وضمان الوعي بحق المساواة للمواطنين باعتباره أساس للشرعية السياسية، من دون الشعور بالحاجة إلى تدخل أي قوى خارجية، من جهة أخرى.
وفي الخلاصة فإن رؤية أوغلو لسياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط قد ارتكزت على ما تتمتع به تركيا من عمق استراتيجي تاريخي داخل المناطق العربية والإسلامية، وعلى الأوضاع الجيواستراتيجية والجيوثقافية والجيواقتصادية الراهنة في المنطقة. ويؤكد ذلك بقوله: "ولأن تركيا هي الوريث التاريخي لآخر كيان جامع جيوسياسياً، وجيوثقافياً، وجيواقتصادياً في المنطقة؛ فهي مضطرة إلى اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكنها من تجاوز هذه التمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، وتمكنها كذلك من الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلاً متكاملاً، ويجب عليها تطبيق هذه المقاربة مرحلياً في ظل مرونة تكتيكية".
Comments
Post a Comment