معالم المنهج التفسيري عند الشيخ محمّد جواد مغنيّة



الشيخ حيدر حب الله

مقدّمة:

لا يمكن لقارىء شخصية كبيرة كالعلامة الشيخ محمد جواد مغنيّة (ت 1979م)، وراصد لدورها الإحيائي والتنويري الا أن يصنفها في عداد الرادة الهامين لحركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن ثم ليضم صوته إلى صوت الكاتب الإسلامي جواد علي كسّار([2]) في الإعابة على أمثال د. فهمي جدعان، حيث لم يأت في كتابه ((أسس التقدّم عند مفكّري الإسلام في العالم العربي الحديث)) على ذكر عدد كبير من الرادة من امثال الطباطبائي والصدر والمطهري ومحسن الامين ومحمد جواد مغنية والشهرستاني والمظفر وكاشف الغطاء و... ما يستحقونه من ذكر سيما وأنهم لا يقلّون شأناً وإسهاماً عن غيرهم، ومن ثم لنسجّل نقدنا على التيار الإسلامي عموماً في العالم العربي الذي أسهم هو الآخر في تغييب بعض شخصيات الإصلاح الديني كمغنية، لأسباب سياسية وغيرها، فيما كان من المفترض أن تحظى هذه الشخصيات باهتمامات أكبر.

لقد طرق الشيخ محمد جواد مغنية في مؤلفاته التي تقارب الستين، مختلف اشكاليات النهضة والإحياء والإصلاح... وعالج العديد منها ـ وفق رؤيته ـ تحت مظلّة عقلانية جادّة، وكان القرآن من أهم مشاغله في القسم الأخير من حياته، حيث قدّم إسهامين جديدين احدهما: تفسير الكاشف في مجلدات سبعة، وثانيهما ((التفسير المبين)) في مجلد واحد مرفق بالنص القرآني، هدف منه التبسيط والوصول الى اكبر قدر من القرّاء.

وسوف نحاول هنا تلمّس تجربته القرآنية، من خلال تجربة التفسير الهامـة له، أي ((الكاشف))، بغية تحديد رؤيته ومنهجه في هذا المضمار.

عناصر المنهج التفسيري عند الشيخ مغنية

لكن يبدو أنه من المنطقي افتراض حاجة ماسّة لدراسة السياق الفكري والاجتماعي العام الذي وقع المفسّر في إطاره، كمقدّمة بنيوية لفهم منهجه التفسيري، وهذه القاعدة المستقاة من آخر منجزات فلسفة العلوم تؤكّد وجود نحوٍ من العلاقة الجدلية بين السياق الفكري والاجتماعي العام وبين المنجزات العلمية التي يقدّمها باحثٌ ما أو مدرسة معينة، وكذلك المنهج المخصّص لمجال معرفي معين.

ومن هنا، نجد أنفسنا مضطرّين ـ منهجياً ـ لاكتشاف عناصر عامة في المنهج والأدوات التي سار عليها مفسّرنا العلامة الشيخ محمد جواد مغنيةكمقدّمة ـ كما أشرنا ـ تأسيسية لاكتشاف عناصر المنهج التفسيري.

والاشياء التي لا بد من تكشّفها في هذه الجولة تتركّز بالدرجة الأولى على الدور، الأهداف وما شابه ذلك، ومن هنا سوف نقوم في هذه الوريقات بمحاولة اكتشاف عناصر المنهج التفسيري عند الشيخ مغنية مستدعين معنا السياق الفكري والاجتماعي العام الذي وقع فيه

وبصورة موجزة يمكن هنا الاشارة الى النقاط التالية:

1 ـ جدلية الخطاب والواقع

أستعير هذا العنوان من الباحث الإسلامي الدكتور يحيى محمّد([3])، لأحاول رصد هذه الجدلية في المنهج عند الشيخ مغنية ولو بمعنى مخفّف لها.

والسبب الذي يحدونا إلى التركيز على هذه الجدلية عند الشيخ مغنية، هو أن حضور الواقع في المنظومة الفكرية العامة لمغنية كان حضوراً بارزاً، الأمر الذي سجله ملاحظة تيّار النص البعيد عن الواقع في الساحة الإسلامية.

فعلى الصعيد الفقهي انطلق الشيخ مغنية من اشكاليات الواقع فيما يخص ـ كمثال ـ الفتوى القائلة بنجاسة أهل الكتاب، قارئاً الحرج الشديد الذي يعيشه المسلمون في حياتهم مع أتباع الديانات الأخرى، سيما تلك الأقلية المسلمة التي تعيش في الغرب المسيحي([4])، ومن إشكاليات الواقع نفسه نحى الشيخ منحى نصّ التسامح الاسلامي العام، ليرى في مسامحة الدين خطاً عريضاً يحيل فتاوى تخلق إرباكاً في الواقع.

وهذه الانطلاقة الواقعية نحو النص، تغاير المسار المدرسي العام في الأوساط العلمية الدينية، والتي تجعل الفقيه على تماس مع النص فقط، واذا ما أراد أن يجدّ السير نحو الواقع فهو يُدخل نفسه فيما يسمّيه الموضوعات المستنبطة، وهي موضوعات وإن قرّبته نسبياً من الواقع بيد أن المسحة المفهومية التي تحكم البحث فيها تخلق عازلاً بين الفقيه والواقع.

وعلى غرار الآليات التي استخدمها مغنية في بحثه الفقهي كانت تجربة التفسير الموضوعي للسيد محمد باقر الصدر، ففي تفسيره لهذا النهج التفسيري انطلق الصدر من الواقع أيضاً ليحمل كل تناقضاته وجدلياته عارضاً إياها أمام النص، وقد اعتقد الصدر أن العلاقة الصامتة مع النص القرآني شلّت حركة الانتاج التفسيري الى حدّ تصريحه بنص هام وبالغ الحساسية يشكك فيه على الاقل في جدوى الجهود التفسيرية التي أعقبت النتاجات الهامة الموسوعية في التفسير كنتاج الطبري والطوسي والرازي([5])، وهذا يعني ـ في تصّور الصدر ـ أن إقحام الواقع في الإنتاج التفسيري شرط أساسي لتبلور إبداعات تفسيرية قرآنية.

وإذا كان الصدر قد وضع صياغةً نظرية لإقحام الواقع في التجربة التفسيرية، مؤسّساً لجدلية الخطاب والواقع، فإن الشيخ مغنية مارس ـ بشكل من الأشكال ـ تجربة المزاوجة بين النص والواقع في جهده التفسيري، كما سيتجلّى لدى الحديث عن المنحى العملاني في تفسيره.

لكن إقحام الواقع في تجربة التفسير أمرٌ تشوبه من الجهة الأخرى مخاطر، ذلك أن ضغط الواقع قد يفضي بالمفسّر لتطويع النص والتلاعب به كما حصل كثيراً، ومن هنا كان الواقع في علاقته مع النص مساهماً لتثويره ومعيناً لاستنطاقه، أكثر من سلطة تلعب به وتؤوّل مفاداته.

2 ـ إعادة إنتاج خطاب شفّاف

امتاز الشيخ محمد جواد مغنية بخطاب بالغ الشفافية والوضوح، مرتكزاً على عنصر التيسير والتسهيل واللغة المبسّطة، وقد غطّت مجمل أعماله ونتاجاته لغةٌ واضحة شفافة سهلة يسيرة على القارئ، ولم تختلف في ذلك نتاجاته الثقافية العامة ككتاب ((الشيعة والحاكمون)) و((الخميني والدولة الإسلامية)) و((قيم أخلاقية من فقه الإمام الصادق C)) و... عن نتاجاته التخصّصية ككتابه ((علم أصول الفقه في ثوبه الجديد)) و((فقه الإمام جعفر الصادق )) و((معالم الفلسفة الإسلامية)) و((تفسير الكاشف)) و... .

وقد افتخر الشيخ مغنية بأسلوبه الجذّاب هذا([6])، وقد ساهم هذا الاسلوب في انتشار كتبه ودراساته وعلى نطاق واسع في مختلف الأوساط الشبابية في العالم العربي حيث كانت تصل.

ويمكن التماس أهمّ سمات الخطاب اللغوي الذي قدّمه مغنية على الشكل التالي:

1 ـ بلغ اليسر في اللغة التي استخدمها مغنية حدّاً قلّ نظيره في أوساط الكتّاب الشيعة بمن فيهم المصلحين الجدد، فإذا أخذنا السيد الصدر نموذجاً وهو ممّن نافح بقوّة عن تيسير اللغة الدينية لوجدنا أن لغة السيد الصدر ما تزال تتسم بطابع نخبوي إذا ما قايسناها باللغة التي مارسها مغنية، وحتى تلك النتاجات العامة التي قدّمها الصدر ـ وهي نتاجات امتازت بيسر واضح ـ كرسالته حول المهدي وحول الولاية وموجز أصول الدين و... ، يلاحظ في طيّاتها وجود بعض الاصطلاحات الاصولية كالمعنى الحرفي وما شابه ذلك.

وهكذا الحال في الخطاب الثقافي الذي وجّهه الإمام الخميني كما في مصباح الهداية وشرح دعاء السحر، وشرح الاربعين حديثاً وجنود العقل والجهل و... فقد امتازت اللغة بكسوة عرفانية فلسفية وخطاب يؤصل ذاته اكثر ممّا يراعي الطرف الآخر رغم كل التبسيط الذي مورس.

ان مقارنةً سريعةً لنتاجات مغنية مع نتاجات الافغاني والصدر والخميني وشمس الدين وحتى المعاصرين كسروش وأركون وابو زيد و... تبدي يسر اللغة وسهولتها، الامر الذي أفقد نتاجات مغنية طابع النخبوية فضلاً عن النخبوية المفرطة.

ورغم أن يسر اللغة أمرٌ مطلوب، وكسر الطوق المضروب على العلوم الدينية محيلاً إياها علوماً معقّدة أمر لازم، وتوجيه خطاب ديناميكي للشباب ضرورة ملحّة، إلاّ أن تقديم لغة شديدة التبسيط على أنها اللغة النهائية للعلوم، لا فقط لغة تبليغية، أمرٌ قد يربك بعض العلوم ويفقدها قوّة المصطلح.

وعلى سبيل المثال تجربة تفسير الكاشف، ففي بعض الحالات جرى تبسيط بعض الافكار الى حدّ مبالغ فيه، وتمّ استبعاد بعض الموضوعات الهامة كاللغة والنحو والصرف والبلاغة تحت ستار أنها تعيق تكوين خطاب عصري، وإذا ما اريد القول بأن تفسير الكاشف يهدف الى بلورة تفسير هادف دينياً بالنسبة للشباب فكل تلك التصوّرات صحيحة، أما إذا أريد تقديم تفسير الكاشف ـ كتفسير سيد قطب ـ على أنهما الخطوة المكتملة للجهد تفسيري الى زمانهما فثمة ما يحدونا للتوقف.

ويبدو أن الشيخ مغنية كان في الغالب يهدف مخاطبة الشباب والجيل الصاعد، لا مخاطبة المفكرين والباحثين إلا قليلاً، ولهذا ضعفت اللغة التخصصية في كلامه، وصارت لغته ـ كما يقول بعض دارسيه([7]) ـ بعيدة عن مخاطبة طبقة النخبة من العلماء والمفكرين الى حد معين.

ينبغي التفكيك بين اللغة العلمية الهادفة لايجاد تطوّر داخلي في العلم نفسه، وتلك اللغة الهادفة لاقحام العلم غمار الحياة ممارساً دوراً عملانياً، والخلط بين هذين المنحيين قد يسبّب إعاقةً في التكامل العلمي كما حصل عندما بلغ التعقيد اللغوي في العلوم حداً شديد الإفراط من جهة، وكما حصل ـ من الجانب الآخر ـ عندما أريد حل هذا الوضع المشكل فسكبت أعقد الموضوعات في لغة لا تحملها، وأوجد ذلك التباساً وتسطيحاً معاً.

2 ـ امتاز اسلوب مغنية بشفافية غير معتادة في الأوساط الدينية كثيراً، فقد بلغ به ذلك حدّ الحديث بصراحة وصدق مع قارئه حتى عن خصوصياته النفسية وتجاربه الشخصية مستحضراً أبسط الاحداث.

وقد كانت خطوته في كتابه ((تجارب محمد جواد مغنية)) خطوةً ملحوظة، أبدى فيها بشفافية مع مخاطبيه تماساً كبيراً، وفي الكثير من مقدّمات كتبه كان ذا صراحة شخصية ملحوظة([8]).

والنقطة الهامة في هذه اللغة الشفافة (بهذا المعنى)، هو أنها تهدم التباعد ما بين الأفكار المنتجة وما بين انتاجها عند الباحث نفسه، فالشيء المعتاد عند كثير من الأوساط الدينية وغيرها هو تقديم النظريات والأفكار بصورة ناجزة، لا يفهم القارئ مسلسل المعاناة اليومي الذي مرّ فيه الباحث أو المفكّر، ولا يستطيع تحديد السبب الذي دفعه الى التفكير بهذا الموضوع أو الميل إليه، وعندما تستخدم لغة مغنية تتقلّص هذه المسافة الطويلة ما بين النص وصاحبه، ويغدو القارئ أكثر استشرافاً للمعطيات من الزاوية المحيطة، ومن البعد التاريخي أيضاً، وحتى من زاوية النهج العام للأفكار أحياناً كثيرة.

وهذا ما نجده عند مغنية بارزاً في كتابه ((الكاشف))، إذ يسير مغنية بقارئه رويداً رويداً، ويشرح له كيف تنامت عنده فكرةٌ ما أو تفاعلت الأفكار مع بعضها، ويصارح قارئه بأفكار اختلجته أو مواقف وأحداث أحاطت به.

وكان لهذه اللغة الصريحة التي استخدمها مغنية دوراً كبيراً في ارتياح قارئه، وتخفيف الهالة التي تلقى على القارئ لدى مواجهته النص المكتوب، فيتهيب الكاتبَ ويحمل صورةً مضخّمةً عنه.

3 ـ جرأة اللغة / صراحة النقد

أسهم العلامة مغنية إسهاماً ملحوظاً في نقد الفكر الديني السائد وفقاً لعصره ومحيطه، ولم يقتصر على نقد الأوضاع السائدة في زمانه مادياً (الماركسية، الغرب..) كما فعل اكثر المصلحين الإسلاميين في القرنين الأخيرين، بل مارس نقداً عنيفاً ولاذعاً للموروث الديني التقليدي، ولمؤسسة علماء الدين أيضاً، بل لم تكن باكورة مؤلفاته كتاب ((الوضع الحاضر في جبل عامل))، والذي نشر عام 1947م، سوى عمليات نقد واسع للوضع السياسي والاجتماعي لجبل عامل في ذلك الحين.

يمكن ـ وبكل ثقة ـ تصنيف الشيخ مغنية أحد الناقدين الدينيين في القرن العشرين، وفي تجربته التفسيرية ((الكاشف)) مارس نقداً صريحاً للاوضاع القائمة في العالم الإسلامي، فكرياً، واجتماعياً، وسياسياً... كما أدّى دوره في نقد الداخل الشيعي بغية إصلاحه، في أوضاع كانت أحياناً شديدة الإحراج، كما يلاحظ في كتابه ((الخميني والدولة الإسلامية)).

ومن هنا يمكن القول بتغلّب الطابع النقدي على نتاجات مغنية، بما فيها تفسيره الكاشف، اكثر من الطابع التأسيسي، رغم اشتمال أفكاره على الكثير من الاسهامات الفكرية والبنيوية الهامّة.

وفي الحقيقة فإن موضوع النقد والموقف منه في الوسط الديني عموماً ينتابه شيء من الحساسية، ذلك أن الوسط الديني يعاني من مشكلتين مع النقد، فمن ناحية تطغى على بعض الشخصيات حالة ناقدة للتيارات والأفكار الأخرى إلى حدّ تلازم الآخر مع نقده، بحيث لا تبدو فيه علامات قابلة للاخذ والإقرار، وهذا ما يحكم عموماً العلاقات المذهبية، ويفرط الاتجاه الديني على هذا الصعيد حينما يستقبل كل جديد نشأ في غير مناخه (مناخ الاتجاه الديني الخاص) استقبالاً ناقداً وعنيفاً وشاكّاً، لا أقل استقبال يشوبه القلق والريبة، الأمر الذي يمكن اكتشافه بسهولة لدى مطالعة العلاقة مع الغرب عموماً.

أما من الناحية الأخرى فيبدي الاتجاه الديني منحى تبريرياً وتسويغياً إزاء قضاياه أمام الآخرين، فهو يسعى حتّى إلى تبرير ما يراه أحياناً أمراً خاطئاً، ويظن أنه مسؤول عن الدفاع عن آراء أي مفكر ديني أو عالم ديني يمثل الوضعُ القائمُ امتداداً له بشكلٍ أو بآخر، حتى لو كان الخطاب الداخلي يحتوي قدراً أكبر من النقد.

ولعل السبب في هذه الظاهرة ـ أو بالأحرى أحد الاسباب ـ هو الطابع الجدالي الذي حكم علاقة الحالة الدينية مع غيرها.

واذا أردنا قراءة تجربة الشيخ مغنية على هذا الصعيد وجدناه تجاوز إلى حد معين ظاهرة التسويغ الثانية، وإن أبقى على علاقة جدالية مع الآخر (الماركسية ـ الغرب ـ أهل السنّة ـ التيار العلماني العربي)، ففي نقده لمؤسسة علماء الدين في تفسير الكاشف وغيره، ولبعض المناهج الدينية، حقق خطوةً ملحوظة، وان لم يكن الرائد فيها، اذا استثنينا مستوى اللغة ودرجة الصراحة التي لم يتمتع بهما إلا القليل غيره.

ومع اعتقادنا بأن على الاتجاه الديني، بحكم كونه اتجاهاً علمياً بالأساس، أن يقوّم تجربته على الصعيدين المتقدّمين، ألا وهما النقد الشمولي للآخر، والتسويغ الكلّياني للذات، انطلاقاً من معطيات التعددية بأكثر أنواعها على الأقل، إلا أننا نرى من الجانب الآخر ضموراً في إعادة هيكلية المنظومة الدينية، وفي برنامج البَنْيَنَةِ والتأسيس، استغراقاً في البعد النقدي.

فأولئك الذين نقدوا الداخل الإسلامي أو الشيعي كثرت في أوساطهم عمليات الهدم دون تقديم بدائل محكمة، كما وأولئك الذين نقدوا الآخر قلّ فيهم من نجح في عرض بدائل مقنعة ومنسجمة، ولم يكن الذين انفتحوا على الآخر (الغربي ـ الماركسي ـ العلماني ـ السني / الشيعي) بأحسن حالاً من غيرهم، فقد كثرت ظواهر الانتقاء والتشطير والتوفيق، وقلّت محاولات اعادة تأسيس شامل لمنظومة المعارف والقيم.

ومن هنا يبدو النقص عند الشيخ مغنية في مشروعه، سيما التفسيري، فمع كون التفسير مظهراً جيداً لمشروع اعادة الانتاج الفكري، بيد أن الشيخ مغنية غلّب عليه الطابع النقدي.

لكننا لا نريد تحميل الشيخ اكثر مما يتحمل، بقدر ما نريد التأكيد على أن مشاريع اعادة تنظيم بنى الفكر والقيم كانت قليلة من نوع تجربة السيد الصدر والدكتور سروش، وإلى حد معين الشيخ محمد مهدي شمس الدين.

4 ـ المنحى العملاني عند الشيخ مغنية

اتسمت كتابات مغنية ـ بما فيها تفسيره الكاشف ـ بطابع عملاني، فقد كان يربو بنفسه وقارئه عن الخوض في مباحث تجريدية تحليلية دون إيجاد تجسير مع الواقع، وحتّى داخل العملية التفسيرية جرى تأثر كبير بهذا المنهج، وكنماذج:

1 ـ لم تحظ المباحث اللغوية من النحو والصرف وامثالهما باقحام متميز في تفسير الكاشف، رغم أن العلامة مغنية عقد قسماً خصّصه للغة والاعراب لدى كل مقطع تفسيري للآيات، فقد اعتمد الشيخ مغنية لدى تفسيره للآيات على استحضار مجموعة آيات على طريقة تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي وفي ظلال القرآن لسيد قطب، ومن ثم كان يعقد عادةً ثلاثة فصول هي: اللغة، الإعراب، المعنى، وكان يسجل عناوين فرعية أحياناً كثيرة يستقل فيها بمعالجة موضوع معين فكري او ثقافي أو اجتماعي أو سياسي أو.. شبه البحوث المستقلة التي كان يعقدها صاحب الميزان.

واذا لاحظنا مقطعي اللغة والإعراب، وجدناهما مجرد استعراض سريع منقول عن الكتب التفسيرية، وقلّما حصل بحث فيهما أو تحقيق.

وهذه الظاهرة ـ ظاهرة تقلّص البحوث اللغوية في التفاسير ـ غطّت مجمل النتاجات التفسيرية في القرن العشرين([9])، ويعود ذلك للبعد العملاني الذي فرض على الكثير من علماء التفسير ـ كما يلاحظ بمراجعة كتب الميزان، وفي ظلال القرآن، وغيرهما... ـ تجاوز الطرح العلمي التجريدي لصالح منحى علمي يُعنى بالواقع.. لكن العلامة مغنية يمتاز رغم ذلك بمنهج عرفي ممتاز، إذ يحاول الانسجام في تفسيره مع الفهم العرفي العربي وكذلك في منهجه الفقهي، ولهذا يستبعد التفاسير التحميلية والمعقدّة مراراً.

2 ـ خلافاً لأمثال الفخر الرازي، لم يُغرق مغنية تفسيره بالبحوث الكلامية أو الفلسفية أو المنطقية، مقتصراً منها على ما كان محل الحاجة وعلى تماس مع هموم الثقافة لدى عنصر الشباب، فقد أتى على أبرز الموضوعات الكلامية المذهبية كالعصمة والامامة والمهدوية والعدل و... بيد أنه أتى عليها بخطاب غير تجريدي، منتقياً الجوانب المفيدة عموماً منها.

ومن هنا لا نجد في الكاشف بحوثاً فلسفية أو منطقية أو أِصولية أو كلامية أو حديثية أو فقهية أو رجالية بالمعنى الواسع للكلمة، وانما نجد استخدامات وتوظيفات لافكار تنتمي إلى هذه العلوم يهدف من وراء استحضارها خدمة فكرة عامة وعملانية.

واذا قمنا باستعراض سريع لبعض العناوين الفرعية التي أتى على ذكرها العلامة مغنية في كاشفه لرأينا مدى الحضور الثقافي والبعد العملاني عنده، فمثلاً في الجزء الخامس هناك عناوين: الدرس العملي من الإسراء، الاسلام دين الفطرة، البر بالوالدين، الاسلام ونظرية الاخلاق، القول بغير علم، المهدي المنتظر، قوّة الحق وقوّة الباطل، الله وعلم الخلايا، حب الذات، الوقوف عند الشبهة، الوفاء، أوصاف القرآن، محمد والعرب، جدال الجهل والضلال، الله والإنسان، الدفاع بالأحسن، القرآن والإذاعة...

واذا اخذنا على سبيل المثال الجزء السابع نجد العناوين التالية: ضربت الذلة على اسرائيل بحكم التوراة، الوثنية في عصر الفضاء، الدولة الإسلامية، القرآن وسياسة الحرب، الصحابة والقرآن، هل الاثنا عشرية باطنيون، الأخوة الدينية والاخوة الإنسانية، كيف تكسب الاصدقاء، الله والمعرفة الحسّية، المادة والحياة، الأجر حق والزيادة تفضّل، الإسلام وقادة الفكر الأوروبي، صدر المجلس، الدول الصديقة والمعادية و...([10])

وهكذا نجد من خلال هذه العينات أن الشيخ مغنية كان يعالج عادةً موضوعات تهمّ الجيل الصاعد والمثقف المتدين والسائل المستفهم، فكان الى جانب لغته داعيةً في قلب نشاطه العلمي ومبلغاً وهو بين قلمه وأوراقه، كان كذلك حتى في أكثر الكتب كلاميةً كفلسفة التوحيد والولاية.

وقد صرّح مغنية في مواضع عديدة بأن هذا البحث أو ذاك لا فائدة منه، وأن العلم به لا ينفع كما أن الجهل به لا يضرّ، لهذا فلا داعي لاتعاب النفس به([11])، وهي طريقة وكلمات استخدمها كثيراً العلامة السيد محمد حسين فضل الله أيضاً، وفي الحقيقة، فهذا الاختلاف في الاهتمامات على صعيد بعض الموضوعات التي أثارها المفسّرون في تفاسيرهم، يؤول في الحقيقة وفي عمقه الى تحديد مفهوم التدبّر في القرآن الكريم، ذلك أن ثمة اعتقاد بأن التدبّر في القرآن يشمل قضايا ليس من فائدة من وراء البحث عنها، والسبب في ذلك يرجع الى مدى اهتمامات المفسّر ومدى وعيه بعصره واشكالياته الفكرية والثقافية والاجتماعية، واذا لم نوافق على الصيغة الشعارية التي يطلقها البعض في قضية الابحاث الترفية وما لا فائدة مرجوّة من ورائه، فإننا نعتقدُ بضرورة رسم منطق أولويات، يحدد درجة الحاجة لبحث هذا الموضوع أو ذاك، وما دام المفسر غير واع لهموم عصره فمن العسير للغاية عليه تحديد الموضوعات التي يفترض استنطاق القرآن حولها.

ولكن التساؤل الذي يثار هنا هو: مع تقدير هذا المنحى الذي يكشف عن درجة تحسّس الشيخ مغنية هموم عصره، وعن المساهمة الفاعلة في إحضار الفكر الديني غمارَ الحياة، لكن من الجهة الأخرى ألا يجرّ هذا اللّون من الاهتمامات اجتزاءاً في النشاط المعرفي؟ ذلك ان حالة اصبحت ملحوظة في بعض الأوساط الفكرية الدينية، وهي حالة الانجماد على جزء من معطيات بحث لتكوين نتائج نهائية، وهي ظاهرة سلبية للغاية، وذات انعكاسات حادّة جداً على التقدّم العلمي، ونقصد بذلك أنّ بعض الباحثين لم يَعُد مستعدّاً لاتعاب نفسه باستقصاء الآراء والأدلة والاتجاهات والمصادر، وإنما يكتفي بالاثارات الفكرية التي تطرأ على ذهنه ليبني عليها صرحاً مشيداً من المعارف والأفكار.

إن المنحى العملاني على أهميته في عالم الفكر والمعرفة، بيد أن الإفراط فيه يؤدّي إلى سلب الطابع النظري والبعد التحليلي العلمي الدقيق عن النظريات والاطروحات، وهو ما يؤدّي على المدى البعيد إلى نوع من تسطيح المعرفة وتبسيط المقولات، خالقاً مشكلة حقيقية على مستوى مقولة المنهج.

5 ـ جدة الإنتاج والإبداع التفسيري

يعتقد العلاّمة مغنية أنّ ((أي مفسر لا يأتي بجديد لم يسبق إليه، ولو بفكرةٍ واحدة في التفسير كلّه، أيقنت أن هذا المفسّر لا يملك عقلاً واعياً، وإنما يملك عقلاً قارئاً، يرتسم فيه ما يقرأه لغيره...))([12]).

يكشف لنا هذا النص عن مدى تقدير الشيخ مغنية للابداع التفسيري، وذمّه لظاهرة التقليد السائدة في الكثير من الأوساط، وقد أكّد على هذه المقولة أيضاً السيد باقر الصدر حين ذهب إلى أن الجهد التفسيري الإسلامي منذ الطبري والطوسي و... يشهد حالةً من الفتور وعدم التقدّم.

إن هذه الرؤية الإبداعية التي يستشرفها الشيخ مغنية، تعزّز التيار المعارض للمنحى الاستاتيكي في المؤسسات الدينية، والذي يعمل على الإبقاء على الأمور كما هي دونما تغيير.

وترتكز هذه الرؤية التي يصرّح بها مغنية على إحساس بالحاجة من جهة، وعدم كفاية النتاجات الفكرية السالفة من جهةٍ أخرى، وهذه الثنائية ـ ثنائية الحاجات والنتاجات ـ هي الأساس الذي تقوم عليه عملية الإبداع في بعدها التسويغي.

لكن الحديث عن ضرورة إبداع المفسّر حديث ذو وجهين:

1 ـ فتارةً نسوقه بصورته الخبرية، والتي تحاول أن تقرأ عن بُعد تجربة التفسير لدى مفسّرها، فترى فيها انعكاساً ـ ليس إلا ـ لما قاله الآخرون، ولتحكم عليها بما حكم عليها به الشيخ مغنية: ((كالأعمى يتوكأ على عكاز، فإذا فقدها جمد في مكانه)) ([13]).

وهذه الطريقة تعتمد إجراء مقايسة بين الحاجات التي تتطلبها الحياة الفكرية والاجتماعية، وبين الانجازات التي حققها هذا المفسّر على صعيد معطيات أتى بها من النص ليخدم بها قضايا الفكر والعقيدة والإنسان.

2 ـ وتارةً أخرى يصار إلى إثارة موضوع الابداع التفسيري، كصيغة تستبق تجربة المفسّر، وفي هذه الحالة ثمة سلاح ذو حدّين هنا:

أ ـ فمن ناحية تثير هذه الركيزة دفائن عقل المفسر، وتستحثه على ابتكار الافكار وخلق المقولات، وتدعوه إلى جهود مضاعفة لانتاج معطيات جديدة، ولو كانت هذه المعطيات معنيةً بالبعد النظري فحسب دون مساس لا بالجوانب العملية ولا بالنتائج نفسها.

وهذا النمط من التعاطي يلاحظ وجوده ـ بدرجة ما ـ على صعيد علم الفقه، وذلك انّ إحساساً ينتاب الباحث (المجتهد) أنه من الضروري أن يقدّم شيئاً لم يقدّم قبله، أو لا اقل أن تكون لـه مساهمة متميزة على هذا الصعيد، وقد كان لهذا الإحساس في الفقه دوره في تطوير هذا العلم ودفعه نحو الأمام، كما يلاحظ ذلك من استقراء تاريخه.

إن قيام الجهد التفسيري للمفسر على أساس إيمانٍ من هذا النوع، يتجاوز مجرد اجترار افكار من سبق ولو بلغات متعددة، لهو الأساس في تطوّر علم التفسير، وما دام هذا العلم جامداً على أقوال الماضين سائراً في فلك مقولاتهم وأفكارهم، فلن يتمكن من تحقيق الاستجابة الطبيعية للعصر.

ب ـ لكن من ناحية ثانية، هناك ما يشبه العدوى التي تجتاح الأوساط الدينية، وكل وسط علمي، عقب اخفاقات كبرى، كما هو الحال في واقعنا الراهن، ذلك أن إحساساً عميقاً بالحاجة إلى المعاصرة والاستجابة لحاجات العصر وتساؤلاته، وشعوراً قوياً بضرورة الابداع وكسر حواجز الثبوت وتحطيم النـزعات السكونية السائدة، هذا الإحساس وذاك الشعور يدفعان الباحث في كثير من الاحيان في ظل اجواء اختناق إلى التورّط في إفراط، لم يكن هدفه من ورائه سوى خلق أفكار جديدة وتثوير التراث وبثّ حياة جديدة فيه.

وهذا ما يحصل على الصعيد التفسيري عندما ننادي بعنصر الابداع، اذ تولد ظواهر في المجتمع العلمي تفرط في إقصاء مقولات سابقة، أو تتجاوز الحد في الترحاب بمقولات جديدة، إحساساً بأن عملاً غير هذا لن يفضي إلا إلى التقوقع والعودة إلى الاجترار والتكرار، إنّ الدعوة إلى الإبداع، والحديث عن المفسّر المبدع دعوة حقّة، لا مجال فيما يبدو للحياد عنها، بيد أن آثارها السلبية لا بد من مراعاتها والانتباه إليها أيضاً، ولا ندّعي أن الشيخ مغنية لم يلاحظ ذلك، فقد كانت له حملاته القوية على المعمّمين الفارغين من العلم، والتي تكشف عن مدى قراءته لظواهر متّصلة بموضوعنا هنا، ذلك أن إحساس النرجسية الذي يعاني منه قطّاع كبير من المعمّمين يشابه نفس الإحساس الذي يعيشه العديد من مدّعي الإبداع الفكري (والتفسيري) في المجتمعات الإسلامية، وكما يحاول بعض المعمّمين أن يتخطى الصفوف لادعاء الفقاهة أو المرجعية، كذلك يسعى فريق من المثقفين الجدد لتخطي كل مراحل البحث والتحقيق اللازمة لادعاء مشروع أو إبداع يرى فيه أنه يطيح بكل الموروث أو أنه يحوّل معادلات التفكير ويغير من المفاهيم الدينية.

إن هذه الظاهرة المزدوجة التي حاربها الشيخ مغنية تستدعي قوننة عمليات الابداع الفكري دون حصرها أو احتكارها، وتطالب بخطاب متوازن يدعو إلى الإبداع ويستحثّ الهمم على التجديد.

6 ـ المفسّر والقرآن، جدل المعرفة والإيمان

وفي سياق المحدّدات المنهجية التي يختارها مغنية في تفسيره تنظيراً وممارسة، تقع مقولته التالية: ((وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسّر، وهو أهم وأعظم من كل ما ذكره المفسرون في مقدّمة تفاسيرهم، لأنه الأساس والركيزة الأولى لتفهم كلامه جلّ وعلا، ولم أرَ من أشار إليه، وقد اكتشفته بعد أن مضيت قليلاً في التفسير، وهو أن معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على حقيقتها، ويعرف عظمتها إلا من يحسّها من أعماقه، وينسجم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه...))([14]).

رغم أن الشيخ مغنية يشير في هذا النص إلى أنه لم يرَ من أشار إلى هذا المضمون، فإن ملاحظة أحد دارسيه وقعت في محلّها([15])، ذلك أن المنحى العرفاني عموماً يتخذ هذا الطريق، ويرى أن فهم القرآن عملية لا يمكن تفكيكها عن الذوبان فيه.

لكن هذه المقولة التي تبدو حاضرة بشكل أو بآخر في جهود علماء التفسير أجمع على ما يبدو، هي الأخرى ذات بعدين أحدهما إيجابي والآخر سلبي:

أ ـ أما البعد الإيجابي: وهو البعد الذي يمكن موافقة مغنية وغيره عليه، فيتلخص في أن النص القرآني نص أدبي شئنا أم أبينا، والنصوص الأدبية ـ سيما الراقية منها ـ لا يتسنى فهمها بطريقة جافّة، بل يلزم محلّل النص بالتفاعل مع صاحبه والاتحاد معه وخوض معاناته الادبية لفهم مقصوده ومراده، وبحسب التعبير العرفاني صيرورة العبد ناطقاً بالقرآن، وفي هذه الحالة من التماهي مع صاحب النص يمكن فهمه أكثر، وهو تماهي ليس صورياً أو ادعائياً، بل هو عيش حقيقي في مناخ المتكلم وإحساس عميق بتجربته.

هذا هو البعد الإيجابي في مقولة مغنية، قدرةٌ اكبر على تمثل الذات الالهية والفناء فيها، والعشق لها، لفهمها وفهم كلامها وغاياتها ومقاصدها.

ب ـ أما البعد السلبي في مقولة مغنية، فيكمن ـ في تصوّر الكاتب ـ في خلق حاجب من طرف آخر عن فهم النص القرآني، ذلك أن الايمان بالقرآن وما يحيط بهذا الايمان من منظومة معتقدات ومفاهيم حافّة، يحيل في كثير من الأحيان مجال التعامل مع النص دون تطويع أو إسقاط تفرضه القناعة المسبقة به، فالكثير من الآيات سيزول تناقضها لا وفق منهج علمي يكشف فيها عن عناصر التوفيق، بل وفق أدوات متعالية تفرض توفيقاً كيفما كان بغية الحيلولة دون وقوع تصادم مع الأوليات التي دخل المفسر النص محمّلاً بها.

إن الاشكالية التي ما تزال تواجهها الجهود التفسيرية، هي افتراض الجهد التفسيري جهداً لاحقاً على علم الكلام والفلسفة، وعدم وجود تجربة (إسلامية) تفسيرية حتى اليوم تتعامل مع النص القرآني بصورة حيادية، لا ترفعه إلى درجة الكلام الإلهي ولا تضعه في خانة النص المتَّهم كما فعله بعض المستشرقين، دون أن تعني مطالبتنا بتجربة من هذا النوع اعتبارها ذات نتائج نهائية، بقدر ما نهدف عبرها إلى تخفيف معدلات الإسقاط والتطويع، فعندما يرد المفسرُ القرآنَ عاشقاً له مؤمناً به مقدّساً إيّاه، فسوف يجهز حلولاً مسبقة لأية إشكالية يواجهها هذا النص، وستبدو الحلول في بعض الأحيان واهية لدى الأطراف المحايدة.

إن الدعوة التي يطلقها مغنية لعلاقة إيمانية مع القرآن تسبق علاقة التفسير والمعرفة دعوة صحيحة، لكنها لا تستبعد دعوةً عكسية لقراءة النص القرآني دونما إيمان، ولعل مزيج القراءتين قد يقدم لتجربة التفسير الإسلامي الكثير من النتائج والمعطيات.

7 ـ النصّ القرآني المؤسّس والنص الثاني، إشكاليات الفهم

ثمة موضوع بالغ تفرّق الكلام عنه عند علماء المسلمين في الكتب والعلوم المختلفة، فمن أصول الفقه إلى التفسير وقواعده المنهجية، إلى الحديث.. تعدّدت الاتجاهات وتنوّعت المواقف إزاءه، ألا وهو النص القرآني والنص الروائي (بالمعنى الذي يشمل النبويات وروايات الصحابة والتابعين ... وأهل البيت ).

وقد أبدى ـ ومارس ـ الشيخ مغنية في منهجيات تفسيره موقفاً إزاء ذلك تمثل فيما يلي:

1 ـ أما موقفه إزاء نصوص النبي وأهل بيته فقد أيّد أخذها مرجعاً تفسيرياً، وظهرت في كتابه ((الكاشف)) موارد عديدة تمسّك أو استشهد فيها بروايات عنهم لصالح تفسير معين للآية، كما ذكر في مقدّمة تفسيره: ((اعتمدت ـ قبل كل شيء ـ في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنّة الرسول 2، لأنها ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفة معانيه.. فإذا لم يكن حديث من السنّة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر.. وإذا وردت آية ثانية في معنى الأولى، وكانت أبين وأوضح ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأن مصدر القرآن واحد...))([16]).

يكشف لنا هذا النص عن موقف منهجي اختاره الكثير من المفسّرين، ولا يهمنا هنا فعلاً استعراض المواقف إزاء حجية ظواهر القرآن ومقولات الأخباريين على هذا الصعيد وما قيل ويقال، وإنما نودّ تسجيل ملاحظة منهجية على الشيخ مغنية تتصل بنوع من التناقض داخل المنهج.

حصيلة الملاحظة أن الشيخ مغنية ـ وفق ما نفهمه من النص المتقدّم ـ لم يفرّق بين النص النبوي وبين الخبر المنقول عن النبي 2، فالنص النبوي ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفته، تمسكاً بما دل على لزوم الاخذ بما أتى به الرسول 2، لكن الخبر المروي عن النبي 2ليس له تلك الدرجة المعرفية، وإن لم نمارس إزاءه رفضاً شاملاً.

إن ما نتعامل معه اليوم هو النص المنسوب إلى النبي 2لا النص النبوي، وعليه فإذا أريد تأسيس أولوية لصالح النص النبوي فهذا مقبول، أما عندما يراد جعل الخبر المروي بمثابة النص النبوي وإلغاء الفاصلة الموجودة فإن الأمر يبدو مختلفاً بعض الشيء، إذ ثمة تساؤل منهجي يطالبنا بجواب: لماذا قدّمت الروايات على الظاهر القرآني، رغم اعتراف الشيخ مغنية باعتماد المتكلم والسامع على الظاهر هذا؟

إن مجرد كون النبي 2ترجماناً للقرآن، وكذا أهل بيته، لا يبرر تقديم الخبر المروي عنهم على الظاهر، حتى يقول الشيخ مغنية إنه يتعامل مع النص المروي ثم يلجأ إلى الظاهر القرآني.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لماذا يجري عادةً استبعاد النص الصريح من القرآن، ولماذا تجعل السنة واضحة فيما يبدو القرآن غامضاً؟

لا شك ان النص القرآني نوع نصٍّ حركي، يصعب استخلاص كافة النتائج منه، لكن الأخذ بمجمل النتائج شيء وعدم الأخذ بأي معطى شيء آخر.

ان العودة إلى الترجمان إنما تكون عند عدم المعرفة بالمترجَم لا مع المعرفة به، والعودة بعد المعرفة لا وظيفة لها سوى اختبار استنتاجاتنا عن القرآن لا طلب الاستنتاج منه، وإذا ما أقفل الشيخ مغنية طرق المعرفة بالقرآن فمن حقّه ـ أولياً ـ اعتبار النص النبوي أساساً أولياً في التفسير، لكن الشيخ مغنية نفسه عاد وأقرّ بالظاهر القرآني، فكيف تسنّى لـه هذا التناقض المنهجي، سيما وأن النصوص النبوية لا تخرج ـ هي الأخرى ـ في أغلبها وفق المقاييس المتداولة عن الظاهر نفسه.

وعلى خط ثالث، كيف قدّم الشيخ مغنية النص النبوي (وهو ليس الا الخبر المروي في الحقيقة بالنسبة لنا) على القرآن على صعيد الفهم، مع أن النصوص الروائية نفسها تأمر بعرض الحديث على الكتاب لا العكس؟!

كيف يمكن وفق منهج الشيخ مغنية عرض الحديث على الكتاب ما دام التشكل المفهومي للكتاب فرع العودة إلى الرواية؟ وما دام الظاهر القرآني يقف في درجة لاحقة؟

إن هناك احتمالاً في أن لا يقصد الشيخ مغنية ما توحيه عبارته السالفة، والقول بأن قصده من النص النبوي النص الصحيح غير المرفوض عقلاً أو بداهةً من القرآن، أو ما شابه ذلك سيما أنه عارض الموقف الاخباري في كتابه اصول الفقه([17]).

وإنما نسجل هذه الملاحظة النقدية على هذا السلّم الرتبي، لأننا نلاحظ ـ ولو لم نُدخل الشيخ مغنية في هذا السياق ـ شيوع منهج أصالة الحديث وتنحية القرآن، وهو منهج مارسته تيارات أخبارية سابقة في الفكر الاسلامي من محمد أمين الاسترآبادي إلى غيره، ولم تسلم منه فرق الشيعة والسنّة، فهناك من يقول بأن العودة المباشرة إلى الكتاب الكريم منهجية خاطئة، وأن السنة النبوية ونصوص أهل البيت هي المرجع المعرفي الأوّل الذي يمكن من خلاله فهم القرآن وغيره.

إن تنحّي المنهج الأخباري بصورة رسمية لصالح الاتجاه الأصولي في الفكر الشيعي، لم يقص الروح الأخبارية عن الحياة العلمية والاجتماعية، كما يشير إليه في مواضع عديدة الشهيد مرتضى مطهّري، فثمة اليوم من يتوقف في تفسير كتاب الله دون نص روائي، وثمة من يقدّم الرواية على العقل وعلى المفاهيم الكلية القرآنية، بل هناك من يمارس تجربة العلامة المجلسي التي ذكرها في مقدّمة كتابه ((بحار الأنوار))، والتي أشار فيها إلى مسيرةٍ بدأها بالعلوم والمعارف ليمرّ بالقرآن وينتهي الى ما يعتبره الملاذ وهو السنة الشريفة.

يقول العلامة المجلسي في بحاره: ((إعلموا يا معاشر الطالبين للحقّ واليقين المتمسّكين بعروة اتّباع أهل بيت سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ أنّي كنت في عنفوان شبابي حريصاً على طلب العلوم بأنواعها، مولعاً باجتناء فنون المعالي من أفنانها فبفضل الله سبحانه وردت حياضها وأتيت رياضها، وعثرت على صحاحها ومراضها، حتّى ملأت كمّي من ألوان ثمارها، واحتوى جيبي على أصناف خيارها، وشربت من كلّ منهل جرعة رويّة وأخذت من كلّ بيدرٍ حفنة مغنية، فنظرت إلى ثمرات تلك العلوم وغاياتها، وتفكّرت في أغراض المحصّلين وما يحثّهم على البلوغ إلى نهاياتها، وتأمّلت فيما ينفع منها في المعاد، وتبصّرت فيما يوصل منها إلى الرشاد، فأيقنت بفضله وإلهامه تعالى أنّ زلال العلم لا ينفع إلاّ إذا أخذ من عين صافية نبعت عن ينابيع الوحي والإلهام، وأن الحكمة لا تنجع إذا لم تؤخذ من نواميس الدين ومعاقل الأنام.

فوجدت العلم كلّه في كتاب الله العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأخبار أهل بيت الرسالة الّذين جعلهم الله خزّاناً لعلمه وتراجمةً لوحيه، وعلمت أن علم القرآن لا يفي أحلام العباد باستنباطه على اليقين، ولا يحيط به إلاّ من انتجبه الله لذلك من أئمة الدين، الّذين نزل في بيتهم الروح الأمين، فتركت ما ضيّعت زماناً من عمري فيه، مع كونه هو الرّائج في دهرنا، وأقبلت على ما علمت أنّه سينفعني في معادي، مع كونه كاسداً في عصرنا. فاخترت الفحص عن أخبار الأئمة الطاهرين الأبرار سلام الله عليهم، وأخذت في البحث عنها، وأعطيت النظر فيها حقّه، وأوفيت التدرّب فيها حظّه.

ولعمري لقد وجدتها سفينة نجاة، مشحونة بذخائر السعادات، وألفيتها فلكاً مزيّنا بالنيّرات المنجية عن ظلم الجهالات، ورأيت سبلها لائحة، وطرقها واضحة، وأعلام الهداية والفلاح على مسالكها مرفوعة، وأصوات الدّاعين إلى الفوز والنجاح في مناهجها مسموعة، ووصلت في سلوك شوارعها إلى رياض نضرة، وحدائق خضرة، مزيّنة بأزهار كل علم وثمار كل حكمة، وأبصرت في طيّ منازلها طرقاً مسلوكةً معمورة، موصلة إلى كلّ شرف ومنزلة. فلم أعثر على حكمة إلاّ وفيها صفوها، ولم أظفر بحقيقة إلاّ وفيها اصلها...)) ([18]).

وفي قبال هذا الموقف نجد نصاً بالغ الأهمية للعلامة الطباطبائي، يشير فيه إلى تنحية القرآن وقطع روابطه مع مختلف العلوم الإسلامية، فيما تنشأ الجسور العظيمة مع الحديث.

يقول العلامة الطباطبائي (ره): ((وقد أفرط في الامر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الأخبار! وبلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أن الخبر ينسخ الكتاب، ولعل المتراءى من أمر الامة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: ((أن أهل السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي 2: ((أنهما لن يفترقا))، وأن الشيعة أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقــولـه 2: ((انهما لن يفترقا))، فقد تركت الأمة القرآن والعترة (الكتاب والسنة) معاً.

وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية وهي العلوم الدينية والادبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم، وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والاصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرء القرآن، ولم يمس مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر ان كنت من أهله..)) ([19]).

وهذه القطيعة التي يشير إليها الطباطبائي بالغة الأهمية، فلو وافقنا على تخصيص وتقييد و... الكتاب بالخبر الواحد، وقلنا من حيث المبدأ بحجية خبر الواحد، فإن هذا لا يعني إطلاقاً تفريغ الكتاب من موقعيته ومكانته التي يحتلها، وإن الحديث في عالم الحجج ـ وهنا الاشتباه المركزي الذي حصل ـ حيث يتساوى الكتاب والرواية، لا يعني مبرراً لتجاهل قوّة الصدور الموجودة في النص القرآني.

لقد أغفل العلماء حيثية الصدور ونوعية الخطاب القرآنيين عندما حاولوا إثبات أن النص الروائي يمكنه تخصيص الكتاب أو ... وإذا كان من حقهم منهجياً عدم تصنيف قطعية الصدور القرآني كعائقٍ أمام جواز التخصيص و.. فإن هذا لا يعني على الإطلاق تساوي درجة الدليلين ما داما على كل تقدير حجّة.

إن اشتراك النص القرآني والروائي في عالم الحجية لا يعني تساويهما من الزاوية المعرفية، بل تبقى حيثية قطعية الصدور ونوعية الخطاب القرآني سمتان تقفان لصالح النص القرآني تجعل من العسير على نص روائي الرقيّ إليه، وهذا هو بالضبط ما كنا نلاحظه على العلامة مغنيّة.

وفي ختام هذه النقطة نسجل ملاحظة أخرى على الشيخ مغنية، وحاصلها أنه لا يعتقد بحجية خبر الواحد في غير الشرعيات وموضوعاتها، فكيف يأخذ بالخبر في تفسير غير آيات الأحكام؟! فقد نصّ في الجزء الأوّل من تفسيره ـ وإن لم يُشر إلى هذا الأمر في بحثه حول حجية خبر الواحد في كتابه الاصولي ـ أن ((الخبر الواحد حجة في الاحكام الشرعية فقط، أو فيها وفي موضوعاتها على قول، أما في العقائد، والمسائل التاريخية والموضوعات الخارجية البحتة فليس بحجّة إلاّ مع قرينة توجب ركون النفس واطمئنانها، وعندها يكون الخبر بحكم السنّة القطعية)) ([20]).

فإذا كان مقصوده من التأسيس لمرجعية الخبر وتقدّمها على الظاهر في الدرجة المعرفية وفي الأسبقية، الخبر القطعي الصدور فهذا أمر آخر، وإلا ـ كما هو ظاهر عبارته ـ فلا معنى للنص الجديد وفقاً لذلك.

2 ـ وأما موقفه من الإسرائيليات فكان واضحاً جلياً: ((نظرت إلى الاسرائيليات التي جاءت في بعض التفاسير على أنها خرافة وأساطير...))([21]).

ومع انضمام الشيخ مغنية الى تيار كبير في الوسط التفسيري في القرن الميلادي العشرين يرفض الاسرائيليات ويحارب الخرافة في عالم التفسير([22])، وهو تيار محقّ بالكامل، غير أن مقولة الاسرائيليات ـ كمقولة الخرافة والأسطورة ـ يجب أن لا يجري تحويلها إلى شعار يهدف من ورائه الاطاحة بكل نصّ لا ينسجم وأنماط تفكيرنا، ذلك أن مجرد استبعاد حدثٍ لا ينفيه، بل لا بد من التعامل مع الروايات المتهمة بهذه التهمة بروح علمية، ودراستها صدورياً ودلالياً بصورة موضوعية.

وإنما نقول ذلك، لأننا نلاحظ نوعاً من الإفراط في إقصاء كل النصوص التي تبدو غريبةً بعض الشيء دون إخضاعها لموازين علمية ومحاسبات منهجية دقيقة.

3 ـ أما موقف الشيخ مغنية إزاء أسباب النـزول، فهو يصرح بأنني ((تجاهلت ما جاء من الروايات في أسباب التنـزيل إلا قليلاً منها، لأن العلماء لم يمحصوا أسانيدها ويميزوا بين صحيحها وضعيفها...)) ([23]).

وهذا الموقف يشابه موقف العلامة الطباطبائي صاحب الميزان([24])، وهو موقف جريء ومحكم حينما يصار إلى التأكّد من هشاشة روايات اسباب النـزول وفق منهج علمي حديث ومدروس، أما مجرّد أن العلماء تساهلوا في دراسة روايات أسباب النـزول فلا يعدّ مبرّراً لاستبعاد هذه القائمة الطويلة من الروايات الواردة عن الصحابة وأهل البيت ، بقدر ما يكوّن باعثاً وضرورة جادّة لإعادة دراسة هذه الروايات بمجملها ونقدها وتحقيقها من نواحي الصدور والدلالة والدور والمكانة.

ومن هنا يلاحظ مدى الضعف العام علمياً إزاء هذا التراث القرآني، رغم أن روايات أسباب النـزول ـ إذا ما ثبتت بدرجة الوثوق ـ تساهم إسهاماً بالغاً في تحديد مدلول الآيات، كما تساعد على تحديد مناخات الكثير منها، ممّا يساعد على اكتشاف دائرتها الزمكانية، الامر الذي تبدو أهميته واضحة في علم الفقه والقانون.

4 ـ أما عن موقفه من أقوال العلماء والمفسرين([25])، فقد كان محترماً لها، وآخذاً بها الى درجة المؤيد لوجه من الوجوه واحتمال من الاحتمالات، أما تقديس كلمات المفسرين رغم قيمتها، واعطائها مكانة لا مجال معها للنقد أو التمحيص فهو ما رفضه الكاشف منهجاً وممارسةً، كما يبدو جلياً من إسهاماته النقدية لكلمات اكثر من مفسّر سني وشيعي، حيث سجل انتقادات على مجمع البيان والميزان، كما انتقد الفخر الرازي ومحمد عبده ورشيد رضا، وقد كان تفسير المنار أحد التفاسير التي أولاها مغنية اهتماماً بالغاً وصاحبته في مسيرته التفسيرية، الى جانب الكثير غيرها من أمثال في ظلال القرآن لسيد قطب، وروح المعاني للآلوسي، والكشاف للزمخشري و...

لكن الشيخ مغنية لم يستمر على طول الخط مع هذا المنحى، بل تأثر بالمنهج الاصولي ـ الفقهي المقدّر لدور الاجماع، ولهذا فهو يصرّح: ((وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع إجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية، حملت الظاهر على الإجماع كقوله تعالى: ]إذا تداينتم بدين فاكتبوه[...))([26]).

8 ـ التفسير بين النسبية والدوغمة

هناك نصّان هامّان للشيخ محمد جواد مغنية، يعكسان تصوراته عن العملية التفسيرية، وعموماً الجهود العلمية، يقول في أحدهما: ((والذي يهوّن الخطب أن المفسّر يعبّر عن فهمه وتصوّره لمعاني القرآن ومقاصده، كما هي في ذهنه، لا كما هي في واقعها، تماماً كالفقيه المجتهد الذي يُؤجر إن أصاب، ويُعذر إن أخطأ، بل ويؤجر أيضاً على نيته واجتهاده وعدم تقصيره)) ([27]).

ولدى حديثه في ثانيهما عن الدين والفطرة يقول: ((القصد من الآية هو تحديد المقياس الذي قيس به دين الله، وأنه بما فيه من عقيدة وشريعة وأخلاق ينسجم مع فطرة الناس ومصالحهم، وأنه سبحانه لم يشرّع حكماً لعباده منافياً لمصلحة الفرد أو الجماعة.. هذا هو الضابط والفاصل بين أحكام الله وأحكام غيره، بين شريعة الحق وشريعة الباطل، أما أقوال العلماء من الفقهاء والمفسّرين والفلاسفة فما هي بأصل من أصول الإسلام، ولا يصح الاعتماد عليها كدليل شرعي، لأنها تعكس اجتهاداتهم وفهمهم لدين الله وأحكامه، ولا تعكس الدين كما هو في حقيقته وواقعه))([28]).

يكشف هذان النصّان عن رؤية مغنية للواقع المعرفي الذي تثار حوله اليوم جدالات ونقاشات، ثمة فاصلة بين الذهن والواقع، الانا والهو... وثمة ما يعيق الدوغمة والنزعات الجزمية عندما يتحقّق هذا الفصل.

لن نقف كثيراً عند هذا الموضوع، فله مجاله الخاص، بل سنكتفي بالاشارة إلى ما يهمنا هنا:

أ ـ رغم إقرار مغنية بالفصل بين الدين في عقول الرجال، والدين في واقعه وحقيقته، الامر الذي يتطلّب نوعاً من التواضع العقلي، إلا أن الممارسات النقدية للشيخ مغنية، سواء في تفسير الكاشف أو غيره، كانت بعيدة عن هذا المناخ، لقد كان مغنية مفسراً جزمياً قاطعاً، وشديداً على معارضيه في الرأي في الوقت نفسه، فالتفكير الذي ينبني على مقولات التعددية ونسبية الفهم يفترض في الانعكاس السلوكي والتحقيقي أن يتجلّى على شكل تواضع عقلاني، يفتح الابواب دون أن يسدها إلا واحداً، وهذا ما لا نجده في الخطاب التفسيري والعام عند الشيخ مغنية.

ب ـ ربما يكون هذان النصّان دالين على انتماء مغنية لتيار التحوّل المعرفي، لكن قراءة زمكانية وتاريخية ربما تعطي نتائج مغايرة بعض الشيء، إذ يستبعد موافقة مغنية على المناهج التعددية والنسبية المثارة اليوم، وإن لم ينتم بالتأكيد الى التيار المدرسي الكلاسيكي شديدِ القطعِ واليقين.

ج ـ هناك ترابط منطقي عند العلامة مغنية بين منهجه النقدي، ومقولته النسبية (نسبية الفهم لا الحقيقة) الآنفة، من ناحية معينة، ذلك أن المنهج النقدي الشامل يمثل دالةً على عدم قناعته بفكر بشري إطلاقي أو مقدّس متعالي عن النقد والمساءلة.

إن استخدام مغنية لمنهج نقدي متّحد مع الجميع، الموافقون له في المذهب وغيرهم، يعطي مؤشراً على استقلال فكري يسقط حواجز التفكير السيكولوجية التي تعيق عملية الإنتاج العلمي، وهو بهذا المزدوج (النقد الشامل، المنهج التفكيكي بين الذهن والواقع) مارس تأسيس منظومة افكاره دون حواجز من نظريات الآخرين وآرائهم.

إن ناقداً وزيناً كالشيخ مغنية، بنى نقده على جرأة معرفية مميزة، ومواقف تاريخية في الحياة السياسية والاجتماعية (سيما اللبنانية)، ليمكن وضعه في خانة التبلورات الأولية في تيار الإصلاح الديني نحو تشكيل عقل جديد، قبل الاستغراق في تنظيم المفردات وبنائها.

* * *

الهوامش :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ هذه الدراسة نشرت في مجلة الكلمة، العدد 38، عام 2003م.

[2] ـ جواد علي كسّار، محمد جواد مغنية، حياته ومنهجه في التفسير، نشر دار الصادقين، ايران، الطبعة الأولى، 2000م، ص81 ـ 82.

[3] ـ في كتابه ((جدل الخطاب والواقع)) الذي صدر مؤخّراً.

[4] ـ الشيخ محمد جواد مغنية، فقه الامام جعفر الصادق C، نشر دار الجواد، بيروت 1965م، ج1: 32.

[5] ـ السيد محمد باقر الصدر، المجموعة الكاملة دار التعارف، بيروت ، ج13، المدرسة القرآنية، ص33.

[6] ـ انظر كنموذج كتابه ((علم أصول الفقه في ثوبه الجديد))، نشر دار الكتاب الإسلامي، ايران، 1411 هـ ، ص6 ـ 7، وكذلك ((الكاشف))، نشر دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1990م، ص5 ـ 6.

[7] ـ علي المحرقي، محمد جواد مغنية سيرته وعطاؤه، مكتبة فخراوي، البحرين، الطبعة الأول، 1997م، ص177 ـ 185.

[8] ـ أنظر مقدّمات ((في ظلال الصحيفة السجادية)) و((الكاشف))، و((علم أصول الفقه في ثوبه الجديد)) و((الشيعة والتشيّع)) و((الخميني والدولة الإسلامية)) و((فقه الإمام جعفر الصادق C)) و((فلسفة التوحيد والولاية)).

[9] ـ أنظر حول هذا الموضوع مقالة ((تحوّلات تفسير نگاري در قرن چهارده))، تأليف موسى صدر وأمان الله فريد، مجلة پژوهشهاى قرآني (بحوث قرآنية)، إيران، العدد 7 ـ 8، 1996م، سيما ص12 ـ 13.

[10] ـ يشار هنا إلى أن بعض هذه العناوين في الكاشف تشكل نواة تفسير موضوعي، كما وتجدر الاشارة إلى ضرورة تدوين دليل موضوعي لتفسير الكاشف، على غرار ما فعله إلياس كلانتري من دليل موضوعي ينظم تفسير الميزان، وكذلك الدليل الموضوعي الذي صدر مؤخراً لتفسير ((من وحي القرآن)).

[11] ـ انظر تسخيفه النزاع حول أب إبراهيم (آزر) الكاشف، ج3: 213، كما وانظر تفسير ((وأبونا شيخ كبير)) 6: 60، وكذلك موقفه من الحديث المطوّل المفصّل في الجزية 4: 32، وموقفه من تحديد ((ذي القرنين)) 5: 156، إلى غيرها من المواضع العديدة.

[12] ـ الكاشف 1: 10.

[13] ـ الكاشف 1: 10.

[14] ـ الكاشف 1: 9 ـ 10.

[15] ـ جواد علي كسار، مصدر سابق.

[16] ـ الكاشف 1: 15.

[17] ـ علم اصول الفقه في ثوبه الجديد، ص223 ـ 224.

[18] ـ بحار الأنوار، العلامة محمد باقر المجلسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثـة، 1983م، ج1: 2 ـ 3.

[19] ـ الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، دار الاعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1974م، ج5: 276.

[20] ـ الكاشف 1: 203.

[21] ـ الكاشف 1: 14، وفي بحثه حول الآية (102) من سورة البقرة التي تتحدّث عن هاروت وماروت، انتقد أيضاً الاسرائيليات التي وصفها بأنها ((لا يقرّها عقل ولا نقل))، انظر الكاشف 1: 161، كما تعرّض في بحث آدم وحواء للاسرائيليات، لاحظ الكاشف 1: 84، وآيات أخرى.

[22] ـ انظر ((تحولات تفسير نگاري در قرن چهارده))، مصدر سابق، ص11 ـ 12.

[23] ـ الكاشف 1: 14، وقد عدّ الباحث الايراني محمد بهرامي موقف الشيخ مغنية من أسباب النزول من الآراء المبتكرة عنده، إلى جانب اعتقاده بالنزول التدريجي للقرآن ونفيه النزول الدفعي خلافاً للعلامة، لكن في عدّ ما ذكره آراءً مبتكرة مجال واسع للمناقشة، أنظر فصلية پژوهشهاى قرآنى (بحوث قرآنية)، العدد: 27 ـ 28 ايران، مقالة روش شناسي تفسير الكاشف (منهج تفسير الكاشف)، محمد بهرامي، ص258 ـ 262.

[24] ـ راجع كتاب ((القرآن في الإسلام))، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة السيد أحمد الحسيني، نشر دار الإسلام، الطبعة الاولى، 1999م، ص126 ـ 129.

[25] ـ الكاشف 1: 16.

[26] ـ الكشاف 1: 16.

[27] ـ الكاشف 1: 10.

[28] ـ الكاشف 6: 142.


Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية