"الإخوان المسلمون" من التنظيم السري إلى رئاسة مصر(1928–2012) - بقلم: د.هيثم مزاحم


أتاحت ثورة "25 يناير" 2011 في مصر لجماعة "الأخوان المسلمين" حرية في التحرك السياسي العلني والجماهيري سواء من خلال المشاركة في التظاهرات المليونية في ميدان التحرير في القاهرة والمدن المصرية الأخرى أو عبر تأسيسها لحزب "الحرية والعدالة" كحزب يعبّر عن فكرها وأهدافها السياسية، ما مكّنها من الفوز بأغلبية نسبية في مجلسي الشعب والشورى وفي المجلس التأسيسي للدستور، ومن ثم فوز مرشحها الدكتور محمد مرسي في انتخابات الرئاسة. نشأة الإخوان المسلمين نشأت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 كحركة دينية إحيائية وكان مؤسسها الشيخ حسن البنا قريباً من الصوفية في شبابه الباكر حين انضم إلى الطريقة الحصافية، متأثراً بحلقة الذكر التي كان يقيمها الحصافيون عقب صلاة العشاء بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل. كما تأثر بكتاب شيخ الطريقة حسنين الحصافي، المعنوّن "المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي". يرى الباحث المصري الدكتور وحيد عبدالمجيد، في مكتابه "الإخوان المسلمون بين الماضي والمستقبل" الصادر عام 2010، أنه بخلاف ما يعتقده البعض أن "جماعة الإخوان المسلمين" نشأت دينية ثم تحوّلت إلى العمل السياسي عام 1938، فإن هذه الدعوة الدينية امتزجت عند المرشد حسن البنا بالفكرة السياسية منذ اليوم الأول لتأسيس الجماعة. فالتقسيم الزمني الصارم إلى مرحلتين متمايزتين، قبل عام 1938 وما بعده، لا أساس له في شخصية البنا وسيرته. ويضيف أن المؤتمر الخامس للجماعة الذي عقد في أيار / مايو 1938 لم يكن "أكثر من إعلان دخول للمعترك السياسي، ولم تكن أهداف مؤسس الجماعة الإمام حسن البنا صغيرة وكبرت، بل إن الجماعة التي اعتمد عليها لتحقيق هذه الأهداف كانت كبيرة منذ البداية." وكان تأييد الإخوان لثورة 1936 الفلسطينية كاشفًا أن توجهها السياسي لا يقتصر على مصر، بل لا يقف عند حدود فلسطين، التي ساهمت قضيتها في تعزيز دور الإخوان وزيادة شعبيتهم. وعلى الرغم من أن الهدف الذي حدده البنا للنظام الخاص هو مواجهة الاحتلال البريطاني في مصر، ومساعدة المجاهدين في فلسطين، فإن النظام الخاص نقل حركة الإخوان إلى مرحلة جديدة اتسمت بالعنف، وخصوصاً في الفترة ما بين عامي 1944 و1948، إذ أدى تفاقم الوضع في فلسطين إلى التوسّع في التدريب العسكري تحت شعار الإعداد للجهاد في سبيل القضية. استخدام العنف والصدام مع عبدالناصر يؤكد عبدالمجيد أن "جماعة الإخوان المسلمين" إنتقلت من العمل السلمي إلى العنف، حيث كان عام 1948 عام العنف المسلح في تاريخها، وكانت عملية اغتيال أحمد الخازندار في 22 مارس/آذار 1948 انتقاماً منه بسبب الحكم الذي أصدره في إحدى قضايا "الإخوان"، وظلت أعمال العنف تتصاعد حتى إصدار قرار حل الجماعة في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1948. ودفع الإمام حسن البنا حياته ثمناً للعنف السائد. وكان "الإخوان" قد انخرطوا في العمل السياسي منذ البداية، ودخلوا معتركه بقوة منذ النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، وبرغم دعوتهم إلى دولة إسلامية، إلا أنهم لم يكفّروا نظام الحكم في أي وقت، وهذا هو جوهر خلافهم مع جماعات العنف إلى جانب الخلاف مع أدوات التغيير. فجماعة "الإخوان" لا تؤمن بالتغيير من أعلى. لكنها لجأت إلى العنف في أربعينات القرن الماضي لمواجهة الاحتلال البريطاني وتحت تأثير القضية الفلسطينية، ولتأكيد قوتها في الداخل كذلك. لكنها اتهمت باستخدام العنف ضد خصوم سياسيين سواء عملية اغتيال القاضي أحمد الخازندار في 22 مارس/آذار 1948 بسبب أحكامه "المتعسفة" بالأشغال الشاقة المؤبدة على بعض شباب الإخوان لهجومهم على جنود بريطانيين في الإسكندرية وذلك في 22 نوفمبر 1947. وبعد حكم الخازندار بالسجن على المتهمين الإخوان، كشف عبدالرحمن السندي رئيس النظام الخاص للجماعة أن المرشد العام للجماعة الشيخ حسن البنا قال في اجتماع بجماعته "ربّنا يريّحنا من الخازندار وأمثاله"، وهو ما اعتبره أعضاء في التنظيم بمثابة "ضوء أخضر" لاغتيال الخازندار. وجاء كذلك اغتيال رئيس وزراء مصر النقراشي باشا في 28 ديسمبر/كانون الأول 1948، خلال العهد الملكي، والذي اتهمت به الجماعة. وكان النقراشي باشا قد أعلن في 8 ديسمبر/كانون الأول 1948 قراره بحل "جماعة الإخوان المسلمين" ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات. وفي 12 فبراير/شباط 1949، إغتال النظام الملكي الإمام حسن البنا وهو يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين حيث أصيب بطلقات عدة وتوفي بسبب فقده للكثير من الدماء بعد أن منعت الحكومة دخول الأطباء أو معالجتهم للبنا، وسمحت السلطات لأهله بدفنه مباشرة بشرط ألا يقام له عزاء. لقد أنهى الصدام الذي حدث بين "جماعة الإخوان" وثورة يوليو 1952 للضباط الأحرار بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر، مرحلة من تاريخ الجماعة حظيت فيها بالمشروعية، حيث كانت تتحرك في مجال الدعوة الدينية والعمل السياسي والنشاط الاجتماعي والرياضي، وذلك بعدما اتهمت الجماعة بمحاولة إغتيال عبدالناصر في مدينة الإسكندرية عام 1954، والذي استغله النظام لقمع الجماعة واعتقال قادتها وكوادرها وإعدام منظّرها الشيخ سيّد قطب، صاحب كتاب "ظلال القرآن" الشهير. ففي يوم 30 يوليو/تموز 1965 ألقت الشرطة المصرية القبض على شقيق سيد محمد قطب وقام سيد بإرسال رسالة احتجاج للمباحث العامة في تاريخ 9 أغسطس/آب 1965. أدت تلك الرسالة إلى إلقاء القبض على سيّد قطب والكثير من أعضاء الجماعة وحُكم عليه بالإعدام مع 6 آخرين وتم تنفيذ الحكم في فجر 29 أغسطس/آب 1966. خلال فترة الخمسينات والستينات القاسية على "الإخوان" إضطرت الجماعة للنزول تحت الأرض واللجوء إلى العمل السري، هرباً من قمع السلطات التي حاولت الإجهاز عليها واستئصالها بالقوة. ويرى الباحث عبدالمجيد في تفسيره للجوء "الإخوان" إلى العنف بأن العنف بالمعنى العام الواسع "لصيق بأية حركة سياسية أو اجتماعية أو دينية تؤمن بأهمية القوة المسلحة، سواء شملها أو لم يشملها، والأكيد أن القوة كانت موضع اهتمام حسن البنا منذ البداية". لكن الجماعة ظلت تنبذ العنف منذ عودتها إلى الحياة السياسية في أوائل سبعينات القرن الماضي، إذ اختلفت مع الجماعات الإسلامية الأكثر تشدداً كـ"الجماعة الإسلامية" و"التكفير والهجرة" ولاحقاً "تنظيم القاعدة"، والتي يمثّل العنف جزءاً من فكرها وتصوّرها للجهاد الديني. أما مفهوم تيار "الإخوان" للجهاد فهو أوسع كثيراً لأنه يؤمن بالتغيير من أسفل، ويغلب على نشاطه أسلوب العمل المجتمعي القاعدي. أما المتشددون أنصار العنف فهم لايعملون في المجتمع إلا في نطاق ضيّق للغاية، لأنهم يؤمنون بأن التغيير لايتحقق إلا من القمة، وهم يستثمرون نشاط السلفيين المجتمعي، من خلال استقطاب بعض الشباب الذين تهيئهم السلفية للتعصب. وهناك تقاطع بين السلفيين والعنفيين في بعض الركائز المعرفية مثل تكفير مرتكب الكبيرة. بينما يعتبر الإخوان مرتكب الكبيرة عاصياً على غرار التيار التقليدي الإسلامي الغالب. هرمية القيادة لدى "الإخوان المسلمين" تقوم العلاقة بين أعضاء الجماعة وقيادتها ممثلة في المرشد العام، على مبدأ السمع والطاعة المتضمن في البيعة، وفقاً للقسم الذي يقسمه عضو الجماعة. ويتكوّن البناء التنظيمي للجماعة من مستويين هما: الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد، بالإضافة إلى المركز العام للجماعة، إضافة إلى التكوينات الإدارية ونظام "الأسر" والأقسام الفنية واللجان الدعوية. وبسبب الطبيعة الدينية لفكر الجماعة، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار وجود جانب روحي في العلاقة بين زعيمها وأعضائها، ومن الصعب تجنب تأثيرات هذا الجانب على الممارسة الديمقراطية داخل الحركة. ويذهب البعض إلى أن مفهوم المرشد للجماعة وهذه العلاقة الروحية بين المرشد والأعضاء نقلها الإمام البنا من تجربته الصوفية، حيث العلاقة بين الشيخ المرشد ومريديه. كما يتقدم عامل العمر في الجماعة عامل المرتبة التنظيمية والقيادية. فالإخوان بذلك يشبهون مجتمعهم، حين يُقدّمون الشيخ على الشاب، والرجل على المرأة. فحين يتجرأ ناشط على أن يوجّه كلامه مباشرة الى المراقب العام من دون استئذان سيجد من يقول له: "اصمت، أنت في حضرة المراقب العام"، على حد تعبير الكاتب حازم الأمين في مقالته "جُبن الإخوان المسلمين موظّف في خدمة الجماعة والأمة"(صحيفة الحياة 8 تموز يوليو2012). واللافت أن جماعة الإخوان، خلافاً لمعظم الأحزاب السياسية المصرية آنذاك، قد عرفت أسلوب الانتخاب في اختيار قادتها، ولكن مع وضع قيود عليه أتاحت للمرشد العام الأول سلطات واسعة. أما عملية اتخاذ القرار فإن الشيخ البنا قد سعى إلى اتباع أسلوب التوافق في القرارات المهمة، لكي تصدر بالإجماع وليس بالأغلبية بقدر الإمكان، وهو أسلوب عادة ما يلجأ إليه رؤساء التنظيمات والأحزاب، الذين يتمتعون بمكانة كبيرة ليس فقط بين الأعضاء، ولكن أيضاً على المستوى القيادي في هذه التنظيمات. وعقدت "جماعة الإخوان" ستة مؤتمرات عامة بين عامي 1931 و1941، كانت المشاركة فيها محصورة في الأعضاء العاملين والمجاهدين، الذين يمثلون أعلى مراتب العضوية في الجماعة، أي أن أسلوب اختيار أعضاء المؤتمر العام كان أسلوبًا نخبويًّا وليس ديمقراطيًّا، حيث لم يقم على حق قواعد الجماعة في انتخاب مندوبين لهم إلى هذه المؤتمرات، ومع ذلك كان أداء هذه المؤتمرات يتسّم نسبياً بطابع ديمقراطي. ويحتل المرشد العام المرتبة الأولى في الجماعة باعتباره رئيساً لها، ويرأس معاً مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام (كان يسمّى الهيئة التأسيسية) وهما الهيئتان التنفيذية والتشريعية. ويُنتخب المرشد العام عن طريق مجلس الشورى العام ويجب أن يكون قد مضى على انتظامه في الجماعة مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة هلالية ولا يقل عمره عن أربعين سنةً هلاليةً، وبعد انتخابه يبايعه أعضاء الجماعة وعليه التفرغ تماماً لمهام منصبه للعمل في الجماعة، فلا يصح له المشاركة في أي أعمال أخرى عدا الأعمال العلمية والأدبية بعد موافقة مكتب الإرشاد عليها. ويظل المرشد في منصبه لمدة ست سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة. ويختار المرشد العام نائباً له أو أكثر من بين أعضاء مكتب الإرشاد العام، ويمكن لمجلس الشورى العام أن ينحي المرشد إذا خالف واجبات منصبه. وكان انتخاب المرشد لا يتم خلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك إلا بواسطة أعضاء مكتب الإرشاد بسبب احتياطات أمنية كانت تحول دون اجتماع مجلس الشورى العام، حيث قامت قوات الأمن المصرية في عام 1995 أثناء اجتماع المجلس بالقبض على غالبية المشاركين فيه، وتم تحويلهم إلى محاكمات عسكرية حكمت على كثيرين منهم بالسجن مدداً تتراوح من ثلاث إلى خمس سنوات. ومكتب الإرشاد العام إذاً هو القيادة التنفيذية العليا للإخوان المسلمين، وهو المشرف على سير الدعوة والموجّه لسياستها وإدارتها. ويتم اختيار أعضائه من طريق الاقتراع السري، ومدة العضوية فيه محدّدة بأربع سنوات هجرية. يتألف مكتب الإرشاد العالمي من 13 عضواً إضافة إلى المرشد العام. أما مجلس الشورى العام فهو السلطة التشريعية للجماعة، وقراراته ملزمة، ومدة ولايته أربع سنوات هجرية. وتتضمن مهامه الإشراف العام على الجماعة وانتخاب المرشد العام. ويتألف مجلس الشورى العام العالمي من ثلاثين عضواً على الأقل، يمثلون التنظيمات الإخوانية المعتمدة في مختلف الأقطار، ويتم اختيارهم من قبل مجالس الشورى في الأقطار أو من يقوم مقامهم. ويحدد عدد ممثلي كل قطر بقرار من مجلس الشورى. يقول "الإخوان" إن تمويل الجماعة ذاتي، أي يعتمد على تبرعات أعضاء الجماعة للأنشطة المختلفة التي يمارسها الإخوان حيث يدفع العضو اشتراكاً شهرياً للجماعة. التنظيم الدولي للإخوان المسلمين بعد سنوات قليلة من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إنطلقت الجماعة من مصر إلى خارجها، وكانت البداية إلى الأردن، ثم إلى الدول العربية القريبة جغرافياً من مصر. وسرعان ما انتشر فكر هذه الجماعة، فنشأت جماعات أخرى تحمل فكر الإخوان في الكثير من الدول، ووصلت الآن إلى 72 دولة تضم كل الدول العربية ودولاً إسلامية وغير إسلامية في القارات الست. ويرى الباحث وحيد عبدالمجيد أن ما يجمع هذه التنظيمات على امتداد العالم والعالم العربي خصوصاً، هو أقل بكثير مما يفصل بينها. كما أنه لم يحدث في أي وقت أن كانت هناك سياسة عامة ومواقف موحّدة لتنظيمات "الإخوان" تجاه القضايا المختلفة، ربما باستثناء قضية فلسطين. ويشير عبدالمجيد إلى أن الجامع الرئيسي في حركة التنظيم الدولي للإخوان هو أنه فكرة عامة وانتماء فضفاض وشعور بالتضامن والتساند، وحلم في رفع الراية المشتركة في سماء بلاد الأمة الإسلامية على امتدادها. أما الفاصل الرئيسي بين تنظيمات الإخوان فهو السياسة بمتغيراتها وتحوّلاتها وتقلّباتها، والمؤثرات الداخلية التي تختلف من بلد إلى آخر، والقضايا التي يتعين التعامل معها، على تنوّعها وتباينها من حالة إلى أخرى. وبالتالي فإن التنظيم الدولي لا يزيد عن كونه رابطة عامة معنوية، ولايجوز اعتباره تنظيمًا إلا على سبيل المجاز. ومن الخلافات بين التنظيمات القطرية الإخوانية: الموقف من الكفاح المسلح في فلسطين عقب هزيمة 1967، والصراع بين "الإخوان" والسلطة في سوريا في ثمانينيات القرن العشرين، والموقف من أزمة الغزو العراقي للكويت، وهي نماذج يستدل فيها الباحث عبدالمجيد كدليل على عدم وجود تنظيم حقيقي قوي على المستوى الدولي. إذ أثبتت تنظيمات "الإخوان" "افتقادها إلى قنوات للحوار الجاد وآليات لحل الخلافات التي يمكن أن تتفاقم وتسيء إلى الحركة في مجملها"، على حدّ قوله. لكن بعض الباحثين يرى أن ثمة تنظيماً دولياً للإخوان المسلمين يشرف على التنظيمات في جميع الأقطار وينظّم عملها وينسّق بينها. سياسة الحكم تجاه الإخوان من السادات إلى مبارك إثر فشل سياسة الاستئصال ضد جماعة الإخوان" التي اتبعها نظام جمال عبدالناصر (1952-1971) في فترة الخمسينات والستينات، تغيّرت أولويات الحكم في عهد السادات(1971-1981) باتجاه احتواء "الإخوان المسلمين"، وامتدت هذه السياسة في العقد الأول من عهد حسني مبارك (1981-1991)، لكنها شهدت تحولاً كبيرًا بشكل سلبي مع بداية عقد التسعينات، بعد أحداث الجزائر التي تلت إلغاء الانتخابات التشريعية في ديسمبر/كانون الأول 1991، نتيجة تفاقم مخاوف السلطة من الحركات الإسلامية في مصر، الأمر الذي جعل السياسة الرسمية تجاه الإخوان، تنحو نحو الاستبعاد بدلاً من الإدماج، ونحو المواجهة بدلاً من الاحتواء، وتجلّت بالتضييق على الإخوان، وتوجيه ضربات انتقامية إليهم، واتهامهم بالإرهاب، ومنعهم من خوض الانتخابات تحت اسم الجماعة لعدم شرعيتها القانونية كتنظيم منحل، وتزوير الانتخابات لمنع فوز ممثلي الجماعة المرشحين تحت لواء أحزاب أخرى. وبرغم حرص الإخوان على إدانة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المتشددة، وتوضيح موقفهم الإيجابي من الديمقراطية، إلا أنهم ظلوا عرضة للاعتقال والمضايقات والملاحقات والتشهير من قبل نظام مبارك، إلى أن اندلعت ثورة 25 يناير /كانون الثاني 2011، والتي شارك فيها الإخوان بقوة بعد أيام من بدئها، ما أسفر عن تنحّي مبارك وتفويضه صلاحياته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. نجحت قوى الثورة وفي مقدمتها جماعة الإخوان في دفع المجلس العسكري إلى إجراء انتخابات تشريعية حصد فيها الإخوان أغلبية نسبية وفاز مرشحهم الدكتور محمد مرسي في السباق الرئاسي ضد مرشح النظام الفريق أحمد شفيق، في حزيران يونيو الماضي. "برنامج الإخوان المسلمين" أثار أول مشروع طرحه "الإخوان المسلمون" عام 2007 لبرنامج حزبهم، الذي لم يتأسس أنذاك، جدلاً واسعاً. فكان هذا أول برنامج يقدمه "الإخوان" منذ عام 1953 عندما قدموا برنامجاً مقتضباً لم يستكملوه بسبب التدهور السريع في علاقتهم بنظام ثورة يوليو وصولاً إلى اتهامهم بمحاولة اغتيال عبدالناصر وشنّ حملة أمنية واسعة ضدهم. من هنا كان هناك شوق عارم لمعرفة رؤية "الإخوان" للحاضر والمستقبل في صورة متكاملة وفي وثيقة واحدة، بمنأى عن الغموض الذي اكتنف توجّهاتهم تجاه بعض القضايا لفترة طويلة. وشهد الجدل الذي أثاره هذا المشروع انتقادات حادة لبعض بنوده وهجوماً شديداً تجاوزه إلى الطعن في أهداف الجماعة ونواياها. يسجّل وحيد عبدالمجيد ملاحظتين أوليتين هما أن ما طرحه "الإخوان" كان مشروعاً مقترحاً لبرنامج الإصلاح طلبوا فيه من أهل الرأي والفكر تقديم مقترحات حوله من أجل التعاون لتحقيق النهضة الشاملة، وهذا توجّه إيجابي ينطوي على الانفتاح تجاه الآخر. لكن المطروح لم يكن برنامجاً نهائياً بل مشروع برنامج كما أسماه المرشد العام آنذاك محمدمهدي عاكف. أما الملاحظة الثانية فهي أن إقدام "الإخوان" على إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية بغض النظر عن أي اتفاق أو اختلاف وبمنأى عما يمثّله من تقدم أو تراجع مقارنة ببعض المواقف التي تبنّوها في السنوات الماضية. أما القضيتان في البرنامج اللتان أثراتا ردود فعل كبيرة فهما طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وموقع الأقباط والنساء فيها، وهما قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدى استعداد "الإخوان" للاندماج في نظام سياسي ديمقراطي يتطلع إليه الكثير من النخب المصرية، والتوافق مع الأحزاب والقوى الأخرى على مقوّمات أساسية لهذا النظام. فقد جاء في الباب الأول من المشروع، المسمى "الأهداف": وهي "تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقاً للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات". أما النقطة الثانية وهي حظر تولي الأقباط والنساء رئاسة الدولة في النظام الرئاسي، ورئاسة الوزراء في النظام البرلماني، فلم تقنع تفسيرات الإخوان للذين يخشون أن يؤدي هذا المشروع إلى دولة دينية. يرى عبدالمجيد "أن المسألة الديمقراطية عقدة أساسية بالنسبة إلى تيار الإخوان المسلمين منذ تأسيسه، وما زالت هذه العقدة مستمرة، فالإصرار على مرجعية أحادية للنظام السياسي هي الشريعة الإسلامية لا ينسجم مع أحد أهم مقوّمات الديمقراطية التعددية التنافسية المفتوحة". ويشير إلى ارتباك الإخوان على مدى نحو ثمانية عقود بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله، "فالنظام السياسي عندهم هو نظام ديمقراطي بالمعنى الإجرائي الذي يفهمه كل من يؤمن بالديمقراطية، نظام يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات، الأمر الذي يجيب بشكل واضح على سؤال كثيرا ما أربك حركات أصولية طورت خطابها السياسي باتجاه قبول الديمقراطية ولكن بصورة غامضة وهو: أين، إذن، موضع مفهوم الحاكمية لله في هذا الإطار؟". ويوضح عبدالمجيد أن الإخوان لم يستطيعوا أن يبددوا مخاوف الآخرين من مشروعهم السياسي أو الحد منها، وأن الأقباط ليسوا وحدهم الخائفين من مشروعهم، فهناك أيضاً المثقفون وتيارات سياسية أخرى، وهي مخاوف حقيقية وليست فقط من صنع الذين استخدموا الأصولية الإسلامية فزاعة من أجل أهداف يتوخونها. لكن الإخوان المسلمين"، وخصوصاً بعد فوز مرشحهم محمد مرسي بمنصب الرئاسة قد تعهدوا باحترام الديموقراطية وتداول السلطة والحريات الدينية والسياسية والفردية ومشاركة القوى الأخرى في الحكم والحرص على تمثيل الأقباط وطمأنتهم. كما أن الرئيس مرسي قد أعلن عن خروجه من جماعة "الإخوان" كي يكون رئيساً للمصريين كافة. الموقف الأميركي من الإخوان المسلمين أثار وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر، اللتين شهدتا ثورتين متتالتين بين نهاية 2010 وبداية 2011، شكوكاً بوجود تحالف غير معلن بين الإدارة الأميركية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، برعاية تركية وقطرية، إستدل عليه بعض المحلّلين برضوخ المجلس العسكري لنتائج الانتخابات الرئاسية ومباركته للدكتور محمد مرسي أول رئيس منتخب لمصر في تاريخها الممتد منذ عهد الفراعنة. لكن هذه الاتهامات تفتقد البرهان وتغلب عليها نظرية المؤامرة وتحتاج إلى معلومات وأدلة تؤكدها وقد لا يظهر صدقها من بطلانها قبل سنوات أو عقود. إلا أن ما يمكن قوله بثقة هو وجود تفاهم بين الأميركيين، ومعهم الغرب، وبين الإخوان المسلمين وراعيهم التركي حزب العدالة والتنمية الإخواني الأصل، بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. هذا التفاهم قد يسمح للإخوان بتسنّم السلطة في عدد من الدول العربية، على أن يكرروا التجربة التركية "الإسلامية المعتدلة" في نظر الغرب، والتي تعني أولاً احترام مصالح أميركا في المنطقة، وعدم المسّ بأمن إسرائيل، وعدم التحالف أو التقارب مع إيران، واحترام تداول السلطة والديموقراطية والتعددية والحريات وحقوق الأقليات الدينية والمرأة. يقول الباحث الأميركي بروس ك. روثرفورد الذي درس مستقبل النظام السياسي المصري ونشر كتاب "مصر بعد مبارك: الليبرالية والإسلام والديموقراطية في العالم العربي"عام 2008: "منذ ثورة 1952 هناك تياران سائدان في التحليل الغربي لدور جماعة الإخوان المسلمين في النظام السياسي المصري. أولهما يرى أن الجماعة فاعل قوي في النظام السياسي المصري لايمكن إغفاله عند الحديث عن الإصلاح السياسي في مصر. أما التيار الآخر فيرى أنها تختلف عن حزب الله وحماس والحركات الإسلامية في المنطقة التي تصنفها الولايات المتحدة جماعات "إرهابية" تهدف إلى تدمير الولايات المتحدة، ناهيك عن معارضتها المصالح الأميركية في المنطقة. وبين هذين التيارين هناك تيار من الباحثين والمحلّلين الغربيين يركز على تطوّرات داخل الجماعة وصعود قيادات شابة تؤمن بالمسؤولية والشفافية وحكم القانون، من دون أن يغفلوا تاريخ الجماعة المسلح وهدفها المتمثل في أسلمة المجتمع والنظام السياسي المصري". ورأى روثرفورد أن هناك تطوراً ليبراليّاً في جماعة الإخوان المسلمين مستنداً إلى مواقفها من حقوق المرأة، وتراجعها عن العنف ودورها السياسي في الانتخابات وتحالفها مع عدد من قوى المعارضة في الانتخابات، مشيراً إلى التأثير الشديد لأربعة مفكرين إسلاميين في أفكار الجماعة هم: الشيخ يوسف القرضاوي، وطارق البشري، وأحمد كمال أبو المجد، ومحمد سليم العوا مشيراً إلى أن هؤلاء الأربعة معتدلون في تفسيرهم للشريعة على عكس حركة "طالبان" في أفغانستان والسفليين المتشددين. ولعل أهم ما يميّز تيار "الإخوان" عن الحركات السلفية والجهادية المتطرفة هو منظوره الواسع الذي يشمل كل مناحي الحياة، ويتجاوز النهج السلفي الضيق، ويؤمن بالعمل السلمي التدريجي. ورغم أن الشيخ حسن البنا قد اعتبر السلفية مصدراً من مصادر دعوته، لكنه انتقد بشكل ضمني نهجاً غالباً في أوساط السلفيين عندما شرح طبيعة دعوته بقوله: "لقد فهم بعض الناس خطأ أن الإسلام قاصر على ضروب من العبادات والروحانيات. لكننا نفهم الإسلام فهماً فسيحاً ينظّم شؤون الدنيا والآخرة". ومعلوم أن التيار السلفي التقليدي قد عزف عن العمل السياسي المباشر حتى السنوات الأخيرة الماضية فقط حين قرر بعض أطيافه مراجعة هذا الموقف والانخراط في السياسة. الإخوان المسلمون وإسرائيل في 17 آذار/مارس 2011، أي بعد نحو شهر على تنحي مبارك، صرّح المتحدث الإعلامي باسم جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور سعد الكتاتني، الذي انتخب لاحقاً رئيساً لمجلس الشعب، لموقع CNN بالعربية، أن الجماعة تحترم جميع المعاهدات الموقعة بين مصر وإسرائيل، موضحاً "أن إعادة النظر فيها يرجع للشعب والأطراف التي وقعتها، إذا ما رأت أنها تحقق الهدف من إبرامها". وقال الكتاتني إن "الجماعة عارضت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حينما كانت تناقش، ولكن عندما تم توقيعها وأقرت أصبحت واقعاً ومعاهدة يجب احترامها"، مشدداً على أن "الجماعة تحترم جميع المعاهدات الدولية التي وقعتها مصر." ساهم هذا الموقف المبكر للجماعة في طمأنة أميركا وإسرائيل من أن وصول الإخوان إلى السلطة في مصر لن يؤثر على معاهد التسوية مع كيان الاحتلال إلاسرائيلي وعلى أمنها وعلى العلاقات الأميركية – المصرية. وقد اتبع هذا التصريح بتصريحات أخرى في هذا السياق للقيادي البارز في الجماعة الدكتور عصام العريان، وللرئيس المنتخب محمد مرسي، قبل فوزه بالرئاسة وما بعده، تؤكد ضمناً احترام "الإخوان" لمعاهدة السلام مع إسرائيل. والواقع أنه لا ينتظر من رئيس جديد خرج من جماعة عانت عقوداً من الاضطهاد والسجن أن تتحدى المجلس العسكري الحاكم والولايات المتحدة والغرب وإسرائيل في بداية عهده، خصوصاً أنه سيكون كرئيس انتقالي فهو لن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة ولا الرئيس التنفيذي، وستكون ولايته الرئاسية الأضعف منذ إنشاء الجمهورية المصرية بعد انقلاب 1952 الذي قام به الجيش ضد الملك فاروق. فمرسي لا يستطيع إعلان الحرب دون موافقة المجلس العسكري الذي سيكون القرار له من وراء الكواليس كما سيكون المحرك للأحداث. ويرى الباحث الأميركي اللبناني المختص بالحركات الإسلامية الدكتور فواز جرجس أنه يرجّح أن يكون القادة العسكريون قد سمحوا لمرسي بتولّي منصبه ضمن تسوية تنطوي على تولي الجيش شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية بينما يضطلع مرسي والإدارة المدنية بالتعامل مع الاقتصاد المتداعي والمؤسسات الهشة. وعليه فلن لن يحدث تغيّر نوعي في سياسة مصر الإقليمية والدولية، وسيبذل المجلس العسكري كل ما في وسعه للاحتفاظ بالقرارات المحورية في الأمن القومي، ولمنع مرسي من إدخال أي تغييرات على تحالفات مصر الدولية والإقليمية، بحسب الباحث المختص بالحركات الإسلامية الدكتور فواز جرجس. وسوف يتركز الصراع السياسي بين المجلس العسكري من جهة، والرئيس الجديد وجماعة "الإخوان" وحزبها "الحرية والعدالة" وقوى الثورة والتغيير من جهة مقابلة، على كتابة الدستور الجديد والانتخابات البرلمانية وتسليم الجيش جميع الصلاحيات للمؤسسات المدنية وطبيعة النظام السياسي هل سيكون رئاسياً أم برلمانياً. ولا شك أن مرسي سيتجه إلى التركيز على التحديات الداخلية السياسية والاقتصادية قبل التفكير في أي تغيير جذري في السياسة الخارجية. د. هيثم مزاحم باحث لبناني مختص بالشؤون السياسية والاستراتيجية والإسلامية.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية