نحو تفسير لأسس العلاقة الأميركية – الإسرائيلية
د. هيثم مزاحم
لا تزال
العلاقة الخاصة والمميّزة بين إسرائيل والولايات المتحدة مسألة يختلف الباحثون في
تفسير أسسها وأسبابها. وتتجلى هذه العلاقة في أشكال عدة هي:
1 – التعاطي
المكثّف على المستويين الحكومي والشعبي بين إسرائيل والولايات المتحدة.
2 – التعاون
الحميم بين البلدين، ولا سيما التعاون الإستراتيجي.
3 – الدعم
الأميركي السخي لإسرائيل في مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية
والتكنولوجية.
4 – الانحياز
الأميركي التام لإسرائيل في الموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي –
الصهيوني.
ويمكننا تلخيص
التفسيرات المختلفة للعلاقة المذكورة بما يلي:
1 – إسرائيل
هي ذخر استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
2 – إسرائيل
هي قاعدة إمبريالية أميركية في المنطقة العربية.
3 – تقاطع
المصالح الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
4 – الولايات
المتحدة تشعر بالتزام ديني – أخلاقي تجاه الدولة اليهودية.
5 – اللوبي
اليهودي الأميركي قوي جداً إلى درجة تجعله يملي السياسة الأميركية الشرق أوسطية.
يذهب الباحث
كميل منصور في تفسيره للعلاقة الخاصة بين إسرائيل وأميركا إلى أن ثمة تفسيرات
مبسطة تجعل من إسرائيل أداة طائعة في يد أميركا أو تجعل من الإدارة الأميركية
خادماً للوبي اليهودي". ويلاحظ أن ثمة زعمين جازمين ودقيقين هما:
-
"لو أن دعم
إسرائيل لايخدم مصالح الولايات المتحدة، لكانت سياسة الأخيرة مختلفة في الشرق
الأوسط.
-
لو أن اللوبي لم يكن
بهذه القوة، لكانت سياسة الولايات المتحدة مختلفة أيضاً".
لكن المشكلة –
برأي منصور – هي "أن هذين الزعمين الجازمين – الصحيحين لو أخذنا كلاً منهما
على حدة – يحجب أحدهما الآخر. إضافة إلى كونهما غير كافيين لأنهما يعجزان عن شرح
كيف وإلى أي حدّ يؤثر اللوبي، أو المصالح الأميركية، على سياسة الولايات المتحدة
حيال إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.
فمن أجل تحاشي
الوقوع في تناقض هذين الزعمين، علينا أولاً البحث عن مكانة إسرائيل في العقيدة
الاستراتيجية الأميركية، ومن ثم تحديد مدى مصلحة الولايات المتحدة في روابطها
المميزة مع إسرائيل.
وعلى الباحث
الذي يحلّ العلاقة الأميركية – الإسرائيلية ألا يعتبر السياسة الأميركية بالضرورة
سياسة عقلانية – نفعية (براغماتية) متماسكة منطقياً، لا يشوبها الخطأ والجدير ذكره
أن لا وجود في الواقع لعقيدة استراتيجية أميركية ثابتة ومحددة، بل هي تنشأ وتتبلور
مع الوقت، وقد تخضع لتغيّرات تبعاً للمعطيات والظروف السائدة. كما أنها تتأثر
بالدرجة الأولى بالآراء الخاصة لصانعي القرار، وبمواقف الشخصيات والهيئات السياسية
والأكاديمية المقدّرة أراؤهم لدى النخبة الأميركية الحاكمة.
قبل تحديد
مكانة إسرائيل في الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، ينبغي الرجوع قليلاً
إلى بداية العلاقة الأميركية – الإسرائيلية لإدراك الأسس التي قامت عليها حينذاك.
وبالتالي تقويم هذه الأسس والبحث في دوام صلاحيتها في المرحلة الراهنة.
أ – جذور
العلاقة الأميركية – الإسرائيلية
تعود العلاقات
الأميركية – الصهيونية إلى ما قبل تأسيس الكياه الصهيوني في فلسطين عام 1948، أي
إلى بداية القرن التاسع عشر حيث لعبت الحركات البروتستانتية البيوريتانية
(التطّهرية) Puritanians دوراً كبيراً في تهيئة الأرضية الملائمة لنشاط الحركة الصهيونية
اليهودية في الولايات المتحدة. وتدعو هذه الحركات – التي أطلق عليها البعض تسمية
"الصهيونية المسيحية" أو "الصهيونية غير اليهودية" – إلى
إعادة توطين اليهود في فلسطين وبناء وطن قومي لهم فيها أو بتعبير آخر
"استعادة "مملكة إسرائيل" لكي تظهر مملكة المسيح"، لأن تلك
نبوءة تسبق العودة الثانية للمسيح المنتظر.
وترتكز هذه
الحركات الأصولية المسيحية على قراءة للعهد القديم، محورها "إسرائيل وشعبها
"المختار" من قبل الله، وملكية هذا الشعب الأبدية للأرض الموعودة
المقدسة (فلسطين). وقد جرى تسييس هذه الرؤية الدينية بحيث اعتبرت إسرائيل الواردة
في العهد القديم، هي إسرائيل الواجب إنشاؤها في فلسطين، وأن ميلاد إسرائيل في
فلسطين "هو تأكيد لصلاحية النبوءات التوراتية وعلامة على اقتراب العودة
الثانية للمسيح".
وهكذا بدأت
الحركات البيوريتانية بتعبئة الرأي العام الأميركي بهذه المعتقدات الصهيونية إذ
جرت عملية استعارة للأسماء العبرية وأطلقت على أبنائهم ومستوطناتهم الأولى في
الولايات المتحدة الأميركية. واعتبر البيوريتانيون أنفسهم "العبرانيين
الحقيقيين" وسمّوا أنفسهم "أطفال إسرائيل في طريقهم إلى الأرض
الموعودة".
لم يقتصر نشاط
البيوريتانيين على الدعوة والتعبئة من اجل عودة اليهود إلى فلسطين، بل قاموا
بإرسال بعثات استكشاف إلى فلسطين، ثم بدأوا بإقامة المستوطنات اليهودية الأولى
فيها، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وكان الرئيس الأميركي جون آدامز (1767 – 1848)
قد دعا إلى استعادة اليهود وطنهم، في رسالته إلى صديقه الكاتب اليهودي مانويل نوح
عام 1818، وقال فيها: "أتمنى ان أرى ثانية أمة يهودية مستقلة في يهودا".
وقد بذل القس وليام بلاكستون جهوداً كبيرة من أجل الحركة الصهيونية. فنشر كتاباً
عنوانه: "عيسى قادم"، ترجم إلى إلى أكثر من 48 لغة، وكان أوسع الكتب
انتشاراً (بعد الكتاب المقدس) في القرن التاسع عشر. ثم أسس عام 1887 في شيكاغو
منظمة سماها "البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل" اعتبرت أول
"لوبي" لمصلحة الصهيونية السياسية.
ولعل أبرز
نشاطات بلاكستون هذا، هو جمعه لتواقيع 413 شخصية أميركية على عريضة قُدمت إلى
الرئيس الأميركي بنجامين هاريسون في 5 آذار/ مارس 1891. وطالبت العريضة الرئيس
باستخدام نفوذه لتحقيق مطالب الإسرائيليين بفلسطين كوطن قديم لهم.
عام 1897،
بأكثر من ست سنوات. وتكمن أهميتها في كونها "ويقة مسيحية وضعت أمام صانع
القرار الأميركي برنامجاً واضحاً للتعامل مع اليهود، وحددت مصيرهم بإقامة وطن قومي
لهم في فلسطين". في موازاة ذلك، قام ديبلوماسيون أميركيون في الشرق الأوسط
بحض الحكومة العثمانية على توطين اليهود في فلسطين. ويُعتبر الرئيس الأميركي ولسون
أحد أكثر الرؤساء تأثراً بالصهيونية نظراً لتربيته المسيحية الإنجيلية حيث كان يرى
أنه يتوجب عليه تحقيق رغبة الرب في إعادة الأرض المقدسة إلى شعبها اليهودي. من هنا
كان تأييده الكامل لوعد بلفور الذي نص على إعطاء وطن قومي لليهود.
وفي العام
1922، صادقت الحكومة والكونغرس الأميركيان بصورة نهائية على وعد بلفور. كما قامت
الحركات المسيحية الصهيونية بإنشاء منظمات ولجان مهمتها "تشجيع تعاون أوثق
بين اليهود وغير اليهود، والدفاع عن قضية الوطن القومي اليهودي". وتولّت هذه
المنظمات التنسيق مع المنظمات الصهيونية اليهودية الأميركية في ممارسة الضغوط
السياسية على الإدارة الأميركية من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين.
وقد أثمرت هذه
الضغوط موافقة الرئيس الأميركي هاري ترومان على خطة تقسيم فلسطين، وذلك في خطبته
الشهيرة بمناسبة عيد الغفران في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1946.
ب – المعارضة
الأميركية لقيام إسرائيل
عارض
الأميركيون في البداية مشروع تقسيم فلسطين خوفاً من أن تتحول الدولة اليهودية (ذات
الأغلبية الساحقة من المهاجرين اليهود الروس) إلى دولة حليفة للمعسكر السوفياتي،
وخشية أن يصبح الدعم الأميركي للصهاينة عائقاً أمام مصالح الولايات المتحدة
النفطية في المنطقة.
ويقول في هذا
الصدد الرئيس ترومان في مذكراته أن وزير الخارجية جيمس بيرنز ووزير الدفاع جيمس
فورستال وموظفي وزارة الخارجية الآخرين "كانوا جميعاً بدون استثناء تقريباً يعارضون فكرة الدولة اليهودية. فلقد
(كانوا)... يرون ضرورة تهدئة العرب بسبب وفرة أعدادهم وسيطرتهم على مثل هذه الكمية
الضخمة من الموارد النفطية.
وقد حاول بعض
موظفي وزارة الخارجية وبعض شركات النفسط الأميركية – ولا سيما شركة
"أرامكو" – تصويب سياسة الإدارة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية خشية
من تأثير تلك السياسة على امتيازات الشركات النفطية في الدول العربية، وبالنتيجة
على المصالح الاقتصادية الأميركية.
وتبرز في هذا
المجال الاتصالات التي قام بها كل لوي هندرسون (مسؤول شؤون أفريقيا والشرق الأدنى
في وزارة الخارجية الأميركية) والعقيد وليام إدّي (مساعد وزير الخارجية الأميركي).
وقد ترك الأخير منصبه وعُيّن مستشاراً لشركة أرامكو. وقد ركّز في رسائله إلى وزارة
الخارجية الأميركية على عواقب تقسيم فلسطين إلى دولتين على الاستقرار والأمن في
منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي على المصالح الأميركية فيها.
وإن إدّي –
على غرار كثيرين في وزارة الخارجية الأميركية أرامكو – يرى في الانحياز الأميركي
لليهود على حساب العرب في فلسطين فرصة سانحة لدخول السوفيات إلى المنطقة تحت حجة
مساندة العرب.
لكن ضغوط
اللوبي الصهيوني على الإدارة الأميركية، وعلى الرئيس ترومان بالذات، كانت أقوى
بكثير من المساعي الخجولة للشركات النفطية لمنع تقسيم فلسطين. بل إن شركة أرامكو
تفاعست عن العمل الجدي لمصلحة القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة خشية من أن
يؤدي إغضاب الصهيونية إلى خسارة ممكنة في مداخيلها من السوق المحلية.
وقد ذهب غوردان
ميريام(مساعد المدير المسؤول عن شؤون أفريقيا والشرق الأدنى في وزارة الخارجية
الأميركية آنذاك)، في تفسيره للسياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل والمضرّة
بالمصالح الأميركية. إلى كون هذه السياسة هي "في الأساس سياسة إسرائيلية
مقيّدة تُمارس من خلال اللوبي الصهيوني" الموجود في الولايات المتحدة ويكشف
غوردان ميريام في رسالته الموجهة إلى رئيس الطاقم السياسي في الوزارة في 18 آذار/
مارس 1949، أن وزارة الخارجية الأميركية قد رسمت سياسة سليمة تجاه فلسطين لكنها لن
تستطيع "الحصول على إقرار السلطات العليا لها في الظروف الراهنة وحتى لو حصلت
على ذلك، فإنها سرعان ما تتغير بمجرد أن يشعر الصهاينة بقدرتهم على التأثير
إعلامياً عليها".
ويذكر الباحث
الأميركي إيرفين أندرسون – في دراسته الأكاديمية حول شركة أرامكو – أنه "منذ
العام 1937 والشركات النفطية تحذّر وزارة الخارجية الأميركية من أن دعم الأخيرة
للصهيونية سوف ينفّر (الملك السعودي) عبد العزيز (ابن سعود) وقد يسفر عن تدمير
الموقع السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وخسارة
الامتيازات النفطية في المملكة العربية السعودية. لكنه يعتبر أنه "في العام
1947 بات معظم المسؤولين في الدفاع والخارجية مدركين لحقيقة وجود هذه المشكلة
الاستراتيجية بحيث لم تعد هناك حاجة لممارسة الضغوط الخاصة.
وقد أكد إيفان
م. ويلسون – الرئيس الأسبق لمكتب فلسطين (1942 – 1948) – في كتابه "القرار
بشأن فلسطين"، هواجس وزارة الخارجية الأميركية آنذاك بشأن إضرار السياسة
الأميركية المنحازة إلى اليهود بالعلاقات مع العالم العربي.
ولعلّ معارضة
مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية – بمن فيهم وزير الخارجية جورج مارشال – لقيام
دولة يهودية في فلسطين لما في ذلك من خطر على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية
الأميركية في الشرق الأوسط، تُبيّن لنا أن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية لم تقم
على أسس استراتيجية وعقلانية – براغماتية بل إن قيام الرئيس ترومان بتخطي كل هذه
الحقائق وتأييده لتقسيم فلسطين طمعاً بتأييد اليهود الأميركيين له في الانتخابات
الرئاسية، يظهر مدى تأثير العامل الداخلي في السياسة الأميركية حيال إسرائيل
والشرق الأوسط.
ج – مسار
العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل
1 – صنع دور
استراتيجي لإسرائيل (1948 – 1973)
منذ قيام
الكيان الصهيوني في فلسطين ركز اللوبي اليهودي جهوده على الكونغرس لأن بيده مفتاح
الخزينة الأميركية، وأدرك أنه من أجل ضمان تأييد الكونغرس لإسرائيل لا بد من إيجاد
حجة مقنعة له تكون إلى جانب التنظيم الفاعل الذي يقوم بتنسيق وتوجيه هذا التأييد.
في البدء، كان
اليهود الأميركيون يبررون مطالبتهم الكونغرس بتأييد إسرائيل بالاعتبارات الإنسانية
والأخلاقية والأيديولوجية – الثقافية. ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أن هذه الحجة سوف
تفقد ولو بعد حين – قوة التأثير. لذلك لجأوا إلى ترويج مقولة "الدور
الاستراتيجي لإسرائيل كحليف يقف سداً منيعاً في وجه المد السوفياتي والأنظمة
العربية الراديكالية في الشرق الأوسط، ويحمي الخليج وحقول النفط فيه، كما يقدم
مصدراً موثوقاً للمعلومات عن كل المنطقة". لأنه إذا تم تصوير إسرائيل في نظر
الرأي العام الأميركي بأنها تقدم خدمات عسكرية واستراتيجية للولايات المتحدة، فإن
المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل تصبح مبررة كونها تُحقق مصلحة ذاتية
لأميركا فضلاً عن الاعتبارات الأخلاقية الأمر الذي يضمن استمرار هذه المساعدات.
في الصورة: الرئيس ترومان
بدأ النشوء
البطيء للعلاقة الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية خلال عهد ترومان الذي برر
دعمه لإسرائيل بخوفه من تغلغل النفوذ السوفياتي في المنطقة عبر هجرة اليهود
السوفيات إلى الدولة اليهودية. وجاء في المذكرة السرية المرسلة من وزارة الدفاع
الأميركية إلى مجلس الأمن الدولي في 16 أيار/ مايو 1949، والمعنونة بـ"مصالح
الولايات المتحدة الاستراتيجية في إسرائيل": "إن أهمية إسرائيل تعود إلى
موقعها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وإلى دورها في حماية المصالح النفطية
الأميركية في الخليج وفي حماية المنطقة الممتدة بين القاهرة والسويس. وكانت هذه
المذكرة السرية أساس العقيدة الأميركية (عقيدة ترومان المتعلقة بدور إسرائيل
الاستراتيجي) لفترة 948 – 1065.
ومع بدء
الولايات المتحدة بعملية احتواء الخطر السوفياتي، كانت إسرائيل تمثل قوة أساسية
بالنسبة إليها، لكن الرفض العربي للدولة اليهودية أعاق الدور الإسرائيلي
الاستراتيجي. فبسبب خشيتها من إغضاب الدول العربية لم توافق واشنطن (في العام
1950) على طلب إسرائيل التحالف معها، إلا بعد ثورة "الضباط الأحرار" في
مصر (يوليو 1952) وتحول عدد من الدول العربية إلى الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة
الشرقية يعتبر "العدوان الثلاثي" عام 1956 نقطة تحوّل بالنسبة لموقف
الولايات المتحدة من إسرائيل والمنطقة حيث خشيت واشنطن أن يقوم الاتحاد السوفياتي
بملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الفرنسي والبريطاني من المنطقة فأقامت إدارة
آيزنهاور اتفاقاً أمنياً إقليمياً دخلت فيه إسرائيل للمرة الأولى.
ولم تصبح
العلاقة الأميركية – الإسرائيلية متميزة إلا بعد حرب 1967، حين ظهر تفوّق إسرائيل
العسكري على العرب وضعف الدعم العسكري السوفياتي لهم، الأمر الذي جعل بعض الدول
العربية تميل إلى التحالف مع موسكو كرد فعل على الانحياز الأميركي لإسرائيل. وقد
وظّفت إسرائيل ذلك من أجل نيل المزيد من الدعم الأميركي لها في وجه الأنظمة
العربية "الراديكالية" المتحالفة مع السوفيات.
وكان فريق من
الساسة الأميركيين آنذاك يرى في إسرائيل عبئاً على الولايات المتحدة لأن سياسة
الأخيرة الموالية لإسرائيل تساهم في التقريب بين العرب والسوفيات، وفي إفساح
المجال للتغلغل السوفياتي في المنطقة. ونتيجة للأزمة الأردنية (عام 1970)، التي
هددت بسقوط النظام الهاشمي على أيدي الفصائل الفلسطينية التي ساندتها سوريا، أصبحت
إسرائيل تُعتبر رصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة، وتبنّى البيت الأبيض مجموعة
من التوجهات أبرزها: ضمان قوة إسرائيل الرادعة وتزويدها بالأسلحة اللازمة لذلك،
التعهد بعدم إجبارها: على القبول بتسوية
سلمية لا تحظى بموافقتها.
في الصورة: موشي دايان لدى احتلال القدس المحتلة عام 1967
2 – أثار حرب
1973 على العلاقة الأميركية – الإسرائيلية (1973 – 1980)
بعد حرب 1973
أصبحت الولايات المتحدة ريصة على عدم نشوب حرب عربية – من قبل القوتين العظميين.
كما أضحت تعيش هاجس خطرين إثنين هما: تعزيز التحالف العربي – السوفياتي، وتضامن
دول المواجهة العربية مع الدول العربية المصدّرة للنفط، الأمر الذي اضطرها أن تأخذ
في الاعتبار بعض المطالب العربية، مع الحرص على عدم المساس بقوة إسرائيل وتفوّقها
العسكري.
ثم بدأت
واشنطن باستخدام إسرائيل كقوة "ثانوية" وبالتقرّب من العرب حفاظاً على
مصالحها في المنطقة، وذلك عبر ديبلوماسية "الخطوة خطوة" الرامية إلى
تحقيق تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي. وكانت الاستراتيجية الأميركية
تعتمد على كون "الولايات المتحدة البلد الوحيد القادر على انتزاع التنازلات
من إسرائيل مع الحرص على إظهار صعوبة هذه المهمة".
وفي العام
1975، اتفق الأميركيون والإسرائيليون على مذكرة تفاهم، أبرز ما جاء فيها: حماية
وجود إسرائيل وأمنها، اعتماد خطة طوارئ مشتركة لإمداد الجيش الإسرائيلي في الأوقات
الحرجة، عدم تفاوض الولايات المتحدة مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل اعتراف
الأخيرة بالقرارين 242 و338. ويعتبر البعض أن هذه المذكرة أظهرت تبعية إسرائيل
للولايات المتحدة بشكل واضح وصريح.
ومع التوقيع
على اتفاق سيناء (لفصل القوات بين مصر وإسرائيل) عام 1975، بدأ أن سياسة
"الخطوة خطوة" التي اتبعها وزير الخارجية الأميركي أنذاك هنري كيسينجر
قد حققت أهدافها، وباتت التسوية الشاملة مطلباً ضرورياً بالنسبة للولايات المتحدة.
بعد انتخابه
رئيساً، اختار جيمي كارتر طاقماً من المساعدين المؤيّدين لفكرة منح إسرائيل
الضمانات لقاء دخولها في عملية التسوية السلمية الشاملة. ويرى البعض أن وصف كارتر
لإسرائيل بـ"الرصيد الاستراتيجي" كان مجرد كلام، إذ كان كارتر من أنصار
التسوية الشاملة التي تقوّي رصيد الولايات المتحدة لدى العرب والتي تضمن إقامة حلف
دفاعي أميركي – إسرائيلي قائم على أساس منح الضمانات الأميركية من جانب واحد، في
الوقت الذي اعتبر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن المساعدات الأميركية
لإسرائيل صفقة رابحة للولايات المتحدة مقابل مختلف الخدمات والمواقف الإسرائيلية.
أصرّت إسرائيل
على جعل العلاقة مع الولايات المتحدة على شكل التحالفات الموجودة داخل حلف شمال
الأطلسي (الناتو) لكن فوز الليكود بالسلطة عام 1977 كان العامل الأقوى في إسقاط
المطلب الإسرائيلي وفي إفشال سياسة كارتر حيال التسوية الشاملة وأفسح اتفاق كامب
ديفيد عام 1979 المجال أمام إسرائيل لاستعادة المكانة التي كانت تحتلها لدى
الولايات المتحدة قبل العام 1973 (أي الرصيد الاستراتيجي)، في الوقت الذي أصبحت
فيه الولايات المتحدة مستعدة للتوقيع على اتفاق أمني دفاعي مشترك مع الحكومة
الإسرائيلية.
وساهم سقوط
نظام الشاه في إيران (عام 1979) والمعارضة العربية لكامب ديفيد في تعزيز مكانة إسرائيل
لدى الولايات المتحدة حيث تم التوصل إلى مذكرة اتفاق 26 آذار/ مارس 1979 بين وزيري
الخارجية الأميركية سايروس فانس والإسرائيلي موشيه دايان ولم تتضمن المذكرة أي
إشارة إلى حماية إسرائيل من الخطر السوفياتي، بل أكدت على ضمان تدخل الولايات
المتحدة في حال الطوارئ وسد حاجات إسرائيل الاقتصادية والعسكرية، واشترطت تطبيق
بنود اتفاق السلاح المصري – الإسرائيلي (كامب ديفيد). وقد تلخصت سياسة كارتر في
تلك الفترة في النقاط التالية:
1 – إيجاد
وسيلة لملء الفراغ الذي خلّفه الشاه.
2 – تعزيز
الوجود العسكري الأميركي في بحر العرب.
3 – تعزيز
الوجود الاستخباراتي الأميركي في السعودية عن طريق طائرتي الأواكس.
4 – إعلان
واشنطن استعدادها لإرسال جنودها إلى أي منطقة حساسة في الشرق الأوسط.
تجدر الإشارة
هنا إلى أن خيار واشنطن أصبح بعد كامب ديفيد خياراً عسكرياً بعد أن كان خياراً ديبلوماسياً
تسووياً. وهذا أثّر إيجاباً على وضع إسرائيل بالنسبة إلى استراتيجية الولايات
المتحدة حيث شهد تقدماً نحو مستوى "الرصيد الاستراتيجي". وهكذا تكوّنت
عقيدة كارتر المتمثلة في التدخّل لدرء الأخطار الخارجية والإقليمية التي يمكن أن
تهدّد مناطق ثلاث: الشرق الأوسط، الخليج، وكوريا الجنوبية.
3 – التحالف
الاستراتيجي (1981 – 1982)
بعد العام
1980، تبنّت إدارة ريغان سياسة "التدخّل" وتحولت عن السياسة الإقليمية
نحو "سياسة عالمية شاملة"، وفضلت اعتبار إسرائيل رصيداً أساسياً لها في
الشرق الأوسط مع المحافظة على علاقات حسنة بدول الخليج. وتم توقيع مذكرة تفاهم
أميركية – إسرائيلية حول التعاون الاستراتيجي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1981. وكان
هذا التعاون الاستراتيجي يستهدف العالم العربي لإضعاف الدول العربية والتقليل من
أهمية دورها في المنطقة. وقد أدى إلى تقليص الاهتمام بالتسوية السلمية وإعفاء
إسرائيل من تقديم التنازلات مقابل السلام. كما أدى إلى تعزيز ثقة إسرائيل بنفسها
وبتحالفها مع واشنطن، الأمر الذي شجعها على القيام بضرب المفاعل النووي العراقي
وإخضاع الجولان للقانون الإسرائيلي عام 1981، وغزو لبنان ودخول بيروت عام 1982
بتأييد من واشنطن التي كانت ترغب في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان
وإجبار سوريا على الانسحاب تمهيداً لإقامة نظام لبناني مركزي وقوي موالٍ لها.
وبعد أن تحوّل
لبنان إلى مستنقع خطر غرقت فيه إسرائيل حاولت الولايات المتحدة التعويض عليها عبر
تعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين حيث تم التوقيع على عدد من الاتفاقات
الأمنية والعسكرية أبرزها اتفاق التعاون في برنامج "حرب النجوم" وتوّج
هذا التعاون إعلان ريغان في شباط/ فبراير 1987 أن إسرائيل أصبحت في مستوى الحليف
الاستراتيجي – غير الأطلسي – في مجال الأبحاث والتطوير.
اقتضت
التغيّرات الدولية والإقليمية (ضعف الاتحاد السوفياتيي، انتهاء الحرب العراقية –
الإيرانية، التأييد العالمي للانتفاضة الفلسطينية)، من الرئيس جورج بوش (الأب) أن
يمارس سياسة براغماتية تلخصت في دعم إسرائيل (عسكرياً واقتصادياً) وحثّ رئيس
حكومتها إسحاق شامير على نهج منهج سلمي مع منظمة التحرير الفلسطينية مقابل توفير
الضمانات اللازمة لإسرائيل. لكن في أواخر عهد بوش حصلت تغيرات دولية وإقليمية مهمة
كانت لها انعكاساتها الخاصة على السياسة الأميركية الخارجية وأبرز هذه التغيّرات:
-
تفكك الاتحاد
السوفياتي وظهور الولايات المتحدة مثابة القوة العظمى الوحيدة في العالم.
-
بروز العراق كقوة
إقليمية واحتلاله للكويت الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تتدخل عسكرياً في حرب
الخليج كقوة عظمى معنية بكل الأحداث الإقليمية وكحليف ثابت لإسرائيل، وكدولة حريصة
على حماية مصالحها النفطية في المنطقة.
لكن هذا
التدخل أظهر الدولة اليهودية بمظهر "الدولة العبء" غير الاقدرة على رد
العدوان، علاوة على عجزها عن معاقبة الطرف المعادي، في الوقت الذي ظهرت فيه مصر
بمظهر "الرصيد الاستراتيجي" للولايات المتحدة في المنطقة. كما أثبتت حرب
الخليج عجز إسرائيل عن لعب أي دور استراتيجي في مواجهة الأخطار الإقليمية والدولية
مع زوال خطر التدخّل السوفياتي وخطر "القومية العربية".
4 – خلاصة
تقويمية للعلاقة الاستراتيجية
تميزت العلاقة
الأميركية – الإسرائيلية في العقود الماضية، بثبات دعم واشنطن السياسي والمالي
لإسرائيل وبحرص الطرفين على حلّ كل المشكلات العالقة بينهما. ويمكن القول أن فكرة
"ضمان" إسرائيل ظلت قائمة ومحقّقة على الرغم من عدم وجود اتفاقات رسمية
بهذا الشأن.
قبل العام
1956، كان على إسرائيل تقديم التنازلات في عملية التسوية السلمية مقابل الحصول على
"الضمان" الأميركي. وبعد حرب 1956 باتت إسرائيل تُمثّل القوة المقابلة
للناصرية دون أن تبلغ مستوى الرصيد الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة. وبعد
حرب 1967 وأحداث الأردن (1970) احتلت إسرائيل مرتبة "الرصيد
الاستراتيجي" لكن حرب 1973 أعادت فكرة "الضمان" المرتبط بالتسوية
السلمية إلى جدول أعمال الإدارة الأميركية. وخلال الثمانينات، تميزت العلاقة
الأميركية – الإسرائيلية بالتعاون الاستراتيجي العسكري والأمني الذي عزّزته مذكرات
الاتفاق الموقّعة من قبل البلدين.
وبعد زوال
الخطرين السوفياتي والعراقي، عادت فكرة اعتبار إسرائيل "رصيداً
استراتيجياً" إلى موضع الشك والتساؤل، خصوصاً وأن "الخطر" الإسلامي
لا يعادل الخطر السوفياتي الأمر الذي لا يجعل واشنطن بحاجة إلى الاحتفاظ بذات
الدور الإسرائيلي الاستراتيجي. وقد عزّز هذا الرأي اهتمام الولايات المتحدة بترتيب
نظام إقليمي جديد وانطلاق عملية التسوية العربية – الإسرائيلية.
وإزاء تصاعد
قوة الفريق الأميركي الداعي إلى إلغاء فكرة كون إسرائيل رصيداً استراتيجياً
للولايات المتحدة وإثارة فكرة كونها عبئاً عليها، شنّ اللوبي اليهودي وفريقه في
الإدارة الأميركية حملة مضادة للترويج لدور إسرائيل القديم – الجديد في حماية
المصالح الأميركية في المنطقة من الأخطار التي تهددها. وتم اعتبار العراق وإيران
و"الأصولية الإسلامية" أبرز هذه الأخطار.
د – ميادين
التعاون الاستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي
ينسب أنصار
فكرة "الرصيد الاستراتيجي" خدمات ومزايا إلى إسرائيل، يمكن أن تستفيد
منها الولايات المتحدة، هي التالية:
1 – الموقع
الجغرافي: لقربها من الخليج تعتبر إسرائيل قاعدة استراتيجية يمكن لقوات التدخل
السريع الأميركية الانطلاق منها لتنفيذ أي عمل عسكري في الشرق الأوسط.
2 – البنية
التحتية المجهزة للتعبئة العسكرية: تمتلك إسرائيل أفضل المنشآت العسكرية في
المنطقة، وموانئها قادرة على استقبال أضخم السفن وأكثرها تقدماً، ومطاراتها مجهزة
لهبوط وإقلاع مختلف أنواع الطائرات إضافة إلى منشآت الصيانة الملائمة للسلاح
الأميركي.
3 – القدرات
الدفاعية: لإسرائيل قدرة على حماية القوات الأميركية التي تستخدم منشآتها من أي
هجوم جوّي أو برّي واسع النطاق.
4 – التجارب،
الأبحاث والتطوير، الاستخبارات: لدى الإسرائيليين تجربة حقيقية في ظل ظروف قتالية
مشابهة للظروف التي يمكن أن تتعرض لها قوات التدخل السريع الأميركية في المنطقة.
وإسرائيل هي التي عرفت الأميركيين على أسلحة السوفيات وتكتيكاتهم الحربية
المستخدمة في الجيوش العربية. ويمكن لمراكز الأبحاث والتطوير الأميركية أن تستفيد
إلى حد بعيد من اختبار الجيش الإسرائيلي لها في إقناع البلدان الأخرى بجدوى امتلاك
هذا السلاح. كما أن المعلومات الاستخباراتية التي يُزوّد الإسرائيليون بها واشنطن
عن العقليات والمفاهيم والأنظمة السياسية لبلدان الشرق الأوسط لا تُقدّر بثمن.
5 – القدرة
على التدخل: تمتلك إسرائيل قدرة على ردع الهجمات غير النووية وقدرات عملياتية
عظيمة تجعلها واحدة من دول حلف الأطلسي، وعامل استقرار في منطقة الشرق الأوسط التي
شهدت عدداً من الأحداث والتطورات التي كان يمكن أن تهدّد المصالح الأميركية في
المنطقة لولا وجود القوة العسكرية الإسرائيلية بمواصفاتها وقدراتها العالية (حماية
السعودية من عبد الناصر، إنقاذ الأردن من غزو سوري محتمل...).
هـ - عوامل
قوة اللوبي اليهودي
ثمة سؤال يطرح
نفسه هنا هو كيف نفسّر نفوذ اللوبي اليهودي في دوائر القرار لأساسي الأميركية
وتأثيره في السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط بينما لا يتجاوز عدد
اليهود الأميركيين الثلاثة بالمائة من مجموع الشعب الأميركي (5،6 مليون نسمة)؟
تعود قوة "اللوبي اليهودي" إلى ثلاثة عوامل أساسية هي: الصوت اليهودي،
والتمويل اليهودي للحملات الانتخابية، والتنظيم الفاعل للوبي.
1 – الصوت
اليهودي:
تكمن فاعلية
الصوت اليهودي في كون السكان اليهود الأميركيين غير موزعين بالتساوي بين الولايات،
ففي نيويورك وكاليفورنيا ونيوجرسي – على سبيل الثمال – تزيد نسبتهم على النسبة
الوسطية (3 في المئة)، حيث يتكثف وجودهم في المراكز المدنية من الولايات، هذه
المراكز التي تعتبر أكثر المناطق أهمية من الناحية السياسية. فعلى سبيل المثال:
مدينة نيويورك هي موطن أكثر من (90 في المئة) من سكان الولاية اليهود لذلك نجد أن
(12 في المئة) من السكان المؤهلين للاقتراع في نيويورك هم من اليهود. كما أن نسبة
الناخبين اليهود في كاليفورنيا تبلغ (3 في المئة)، وترتفع إلى (6 في المئة) في
نيوجرسي.
وهذه الولايات
تتميز بوزن انتخابي يفوق الوزن الذي يتميز به الكثير من الولايات الأخرى، نظراً
لضخامة عدد ممثليها الذين يشاركون في الانتخابات الرئاسية. ويتميز اليهود
الأميركيون في كون (90 في المئة) منهم يدلون بأصواتهم في الانتخابات، في حين أن
نحو (50 في المئة) من الناخبين الأميركيين لا يكلّفون أنفسهم عناء الاقتراع، الأمر
الذي يرفع نسبة أصوات اليهود بمعدل (واحد في المئة) على الأقل، علماً بأن هكذا
زيادة ترتفع نسبتها أكثر من الولايات التي تشهد وجوداً يهودياً أكثر كثافة حيث
تبلغ بين (2 و6) في المئة في نيويورك.
لكن أهمية
الصوت اليهودي تزداد في مرحلة الانتخابات الأولية، فنجد أن الناخبين اليهود
يُشكلون ربع الناخبين المشاركين في الانتخابات الأولية للحزب الديموقراطي في ولاية
نيويورك، ونصف أولئك المشاركين في الانتخابات الأولية لهذا الحزب في مدينة نيويورك
(مركز هذه الولاية).
وهكذا، نرى أن
خيارات الناخبين اليهودي في الانتخابات الرئاسية الأولية غالباً ما تُحدد اسم
المرشح الديموقراطي الذي سيدخل المنافسة ضد المرشح الجمهوري في الانتخابات
النهائية.
يكسب الصوت
اليهودي قوة إضافية لكون اليهود الأميركيين يتخذون مركز الوسط في تشكيلة ذات قطبية
ضعيفة يجعلهم يشكلون "نسبة أصوات متأرجحة" لمصلحة هذا المرشح أو ذاك.
ومعلوم "مدى اهمية الصوت المتأرجح كعامل حاسم في المنافسات التي يتقارب فيها
عدد الأصوات، إذ أن نسبة مئوية متدنية من الأصوات غالباً ما تستطيع أن تضمن فوز
مرشح ما وأن تشجع المرشحين – من هذا المنطلق – على إعطاء الوعود الضرورية لاجتذاب
ناخبي الوسط الذين لا يقدرون بثمن".
2 – تمويل
الحملات الانتخابية:
بالنسبة إلى
التمويل اليهودي للحملات الانتخابية، فإن منظمة إيباك، التي لا يحق لها قانونياً
جمع التبرعات من أجل تمويل الحملات الانتخابية، تقوم بتمويل الحملات الانتخابية
عبر "لجان العمل السياسي" (PACS). ويظهر اليهود الأميركيون كرماً مثالياً في تمويل الحملات
الانتخابية لمرشحيهم المفضَلين. ويمكن القول أن "لجان العمل السياسي" هي
أفضل أدوات الضغط والنفوذ للمجتمع اليهودي الأميركي.
وتبلغ قيمة
مساهمات هذه اللجان في تمويل الحملات الانتخابية نحو خمسة ملايين دولار وما يجعل
هذه المبالغ فاعلة – بغض النظر عن قيمتها – هي الطريقة التي يتم بها الإسهام إذ
"يجري غالباً تمويل الحملات الانتخابية في مرحلة مبكّرة، لمصلحة مرشح غير
معروف نسبياً (وهذا ما يحدث تحديداً في الحملات الرئاسية). أي في المرحلة التي
يكون فيها للمبالغ القليلة الأثر الأكبر، وإذا نجح المرشح سيظل ممتناً لهذه
اللجان. ومن جهة ثانية، تُخصص المبالغ – بالدرجة الأولى – للمقاعد الحساسة، أي
لمقاعد لجان الموازنة والشؤون الخارجية والقوات المسلحة".
كما يجري
تخصيص بعض الأموال لمقاطعات تكاد تنعدم فيها أصوات الناخبين اليهود، وذلك بهدف
إظهار أن تدخل اللوبي اليهودي عبر استخدام الأموال يمكن أن يحلّ محل تدخله عبر
استخدام الأصوات سواء لدعم مرشح أو لمعاقبة مرشح آخر. من هنا يمكننا أن ندرك السبب
الذي يجعل المرشحين في الانتخابات الرئاسية أو النيابية يتنافسون في إظهار حبّهم
لإسرائيل وإغداق الوعود لها.
3 – طريقة عمل
اللوبي:
أما كيف نفسر
تأثير اللوبي في رسم السياسة الخارجية الأميركية حيال منطقة الشرق الأوسط
وإسرائيل؟
يمارس اللوبي
نفوذه وتأثيره في رسم السياسة الخارجية عن طريق الكونغرس المخوّل التصديق على
المعاهدات ومبيعات الأسلحة والحروب، والإشراف على العمليات السرية، وإقرار
الموازنات (وخاصة موازنتي الدفاع والمساعدات الخارجية). كما بإمكان الكونغرس
التأثير في عمل السلطة التنفيذية عبر عقد جلسات الاستماع المتعلقة بقضايا السياسة
الخارجية، ومطالبته السلطة التنفيذية بتقديم تقارير حول هذه المواضيع. ويوافق
الكونغرس دائماً – بأغلبية ساحقة – على أي اقتراح يتضمن إرسال المساعدات إلى
إسرائيل. كما يُقرر في معظم الأحيان زيادة قيمة المبلغ الذي تطلبه الإدارة.
والجدير ذكره
أن الفترة الممتدة بين العامين 1969 و1976 قد شهدت مواقف اقتراعية مؤيدة لإسرائيل
بنسبة 80 في المئة داخل مجلس الشيوخ وبنسبة 86 في المئة داخل مجلس ممثلي الشعب في
ما يتعلق بموضوع المساعدات. ويعتمد الكونغرس أسلوب ابتزاز الإدارة الأميركية في
حال رفضت الموافقة على اقتراحاته المؤيدة لإسرائيل بحيث يقوم بالتهديد بوضع القيود
على بعض الموازنات أو معارضة بعض الصفقات التي يمكن أن تشلّ عمل الإدارة
الأميركية. ولا يكتفي اللوبي اليهودي بممارسة ضغوطه على الإدارة الأميركية عبر
الكونغرس، بل يمارس أيضاً نفوذه المباشر على الإدارة عبر الأوساط المقرّبة منها
كالشخصيات السياسية والنخب الفكرية والأكاديمية الموالية لإسرائيل، عبر الترهيب
بعقاب مسؤولي الإدارة من خلال ردّات الفعل التي قد تظهر في وسائل الإعلام وفي
الكونغرس وعن طريق تعبئة الرأي العام ضدهم.
4 – صلاحية
تفسير "اللوبي"
لكننا يجب ألا
يعتقد "أن نفوذ اللوبي يمكنه أن يشلّ الإدارة الأميركية في كل الظروف، فإذا
أراد البيت الأبيض أن يتحدّى الكونغرس، فإن الضغط المباشر الذي يستطيع الأول أن
يمارسه على العديد من أعضاء الكونغرس يجعل منه (أي البيت الأبيض) اللوبي الأقوى،
كما أظهرت المعركة التي دارت حول صفقة بيع طائرات الأواكس إلى السعودية. إذ عندما
ترى الإدارة الأميركية أن المصالح الأميركية في خطر، فبإمكانها أن تتذكر لأولويات
ورغبات اللوبي بجهد يسير نسبياً. أما إذا كان حجم الضرر الذي قد يلحقه نفوذ اللوبي
بالمصالح الأميركية غير واضح، فما من شيء يستطيع ترغيب صانعي القرار (الأميركي) في
تحمّل التبعات الداخلية المترتّبة على الضغط على إسرائيل، (وخاصة عندما تكون هذه
التبعات على شكل تراجع في الرصيد الانتخابي أو تشويه صورة الساسة الأميركيين بنظر
الجمهور). ولعل هزيمة الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) في الانتخابات الرئاسية عام
1992 بسبب قراره تجميد ضمانات القروض الأميركية لإسرائيل دليل على قدرة اللوبي على
عقاب السياسيين الذين يعارضون إرادته. لكن هل يمكن أن نعتبر نفوذ
"اللوبي" هو التفسير المناسب والصحيح للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية
وأن ننسب إليه مجمل السياسة الأميركية المتعلقة بإسرائيل؟
على الرغم من
كون نفوذ اللوبي يساهم إلى حد بعيد في تفسير هذه العلاقة، إلا أن قوة نفوذ اللوبي
لا يمكن تفسيرها فقط بالقوة المالية اليهودية والصوت اليهودي والتنظيم المحكم
للوبي، لأن هذه العوامل الثلاثة – برأي البعض – لا تمثّل بحد ذاتها الأساس الكافي
لبناء وتكوين هذه القوة المعتبرة. ويرى بعض الباحثين أن التفسير الذي يعطي دوراً
جوهرياً للوبي يمكّن القادة الأميركيين من الإيحاء للعرب بأنهم في حلّ من السلوك
الموالي لإسرائيل الذي تنتهجه إدارتهم، ومن مطالبتهم للعرب بتقديم التنازلات التي
تساعدهم في نضالهم ضد اللوبي الإسرائيلي. كما يمكّن هذا التفسير القادة العرب من
تبرير مواقفهم الموالية لأميركا أمام شعوبهم، وإيهامهم بأنه ينبغي تمويل حملة
مضادة للوبي في واشنطن. أما بالنسبة للقادة الإسرائيليين، فإن "إيمانهم بقدرة
اللوبي على فعل كل شيء يجعلهم يعتقدون أنهم مهما فعلوا سيجدوا، في واشنطن، دائماً
أنصاراً ومدافعين قادرين على إبطال المحاولات التي تبذلها الإدارة الأميركية من
أجل ممارسة الضغوط عليهم".
ويذهب الباحث
كميل منصور إلى أن التفسير القائم على أساس قوة اللوبي يفتقر إلى الصلاحية العلمية
لأن البراهين التي يستند إليها عاجزة – على سبيل المثال – عن تفسير التنافس
"فوق العادي" بين السيناتورات (أو النواب) بهدف إظهار ودهم لإسرائيل، أو
تفسير المزايدة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري عبر البرنامج الانتخابي الموالي
لإسرائيل. لذلك، تحتاج قوة اللوبي نفسها إلى التفسير، قبل تفسير خصوصية العلاقة
الأميركية – الإسرائيلية.
ويرى منصور
أنه يمكن تفسير هذه القوة إلا بواسطة عوامل ثلاثة تساهم بدورها في تفسير العلاقة
المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة. وهذه العوامل هي:
1 – المنزلة
الرفيعة لدولة إسرائيل.
2 – دور القوة
العظمى الذي تلعبه الولايات المتحدة.
3 – البعد
الأيديولوجي والثقافي للمجتمع الأميركي.
يستمد اللوبي
"جزءاً من قوته من المكانة المرموقة التي تتمتع بها إسرائيل فهي بالنسبة إلى
اليهود الأميركيين – قضية توحيد وتعبئة، ومدعاة للفخر، وموضوعاً يُحقق هويتهم
وانتماءهم، فكون اللوبي يتبع توجيهات الحكومة الإسرائيلية يمثل مصدراً مهماً
للنفوذ، لأن هذا العمل المنظم لمصلحة إسرائيل – من قبل جماعة ضغط مشكلة خصيصاً
لهذا الغرض، بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية له تأثير كبير على صانعي القرار
الأميركي، وذلك بسبب النفوذ المباشر لإسرائيل على صانعي القرار الأميركي نظراً
لكونها دولة إقليمية ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
أما العامل
الثاني، أي مكانة الولايات المتحدة العالمية، فيكمن في كون أي انتصار يحرزه اللوبي
في المعارك الداخلية الأميركية يُضاعف مرات عديدة عندما يُترجم إلى السياسة
الخارجية لأنه مدفوع بقوة الولايات المتحدة كاملة.
و – تفسير
"الهوية الثقافية – الإيديولوجية"
يبقى هناك
العامل الثالث والأهم، وهو الثقافة والإيديولوجيا السائدان في الولايات المتحدة.
إذ يعود نجاح اللوبي إلى كونه يلعب دور المناصر لإسرائيل والمدافع عنها بإسم
الانتماء الأميركي – الإسرائيلي المشترك.
واضحٌ أن
الشعب الأميركي يفضّل إسرائيل على الدول العربية حيث أن نحو ثلاثة أرباع
الأميركيين يشعرون بالتزام أخلاقي حيال مسألة "منع زوال الدولة
اليهودية". ويظهر هذا الأمر في الأوساط السياسية والعمالية وفي الجامعات
والكنائس. ويعود ذلك إلى طبيعة التركيبة الثقافية – الإيديولوجية الأميركية، إذ أن
إسرائيل هي جزء من الثقافة الغربية والأوروبية وهي وجه من أوجه التراث الغربي
"اليهودي – المسيحي".
ويحدّد الباحث
الأميركي ميتشيل بارد الاعتبارات التي تجعل الولايات المتحدة تشعر بالتزام أخلاقي
تجاه إسرائيل على الشكل التالي: "عطفها على الشعب اليهودي لما عاناه في
المحرقة النازية (الهولوكست)؛ الإرث الثقافي اليهودي المسيحي المشترك: تشابه
النظامين الأميركي والإسرائيلي من حيث أن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة
في منطقة تعج بالأنظمة الاستبدادية؛ عزلة إسرائيل (ذات المساحة الصغيرة والخمسة
ملايين نسمة) بين مائتين وستين مليون عربي يفضلون استئصالها من العالم الإسلامي؛
إيمان الأميركيين بوجوب دعم حق الشعب اليهودي في العيش على أرضه التاريخية".
هذا الوضع
الإيديولوجي – الثقافي يُشعر المرشحين بخطأ اتخاذ المواقف غير الموالية لإسرائيل.
وهو الوضع الذي ينطلق منه اللوبي في تحرّكه. فقد بات "دعم إسرائيل قيمة من
قيم المجتمع الأميركي الشعبي والسياسي". وعليه، فإن الهوية الثقافية –
الإيديولوجية تحتل مكاناً مركزياً وثابتاً في تفسير العلاقة الأميركية –
الإسرائيلية.
وقد لعبت
"الصهيونية المسيحية" في الولايات المتحدة دوراً كبيراً في تكريس
"دعم إسرائيل" كإحدى ثوابت القيم الأخلاقية في المجتمع والثقافة
الأمريكيتين. وقد تعزّز نفوذ "الصهيونية المسيحية" هذه بعدما استطاعت
اختراق "اليمين المسيحي" في الولايات المتحدة وهو الذي يشكل الطرف
الأقوى داخل الحزب الجمهوري.
وتعود بدايات
التحالف الصهيوني – الإنجيلي إلى أواخر السبعينات عندما وضع حزب الليكود خطة عام
1978 لتشجيع الكنائس الأصولية المسيحية على تأييد إسرائيل. ففي عام 1980 اجتمع
رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن بالقس الإنجيلي جيري فالويل خلال عشاء
احتفالي في نيويورك، تبعه بعد عام إنشاء "السفارة المسيحية الدولية، في
القدس. وفي عام 1985، نشأ لوبي صهيوني مسيحي رسمي عُرف بـ"تحالف الوحدة
الوطني من أجل إسرائيل" وأعلن عنه في احتفال كان المتحدث الرئيسي فيه بنيامين
نتنياهو، الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء إسرائيل. وقد عمل نتنياهو عندما أصبح رئيساً
للوزراء على تعزيز تحالف حزب الليكود مع "اليمين المسيحي" في الحزب
الجمهوري ذي التأثير البالغ على الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الأميركي خلال عهد
كلينتون، وحاول نتنياهو الضغط على كلينتون من خلال حلفائه في الكونغرس.
والمعروف
تاريخياً أن معظم اليهود الأميركيين يصوّتون لمصلحة الحزب الديموقراطي ومرشحه
للرئاسة ومرشحيه للكونغرس، وقد شكلت أصوات اليهود وأموالهم "حصان
طروادة" بالنسبة للمرشح الديموقراطي للرئاسة آل غور ونائبه اليهودي جوزيف
ليبرمان في مواجهة المرشح الجمهوري جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني في الانتخابات
الرئاسية عام 2000. وقد أعطى معظم الأميركيين العرب والمسلمين أصواتهم لجورج بوش
بحيث رجحوا فوزه على آل غور بفارق 600 صوت، إذ توقع العرب والمسلمون ومن ورائهم
دولهم وشعوبهم أن يكون بوش أكثر توازناً في سياسته الشرق أوسطية مقارنة بآل غور
الذي جاهر بصهيونيته خلال الحملة الانتخابية. لكن بوش الابن ومساعديه قد فاجأوا
بانحيازهم لإسرائيل ليس العرب والمسلمين الأميركيين وأنظمتهم وشعوبهم فحسب، بل حتى
اليهود الأميركيين ومن ورائهم إسرائيل، بحيث بدأت أصوات في اللوبي اليهودي تدعو
اليهود الأميركيين إلى التحوّل من دعم الديموقراطيين إلى دعم الجمهوريين في الانتخابات
المقبلة. ولا شك أن الرئيس بوش الابن، الذي أوشك على الهزيمة في الانتخابات بفارق
مئات الأصوات، يرغب في الحصول على تأييد اللوبي اليهودي للفوز بولاية ثانية في
انتخابات 2004. لذلك أفرط بوش ومساعدوه في الانحياز لإسرائيل ومنع رئيس وزرائها
أرييل شارون "ضوءاً أخضر" لقمع الانتفاضة الفلسطينية وتدمير السلطة
الفلسطينية ووأد اتفاقات أوسلو وجنين الدولة الفلسطينية الموعودة. وجاءت أحداث 11
أيلول/ سبتمبر 2001 لتعزّز من هذا التحالف الصهيوني – "المسيحي الأصولي"
والأميركي – الإسرائيلي ضد العرب والمسلمين في فلسطين والشرق الأوسط. إذ وظّفت
إسرائيل وأنصارها داخل الإدارة والكونغرس ووسائل الإعلام ومؤسسات البحث والتفكير
الأميركية هجمات 11 أيلول/ سبتمبر لتعزيز مفهوم دور إسرائيل كرصيد استراتيجي
للولايات المتحدة في الشرق الأوسط من جهة، وللتأكيد على مفهوم "صدام الحضارات"
بين الغرب والإسلام من جهة أخرى.
في هذا السياق
لم تقتصر الحملة الصهيونية – الأميركية داخل الإدارة والمجتمع الأميركيين على
التحريض ضد أنظمة تعتبر عدوة للولايات المتحدة وتسمى بأنظمة "مارقة" أو
"داعمة للإهارب" كإيران والعراق وليبيا والسودان وسوريا، بل طاولت
الحملة دولاً صديقة للولايات المتحدة مثل السعودية ومصر بسبب مواقفهما المعارضة
للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وتشعبت العلاقة الخاصة الأميركية –
الإسرائيلية في عهد بوش الابن بصورة لم يسبق لها مثيل حتى في عهود أكثر الرؤساء
ولاء لإسرائيل، بحيث تبنت إدارة بوش جدول أعمال حكومة شارون المتطرفة تجاه القضية
الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط، بدءاً من اعتبار المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال
"إرهاباً" إلى مقاطعة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والمطالبة بتغييره
والقيام بإصلاحات شاملة داخل السلطة الفلسطينية، وانتهاء بإعلان "محور الشر"
الذي ضم العراق وإيران وكوريا الشمالية امتداداً إلى غزو العراق وتغيير نظامه
واحتلاله وانتهاء بالتهديدات الأميركية لسوريا. أو إيران ولبنان.
المساعدات
الأميركية لإسرائيل
أكد تقرير
فلسطيني أن الولايات المتحدة الأميركية لعبت دوراً كبيراً وحساساً في إدارة وتوجيه
الصراع مع إسرائيل مذ نشأة الصراع العربي – الصهيوني، لكنها في سبيل ذلك دفعت
ثمناً باهظاً قدّره باحث اقتصادي أميركي بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار.
وقال مركز
الإعلام والمعلومات في غزة أن الاقتصادي الأميركي البارز توماس ستوفر الذي يعمل
أستاذاً في جامعتي هارفرد وجورج تاون ذكر في مقالة مؤخراً بعنوان "تكلفة
الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على دافع الضرائب الأميركي ثلاثة تريليونات
دولار"، كشف من خلاله مجموعة من الحقائق حول التكلفة الحقيقية لتبني الولايات
المتحدة لإسرائيل منذ نشأتها سواء على مستوى المساعدات المباشرة لإسرائيل أو ما
تكلفته الولايات المتحدة بسبب سياستها المتحيّزة دائماً لإسرائيل، ولعل أبرز ما في
المقال ما ورد في عنوانه الذي يظهر أن تكلفة هذه العلاقة بلغت أكثر من ثلاثة
تريليونات دولار أو بمعنى آخر ثلاثة آلاف مليار دولار أو ثلاثة ملايين مليون دولار،
وبشكل أكثر ببساطة ثلاثة وأمامها إثنا عشر صفراً.
ويدين ستوفر
في مقاله الكلفة الأسطورية لعلاقة الولايات المتحدة بإسرائيل منذ فترة ما بعد
الحرب العالمية الثانية، فقيمة ثلاثة تريليونات دولار على دافعي الضرائب
الأميركيين حسب قيمة الدولار عام 2002 تساوي أربعة أضعاف كلفة الحرب في فيتنام.
ويذكر الكاتب
أن هذا الرقم يبقى منخفضاً عن القيمة الحقيقية حيث ظلت نفقات أخرى بدون حساب،
ويشير ستوفر إلى أن حرب عام 1973 كلفت الولايات المتحدة على أقل تقدير 750 مليار
دولار إلى تريليون دولار، وتضمن ذلك إنقاذ إسرائيل عندما وافق الرئيس نيكسون على
إعادة تزويدها بالأسلحة الأميركية، فبسبب نقص البنزين فقدت الولايات المتحدة نحو
300 – 600 مليار دولار من إجمالي ناتجها القومي، كما تكلّفت 450 مليار دولار أخرى
على شكل استيراد نفط بتكاليف أعلى. وتشير التقديرات الأميركية الرسمية إلى أن
إسرائيل حصلت على 5،62 مليار دولار على شكل مساعدات خراجية منذ عام 1949 ولغاية
1996. وهذا المبلغ يقارب تماماً المبلغ الذي خصص من المساعدات الخارجية الأميركية
إلى جميع الدول الواقعة جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى ودول أميركا اللاتينية
ومنطقة الكاريبي مجتمعة والبالغ 000،000،497، 62 دولاراً.
وأشار مركز
المعلومات إلى أنه بمقارنة تعداد سكان إسرائيل البالغ عددهم 8،5 مليون نسمة
تقريباً مع حجم ما تلقته من مساعدات فإن حجم المساعدات الأميركية التي منحت لكل
فرد في إسرائيل تقدّر بـ48،775،10 دولار. وبمقارنة أخرى بين المساعدات التي قدمتها
الإدارة الأميركية في الفترة نفسها للدول الأفريقية وبين عدد سكانها نجد أن كل
دولار صرفته أميركا على مواطن أفريقي، أنفقت مقابله 65،250 دولاراً على مواطن
إسرائيلي وعلى نفس الموال نجد أن كل دولار منحته على شكل مساعدات إلى أميركا
اللاتينية ومنطقة الكاريبي: أنفقت مقابله 214 دولاراً على مواطن إسرائيلي.
وأكد المركز
الفلسطيني أن المساعدات الأميركية كانت العنصر الرئيسي الذي تم من خلاله إنشاء
وتدعيم الدولة العبرية، وهي التي أمدتها بأسباب الحياة، وموّلت لها شراء وتطوير
الأسلحة وبناء اقتصاد حديث ورفعت مستويات المعيشة فيها بشكل مفتعل لجنب المهاجرين،
وهو ما خلق في النهاية هذا الكيان السرطاني الذي أصبح له وجود على الأرض
الفلسطينية من العدم. وقال التقرير أنه نتيجة لهذه العلاقة الواضحة بين نشأة
واستمرار إسرائيبل وبين استمرار الإمدادات المتتالية من الولايات المتحدة فإن
الأخيرة لا تتوانى عن تقديم المزيد من المساعدات في الحالات والظروف الصعبة التي
تمر بها إسرائيل، وهو ما حدث في عام 1973 ويحدث الآن بعد أن أصيب الاقتصاد
الإسرائيلي بضربة كبيرة بسبب الانتفاضة الفلسطينية والظروف الدولية بعد أحداث 11
أيلول سبتمبر 2001 والحرب على العراق.
ورغم أن
المساعدات الأميركية المباشرة لإسرائيل بلغت في عام 2000 نحو 92،1 مليار دولار
وكان من المقرر أن تستمر في التزايد إلى مبلغ 4،2 مليار دولار سنوياً في عام 2008،
إلا أنها وبسبب "انتفاضة الأقصى" التي استطاعت أن تضرب الاقتصاد
الإسرائيلي بشدة قفزت في عام 2002 لتصل إلى 6 مليارات و420 مليون دولار طالبت بها
الحكومة الإسرائيلية وغالبيتها مساعدات عسكرية.
وحصلت إسرائيل
ضمن موازنة الحرب على العراق التي أعدتها إدارة البيت الأبيض على مليار دولار
وضمانات قروض بمبلغ تسعة مليارات دولار. ويتوقع أن تطلب الحكومة الإسرائيلية هذا
العام مساعدات بقيمة أربعة مليارات دولار على شكل معونة عسكرية إضافية وعشرة
مليارات دولار أخرى ضمانات قروض.
وخلص تقرير
مركز الإعلام إلى القول أن الأرقام الرسمية الأميركية عن حجم المساعدات لإسرائيل
تقل عن المساعدات على وسائل الإعلام الأميركية، وعلى أعضاء الكونغرس الأميركي
المعنيين بهذا الشأن أو الذين يملكون معلومات بصدده فهم في الغالب من اليهود؛ أو
من أولئك الذين تلقوا تبرعات ضخمة لحملاتهم الانتخابية من قوى الضغط (اللوبي)
الإسرائيلية في العاصمة الأميركية، او من لجنة الشؤون العامة الأميركية –
الإسرائيلية (إيباك) أو من كليهما، وبالتالي فليس لديهم أي دافع لكشف هذه الحقائق
التي يمكن أن تضعهم في دائرة المواجهة مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
ومع ذلك
فقدقام الصحافي الأميركي فرانك كولينز بمحاولة للكشف عن بعض المعلومات حول حقيقة
هذه المساعدات مستعيناً بتقارير من جهاز البحوث التابع للكونغرس ومصادر أخرى، حيث
دوّن جميع البنود الإضافية التي حصلت عليها إسرائيل والتي جرى إخفاؤها ضمن موازنات
البنتاغون والهيئات الاتحادية الأخرى للسنة المالية 1993، واستخلص من ذلك وجود
مساعدات إضافية تبلغ 3،1 مليار دولار ومبلغ إضافي قيمته 8،525 مليون دولار للسنة
المالية 1996، ويمثل هذا المتوسط زيادة بنسبة 2،12 في المئة على إجمالي المساعدات
الخارجية المسجلة رسمياً لهذه السنوات. وإذا افترضنا أن إجمالي المساعدات الفعلية
من الموازنات الأخرى بلغ القيمة نفسها، مما يجعل إجمالي المساعدات الأميركية
لإسرائيل منذ العام 1949 يصل إلى 200،827،204،83 دولار ويبدو أن دهاليز المساعدات
الأميركية لإسرائيل متشعبة إلى حدّ يصعب معه إلى حد كبير رصد الأوجه المختلفة لها،
لكن المؤكّد أن إسرائيل تستفيد من كل ما يمكن أن يدر عليها مبالغ مالية، فعلى سبيل
المثال تقوم باستثمار أموال المساعدات الممنوحة لها في سندات الخزانة الأميركية،
نظراً للامتيازات الخاصة الممنوحة لها والمتمثلة في حصولها على جميع مساعداتها
السنوية خلال الشهر الأول من السنة المالية بدلاً من توفيرها على شكل أقساط ربع
سنوية على غرار متلقي المساعدات الآخرين، وهذا يعني أن الولايات المتحدة، التي
يتعين عليها اقتراض الأموال التي تقدمها لإسرائيل مقدماً، تدفع فائدة على هذه
الأموال في حين تقوم إسرائيل في الوقت ذاته بتحصيل الفائدة على أموال المساعدات
الممنوحة لها. وتضيف الفائدة المحصلة من الدفعات المقدمة لها سلفاً مبلغ 65،1
مليار دولار إلى إجمالي المساعدات ما يجعل مجمل هذه المساعدات تصل إلى نحو
000،827،854،84 دولار منذ العام 1949، أي نحو 346،14 دولاراً لكل إسرائيلي. وبجانب
كل هذا تقدم الإدارة الأميركية الضمانات على القروض وإعفاءات ضريبية للتبرعات المقدمة
من مواطنين أميركيين يهود وقد وصلت إلى ما يقدر بنحو 30 مليار دولار منذ قيام
إسرائيل.
خلص التقرير
إلى أن الفضل الأول في بقاء الكيان الإسرائيلي على قيد اليحاة كان للمساعدات
الأميركية، وبالتالي فإن لها تأثيراً لا يمكن أن نقلّل من شأنه على السياسة
والحكومات الإسرائيلية بغض النظر عن اتجاه هذه الحكومات، وهو ما يؤكد أن الحكومة
الأميركية بإمكانها أن تحقق نقلة نوعية في طريق السلام في الشرق الأوسط، إن أرادت
ذلك وهو ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي بوش الأب عندما مارست الضغط على حكومة
شامير للقبول بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام. فمهما بالغت الحكومات الإسرائيلية
في محاولة الظهور بمظهر الحرية في اتخاذ القرار السياسي إلا أن شريان المساعدات
الأميركية التي تصب في الكيان الإسرائيلي وتبقيه على قيد الحياة تجعل من أميركا
الحاكم بأمره والموجّه الأول والأخير لهذا الكيان إن كان لها رغبة في ذلك.
خلاصة
وهكذا نجد أنه
لا يمكننا الاقتصار في تفسير العلاقة الأميركية – الإسرائيلية على تفسير أحادي يضع
الحقيقة في عامل واحد وإغفال التفسيرات الأخرى، بل لعلّ التوفيق بين هذه التفسيرات
المتداخلة والمميزة (العامل المصلحي – الاستراتيجي، اللوبي، والهوية الثقافية –
الإيديولوجية) ليست دُمية بيد اللوبي اليهودي وهي بإمكانها متى شاء رئيسها أن تفرض
إرادتها كما أثبت كل من آيزنهاور (عندما فرض على إسرائيل الانسحاب من سيناء وقطاع
غزة عام 1957) وريغان (عندما تحدّى اللوبي بإصراره على بيع الأواكس للسعودية) وبوش
(عندما جمّد ضمانات القروض الأميركية لإسرائيل).
وإسرائيل ليست
أداةً بيد الولايات المتحدة على لارغم من كون المساعدات الأميركية السنوية لها
تفرض عليها شكلاً من أشكال التبعية. ولا يستطيع العامل المصلحي وحده تفسير العلاقة
بين الدولتين إذ كثيراً ما تتعارض مصلحة إحداهما مع الأخرى، ويتم الأضرار بالمصالح
الأميركية بسبب السياسة المنحازة لإسرائيل، كما لا يمكننا تحميل العامل الثقافي –
الأيديولوجي أكثر مما يحتمل، فالمصلحة تسمو على الروابط الأيديولوجية – الثقافية
في القضايا الحساسة بالنسبة للولايات المتحدة.
بيد أنه يجب
الاعتراف بأن كلاً من هذه التفسيرات قد يكون صحيحاً في فترة ما أو خلال ولاية رئيس
وقد يكون خاطئاً في فترة أخرى أو في عهد رئيس آخر. فعلى سبيل المثال، لعب العامل
المصلحي البراغماتي – الاستراتيجي دوراً بارزاً في تمتين العلاقة الأميركية –
الإسرائيلية خلال عهود آيزنهاور وريغان وبوش بينما كان للوبي الدور الأبرز خلال
عهود ترومان وجونسون ونيكسون. والرئيس كلينتون قد تجاوز أقرانه في الولاء لإسرائيل
حيث ظهر جلياً مدى النفوذ الذي بلغه اللوبي في عهده، داخل إدارته أو في الكونغرس،
الأمر الذي جعل اللوبي يتحكم بالسياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط. اما في عهد
بوش الابن، فقد انعدمت الفوارق بين السياستين الأميركية والإسرائيلية.
وفي الختام،
ثمة سؤال هو: هل بإمكان العرب فعل أي شيء لتغيير واقع العلاقة المميزة جداً بين
إسرائيل وأميركا؟ من الوهم الاعتقاد بذلك في المدى المنظور، نظراً لضعف العرب
وتفرّقهم وميل معظم الدول العربية إلى التحالف مع الولايات المتحدة وبالتالي تعزيز
مكانتها العالمية دون أن يُؤثّر ذلك في تهديد العلاقة المذكورة. ومهما "فعل
العرب فلن يتمكنوا من تغيير هويتهم وسمة وجودهم وأن يصبحوا "غربيين" أو
حتى من احتلال المرتبة نفسها التي تحتلها إسرائيل. فلا الاستغراب الذي يسعى إليه
البعض ولا التعاون العربي – الأميركي (الذي سبق حتى نشوء الكيان الإسرائيلي، كما
في حالة العلاقة مع السعودية)، ولا حتى تشكيل لوبي عربي رسمي في واشنطن، يمكنها
ردم الفجوة الثقافية الموجودة بين العرب والمسلمين والأميركيين".
فقط على مستوى
العامل المصلحي، أي عن طريق تعارض المصالح الأميركية مع المصالح الإسرائيلية، يمكن
للعرب أن يتدخلوا. بل عليهم أن يدفعوا باتجاه خلق تناقض بين المصالح الأميركية
والإسرائيلية أو تعزيز التناقض الموجود. ولعل الحظر النفطي، الذي فرضته الدول
العربية على الولايات المتحدة عام 1973 بسبب انحيازها التام لإسرائيل، مثال يمكن
الاستناد إليه إدراك مدى قدرة العرب والمسلمين على التأثير في الاقتصاد الأميركي،
وبالتالي في السياسة الأميركية تجاه قضاياهم.
Comments
Post a Comment