الجماعة والفرق الإسلامية: ماذا نأخذ وماذا نهمل من جدال المؤلفين؟


د. هيثم مزاحم *
السبت ١ سبتمبر ٢٠١٢

 في الصورة: المستشرق البريطاني مونتغومري وات

درس المستشرق البريطاني مونتغومري وات في كتابه «الإسلام المبكر» في فصل بعنوان «الجماعة والفرق»، نشوء الفرق الإسلامية، وصف فيه مفهوم «الجماعة» بالمفهوم الذي وضعه العلماء المسلمون في عصور الإسلام الوسيط للأمة في الإسلام وعلاقتها بالفِرق. أما كلمة الفِرق فهي تحمل المعنى نفسه الذي استعمله مؤلفو كتاب الفِرق كالأشعري (ت. 935م) في كتابه «مقالات الإسلاميين» والبغدادي (ت. 1037م) في «الفَرق بين الفِرق» والشهرستاني (ت. 1153م) في «المِلل والنِحل».
يقول وات إن لفظ «هرطقة» مرادف للفظ «بدعة» في اللغة العربية، حيث يمكن «الابتداع» أو «الإحداث» في أساس معناها. وترجع كراهية التغيير والتجديد الراسخة في الروح العربية إلى ما قبل الإسلام عندما كان المثال المقبول هو الاتباع الدقيق لأعراف القبيلة أو العشيرة. وانسجاماً مع هذا الموقف فإن علماء الإسلام الوسيط تجنبوا أية اقتراحات لتطوير العقيدة المتراصة والمتناغمة، وهو مفهوم تقبّلته خلال القرون جماهير واسعة من المسلمين، وخرجت عليه في بعض الأحيان جماعات ممن سُمّيت بالفرق.
ويلاحظ وات أنه كان يُتوقّع من العلماء المسلمين أن يحاولوا التقليل من عدد الفِرق وأن لا يستفيضوا في الحديث عنها، ولكننا نجد عكس ذلك تماماً، فالمؤلفون الذين أشرنا إليهم ضخّموا عدد تلك الفِرق. ولقد كان المستشرق المجري الكبير إغنتس غولدزيهر Goldziher، أول من لاحظ هذه الظاهرة، وربطها بحديث متدوال ينقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ألم ينقسم أهل الكتاب من قبلكم إلى اثنتين وسبعين ملة (وفي رواية: فرقة)؟ وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين ملّة، كلّها في النار إلّا واحدة في الجنة».
ويتساءل غولدزيهر قائلاً إنه من الصعب أن ندرك لماذا يريد النبي محمد أن يتباهى بأعداد الفرق التي تنقسم إليها أمته. وإذا افترضنا أن الحديث موضوع وقد وضعه مسلمون متأخرون، فستواجهنا الصعوبة نفسها في إدراك لِمَ يريدون التباهي بتعدّد الفِرق؟!
ويرى وات أنه منذ زمن البغدادي على الأقل، وما بعد، وعى المؤلفون الحديث المأثور، ورتبوا كلامهم عن الفرق بحيث يصير لديهم إثنتان وسبعون فرقة منشقّة. فالبغدادي يسعى أن يورد اثنتين وسبعين فرقة منشقة ويشرح بدعها، ومن ثم يورد عقيدة الفرق الناجية. ولكننا نواجه صعوبة في تحديد الاثنتين وسبعين فرقة الموجودة في لائحته، لأن هناك بعض التناقض بين الفرق التي يسمّيها وتلك التي يصفها فعلاً. فهو يزيد من دون داعٍ من عدد الفرق بتصويره كل شخصية رئيسة عند المعتزلة على أنها مؤسسة لفرقة، بينما ينقض في أماكن أخرى من ذلك العدد بتأكيده أن كثيراً منهم هراطقة وضعوا أنفسهم خارج الإسلام كلّه. وينهج الشهرستاني نهجاً مشابهاً.
ويذهب المستشرق البريطاني إلى أن أحد أسباب الاهتمام الذي أبداه المؤرخون المسلمون في وصف الفرق هو التعريف بالعقيدة السنّية الحقيقية من خلال مقارنتها بالآراء الهرطقية. وعقيدة «الكسب» لدى الأشعريين مثال واضح على ذلك. ويرى أن آراء الهرطقة ليست مفيدة في إبراز التباين مع العقيدة الصحيحة فحسب، بل إن صيغة العقيدة السنّية جاءت - تاريخياً - نتيجة تصحيح البدع أو رفضها، مشيراً إلى أن رأي الخوارج في إقصاء مرتكب «الكبيرة» عن الجماعة كان أحد الحوافز لإثارة أكثر المناقشات الدينية المبكرة في الإسلام.
فظاهرة الإسلام كدين حتى أيام الأشعري، شكّلت تركيبة معقّدة وواسعة نجد ضمنها ثلاث مجموعات ذات أهمية خاصة لدراسة تطوّر العقيدة، وفق وات. أولاً، كانت هناك مجموعات من الثوار ضد الدولة بنوا ثورتهم على المبادئ الدينية، ومنهم الخوارج مثل الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، ومجموعات الشيعة كأنصار زيد بن علي. ثانياً، كانت هناك مجموعات وأفراد اتهمهم الأمويون بالقيام بنشاطات تخريبية، ولكنهم أعدموا أو عُوقبوا بطريقة أو بأخرى قبل أن يقوموا بأي نشاط ثوري، وغيلان الدمشقي مَثَلٌ على هذه المجموعة.
وفي المرتبة الثالثة كان هناك عددٌ كبيرٌ من الرجال الذين أبدوا اهتماماً بالدين وناقشوا المسائل الدينية في ما بينهم، وكوّن بعضهم في القرن الأول من العصر العباسي، مجموعات يمكن أن نطلق عليها اسم «المدارس» لأنهم أجمعوا في ما بينهم على رأي أو أكثر من آراء الهرطقة، ومن هؤلاء بعض علماء الخوارج المتأخرين غير الثوريين، والمعتزلة. وإضافةً إلى ذلك، هناك آخرون عُرفوا بأصحاب الحديث أو القضاة، الذين كوّنوا ما أسماه المستشرق شاخت بـ «المدارس الفقهية القديمة». ولما كان الرجال المتديّنون حجّة في رواية الأحاديث الشريفة أو الاجتهاد في الشريعة، فلعلّ من الأفضل أن نتحدث عن «حركة دينية عامة»، فقليل من رجال هذه الحركة أُلصقت به صفة «الابتداع» (الهرطقة) على رغم أن بعضهم كان يؤيد عقائد مبتدعة معيّنة. ومع أن الإسلام في العصور المتأخرة مال إلى اعتبار كل أولئك الرجال علماء موثوقاً بهم إلى حدٍ ما، وأنهم لعبوا دوراً مهماً في نقل التراث الإسلامي الديني، إلّا أن كلّ ما حملوه من آراء مميزة قد تم حجبُهُ أو التحدث عنه بطريقة تقوّم بعض ما فيه من انحراف. وهكذا خُلق الانطباع بأن هذه الحركة الدينية العامة كانت متناغمة كلياً.
ويرى مونتغومري وات أن المستشرق الغربي المعاصر ينظر إلى هذه التركيبة المعقدة للحقائق الدينية باهتمامات مختلفة. فهو يميل إلى الاهتمام قبل أي شيء بتطوّر الفكر الإسلامي الذي حاول العلماء المسلمون حجبه. لذا، عليه أن يعي الافتراضات المسبقة وأساليب مؤلفي كتب الفرق حتى لا تضلّله الادعاءات الكامنة في أقوالهم. فهو مثلاً سيفتش عن الاختلافات في وجهات النظر ضمن الحركة الدينية العامة وسيجد بعضاً منها، كما أنه سيشكّ كثيراً في أسماء الفرق وسيحاول دوماً التكهن بما كانت تعنيه للشخص الذي أطلق الاسم. فهو لن يفترض أن فرقة ما قد تكوّنت فقط لأن العلماء المسلمين تحدّثوا عنها، بل من الطبيعي أن يأخذ في الاعتبار آراء نُسِبت إلى أفراد مُعيّنين ويعتبرها جديرة بالثقة أكثر من الآراء المنسوبة إلى الفرق ككل.
ويلاحظ وات أن كثيراً من أسماء الفرق كانت عبارة عن ألقاب سلبية يُنبزُ بها الخصوم في ذروة الخلاف الديني، ووصمة الخزي الديني معروفة بقوّتها. ومن الأمثلة الجيدة، فرقة القدرية التي كانت تؤمن بأن الأفعال الإنسانية الاختيارية ليست مقدّرة من الله بل هي مخلوقة للإنسان نفسه. لقد كان القدريون الأوائل خصوماً سياسيين للأمويين، ولكنّ آراءهم اعتنقها أيضاً علماء دين متأخرون. ومن أبرزهم المجموعة المعروفة بالمعتزلة. ولقد برزت صعابٌ في تفسير معنى الاسم عندما اتضح أن عمرو بن عبيد الذي يعتبر أحد مؤسسي المعتزلة وبالتالي قدرياً، قد ألّف كتاباً عنوانه «الرد على القدرية». كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل كان في الأصل سنّياً عادياً ومن ثم تحوّل إلى الموقف القدري؟ وهل ألّف هذا الكتاب قبل تحوّله؟ ولكن هذه فرضية بعيدة الاحتمال ولا حاجة لتبنّيها، فعمرو بن عبيد، وبكلّ بساطة، كان يُطلق اسماً بغيضاً على خصومه. ولو سئل لقال إن هذا مناسب لهم أكثر لأنهم كانوا يصرّون دائماً على إثبات القضاء والقدر. لقد توفي عمرو حوالى عام 760م ، ولكن آثار الخلاف حول الاستعمال الصحيح لذلك المصطلح ظهرت في أعمال ابن قتيبة والأشعري بعد مضيّ أكثر من قرن على ذلك، حين جادلا بأن القدريين هم أولئك الذين يؤكدون أنهم يقررون أفعالهم بأنفسهم، لا أولئك الذين يثبتون فكرة القضاء والقدر.
يخلص وات في نهاية دراسته إلى أن على المستشرق الغربي الذي يدرس تطوّر الفكر الإسلامي، أن يتعلّم إهمال الكثير من أقوال مؤلفي كتب الفرق لأنهم ركزوا على إظهار الصفات الثابتة لذلك الفكر، كما عليه أن يركز على اهتمامه على آراء أشخاص معيّنين معروفة أسماؤهم، في الحدود التي تسمح بها المادة الموجودة. وفي النهاية، سينجح في تكوين صورة عن الجماعة الإسلامية وعلاقتها بالفرق، ولكن الفرق بالنسبة له لن تكون عبارة عن مبتدعين فحسب، بل سيكونون مساهمين مهمين في نموّ الحياة الإسلامية وتطوّر فكرها.


* باحث لبناني في الفكر العربي والإسلامي

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية