الأكراد في مصر.. من الأيوبيين إلى أحمد شوقي

د. هيثم مزاحم


 

 في الصورة: أمير الشعراء أحمد شوقي.

مصر هي من أكثر البلدان العربية التي كانت لها علاقات وثيقة وقديمة بالكرد. بدأت هذه العلاقات بين الميتانيين، أجداد الأكراد، وبين الملوك الفراعنة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبرزت من خلال زواج بعض الأميرات الميتانيات من الملوك المصريين، مثل الملكة نفرتيتي التي حكمت عرش مصر.
والميتانيون أو الحوريون شكّلوا مملكة ميتاني في القرن السادس عشر حوالي سنة 1500 ق.م، وعاصمتها (واشوكاني) على نهر الخابور، وامتد نفوذها على جميع كردستان، وعرفهم المصريون باسم نهارين.
وانتهت هذه المملكة في عهد الملك الآشوري (آشور ناصربال) سنة 1335 ق.م.
وقد تعرضت مملكتهم للغزو المصري بزعامة تحتمس الأول، لكن الميتانيين استطاعوا التخلّص من التبعية المصرية باتفاقهم مع الحثيين في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد وأصبحوا يملكون قرارهم بنفسهم، لكن في المقابل كانت هناك علاقات وطيدة بين الطرفين ترسخت في عهد الملك الميتاني (توشرتا نحو 1390 ق.م) الذي وصفته الوثائق المصرية بالصديق الموالي لمصر، وكانت بينه وبين ملوك مصر رابطة مصاهرة ونسب، وله مراسلات مطولة مع أمنحوتب الثالث (توفي 1375 ق. م) وأمنحوتب الرابع (توفي 1358 ق.م).
وكانت إحدى شقيقاته من بين زوجات أمنحوتب الثالث، كما كانت ابنته نفرتيتي زوجة أمنحوتب الثالث ومن بعده أمنحوتب الرابع.
كما تأثر المصريون القدماء بالديانة الحورية في عهد ملكهم أمنحوتب الرابع، وشارك عدد من الأميرات الميتانيات مع أزواجهن في حكم مصر أمثال الملكة المشهورة نفرتيتي. نفرتيتي تلك الملكة الميتانية الجميلة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد (1369 ق.م) هي زوجة الملك أمنحوتب الرابع الشهير بأخناتون (1369 – 1353 ق.م)، وهو أول من أعلن ديانة التوحيد بطريقة رسمية، ونادى بوحدانية الله، وحطم الأصنام، وأعلن زهده.
تولت نفرتيتي عرش مصر لفترة محدودة، ثم وقعت في محنة الردة التي شقيت بنتائجها بعد وفاة زوجها، انتهت حياتها بمأساة.


الفتح الإسلامي
أما عن التواجد الكردي في العصر الإسلامي، فنلاحظ أنه بعد الفتح الإسلامي لكردستان ودخول الكرد كمكوّن جديد للأمة الإسلامية، ساهم الكرد مع إخوانهم من المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية الزاهية، وأخذوا يتوافدون على مصر كرجال حكم وإدارة وقادة عسكريين وجنود وتجار وطلبة علم في الجامع الأزهر طوال التاريخ الإسلامي. وكانت كردستان تسمى بالقلاع الأمامية للبلاد الإسلامية، لأنها كانت الحصن المنيع للخلافة في وقوفها أمام الروم المتاخمين للبلاد الإسلامية، ومن أشهر حصونها (حصن كيفا).
وقد كان الشعب الكردي إلى عهد قريب ركناً متيناً في بناء الدولة الإسلامية وإنشاء حضارتها، أمثال: الدولة المروانية التي أسسها أحمد بن مروان، والدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين الأيوبي، ومصر الحديثة التي أسسها محمد علي باشا.
ومن الشخصيات الكردية التي برزت في مصر، أحمد بن ضحاك، أحد الأمراء الأكراد الذي تولى في عهد الخليفة الفاطمي القادر بالله مناصب مهمة في الجيش المصري. وعندما هاجم الجيش الرومي قلعة آفاميا قرب نهر العاصي، وأسفرت المعارك عن اندحار الجيش المصري الذي لم يبقَ منه سوى خمسمائة خيال، هجم أحمد بن ضحاك على القائد الرومي بمفرده وأرداه قتيلاً، فأثّر ذلك على معنوية الجيش الفاطمي وعاد إلى الميدان فهزم الجيش الرومي.
وبرز أيضاً أبو الحسن سيف الدين علي بن سالار، وزير الظافر العبيدي صاحب مصر، وكان كردياً من عشيرة زرزائي الساكنة في إيران، وقد عين والياً على الإسكندرية، وتولى الوزارة للظافر في القاهرة في رجب سنة 543 هـ، ونعت بالعادل أمير الجيوش.
واستمر في الوزارة إلى أن قتل في سنة (548 هـ/ 1152م). وقد عمر المساجد في القاهرة وبني مدرسة في الإسكندرية للشافعية.

الدولة الأيوبية
أما عن الأكراد في الدولة الأيوبية، فنجد أن الأيوبيون، أو بنو أيوب هم سلالة كردية الأصل تولّت الحكم في مصر وسورية والعراق من 1171م حتى 1260/1250م.
وكان مقر الحكم في دمشق والقاهرة، أسس الأسرة أيوب الذي كان قائداً كردياً في خدمة الزنكيين، جاءت أسرته من أرمينية، بدأ أمره بأن أصبح والياً على تكريت، ثم والياً على دمشق من بعد ذلك.
صار أخوه شيركوه وابنه صلاح الدين من قادة الفاطميين. أصبح صلاح الدين (1138-1193) - الذي كان من أبطال الحروب الصليبية في سنة 1169 وزيراً لآخر الخلفاء الفاطميين، ثم قضى عليهم سنة 1171 وأتم توحيد مصر والشام تحت رايته.
تلقب بالسلطان عام 1174 م، واستولى على حلب عام 1181 م، امتد سلطانه إلى مناطق شمال النهرين، قاد بعدها الجهاد ضد الصليبيين واستطاع أن يسترد القدس عام 1187 م بعد انتصاره في حطين.
بعد وفاته قسمت مملكته بين أولاده الخمسة وأخيه العادل (منذ 1193 م) الذي استطاع أن يوحد المملكة (1200-1218 م). بعد 1218م أعيد تقسيم المملكة، بقيت مصر والقاهرة في أيدي الكامل (1218-1238م)، واستقلت في كلٍ من دمشق وحمص وحلب فروع أخرى من العائلة.
استمر الفرع الأساسي في مصر حتى مقتل الملك المظفر موسي بن المسعود يوسف على يد المماليك عام 1250م. قضى المغول -الإلخانات- على السلالات الفرعية في دمشق وحلب عام 1260م ثم أنهى المماليك حكم الأيوبيين في حمص عام 1262م، بقي للأيوبيين فرع حكم في حماة حتى سنة 1341م،  كما كان للأيوبيين فرع مستقل في اليمن أيضاُ.



محمدعلي باشا
محمدعلي باشا الكبير، الذي أنشأ دولة في مصر في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، هو أيضاً من أصل كردي من ديار بكر.
وقال الأمير محمدعلي أحد أحفاد هذه الأسرة عام 1949 لمجلة المصور المصرية إن أصلهم أكراد من ديار بكر.
واعتبر محمدعلي مؤسس مصر الحديثة وصانع نهضتها العلمية والزراعية والعسكرية والصناعية.
ومن الكرد من استقر في مصر واندمج مع السكان الأصليين وانقطعت جذورهم مع موطنهم الأول، ولم يبقَ لهم من تلك الصلة سوى الاسم، ومن صلبهم نبغ العديد من القادة العسكريين ورجال الإدارة والأدباء والشعراء والفقهاء والمحدثين والفنانين، وأسدوا خدمات جليلة لوطنهم مصر، لكنهم لم ينكروا كرديتهم.
وكان للكرد رواق في جامع الأزهر الشريف خاص بالطلبة الكرد، وكانت له أوقاف قديمة ترجع إلى حوالي ثلاثمائة سنة. والرواق عبارة عن مكان واسع، يضم عدداً من الغرف للطعام والمنام، ومكتبة، والطلبة يحصلون على الطعام والكساء من الأغنياء والمحسنين، ومن الأوقاف المسجلة عليه.
ويقال إن الأميرة الكردية خاتون خان من الأسرة الأيوبية وقفت ثروتها في خدمة العلم والدين وإنشاء المدارس، ومن هذا الوقف أنشئ رواق الكرد في الجامع الأزهر منذ مئات السنين، وتخرج منه مئات العلماء من الكرد من العراق، وتركيا، وسوريا، وإيران، وروسيا.

رواد القرن العشرين
هناك عدد من رواد الإصلاح والأدب والفن من أصول كردية، في القرن العشرين، نبغ في مصر عباقرة وشخصيات كردية كانوا من رواد حركة الإصلاح والتحرّر والفكر والأدب والفن في مصر والعالم العربي، أمثال: محمد عبده، والمفكر قاسم أمين، والأديب عباس العقاد، وأمير الشعراء أحمد شوقي، الأديب نجيب الريحاني، وهو من أب كردي مسيحي عراقي وأم قبطية، والشاعرة عائشة التيمورية، والقاص محمود تيمور، والشيخ القارئ الشهير للقرآن عبد الباسط عبد الصمد، والباحث حسن ظاظا، والصحافي والكاتب محمد حسنين هيكل ولد في القاهرة سنة 1923 م هو كردي مصري المولد، والإعلامية دريه عوني (أم الأكراد في القاهرة) ولدت في مصر من أب كردي وأم مصرية، والفنانان التشكيليان أدهم ومحمد سيف الدين وانلي.

 

في الصورة: الأديب المصري محمود تيمور.
آل تيمور
 
في عام 1801 التحق محمد الكاشف بن إسماعيل بن علي، وهو من سلالة كردية من شمال العراق، بجيش الوالي محمد علي باشا الذي عيّنه برتبة كاشف ثم محافظاً للمدينة المنورة 1837، فمديراً للشرقية إلى أن توفي عام 1848، ليتولّى ابنه إسماعيل رشدي باشا في مناصب الدولة، فكان مديراً لبعض المديريات ورئيساً لديوان الخديوي، ونبغ في مجال الأدب ابنته عائشة التيمورية وابنه أحمد تيمور، لينطلق بعدهما ولدا أحمد أعمدة للأدب والقصة محمد ومحمود تيمور.
أما الفنان المصري رشدي أباظة فهو من الأسرة الأباظية المعروفة التي يرجع أصلها إلى الكرد، هاجر عدد كبير من أفرادها إلى مصر أيام المماليك وكانت ولا تزال لهذه الأسرة مكانتها الكبيرة حيث ظهر منها كثير من الأعلام في السياسة والثقافة والاقتصاد والتجارة والزراعة بدءاً إسماعيل أباظة باشا الذي كان من قادة الثورة العربية، إلى دسوقي أباظة باشا الذي كان واحداً من ألمع شباب ثورة 1919، وعزيز أباظة الشاعر المغوار، فكري باشا أباظة فارس الكتابة والخطابة،  ثم ماهر أباظة وزير الكهرباء السابق والشقيق الأصغر للشاعر عزيز أباظة، والممثل رشدي أباظة، وأسرة الأباظية يرجع أصلها إلى القوقاز الكردي.
وهناك فنانون آخرون ينتمون للكرد في مصر.
أما عن الوجود الكردي في مصر اليوم، فنجد أن الكثير من الأكراد يعيشون اليوم في مصر، وهم منتشرون في أماكن مختلفة تمتد من الإسكندرية شمالاً إلى أسوان جنوباً، وقد انصهر القسم الأكبر منهم في البوتقة المصرية والنسيج المصري لمعظم أفراد الشعب المصري بدون تمييز أو تفريق.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية