مصر وسياساتها الخارجية الجديدة
د. رضوان السيّد
تاريخ النشر: الأحد 09 سبتمبر 2012
لقد شكونا طويلاً من غياب مصر عن مجريات الصراع العربي- الإسرائيلي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. وما كان ذلك الغياب مقتصراً على عدم المشاركة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربية الأُخرى، بل شمل السماح أو التغاضي عن الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، وعلى العراق عامي 1990 و2003. وما استطاع النظامان المتنازعان في دمشق وبغداد، لا بالتضامن ولا بالصراع، حماية النفس أو المشرق العربي من إسرائيل. واحتاج الأمر الوصول إلى أواخر الثمانينيات ليعترف حافظ الأسد، بأنّ هناك اختلالاً استراتيجياً ناجماً عن غياب مصر، ولا يمكن سدُّه أو تجاوُزُه إلاّ بعودة مصر إلى الصف العربي. ولذا، وباستثناء تمرد صدام حسين بطرائق غير ملائمة أدّت إلى هدم الدولة العراقية، فإن سائر الأنظمة الجمهورية العربية مالت إلى تسوياتٍ مع الولايات المتحدة هدفها استمرار النظام القائم، وتمَّ بعضُ ذلك في مطالع التسعينيات (اشتراك الجيشين السوري والمصري في حرب تحرير الكويت)، واكتمل في أواخر التسعينيات عبر التسوية التي أنجزها القذافي مع الغرب بعد خصامٍ طويل. بيد أن الأمر مع غياب مصر ما اقتصر على استعلاء إسرائيل ومحاصرة سائر العرب، بل تعدى ذلك إلى محاصرة مصر نفسِها، واختراق المشرق العربي كله من جانب إيران أيضاً. فقد بدأت إيران من لبنان من خلال إنشاء "حزب الله" وتسليحه، ثم تحول الحزب إلى موقع استراتيجي لإيران على البحر المتوسط، وامتدت أنشطتُهُ إلى دول الخليج واليمن. وعبر رفع لواء المقاومة استلحقت إيران "حماس"، وأعانتها في الاستيلاء على غزة عام 2007، لجَعْلها شوكةً في خاصرة مصر. وفي وادي النيل اضطرت مصر للتسليم بقيام أنظمة معادية لها وللعرب في القرن الأفريقي وفيما وراءه مثل إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان. وفي السياق نفسِه جرى التسليم بانقسام السودان إلى دولتين. كما جرى تسليم مصر وسائر العرب بتحول العراق وسوريا إلى منطقتي نفوذٍ لإيران.
وما كانت مصر لتفعل العجائب لو كانت لا تزال حاضرةً في مداها الاستراتيجي عندما احتُلَّ العراق، وتقسّم السودان. لكن الأداة العربية المشتركة، أي الجامعة العربية، فقدت كلَّ قدرةٍ على التأثير، إلى حد أن أحد الصحفيين في "نيويورك تايمز" كتب قبل بضعة أشهُر وهو يبرّرُ قيام حركات التغيير في العالم العربي، بأن أَوضاع منطقة الشرق الأوسط بلغت حدوداً أُسطوريةً للبؤس والغياب، بحيث ما عاد الأميركيون يجدون طرفاً عربياً يستحقُّ التشاوُرُ معه في أيّ مشكلةٍ بالمنطقة باستثناء الدول الخليجية. وصار عليهم أن يستمزجوا رأْيَ إيران وتركيا، وأن يعتمدوا على معلومات إسرائيل واهتماماتها!
إنّ مواقف الرئيس مُرسي الأربعة: تجاه قضية فلسطين، والثورة السورية، وطهران، وتجاه الجامعة العربية، تبعث برسائل في اتجاهات متعددة، وهي تنمُّ بالطبع عن تصورٍ لسياساتٍ جديدةٍ. قال لـ"حماس" إن أمن مصر لا يمكن التلاعُبُ به، وإنّ القضية الفلسطينية هي قضيةٌ عربيةٌ وحلُّها السياسي حلٌّ عربي. وقال لإيران إنه ليس من حقّها التدخُّل في الشؤون العربية، لا في فلسطين ولا في سوريا. وقال للخليجيين والعرب الآخرين إنّ مصر عادت لتتحمل مسؤولياتها مع العرب ومن خلال الجامعة العربية، وإن المسؤولية عن القضية الفلسطينية وعن الثورة السورية هي في أعناق العرب، والدم السوري والدم الفلسطيني في عنق كلِّ عربي، وينبغي النهوض لتحمل أعبائه. وإذا تحولت تلك المواقف إلى سياسات، فإنها ستعود بمصر لما قبل حرب عام 1973، ولما قبل سياسات التنسيق مع أميركا وإسرائيل في كل الشؤون.
إنما هناك من يقول إنّ موقع مصر خضع لترتيباتٍ مستمرة (ومستقرة) منذ أواخر السبعينيات. وقد تغير المشرق العربي، وتغير وادي النيل والقرن الأفريقي والبحر الأحمر والمحيط الهندي في غيابها. فالعودة والدخول والدور، كلُّ ذلك ليس سهلاًً، وهو صعبٌ جداً على إسرائيل وإيران، وقد يكونُ صعباً على الولايات المتحدة.
وكانت لدى بعض الجهات العربية -ولا تزال- شكوكٌ في قدرة مصر على التغيير الكبير بعد أن وصل للسلطة فيها "الإخوان المسلمون". ولـ"الإخوان" علاقاتٌ وثيقةٌ وقديمةٌ بطهران. ثم إنه بوصول الإسلاميين للسلطة، فإنّ نزاعاتٍ على طبيعة السلطة والدولة سوف تندلع بين الإسلاميين وخصومهم بالداخل، وسيستغرق ذلك الكثير من الوقت والجهد والمماحكات إلى أن تستقرَّ الأوضاع أو تَرسي على ثوابت بدلاً من هُوامات الهوية.
ولا شكَّ أنّ المصريين جميعاً حذِرون بالنسبة للعلاقة بالولايات المتحدة، والعلاقة بإسرائيل. ثم إنّ حجم مصر يسمح لها بالمجازفة المحسوبة والتي لا تستطيعُ الولايات المتحدة أو إسرائيل إظهار سُخْطِها عليها. وإذا تصرف العرب بزعامة مصر باعتبارهم كتلةً من جديد، فإن كلَّ القوى ستحسب لهم حساباً ما كانت مضطرةً إليه ما داموا قد تخلَّوا عنه.
نحن في زمنٍ جديدٍ بعد نهايات الحرب الباردة، وبعد قيام الثورات العربية. وفُرَص الاستقلال والسيادة وإيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية... كلُّها أفضَلُ من ذي قبل. فالأمل أن تتحول مواقف الرئيس المصري إلى سياسات، وأن تظهر بالفعل سياسةٌ خارجيةٌ جديدةٌ لمصر. وليس ضرورياً أن تُعجب كلَّ واحدٍ منا، فالتاريخ لا يعيدُ نفسَه. لكن كل شيء يحصل بالاتجاهات التي ذكرناها، يُبعدُنا عن الماضي الذي صار بعيداً بعد أقلّ من سنتين على انقضائه، وتستشرف بنا آفاق جديدةً وواعدة.
Comments
Post a Comment