يهود صيدا يعودون ... عبر الفايسبوك



في الصورة: حارة اليهود في صيدا - جنوب لبنان

كارلا الزايد
"ندعو الأصدقاء والزملاء في لبنان والعالم، إلى مشاركة وتبادل أفكارهم وذكرياتهم ومشاريعهم، لإعادة إحياء مجتمع نابض ثقافيًا وتعددياً في صيدا".. بهذه العبارات افتتح "أصدقاء يهود صيدا" صفحتهم على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك"، معرّفين عن أنفسهم بـأنهم "مجتمع من أصدقاء ومواطنين عازمين على ترويج التعايش والذاكرة والثقافة والتاريخ والفن والتعددية وحوار الأديان والحقوق المدنية".
قد يُفاجأ كثيرون عند سماع أن هناك من ينادي، ولو "فيسبوكياً"، بإعادة إحياء الوجود اليهودي في صيدا، الذي يعود تاريخه إلى عام 922 بعد الميلاد.
في تلك الحقبة كان بعض من لبنان الحديث جزءاً من "مملكة اسرائيل"، وبطبيعة الحال سكن اليهود مناطق عدة تقع اليوم ضمن الـ10452كلم مربع، وتمتد هذه المناطق من سفوح جبل حرمون وصولاً إلى حاصبيا التي اعتُبرت فيما بعد مركزاً مهماً للانتشار اليهودي إبّان القرن العشرين.
وبعد ثورة اليهود الفاشلة ضد الامبراطورية الرومانية عام 132 م، والتي تُعرف بـ"بار كوخبا"، كانت انطلاقة الهجرة اليهودية إلى كل أنحاء العالم.
بعض من هولاء المهاجرين استقر في لبنان، توجّه قسمٌ منهم شمالاً نحو طرابلس حيث لا يزال هناك شارع باسمهم حتى اليوم. بعضهم الآخر استقر في صيدا، وورد في كتابات الحاخام "سعاديا غايون" أنه استقبل عام 922 عائلات يهودية من "بعل جاد" وهو الإسم التوراتي لمدينة بعلبك.
كذلك عرفت صور الوجود اليهودي حيث تأسّست في المدينة "الأكاديمية اليهودية الفلسطينية" عام 1071.
وعرفت مدينة صيدا الوجود اليهودي المنظّم منذ عام 1522، بعد هجرة داخلية للطائفة من مناطق الجبل التي استقبلت المزيد من اليهود الهاربين من "المحاكم الإسبانية" عام 1710، غير أن أحداثاً فردية ذات طابع طائفي دفعت بجزء كبير من الأقلية اليهودية إلى التوجه نحو الساحل، وتحديداً مدينتي بيروت وصيدا.

ولصيدا أهمية دينية لدى اليهود، فالمدينة تحتضن ضريح "زيبولون"، وهو أحد أبناء يعقوب، كما يُعتقد أن "زيبولون" هو أحد آباء أسباط اسرائيل الإثني عشر.
وما نراه اليوم على هذه الصفحة من صور ووثائق ليس إلا في ذكريات من عاش أو عايش الوجود اليهودي في صيدا.
بحسب رئيس بلدية صيدا محمد السعودي، عدد اليهود الساكنين في المدينة هو صفر، أما ما تبقى من يهود داخل لبنان، قد يكون بين المئتين والألفين، والفارق الشاسع في هذه الأرقام ليس إلا دليلاً على حياة اليهود "السوبر سرية" في لبنان.
قد يكون لهذه السرية التامة أسبابها وتبريراتها، فاحتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية منذ عام 1948، تحت عنوان إنشاء وطن قومي لليهود، أثر بشكل كبير على الوجود اليهودي في كل البلدان العربية والإسلامية، خاصة في ايران، العراق، مصر وسوريا.
ويروي عزرا تامير، شاب يهودي حلبي لجأ إلى بيروت وسكن في شارع فرنسا، في كتاب "يهود لبنان: بين التعايش والأزمات" ما حصل لأقربائه في سوريا:
"لاحقتهم الكلاب وأطلق عليهم الجنود النار على الحدود مع لبنان(..)، وصلوا إلى وادي أبو جميل بحالة صحية سيئة".
والمفارقة هنا أن يلجأ هؤلاء اليهود العرب إلى لبنان، الذي كان البلد العربي الوحيد حيث ارتفع فيه عدد اليهود بعد النكبة.
ويهود لبنان كانوا مواطنين أصحاب حقوق كاملة، لهم ثقلهم الاقتصادي والاجتماعي في وادي أبو جميل في وسط بيروت، حيث بنوا كنيس "ماجن أبراهام" والذي يعاد ترميمه اليوم، كما كان لديهم منظماتهم الكشفية (l’Amicale، نادي هاتيكفا) ومدارسهم العلمانية والدينية (الأليانس، سليم طراب) وصحفهم ومجلاتهم (الصوت اليهودي، العالم الاسرائيلي).

كذلك برزت شخصيات لبنانية يهودية عدة في مؤسسات حكومية، مثل الضابط إيليا بصل، عضو غرفة التجارة في بيروت جوزف فارحي، كما أسّس توفيق ميزراحي مجلة Le Commerce Du Levant، وهي مجلة اقتصادية لا تزال تصدر حتى اليوم، غير أن مالكيها الحاليين ليسوا يهوداً.
وكشفت الصحيفة الأميركية "نيويورك تايمز" عن رسائل بعث بها مزراحي لتنشر في عدد 21 شباط 1950، وجاء في إحداها: "لم تمس شعرة من رأس أي يهودي لبناني، كما أن السلطات لم تغير في تعاملها معنا، وحقوق اليهود لم تُنتهك، بل أكملوا حياتهم بشكل طبيعي ولم يصرَفوا من أعمالهم كما حصل في البلدان العربية الأخرى".
وربما مزراحي لم يعلم في حينها أن تلك "الحياة الطبيعية" كانت تشارف نهايتها مع اندلاع الحرب الأهلية، التي لم تبرّئ أحداً، فالكل حاول إلغاء الآخر ولم يستطع ذلك، باستثناء اليهود الذين باعوا بأكثريتهم ممتلكاتهم وتوجهوا إلى "أرض ميعاد" أميركية وأوروبية واسرائيلية.
أما أقليتهم ففضلت البقاء في الوطن، وبالرغم من "الموت السريري" الذي أصاب المجتمع اليهودي اللبناني، تشير المعلومات إلى أن مجلس الطائفة لا يزال ناشطاً، إن من حيث جمع التبرعات لاستكمال ترميم كنيس وادي أبو جميل، أو من حيث العمل على ترميم مدافن اليهود المنتشرة في مناطق عرَفَتهُم.
في هذا الإطار كشف رئيس بلدية صيدا محمد السعودي لـNOW عن تلقي البلدية الشهر الفائت طلب رخصة بترميم مدافن اليهود في صيدا، وبحسب السعودي "هذا الطلب جاء بإسم "الكنيس اليهودي في بيروت" والبلدية وافقت عليه"، نافيا معرفته تاريخ بدء الترميم.
واستذكر السعودي "حارة اليهود" في صيدا القديمة، إبّان فترة الخمسينات، حيث باع جزء من اليهود منازلهم ليسكن مكانهم ما وصفه بـ"الـمزيج من اللبنانيين والسوريين والمصريين والفلسطينيين"، لافتاً إلى أن بعضاً من "السكان الجدد" لم يضطر إلى شراء المنازل بل "وضع يده" على منازل أخليت على عجل.
وختم السعودي بالتأكيد على أن "اليهودية ديانة مثل الإسلام والمسيحية، ومشكلتنا ليست مع اليهود بل مع اسرائيل". إذاً صفحة "أصدقاء يهود صيدا" مليئة بالذكريات والحنين، تسترجع الزمن الجميل لصيدا التعايش، حيث لا مكبّ فيها ولا أسير.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية