في الصورة: بشير الكبتي، المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في ليبيا.
بیروت/ البدیع ـ لعب الإسلاميّون في ليبيا دوراً بارزاً في الثّورة اللّيبيّة منذ انطلاقتها في 17 شباط / فبراير 2011؛ فقد تجنّدوا كمقاتلين عسكريّين وشاركوا بفعاليّة في معارك مصراتة ومعركة تحرير طرابلس ثم تحرير سرت واعتقال القذّافي وقتله. ويتوقع أن يكون لهم دور في حكم ليبيا بعد فرز نتائج الانتخابات التشريعية التي يخوضها الإسلاميون بمختلف اتجاهتهم وبخاصة حزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الليبية.
كانت الحركةُ الإسلاميّةُ في ليبيا بتيّاراتها وأجنحتها المختلفة، مجهولةً بالنسبة إلى غير اللّيبيّين أو غير المُختَصِّينَ في الشّأن الليبيّ، نتيجة القمع والتّعتيم الإعلاميّ لنظام العقيد معمّر القذّافي من جهة، وضعف هذه الحركة ولجوئها إلى العمل السّريّ من جهة أخرى.
يقول الباحث الليبيّ محمود النّاكوع، وهو إخواني سابق نشر كتاب "الحركاتُ الإسلاميّةُ الحديثةُ في ليبيا: منطلقاتُها، قياداتُها، تجارِبُها، مآلاتُها"، عام 2010، إنه خلال البحث عن منطلقات وتراث الحركات والجماعات والأحزاب الإسلاميّة في ليبيا، لم يَعثُر على كتبٍ أو مجلّاتٍ ولا حتّى صُحفٍ صدرت عنها، فقد ضُيّق عليها في عهد القذّافي، ولم يُسمح بنشر أيّ تراث لها، حتّى لو كان تاريخيًّا قديمًا. وكان النّظام الليبيّ بشوكته الأمنيّة العسكريّة، وبقدراته الماليّة، وبعلاقاته الدّولِيّة قد انتصر على تلك الجماعات الصغيرة عددًا وعُدَّةً، وهو انتصارٌ فرضته ملابساتٌ وظروفٌ عِدَّةٌ، هي من طبيعة ليبيا جغرافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
ويرى النّاكوع أنّ الحركات الإسلاميّة استطاعت أن تُراجع فكرها وعملها مراجعةً سليمةً، وفي وضعٍ لا ضغوطَ فيه، عندها ستكون العِبَرُ مُثمرةً، وذاتَ جدوى، بل وذاتَ مستقبل. ولا شكّ في أنّ جميع الحركات والجماعات الإسلاميّة الليبية التي خاضت تجرِبة التّنظيم والعمل، ودخل بعضُها في صراعٍ ضدّ السّلطة، كانت متأثّرةً بما يجري في البلاد من تحوّلات ثقافيّةٍ وسياسيّةٍ صاحبتها أعمال عُنفٍ وصداماتٌ داميةٌ في الجامعات وخارجها (قبل ثورة 17 فبراير 2011)، كما كانت متأثّرةً بما كان يجري في المحيط الجغرافيّ العربيّ والإسلاميّ.
الاستقلال
نالت ليبيا استقلالها في 24 كانون الأول / ديسمبر 1951 بعد كفاح عسكريّ وسياسيّ دام نحو أربعين عامًا (1911-1951)، وجاء الاستقلال ثمرة التّضحيات التي قُدّرت بأكثر من نصف مليون ليبيّ. وأصبحت ليبيا، لأوّل مرّة في التّاريخ، دولةً مستقلّةً، لها دستورها ومؤسساتها التّشريعيّة، بنظامٍ ملكيٍّ اتّحاديٍّ. ونُصّب محمد إدريس السّنوسي، حفيد المصلح الإسلاميّ محمد علي السّنوسي (1787- 1859) مَلِكًا عليها. وكانت الوطنيّة هي البعدُ الثّقافيُّ الّذي أفرز كلّ النّشاطات والأحزاب في ليبيا، وكان الإسلام مصدرًا أساسيًّا في إلهام تلك التّيّارات الوطنيّة معاني الكفاح والثّبات والاستشهاد، خاصّة وأنّ الأمير إدريس، الزّعيم الرّوحي لذلك الحَراك، ينتسب إلى حركة إسلاميّة إصلاحيّة، هي الحركة السّنوسيّة.
تأخر ظهور الحركات الإسلاميّة، ولم تفرز المراحل السابقة لعام 1952 أيّ حركة أو تنظيم، أو حزب يُسمّى أو يستمدّ من الإسلام صفته السّياسيّة. وأدّى منع تشكيل الأحزاب بصورة قانونيّة وعلنيّة إلى خيار العمل السّرّيّ، ومن هنا كانت بدايات الحركات الإسلاميّة، وغيرها من الحركات القوميّة واليساريّة، وهو الذي سيقودها جميعًا إلى صراعات ومواجهات مع السُلطة الحاكمة. واتجهت مآلات هذه الأحزاب التّنظيميّة إلى أوضاع في غاية الصّعوبة، وإنتهى قياداتها وعدد كبير من أعضائها إلى السّجون والقتل في الدّاخل، أو إلى الهروب والهجرة إلى خارج الوطن، وبعضها توقّف عن النّشاط توقّفًا كاملًا في داخل البلاد وخارجها.
وعلى الرّغم من ضياع فرصة نظام الأحزاب في العهد الملكيّ وحكوماته المتعاقبة، ولجوء التّيّارات المُسيّسة إلى العمل السّريّ، إلّا أنّ النّظام الملكيّ تعامل معها بشيءٍ من التّسامح والأحكام المُخفّفة لمن تم اعتقالهم، مثل البعثيّين والقوميّين العرب؛ بينما اختلف الأمر بشدّة في عهد معمّر القذّافي، حيث أصبحت الحزبيّةُ جريمةً عقوبتُها الموت. وعلى الرّغم من ذلك، لم تتوقّف التّنظيمات السّرّيّة، بل تضاعف عددُها.
ظهور الإخوان المسلمين في ليبيا
يقسّم الناكوع تاريخ حركة الإخوان المسلمين في ليبيا إلى ثلاث مراحل، كانت انطلاقة المرحلة الأولى منها في أواخر العَقد الرّابع من القرن العشرين، والتي يُمكن وصفُها بأنّها مرحلة التّعريف بالمنطلقات والأفكار العامّة للجماعة والدّعوة لنشرها، والعمل من أجل استقطاب الأنصار في أوساط الشّباب.
ومن أهمّ أسباب وصول فكر الإخوان إلى ليبيا ـ وخاصةً إلى مدينة بنغازي ـ قدوم ثلاثةٍ من الشّبّان المصريّين من جماعة الإخوان من مصر إلى ليبيا، وهم عز الدّين إبراهيم، ومحمود الشّربيني، وجلال سعدة، الّذين هربوا بسبب الاتّهامات الّتي وُجّهت إلى عدد من الإخوان في حادثة اغتيال النقراشي رئيس الحكومة المصريّة عام 1949. واحتضنت مدينة بنغازي هؤلاء الشُّبّان، بعد إصرار الأمير إدريس على رفض تسليمهم للسّلطات المصريّة، واستطاع أحدُهم وهو الأستاذ عزّ الدّين إبراهيم من خلال التّدريس في المدارس اللّيليّة، ومن خلال العلاقات التي أقامها مع النّاس، أن يعطى صورة جيّدة عن الإخوان ودعوتهم، ونتيجة ذلك؛ انتمى عددٌ من الشّبان اللّيبيّين إلى الجماعة. وإلى جانب هؤلاء الشُّبّان الثلاثة الفارين، كان لبعض المُدرّسين المصريّين من الإخوان المسلمين، تأثيرهم في تلك المرحلة في ليبيا.
يذكر عبد الله أبوسن، أحد شخصيّات الإخوان في ليبيا، في مقابلة مع مجلّة المجتمع الكويتيّة، العدد 1054 "أنّ حركة الإخوان بدأت في ليبيا في أواخر أربعينيّات القرن العشرين، على أيدى مجموعة من المُدرّسين المصريّين المُنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك بعض الإخوان الّذين لجأوا إلى ليبيا، وعلى رأسهم الأستاذ الدّكتور عزّ الدّين إبراهيم".
كانت الانطلاقة الأولى في ولاية طرابلس بعيد الاستقلال، حيث جاء إلى البلاد عددٌ كبيرٌ من المدرّسين المصريّين للتّدريس في المدارس الإعداديّة والثّانويّة وفي المعاهد، وكان بعضهم من الإخوان أو من المتعاطفين مع الإخوان، كما رجع إلى البلاد عددٌ من اللّيبيّين الّذين درسوا في مصر، أو كانوا مهاجرين في مصر، وتأثّروا هناك بدعوة الإخوان، وبعضُهم شارك معهم في حرب فلسطين عام 1948.
أمّا المُنطلقاتُ الفكريّةُ الّتي قامت عليها الحركةُ في ليبيا، فهي المنطلقاتُ ذاتُها الّتي وضعها مؤسّسها في مصر الإمام حسن البنّا عام 1929، والّتي ركّزت - في بدايات دعوته - على الأخلاق والتّعليم وبناء الفرد المسلم بناء سليمًا.
وفي العَقدين الخامس والسّادس من القرن الماضي - وبرغم الظّروف الصّعبة نِسبيًّا- نشأ تيّار الإخوان في ليبيا، وأصبح عددُ المنتمين إليه والمتعاطفين معهم يُقدّر بالمئات، وذلك برغم قانون تجريم الأحزاب، وبرغم المناوشات والهجمات الكلاميّة الّتي كان يقوم بها التيّار النّاصريّ في ليبيا ضدّ الإخوان بصورة عامّة، وهو التّيّار الأوسع شعبيّةً نتيجةَ تأثير خُطب عبد النّاصر وإعلامه.
في تلك المرحلة، لم يتبلور عملُ الإخوان في ليبيا في شكلِ تنظيمٍ له تَصوُّراتُه النّظريّة، وله أُطُرُهُ التّنظيميّة، وله قياداتُه المختارةُ اختيارًا مباشرًا من قاعدةٍ مُنتَظِمَةٍ على أُسسٍ انتخابيّةٍ متعارفٌ عليها. وربّما وُجدت بعضُ الأسر كوُحداتٍ تنظيميّةٍ لأغراضٍ تعليميّةٍ تربويّةٍ، ولكنها لم تَرقَ إلى أيّ مستوًى من مُستويات التّنظيمات الحزبيّة.
وقد تأثّر بمدرسة الإخوان العشراتُ من الشّخصيّات الليبيّة طَوال الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي؛ ومنهم من تولّى مراكزَ مرموقةً في مؤسّسات الدّولة. وحافظ تيّارُ الإخوان - خلال تلك المراحل المتوتّرة سياسيًّا - على حضورٍ ملموسٍ، بفضل عددٍ من رموزه الّتي كانت تعملُ في المعاهد المتوسّطة، مثل معهد مالك بن أنس، وفي المدارس الإعداديّة والثّانويّة المنتشرة في كلّ البلاد، وفى كليّات الجامعة اللّيبيّة، وفي جامعة محمد بن علي السنوسيّ الإسلاميّة.
كما كان لتلك الرّموز نشاط مهم من منابر المساجد في عددٍ من المدن اللّيبيّة ومنها: طرابلس، بنغازي، الزّاوية، البيضاء، درنه، مصراته، غريان، نالوت. ومن تلك الرّموز: الشّيخ فتح الله محمد أحواص، وهو أشهرُ خطيب إسلاميٍّ آنذاك، والشّيخ محمّد كريدان. وعمرو النّامي، الذي كان له نشاط في نالوت مع الأستاذ المربّي الشّيخ علي يحي معمر، ومن الرّموز الإخوانيّة في بنغازي، والتي كانت تمارس الخطابة، وإلقاء الدّروس، عبد الكريم الجهاني وادريس ماضي.
الإخوان المسلمون: المرحلة الثانية
إثر حرب حزيران / يونيو 1967 بشهور قليلة، بادرت مجموعة من الشخصيّات المنتمية فكريًّا إلى مدرسة "الإخوان" في ليبيا، إلى بحث إمكانيّة إنشاء تنظيمٍ يجمع أكبر عدد من الأشخاص المقتنعين بأفكارهم، وانتهت المشاورات والاتّصالات إلى عقد سلسلة من الاجتماعات في شقة محمد رمضان هويسة في منطقة زاوية الدّهماني في طرابلس.
وكان هويسة ينحدر من أسرة معروفة لها مكانتها الاجتماعيّة ويعمل في التّجارة والمقاولات، وانتمى إلى الإخوان مذ كان طالبًا في الثّانويّة، وكان شديد الحماسة للجماعة وتاريخها وجهادها، فلم يُخفِ انتماءه إليها، وخاصّةً عندما كان يدرُس بجامعة بنغازي في أوائل ستينيّات القرن الماضي.
انتهت سلسلة الاجتماعات تلك، إلى الاتّفاق على تأسيس تنظيمٍ للإخوان في طرابلس، وضمّت لجنته القياديّة الشيخ فتح الله محمد أحواص (الذي كان يُعرف بالشّيخ فاتح أحواص) رئيسًا للتّنظيم، ومحمد رمضان هويسة مسؤولًا للعلاقات الخارجيّة، ومحمود محمّد النّاكوع مسؤولًا عن شؤون التّنظيم، وعمرو خليفة النّامي مسؤولًا عن النّشاط الجامعيّ، ومختار ناصف مسؤولًا عن الشّؤون المالية.
وبرزت هذه اللّجنة بحكم نشاطها وحضورها الفكريّ والاجتماعي وتاريخها في تَيّار الإخوان، ولم تكن مُختارةً أو مُنتخبةً من مجموع الأعضاء بصورة مباشرة، بل كانت موضع قَبولٍ بحكم المنزلة والقدرة والثّقة، ولم تَعرف تلك التّجرِبة ما يُسمّى عند الإخوان بالبيعة. ونظرًا لسِرّيّةِ العمل، فلم تَكتب المجموعةُ أيّ نظامٍ أساسيٍّ، أو ميثاقٍ، أو بيان.
في غضون ذلك، كان لإخوان بنغازي تنظيمٌ مُشابِهٌ، وكان من قياداته: عبد الكريم الجهاني، ادريس ماضي، مصطفى الجهاني، محمد الصلابي، صالح الغول وآخرون، وقد وُجدت علاقاتٌ تنسيقيّةٌ لتبادل الآراء والمعلومات حول النّشاط العامّ بسرّيّةٍ تامّةٍ، مُستغلّةً الهامش الذي أتاحه النّظام؛ وكان في ذلك متّسعٌ للنّشاط الثقافيّ وإلقاء الخطب.. وإن كانت سياسيّة. وطَوالَ العهد الملكيّ 1952 - 1969، لم تعتقل السّلطات أعضاء تلك التّجارب التّنظيميّة الإخوانيّة؛ لا في طرابلس ولا في بنغازي. ولكن الجميع كانوا تحت رقابة الأجهزة الأمنيّة.
ظلّت تلك المحاولةُ مقتصرةً في نشاطها على تنظيم بعض اللّقاءات لمجموعة الأُسَر، الّتي لا يتجاوز عددُ أعضائها الأربعين؛ وهؤلاء كانوا كلّ أعضاء التّنظيم في طرابلس وما حولَها من مدن في غرب البلاد، ولكنّ العشرات من قُدامى الإخوان لم ينضمّوا إلى المحاولة المذكورة لأسبابٍ متعدّدة.
تلك التجرِبة التّنظيميّة استمرّت نحو عام، ثمّ توقّف النّشاط تلقائيًّا، حيث انقطع كثيرون عن حضور لقاءات الأُسَر، وهي لقاءاتٌ روتينيّةٌ كانت تدور جلساتُها حولَ قراءةٍ في موضوعٍ تثقيفيٍّ في التّفسير، أو الحديث، أو التّاريخ. ولم يكن هناك أيّ نشاط سياسيٍّ يدفع إلى الحَراك بحيويّة، فلم تكن لدى الإخوان وقتها رؤيةٌ سياسيّةٌ واضحةٌ ومبرمجةٌ للتّعامل اليوميّ أو المرحليّ مع الواقع السّياسيّ والتّوقّعات المستقبليّة، واقتصر نشاطها على معارضة الفساد ومعارضةِ وجود القواعد الأجنبيّة، وذلك من خلال الخُطَب، وبعض الكتابات الصحافيّة.
خشي الإخوان وقوع انقلاب عسكريّ، يضع البلاد في مَهبّ الرّياح العاصفة، ويكرّر في ليبيا ما حدث في المشرق العربيّ، حيث كانت الحركات الإسلاميّة -وخاصّةً الإخوان- ضحيةَ تلك الانقلابات. وكانت سرّيّة العمل من أهمّ معوّقات نموّ جماعة الإخوان نموًّا مناسبًا، كما كان الحال بالنّسبة للتّنظيمات الأخرى. وعندما وقع الانقلاب العسكريّ بقيادة الضّبّاط الوَحدويّين في الأوّل من أيلول / سبتمبر 1969، والّذي أنهى النّظام الملكيّ، لم يكن هناك وجودٌ فعليٌّ للتّجرِبة التّنظيميّة الإخوانيّة. ومن خلال مِلَفّات الأمن الموجودة لدى النّظام الملكيّ، والّتي تضمّنت قائمةً بأسماء العناصر الإخوانيّة النّشطة والمعروفة، جرى اعتقالُ نحو ثلاثين شخصًا من طرابلس في نيسان / ابريل عام 1973، أثناء الإعلان عمّا سُمّيَ رسميًّا بالثّورة الثّقافيّة والإداريّة، كان في مقدّمتهم اللّجنة القياديّة (يسمّيها البعض، الأسرة القياديّة).
واستمرّ الاعتقال لفتراتٍ متعدّدة، كان أقصاها نحو واحد وعشرين شهرًا، وبرغم البدء في إجراءات محاكمة تلك المجموعة، إلّا أنّ المحاكمة توقّفت بأمرٍ سياسيٍّ، وأُفرج عن الجميع، إثر خطابٍ للقذّافي رئيس مجلس قيادة الثّورة، قال فيه: إنّه إذا أراد الإخوان العمل للإسلام، فعليهم أن يعملوا له خارج ليبيا، وأن يتّجهوا إلى جمعيّة الدّعوة الإسلاميّة، ويهتمّوا بنشر الإسلام في إفريقيا وآسيا.
وفور الإفراج عنهم، طلبت الأجهزة الأمنيّة من عددٍ من الشّخصيّات، الاتّصال بجمعيّة الدّعوة في طرابلس، تنفيذًا لقرار القذّافي، وطلبت من عمرو النّامي أن يسافر للعمل خارج البلاد، وبذلك انتهى نشاط حركة الإخوان في ليبيا، وأصبحت محظورةً مثل كلّ الأحزاب الأخرى.
الثورة الإسلامية في إيران ومرحلة الإسلام السياسي
كتب الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا في كتابه "الإسلام السياسي في المغرب العربي"(المنشور بالفرنسية عام 1989) عن نشأة التيار الإسلامي في ليبيا يقول: "إن الثراء النفطي وعملية القضاء على الاستعمار الثقافي، التي قام بها نظام القذافي براديكالية لا مثيل لها، تسببا في تأجيل تيار الإسلام السياسي في ليبيا لمدة طويلة من الزمن. فقد استبقت ممارسات نظام القذافي في مجالات عدة مطالب الاتجاه الإسلامي، وبذلك احتلت "أصولية الدولة" كل الأرضية التي قد تحتلها "أصولية المعارضة". فالنظام الليبي قام بتنفيذ سياسة تعريب صارمة، وإضافة بعض العقوبات التي ينص عليها القرآن إلى القانون، واعتبار الإسلام الأخضر رمزاً وطنياً، وبتمويل ضخم لجمعية الدعوة الإسلامية التي أنشأها القذافي في عام 1972، ونشر إعلانات تلفزيونية تطابق بين ربطة العنق(كرافات) ورمز الصليبيين، وكذلك بتدمير عام للآلات الموسيقية الغربية..الخ".
ويرى بورغا أن العلاقات ظلت طيبة بين المؤسسات الدينية الرسمية وبين نظام القذافي خلال العقد الأول من ثورة الفاتح من سبتمبر. وكان المناخ القضائي والتشريعي في ليبيا قريباً إلى حد كبير من المناخ السائد في مصر أو في سوريا، أي كان يتسم "بتطوّر التشريعات"، التي كانت مستوحاة من النموذج الأوروبي على حساب الشريعة، التي لم تطبق إلا في بعض قطاعات من قانون الأحوال الشخصية.
وأنشئت لجنة من أجل إعادة قراءة النصوص القانونية المعمول بها من أجل تطهيرها من جميع الأحكام التي تتنافى مع الشريعة الإسلامية. وبرغم أن الانعكاسات الحقيقية لهذا الإجراء قد انحصرت عملياً في بعض التعديلات(الرتوش) الخفيفة لقانون العقوبات، إلا أن دلالتها كانت ذات أهمية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن ليبيا كانت أول دولة عربية – بعد السعودية – لجأت بهذه الطريقة المنهجية إلى الإطار المرجعي الديني.
في أواخر العَقد السّابع، وأوائل العَقد الثّامن من القرن العشرين، انتشرت ظاهرة ما بات يُسَمَّى بالصّحوة الإسلاميّة، خاصةً بعد نجاح الثّورة الإسلاميّة في ايران عام 1979. وقد عجّت أوروبّا الغربيّة، والولايات المتّحدة، وكندا، بنشاط الشّباب المسلم، وبينهم الإخوان المسلمون، متمثّلًا في المؤتمرات، والنّدوات، والمخيّمات، والمنشورات، والتّظاهرات، ومن بينهم الآلافُ من الشّباب اللّيبيّ الّذين يدرسون في تلك البلدان الغربيّة، ويشاهدون ذلك الحَراك الإسلاميّ العامّ، ويتفاعلُ بعضُهم تفاعُلًا إيجابيًّا مع مدّه. وانجذب كثيرٌ من الشّباب اللّيبيّ إليهم، ولاحقًا أسّس الشّباب اللّيبيّ في الولايات المُتّحدة أوّل تنظيمٍ للإخوان خارجَ البلاد، أطلقوا عليه اسم "الجماعة الإسلاميّة - ليبيا"؛ كان من قيادات تلك الجماعة عبد الله الشيباني وآخرون، وضمّت مجموعةً من أصحاب المؤهّلات العلميّة الّذين لم يُعلَن عن أسمائهم، وأصدرت الجماعةُ مجلّةً ناطقةً باسمها، تحت عنوان "المسلم"، والّتي صدر عددُها الأوّل في أيلول / سبتمبر 1980.
وعندما تأسّست الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا عام 1981، بمبادرة من مجموعةٍ من الشّخصيّات الإسلاميّة، انضمّ عددٌ من أعضاء الجماعة الإسلاميّة إليها، وكوّنوا مع عناصر أخرى تيّارًا مُهِمًّا داخلَها؛ وكان أحمد أحواس، أكثر قيادات الجبهة حماسةً واهتمامًا بذلك التّيّار، وظلّت الجماعةُ قائمةً بتواصُلَ نشاطِها.
وقد عاد عددٌ كبيرٌ من أعضاء الإخوان مطلعَ الثّمانينيّات إلى ليبيا بعد أن أكملوا دراساتهم العليا، ليستأنفوا سِرّيًّا تنظيم الإخوان، ومن بين الشخصيات التي شاركت في إحياء النّشاط الإخواني في تلك المرحلة: عماد البناني، عبد المنعم المجراب، الأمين بلحاج، عبد المجيد بروين. ومن العناصر السابقة، انضمّ كُلٌّ من إدريس ماضي ومصطفى الجهاني؛ وهذان انضمّا - في ما بعد - إلى حركة التّجمّع الإسلامي.
تُعتبر تلك؛ المحاولةَ التّنظيميّةَ الأولى من نوعها، التي تجمع قيادة وأعضاء كلّ حركة الإخوان في جميع أنحاء ليبيا. لقد تمّ ذلك عام 1987. وفي عام 1991، طوّرت المجموعة القياديّة أسلوبها في اختيار القيادات، وأجرت انتخاباتٍ لاختيار مجلسٍ للشّورى، يُنتخب أحدُ أعضائه مُراقبًا عامًّا.
لقد كانت القبضة الأمنيّة الحكوميّة في تلك الظروف بالغةَ الشّدّة، إذ لم يكن هنالك مجالٌ لأيّ نشاٍط سياسيٍّ أو دَعَوِيٍّ ملموسٍ؛ وكلّ الّذي كان مُتاحًا، هو توجيه بعض الشّباب تربويًّا، من خلال علاقات العمل والعائلة، أو في بعض المناسبات الاجتماعيّة والدّينيّة. كما عمل الإخوان على جمع بعض الأموال لمساعدة الفقراء، وتخفيف الاحتقان السّائد في المجتمع، بحسب تعبير المراقب العامّ للإخوان سليمان عبد القادر.
في عام 1995، شنّت السّلطات الأمنيّة حملة اعتقالات واسعة، شملت تنظيمات عدّة، واستطاعت أعدادٌ كبيرةٌ من الشّباب المنتمي إلى تنظيماتٍ إسلاميّةٍ - ومنهم بعض الإخوان - الهروبَ من البلاد بشتّى الطّرق، ليتّجه أغلبُهم إلى أوروبّا الغربيّة، بينما استأنفت مجموعات أخرى - أغلبهم من الطّلّاب العائدين - النّشاط من جديد؛ ومن هؤلاء: عبد الله عزّ الدّين المراقب العام، سالم أبو حنك نائب المراقب العام، ومجموعة من أصحاب الشّهادات العلميّة العليا.
وفي عام 1998، اكتشفت السّلطات الأمنيّة التّنظيم الإخوانيّ، فنفّذت حملة اعتقالات واسعة، شملت نحو مئة عضوٍ، حيث حُكم على المراقب العام ونائبه بالإعدام، وحُكم على أعضاء مجلس الشّورى بالمؤبّد، وعلى أعدادٍ أخرى بالسَّجن لسنواتٍ عِدّة، أبرزهم الدّكتور عبد الله شاميّة، أستاذ الاقتصاد المعروف.
وخلال وجودهم في المعتقل، جرت محاولاتٌ عِدّة من جماعات إسلاميّةٍ وعلماءَ مسلمين، للتّحدُّث مع السّلطات اللّيبيّة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين؛ مبرّرةً محاولاتِها بأنّ عملهم مؤسّسٌ على العمل السّلمي الدّعوِيّ، وليس على أيّ عملٍ عسكريٍّ، ولا يهدِف إلى التّغيير بالقوّة. وكان الشّيخ يوسف القرضاوي أحدَ أبرز أولئك العلماء؛ حيث زار ليبيا، وقابل القذّافي إذ يُعتقد أنّه تحدّث معه عن مسألة المعتقلين.
بقي الإخوان في السّجون حتى آذار / مارس عام 2006، حيث أُفرج عنهم جميعًا بعد تدخُّل سيف الإسلام القذّافي، الّذى جعل من مهامّ جمعيّة القذّافي للأعمال الخيريّة، تبني بعض مِلفّات حقوق الإنسان. فبعد سلسلة من الحوارات والاتصالات مع عددٍ من قيادات الإخوان في الخارج، وبعد حوارات مع المعتقلين، تمّ الاتّفاقُ - بعد مُوافقة العقيد القذّافي - على الإفراج عن الإخوان، بشرط ألّا يقوموا بأيّ نشاطٍ تنظيميٍّ ولا سياسيٍّ ولا اجتماعيٍّ عامٍّ، وأن يعيشوا مواطنين عاديّين، وأن يمارسوا حياتهم العاديّة.. وأُعطيت لهم أو لبعضهم تعويضاتٌ ماليّةٌ، وبعضُهم رجع إلى أعماله السّابقة، أو انخرط في أعمالٍ جديدة.
وظلّ عددٌ من الإخوان في الخارج، والّذين لم يتجاوز عددُهم مئتي شخص، يواصلون نشاطهم، ويتابعون تطوّرات الوضع في البلاد؛ وواصلت قياداتُهم الإدلاء بتصريحات تؤكّد حضورهم، وتؤكّد أنّ نهجهم قائمٌ على الإصلاح والدّعوة إليه. وقد عبّرت مواقعُ تلك القيادات على شبكة الإنترنت، عن مواقفها في كثيرٍ من القضايا الوطنيّة.
وهكذا نلاحظ أنّه ومن خلال مسيرة الإخوان المسلمين في ليبيا لأكثر من نصف قرن، لم يكن العمل العسكريّ واستخدامُ العُنف يمثّل لديهم وسيلةً للتّغيير، وبالتّالي فقد ظلّت وسائلُهم فكريّةً ثقافيّةً تربويّةً؛ وبرزت في أوساطهم قياداتٌ وشخصيّاتٌ لها مكانتُها الاجتماعيّةُ والثّقافيّةُ.
د. هيثم مزاحم
باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية والإسلامية
Comments
Post a Comment