آيه الله محمد باقر الصدر و"المرجعية الرشيدة"


د. هيثم مزاحم





قدم آية الله السيد محمد باقر الصدر أطروحة لتطوير المرجعية الدينية لدى الشيعة الاثني عشرية أطلق عليها تسمية "المرجعية الرشيدة" تميّزت بتحديد تصوّر واضح للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير عليها المرجعية في سبيل خدمة الإسلام وقيادة الأمة.
ويمكن تلخيص أهداف هذه "المرجعية الرشيدة" كما يراها الصدر على الشكل الآتي:
- نشر أحكام الإسلام بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام.
- إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يلتزم المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم السياسي الذي يؤكد أنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة.
ــ القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف عليه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وتبنِّي هذه الأهداف للمرجعية هو الذي يحدد صلاحية المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأمة، إضافة إلى وجوب العمل على إدخال تطويرات على أسلوب المرجعية ووضعها العملي.
أمّا فكرة تطوير أساليب عمل المرجعية وواقعها العملي فهي تتطلب في رأي الصدر:
أولاً: إيجاد جهاز عملي تخطيطي وتنفيذي للمرجعية يقوم على أساس الكفاءة والتخصّص وتقسيم العمل واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحددة. ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً من الحاشية التي تعبِّر عن جهاز عفوي مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدفة والظروف الطبيعية لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنية تجزيئية وبدون أهداف محددة وواضحة.
ويشتمل هذا الجهاز ــ أي جهاز المرجعية الصالحة المطلوب توفيره ــ على لجان متعددة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كل إمكانات العمل المرجعي، وأبرز هذه اللجان هي:
 1.لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلمية، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل الخارج، والإشراف على دراسة الخارج، وتحدد المواد الدراسية وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى، الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعية الصالحة، وتستحصل على معلومات عن الانتسابات الجغرافية للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
 2.لجنة الإنتاج العملي، ووظائفها إيجاد دوائر علمية لممارسة البحوث ومتابعة سيرها، والإشراف على الإنتاج الحوزوي الصالح وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام.
 3.لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم وتتبع سيرتهم وسلوكهم واتّصالاتهم، والإطلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب أو عند طلب المرجع.
 4.لجنة الاتصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعية في المناطق التي لم تتصل مع المركز، ويدخل في مسؤوليتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتصال بها وإيجاد سفرات تفقّدية، إما على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق، التي أصبحت مستعدة لتقبّل العالم وتوالي متابعة السير بعد ذلك. كما يدخل في صلاحيتها الإتصال في الحدود الصحيحة مع المفكرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات كفرصة الحج.
 5.لجنة رعاية العمل الإسلامي والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي، وتكوين فكرة عن كل مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.
 6.اللجنة المالية، التي تعنى بتسجيل المال وضبط موارده وإيجاد وكلاء ماليين، والسعي في تنمية الموارد الطبيعية لبيت المال، وتسديد النفقات اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط.
وثانياً:إيجاد امتداد أفقي حقيقي للمرجعية يجعل منها محوراً قوياً، تنصب فيه كل قوى ممثلي المرجعية والمنتسبين إليها في العالم، لأن المرجعية حينما تتبنى أهدافاً كبيرة وتمارس عملاً تغييرياً وواعياً في الأمة، لا بدّ بها أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج وبشكل آخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثليها في العالم.
وعلاج ذلك يتم عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعي، فالمرجع تاريخياً يمارس عمله المرجعي كله ممارسة فردية، بحيث لا تشعر كل القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقية معه في المسؤولية والتضامن الجاد معه في الموقف.
وأما إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضم علماء الشيعة والقوى الممثلة له دينياً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعي موضوعياً، وإن كانت المرجعية نفسها، بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع، وأن هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدد له أسلوب الممارسة، وإنما يتحدد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامة.
وبهذا الأسلوب الموضوعي من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعي من التأثر بانفعالات شخصه، ويُعطي به بعداً وامتداداً واقعياً كبيراً، إذ يشعر كل ممثلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمل مسؤوليات العمل المرجعي، وتنفيذ سياسة المرجعية الصالحة التي تقرِّر من خلال ذلك المجلس، وسوف يضم هذا المجلس تلك اللجان، التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعية، وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النقطة.
ويطلق السيد محمد باقر الصدر على المرجعية ذات الأسلوب الفردي في الممارسة إسم "المرجعية الذاتية"، وعلى المرجعية ذات الأسلوب المشترك والموضوعي في الممارسة إسم “المرجعية الموضوعية”. ويرى أنّ تطوير المرجعية يتطلّب “امتداداً زمنياً للمرجعية الصالحة لا تتسع له حياة الفرد الواحد”.
يقول الصدر:“فلا بدّ من ضمان نسبي لتسلل المرجعية في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعية الصالحة لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعية إلى من لا يؤمن بأهدافها الواعية. ولا بدّ أيضاً من أن يهيأ المجال للمرجع الجديد ليبدأ ممارسة مسؤولياته من حيث انتهى المرجع السابق بدلاً من أن يبدأ من الصفر، ويتحمل مشاق هذه البداية، وما تتطلبه من جهود جانبية، وبهذا يُتاح للمرجعية الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى. ويتم ذلك عن طريق إطار المرجعية الموضوعية، إذ لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات ويوجد الموضوع وهو المجلس، بما يضم من جهاز يمارس العمل المرجعي الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت. وأما الموضوع فهو ثابت ويكون ضماناً نسبياً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلو المركز، وللمجلس وللجهاز ـ بحكم ممارسته للعمل المرجعي ونفوذه وصلاته وثقة الأمة به ـ  القدرة دائماً على إسناد مرشحه وكسب ثقة الأمة إلى جانبه”.
فالسيد الصدر يرى في نظريته أن الولاية هي للأمة لكن في ظل حكم الطاغوت على الفقيه المرجع التصدي للولاية وقيادة الأمة والإشراف على مسيرتها في خلافة الله.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية