العلمانية حاجة إسلامية - نصري الصايغ
ـ كلنا في الاستبداد شرق؟
لم يكن الاستبداد العربي اختصاصاً لأنظمة. جميعها اشترك في إلغاء الشعوب، ونفي السياسة وقتل الغد. جميعها اشترك في تعميم الصمت والخوف ومنعالفكر قولاً وكتابة. جميعها، صنعت الخواء العربي التافه، جميعها، أكانت ملكية بفقه وهابي، أم أميرية بأمن بريطاني، أم علمانية ببربرية عسكرية أمنية، أم قومية بعقائد فذة وفظة في آن... جميعها، أنظمة استبدادية، تختلف في ما بينها بمنسوبالاستبداد.
أفضى الربيع العربي، في بعض كيانات العرب، إلى تدشين الحرية، عبرممارسة ديموقراطية، فجرت أول انتخابات حرة، بعيداً عن بلطجية الأنظمة وشبيحة السلطةوزوار الليل وخاطفي أنفاس الناس، وأفضت الخطوة الأولى، إلى تبوّء حركات إسلامية، منعائلة «الاخوان المسلمين»، قصب الأولوية، وهي تستعد للاشتراك في السلطة، والتأسيس،في المرحلة الانتقالية، للمستقبل، من حيث وضع الأسس الدستورية والضوابط السياسيةوأساليب انبثاق السلطة وكيفية إدارة البلاد، والتعاطي مع مجتمعات مدنية متعددةالانتماءات السياسية، والولاءات الدينية الموروثة والمؤطرة.
فهل ستنجو هذهالحركات الإسلامية من ممارسة الاستبداد؟ هل ستعرض معارضيها، ومعارضي توجهاتها، فيالفقه الديني، والفقه السياسي، والفقه الاقتصادي، والفقه العائلي، والخياراتالخارجية، إلى ما تعرضت له، إبان حكومات الاستبداد الملكية والعلمانية والاشتراكيةوالقومية، التي جعلت من سلطتها مرجعية مقدسة.
ثم، هل ستكف هذه الحركاتالاسلامية عن زج «المقدس» القمعي، في مواجهة الحرية، في إطار الحقوق الشرعية التينصت عليها الحداثة الاخلاقية: الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. حقوق الطفل، حقوقالمرأة، حقوق العمل الخ؟.
II ـ الشرعية الديموقراطيةللإسلاميين
أولا: لا خوف أبداً من صناديق الاقتراع. هي المرجعية، ولكن بشرطأن تكون مرجعية، محصّنة بالشفافية، تسير وفق أزمنتها المقررة، فلا تؤجل، ولو بداعحربي. مصانة بالحرية التامة، والفرص المتساوية للجميع، قولاً ودعماً وإعلاماً... وبرغم فقدان بعض عناصر الحصانة الانتخابية اليوم، فإن النتائج جاءت منطقية، ولا خوفمنها، إلا إذا.
ثانيا: «الشعب الذي أراد إسقاط النظام» وأسقطه، بقيادة نخبشبابية، معظمها علماني، ليبرالي، حداثي، لا يمكن ان يحصر عملية «بناء النظامالجديد»، بهذه النخبة الشبابية. فالشعب كله، باستثناء من صادره وقمعه في ظل النظامالاستبدادي، هو الذي يقرر كيف سيكون نظامه... و«الإسلاميون» من هذا الشعب، وكذلك «السلفيون»، إلى جانب القوى المدنية والليبرالية والعلمانية واليسارية والقومية... ان مشاركة الجميع في العملية الديموقراطية أسفرت عن فوز الإسلاميين وهذا كانمتوقعاً، وهو وليد نظام الاستبداد، الذي قضى على الحياة الحزبية واعتقل قادتها،ولكنه لم يقدر ولن، على ان يقضي على الحياة الدينية، التي تصبح في أزمنة الاستبداد،ملجأ روحيا وملجأ سياسيا منيعاً، برغم معاناته وبعض تشققاته.
ثالثا: الديموقراطية التي أتاحت الفوز «للإسلاميين» (تونس، مصر، المغرب، ويتوقع فوزها فيليبيا كذلك)، تفتح الباب للقوى المدنية، لتكون ممثلة في مؤسسات الدولة، وتعطيهافرصة المعارضة، كي تحقق فوزاً في انتخابات لاحقة، عبر معركة سياسية، لا دينية، ضد «الاخوان» وحلفائهم... وهذا يحتاج إلى عبقرية نضالية، ولحمة حقيقية بين القوى كافة،ومنازلة السلطة، بوجهها الاسلامي، في كل موقعة سياسية واقتصادية واجتماعية وتربويةوإعلامية.
لقد كانت معركة العلمانيين واليساريين والقوميين ضد السلطة، كما كانتمعركة الإسلاميين ضدها كذلك. أما وقد سقط الاستبداد، فلتبدأ المعركة الديموقراطية،بين قوى المجتمع، وفق ضوابط الحرية.
III ـ الإسلامية مشكلة المسلمين فيمذاهبهم
المشكلة مع الحركات الاسلامية أنها بطبيعة فكرها، غير ديموقراطية. ومهما استعانت بمرجعية «الشورى» والحكم الراشد، فإنها ستظل مشركة. إشراكها منزهدينياً، ولكنه مثبت سياسياً. هي تشرك في الدين والدولة، وتشرك في الدين والسياسة،وتشرك في الدين والتشريع، انها مشركة كثيراً، بين ما يجب تنزيهه وما يلزم تحييدهتماماً.
لا تكتفي الحركات الإسلامية، بمرجعية صناديق الاقتراع... لديها مرجعيةتشكل لها رصيداً، لا تفرط فيه. الدين، أو تحديداً، مذهبها الديني (سني، أو شيعي) هوعقيدتها. وهذا الرصيد يمكن صرفه في الواقع، في حقول شتى، غير الحقل الإيماني،بوجهيه الخاص والعام... تحضّر الدين سيكون هو دين الدولة. عندها ماذا تفعل بمن همليسوا مسلمين؟ هل يعرف الإسلاميون، شعور من ليس من دينهم إزاء هذه الوضعيةالدستورية؟ هل يدركون حجم الرفض لهذا الشرك، عند مسلمين علمانيين؟ هل يتسع صدرهملنقض إدخال الفقه المذهبي في قيام السلطة؟ (مثلاً هل يعرف الشيعة الرأي الاستخفافيالذي يواجه فيه أهل السنة، عقيدة ولاية الفقيه؟) إلى آخره من أمثلة.
كل الخطركامن هنا، إن دين أي فريق، في السياسة والاجتماع والتشريع، هو المشكلة. فكيف إذا تمتوظيف الدين، ومقدساته، إلها وأنبياء ورسلا ومرجعيات ورجال دين وأصحاب كرامات، فيالمعارك الانتخابية، في لحظات تقرير شأن دستوري ما؟ ان الدين، الذي هو بركةالمؤمنين به، يتحوّل إلى سلاح فتاك، وإلى فتنة تطول.
كم عمر الفتنة إلى اليوم؟أقصد تلك التي بدأت كبرى مع الخليفة عثمان بن عفان، وصارت عظمى على مدار خمسة عشرقرناً هجرياً. هل تذهب إلى فتنة الألف عام، تلك التي نعيش إرهاصاتها الدامية اليوم؟هل نذهب إلى تكريس هلال سني في مواجهة هلال شيعي. اتركوا المسيحيين جانبا. لم يعدعندهم معارك ليربحوها أو يخسروها... صاروا في الفصل الأخير من وجودهم، بكلأسف.
مشكلة الإسلاميين، في إصرارهم على إسلاميتهم. إسلاميتهم خط فاصل بينهم وبينالآخرين. والإسلام لا يوحد المسلمين ولم. ذلك أن ممارسة الدين، هي دائماً وفق مذهبأو طريقة. وحروب المذاهب الدينية، في الكرة الأرضية، حروب مضنية ومأساوية، ولا يربحفيها، لا الله ولا مذاهبه.
مشكلة أخرى تضاف: ان حمولة الإســلامي، تجعله متقدمابالطبيعة، على سواه من القوى العلمانية والليبرالية. الإسلامي يغرف شعبيته منالفراش الزوجي. من ولد مسلماً، مرشح في أغلب الأحـيان، لأن يكون إسلامياً، في مجتمعشبيه بمجتـمعنا، وفي لحظة تاريخـية كلـحظتنا هذه... العلماني، يصير فرداً مستقلابحكم الجهد الذي يبذله، ليتحرر من موروثه وتقليده وعائلـته وعشيـرته، ليصيرمواطــناً حراً. الإسـلامي لا يبذل جهداً، يولد ويتـربى وينشأ ويتعقدن، ويصـيرمقـلداً لأسـتاذه وشيخه ومرجعيته ولا مناص في ذلك. الإسلامي، مجموع، لا فرد فيه. الفرد، أساس العملية الديموقراطية. لذلك عندما تنزل القوى الإسلامية، ولو بأسماءمدنية (الحرية والعدالة وسواها) فإنها قادرة على اكتساح الجموع، لأن أكثرها منالعامة الطيبة، والتي يسهل قيادها بالمقدس أو بما شبّه لهم أنه كذلك.
في هذاالسياق، تصبح العملية الانتخابية مزوّرة. الانتخاب فردي، أو حزبي يقوم على تعاقدحزبين أفرادا ومؤسسة وبرنامجا سياسيا.
غير ان الأخطر في كل ذلك، هو في قدرةالبطن الإسلامي على تفريخ حركات تكفير (من يمنعها؟ فهي حركة تجتهد) وحركات عنفمسلّح، (من يمنع القاعدة عن ذلك) وحركات تنحر عدداً من شعبها (راجعوا قتل المواكبالعاشورائية)... ان كل دين، ينتج فرقاً في غاية التسامح والإنسانية والتصوّف، كماينتج فرقاً في غاية البربرية والقتل والتدمير.
IV ـ معارك العلمانيينالمقبلة
أمام العلمانيين في العالم العربي معركة بناء الدولة الحديثة،السيّدة على نفسها، المستقلة بإرادتها عن أي تأثير ونفوذ خارجيين. (العلمانيونوالليبراليون متهمون زوراً بأنهم غربيون، بحجة ان العلمانية بضاعة غربية، فيماالإسلام، في نظر حكماء العقل، هو علماني جداً، والدين دين لا دولة، والتشريع فيه،ابن زمان وجد فيه ومكان وبيئة تفاعل معها).
فكيف يواجه العلماني الإسلامي؟ ماذايريد منه، اليوم تحديداً، وكيف يواجهه ليهزمه غداً، وأصر على مفردة الهزيمة. لأن فيهزيمة الحركات الإسلامية، خلاصاً للإسلام والمسلمين. وعلى ذلك شهادة من تاريخالصراعات المذهبية في الغرب.
قصة تروى: عندما كان البابا بندكتوس السادس عشرمدرساً لمادة اللاهوت في ألمانيا، كان مهجوساً بشعار «الكنيسة المسكونية» ويعمل علىإعادة توحيد الكنائس. وصدف أنه إبان شرحه، تصدى له تلميذ يتميز بالصلابة وبالذاكرة،وراح يعدد ما ارتكبه «البروتستانت» في حق الكنيسة الكاثوليكية من «مآثر» مذمومة. وتساءل، كيف تتحد مع هؤلاء الأعداء. أجاب الكاردينال راتزنغر (البابا الحالي) ذلكالطالب بما يلي: «إنك على حق في كل ما قلته. وكل ما ذكرته من أحداث صحيح ومؤكد،وأضيف عليه أحداثا سيئة ارتكبوها لم تأتِ على ذكرها. إنما، يجب ان نذكر لهم فضلاًواحداً كبيراً. لقد هزمونا، وأخرجونا من السياسة، ففزنا بالدين، بعدما أضاعتهالسياسة والسلطة».
كلام يستحق أن يقف أمامه الإسلاميون. السلطة أداة تدميرللمعتقدات السياسية الجامدة، (تذكروا الماركسية، الدولة الدينية، القومية البعثية. ماذا بقي منها) وتدمير للمعتقدات الدينية كذلك.
يحصي جورج طرابيشي الحروب التياندلعت بين السنة والشيعة، في ظل سلطات تمترست خلف الدين والآيات والأحاديثوالأساطير. ان قرنا من العنف والمجازر، عاشته بغداد والحلة، بين السنة والشيعة، ولميعرف ذلك القرن غير عام واحد من السلام بين المذهبين.
ويخلص طرابيشي إلى انالعلمانية لم تعد حاجة مسيحية، بل هي حاجة كبرى للمسلمين، ليخرجوا من نفق حرب الألفعام المقبلة. العلمانية حل، ينتصر فيه الإسلام، وتخسر فيه الاسلاموية، أكانتاخوانية أم ولاية فقهية.
وعليه، فإن العلماني لن يطمئن إلى دولته ونظامه، إلاإذا أقر الإسلامي بما يلي:
أولا: لا مكان للعنف، بأي شكل من أشكاله، في ممارسةالحياة السياسية. (أشكال العنف، لغوية، مسلكية أيضا).
ثانيا: لا انقلاب علىالعملية الديموقراطية. ويتم ذلك عبر النص في الدستور على ان الديموقراطيةالبرلمانية، قدس الأقداس.
ثالثا: عدم اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي، في ظل وجودحركات إسلامية. فالاسلاميون، سيبقون أكثرية، ما دام الانتماء إليهم لا يتم إلا عبرالوراثة الدينية، كأي عشيرة أو قبيلة أو ـ كما عندنا في لبنان ـ كأي طائفة أو عائلةسياسية... مع هذه الانتماءات القبلية تنعدم الخيارات الديموقراطية. فمشروع تقدمت بهحركة إسلامية للاستفتاء، سينال أكثرية. الأكثرية الإسلامية مستدامة، بحكم الواقع،ما يجعل الديموقراطية ملغاة.
رابعا: عدم إيجاد تشريعات خاصة للجماعات، وفقمذاهبها واتنياتها، ما يهدد وحدة المجتمع. وعدم الاكتفاء بسماحة «الذمية»، الذميةفي العصر الراهن، تمييز كريه. العلمانية لا مشكلة لها مع الأديان. لأنها تساوي بينالجميع. الإنسان في دولته مواطن، لا صاحب ذمة، ولا ذمي. حماية الإنسان لا تقومبالذميّة، بل بالقوانين التي تساوي بين الناس، في الحقوق والواجباتوالفرص.
خامسا: على الإسلامي أن يقر، ولو لأول مرة، بأن المرأة هي التي تحددحقوقها. النساء قوّامات على حقوقهن ومشاعرهن وقلوبهن وأفكارهن ومصالحهن.
لم يعدمسموحاً ولا مقبولاً، ان يفكر الرجل عن المرأة ويخضعها لفقهه المنحاز إلى ذكورته... ان حصول المرأة على حقوقها، مسألة يجب ان تخوض المرأة من أجلها نضالاً، إذ ان قولعلماء الدين، ان المرأة راضية، غير سليم، في مجتمع يمارس فيه رجال الدين فقههمالخاص الذي يعود إلى عصور سحيقة القدم. إما تكون المرأة سيدة نفسها أو تبقى بحاجةإلى من يسودها، وباسم الشرع.
سادساً: لا بد من ان يواجَه الإسلاميون بما يلي: أيتربية في المدارس ستعتمدون؟ هل ستكون المدارس مؤسسات لصناعة محازبين دينيين، كمافعل البعث عندما حوّل المدارس إلى مصانع تنتج سلعة المحازب المعقدن؟ أي جامعات وأيبرامج؟
لا بد من ان تكون المعركة الحقيقية، ثقافية أساساً، عبر تعرية الثقافةالدينية السائدة وفصلها عن مرجعيتها النصية. النص مقدس وحده. وهو دعامة الايمانومشكاة نور المؤمنين. لكنه ليس منجماً للفتاوى المختلفة والمتناقضةوالانتهازية.
V ـ التاريخ العربي الجديد
هل يمكن ان يحصل ذلك؟ هلالتاريخ العربي يمكن ان يكتب بطريقة أخرى، وبمشاركة قوى إسلامية تحديثية مستنيرة،تعلي الروح على التقليد، وتقيم وزنا للقيم أكثر من حدثني فلان عن فلان! صعب ذلك،ولكنه غير مستحيل.
ملحوظة أخيرة: ان أئمة الفقه، كانوا أئمة سلطة كذلك. لذلك،تهاونوا في الأمور العظيمة والهامة والمصيرية. جنحوا إلى السلم مع إسرائيل وكانواقد جنحوا إلى النفط، وهم يجنحون إلى الغرب (غريب هذا الغزل الأميركي الاخوانيالتركي والعربي!) ولا يجنحون إلى فلسطين. يفتون في الكبائر السياسية وفق أهل الهوىمن السياسة، بينما هم يتشددون، بدكتاتورية سماوية في صغائر الأمور: الحجاب، السلام،الصوم، الـ... الـ... مما يقع في باب أشكل...
إن الاستئثار بالإكراه في الأمورالصغيرة، شرط ضروري لبقاء الناس في حال التبعية للمرجعية الدينية، التي توظف جهدهاالذهني، لتبرير ما يرتكبه أهل السلطة.
هذا هو المخيف في الإسلامالسياسي.
دلونا على ما تخافونه عن جد، من العلمانيالسياسي
Comments
Post a Comment