من الاختلاف إلى الصراع: الخطابات العربية والأميركية بعد 11 أيلول/ سبتمبر - د. رضوان السيّد
من الاختلاف إلى الصراع: الخطابات العربية والأميركية بعد 11 أيلول/ سبتمبر
رضوان السيد
أولاً: الخطاب الأميركي القديم والجديد
عام 1998 صدر بالإنجليزية والعربية كتاب فواز جرجس بعنوان: ((أميركا والإسلام السياسي: صراع الحضارات أم صراع المصالح))؟ كتاب جرجس يَقُصُّ القصةَ كلّها منذ الثورة الإسلامية في إيران، وإلى مقتل الرئيس السادات، والمشهد الأفغاني وصولاً إلى الخطاب غير المكتمل حول الإسلام السياسي لإدارة الرئيس كلينتون حوالي منتصف التسعينيات. ومع أن الكتاب صدر عام 1998 أي بعد تكوين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري للجبهة العالمية لمجاهدة اليهود والصليبيين، فإن رأيَ جرجس لم يتغير: الصراعُ صراعُ مصالح وليس صراعَ ديانات، والإسلام ليس الخطر الأخضرَ الجديد بعد انقضاء الحرب الباردة. بيد أن فواز جرجس، كما لم يهتم كثيراً لتهديدات أسامة بن لادن، فكذلك لم يهتم لوجهة نظر هنتنغتون واليمين الأميركي الجديد حول ((صراع الحضارات)) والدور الجديد الذي أُعطي للإسلام في هذه المقولة المطروحة منذ العام 1993. والواقع أن هذا ليس خطأ فواز جرجس، ولا خطأ الدارسين الآخرين للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. فقد جرت العادة ـ حتى من جانب سياسيين وواضعي سياساتٍ كبار مثل هنري كيسنجر على اعتبار أن الهدف الرئيسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالذات ينبغي أن يبقى: الاستقرار الذي يحفظ المصالح الكبرى، والتعامل مع سائر الأطراف بطريقة تحفظ تلك المصالح التي تتركز حول أربعة أمور: النفط، وأمن إسرائيل، والممرات الاستراتيجية، والحدود. والجديد الجديد في سياسة الإدارة الأميركية بعد انتخاب الرئيس جورج بوش الابن ـ وهو ما لم يكن بوسُع أحد من الدارسين أو الاستراتيجيين التنبؤ به ـ أن الإدارة الحالية لا تربطُ سياساتها بحفظ المصالح بل بالمبادئ ثم إنها لا تربط المصالح المبدئية باعتبارات أخرى أياً كانت كالاستقرار وغيره. وهذا الرأي هو رأي غراهام فوللر، أحد كبار موظفي وكالة المخابرات المركزية الأميركية سابقاً، وصار الآن رأي أكثر المراقبين الموضوعيين بعد التعرف الدقيق على المحافظين الجدد، وانكشاف دورهم الفائق الأهمية في السياسة الخارجية الأميركية.
بيد أنّ الأمر الآخر والأهمّ لاتصاله بموضوع هذه المداخلة مباشرةً، هو الفصل لدى سائر الدارسين والاستراتيجيين بين العقائد والأطروحات الثقافية الشاملة من جهة، والسياسات من جهة ثانية. فمجيء رونالد ريغن للسلطة عنى صعوداً لليمين الجديد الديني والثقافي السياسي، لكن أحداً ما ربط السياسات العملية لإدارته أو إدارة بوش الأب بجيري فولويل أو روبرتسون أو بيرل وولفويتز وعجمي وبرنارد لويس، وسائر أقطاب اليمين الديني والثقافي، بسبب الفكرة السائدة القائلة بأن السياسات تخضع في النهاية لاعتبارات براغماتية وعملية تعدل أو تخفف كثيراً من النزعات العقدية الكامنة وراءها. وقد اختلف الأمر من هذه الناحية أيضاً في عهد إدارة بوش الابن. فاليمين الديني والثقافي أو العقائدي هو في الإدارة، أي في السلطة الآن، وليس فقط وراءها أو يمارس ضغوطاً عليها تختلف تأثيراتها من حالة لحالة. وهذا الرأي هو رأي بول كروغمان، أستاذ الاقتصاد السياسي المعروف، في عشرات المقالات التي ما يزال ينشرها بصحيفة نيويورك تايمز. كما أن هذا هو رأي جوزف ستغلتز ـ الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ـ في كتابين صدرا له ثانيهما قبل ثلاثة أشهر. يقول كروغمان إن في أميركا وأوروبا على حد سواء فئات غاضبة ليس لأسباب اقتصادية، بل لاعتبارات ثقافية وأخلاقية تتصل بصورتها عن العالم المثالي، الذي تعتبر أنه كان سائداً حتى منتصف القرن العشرين في الغرب كله. وهناك مشتركات بين هذه الفئات الغاضبة في أوروبا وأميركا في صورتها عن العالم التقليدي، وصورتها عن العالم الحالي الفاسد، وطرائق إصلاحه. والمشترك الآخر أنها أقليات ليست منظمة بالطرائق الحزبية المتعارف عليها، لكن بينها تناغماً عميقاً وسط الأخطار التي تعتقد أنها تتهدد عالمها، والتي أوشكت أن تسيطر عليه وتلغيه كلياً. لكن الفارق الرئيسي بين اليمين الأوروبي مثل Le Pen والأميركي أن الأول الأوروبي هو خارج السياق العام، ولن يستطيع الوصولَ للسلطة مهما جمع من ناخبين. أما اليمين الأميركي فقد صار جزءاً من الـ Main Stream أو التيار الرئيسي وهو الآن في السلطة، وتشمل الفئة الأولى منه ذات الشعبية العريضة مختلف فئات الإنجيليين الجدد، والمولودين ثانية ـ والأخرى النخبوية أولئك الذين يُعرفون باسم المحافظين الجدد.
هناك رأيان إذن في الخطاب والممارسات الأميركية الحالية في منطقتنا وفي العالم. الرأي الأول يقول إنه خطاب اليمين وممارساته منذ أواسط الثمانينيات. والرأي الآخر يقول إنه كان جزءاً من السلطة فعلاً منذ أيام ريغن، لكنه الآن وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر يملك الجزء الرئيسي من القرار تجاه منطقتنا على الأقل.
لكن أياً يكن تاريخ وصوله أو مشاركته في صنع القرار تجاه العالمين العربي والإسلامي، سأحاول بإيجاز قراءةَ وقائع الخطاب بعد 11 أيلول/ سبتمبر تبعاً لوروده في وسائل الإعلام، والاستشهادات، والجدالات. بعد 11 أيلول/ سبتمبر تتكرر عند الحديث عن الإسلام والعرب عدة أسماء مع ذكر أطروحاتها وهي بالتحديد: هنتنغتون وبرنارد لويس وغلنر، وبدرجة أقل جوديت ميللر وبسام طيبي وفؤاد عجمي ومارتن كريمر ودانييل بايبس وستيفن أيمرسون وباري روبن. والملاحظ أنه فيما عدا برنارد لويس ومارتن كريمر ـ وهما مستشرقان بالمعنى المتعارف عليه للاستشراق ـ ، فإن الآخرين (باستثناء غلنر) هم من أساتذة دراسات الشرق الأوسط، أو العلوم السياسية. أما غلنر، المتوفى قبل سنين قليلة، فهو أنتروبولوجي مشهور له دراسات عن مصر والمغرب وطبائع الإسلام والشرق الأوسط. ووجهة نظره أن الإسلام يملك جوهراً ثابتاً تتوالى عيه الدهور فيتغير المظهر دون الجوهر. ومعنى ذلك أن الأصولية أصيلة فيه، وفي ظروف الأزمات تعود للظهور والسواد باعتبارها الجزء الأصيل من ماهيته. بيد أن برنارد لويس هو الذي يتكرر ظهوره أكثر في وسائل الإعلام، كما أن آراءه أكثر وروداً في سائر المناسبات، بما في ذلك كتابات هنتنغتون. ومقاربته للإسلام بعكس مقاربة غلنر من الناحية المنهجية. فهو يتبع المنهج التاريخاني المعروف عن الاستشراق التقليدي. بيد أنه ينتهي لنفس النتيجة. فللإسلام عبر تاريخه عنده آليات وميكانيزمات صارت معروفة. وقد ظهرت إبان حقب المجد والقوة. وقد عانى المسلمون من تراجع وهزائم طوال أكثر من قرنين. ثم عجزوا عن دخول الحداثة باستثناءات قليلة (تركيا مثلاً). ولهذا يتنازعهم شعوران: الإعجاب بالغرب، والحقد عليه بسبب تقدمه وتخلفهم. ولذلك فإن الأصولية الحالية المعادية للغرب وللولايات المتحدة بالذات هي جزء من حالة الغضب والخيبة والاستعصاء على تقبل قيم الحداثة والديمقراطية. وعلى برنارد لويس اعتمد هنتنغتون في رؤيته للإسلام، باعتباره المواجه الرئيسي اليوم للحضارة الغربية.
بعد هؤلاء الثلاثة يأتي السبعة الآخرون الذي ذكرتهم. وأولئك يتراوحون في تعليل الخصومة العربية والإسلامية مع أميركا بين لويس وغلنر، ويزاوجون بينهما أحياناً في التعليل. ولهؤلاء جميعاً تاريخ مع دراسة العرب والمسلمين قبل 11 أيلول/ سبتمبر، لكنهم صاروا مراجع معتمدة بعدها. ولا يعني هذا أنه ليس هناك آخرون ممن يحاولون تعديل الصورة بعض الشيء. والتعديليون أو المعتدلون هم الذين هاجمهم مارتن كريمر في كتيب صدر قبل عامين بعنوان: ((برج عاجي على رمال فشل الدراسات الشرق أوسطية في أميركا)). وقد ذكر في ذاك الكتيب الإداني كلاً من ريتشارد بوليت (من جامعة كولومبيا) وأسبوزيتو (من جامعة جورجتاون)، وإدوارد سعيد (من كولومبيا أيضاً). بيد أن الخط الذي يتبعه أمثال بوليت وأسبوزيتو وكارين أرمسترونغ بعد 11 أيلول/ سبتمبر تعدل بعض الشيء أيضاً. كانوا يقولون إن الإسلام دين عالمي عظيم، وحضارة كبرى. أما الآن فيقولون إن الإسلام ممتاز، لكن المسلمين قسمان: معتدلون ومتطرفون. وقد اختطف المتطرفون الإسلامَ، وعلى المعتدلين استعادته. وهذا الخط أو هذه الفكرة هي التي عبر عنها المفكرون الأميركيون الستون في رسالتهم إلى المسلمين في 12 شباط/ فبراير 2002 عندما دعوا المسلمين المعتدلين لمشاركتهم في الحرب على المتطرفين المسلمين، إنقاذاً للإسلام، ولأنفسهم، وللقيم الحضارية والإنسانية.
ثانياً: الخطاب الإسلامي القديم والجديد
على مشارف النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ثلاثة تيارات تشغل فضاء التفكير في البلاد العربية على الخصوص، بعد أن نضجت وتمايزت خلال العقود الخمسة الأولى من القرن المنقضي. تيار التقليد الإسلامي، إسلام المذهب التاريخية، والطرق الصوفية، والتجربة العريقة والمتفاوتة مع الدولة أو الدول السلطانية والوطنية. وتيار الإصلاح والتجديد الذي حمل مشروعاً للتغيير والتقدم باستلهام روح الإسلام، والتطلع للنموذج الغربي. وتيار الإحياء الإسلامي الطهوري، الذي حكمته إشكالية حفظ الهوية وتطهيرها من خرافية التقاليد، ورجس الغرب. وعلى الرغم من اختلاف النموذج المرجعي، والأهداف بين الإصلاحيين والإحيائيين، فقد اشتركوا في الهجوم على التقليد الذي اعتبروه متخلفاً وأسطورياً وممالئاً للسلطات على أنواعها. ومع نشوب الحرب الباردة العربية (1958 ـ 1968) ـ حسب تعبير مالكولم كير ـ على هامش الحرب الباردة بين الجبارين ازدادت راديكالية التنويريين والإحيائيين على حد سواء، فتصادم الفرقان على أرض التقليد الذي تضاءلت قدراته الثقافية وما وجدت نخبه غير السلطات ملجأ، في حين تحطم الإصلاحيون لانفجار التنوير يساراً أو يميناً. وما بقي في الميدان، وفي عيون الجمهور وبعض أطراف الحرب الباردة غير الإحيائيين، الذين تعملقت في أدبياتهم الخصوصيات العقائدية والثقافية الصدامية، الجاذبة لفئات من الشباب من جهة، والمعينة على التوظيف والاستنصار والتحشيد من جانب آخر.
خاض الإحيائيون الإسلاميون الحرب الباردة بخلفية ثقافية تعتمد القطائع والولاء والبراء والخصوصيات المؤولة تأويلاً تنابذياً. وما بدا ضعف تلك الأطروحات آنذاك لأن الحرب الباردة كانت حاميةً وغلبت فيها قعقعة السلاح التي تتطلب روحاً نضالياً، وليس أفقاً ثقافياً أو سياسياً مفتوحاً. لكن الحرب كانت محسومة النتائج. فحلفاؤهم في الصراع الداخلي في بلدان الوطن العربي، كانوا أعداءهم في المجال العالمي، وفي الصراع الثقافي.
.. وفاجأهم الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة بالعداء السياسي والثقافي فترددوا بين القول بحوارية الإسلام أو الحضارة الإسلامية، ونضالية أو جهادية المسلمين. وما كان يمكن للحوار الحضاري أن يسود أياً يكن الرأي في صحة مفهومه، إذ إن الإحيائيين كانوا يملكون ميراثاً من العداء للغرب والتغريب والغزو الثقافي يمتد على مساحة أكثر من خمسين عاماً. ثم حسم الأميركيون أمرهم حوالي العام 1995 بالاتجاه لمناضلتهم، فتوقف أكثر الحديث عن حوارية الإسلام في مواجهة صدام الحضارات، ليقول الفريق الأكثر راديكاليةً من بينهم بالجبهة العالمية ضد اليهود والصليبيين ثم بالفسطاطين.
ثالثاً: الأصول والنتائج
يقول الأنثروبولوجي الأميركي D.Redfield إن الدارسين الأميركيين سواء أكانوا من المؤرخين أو من أساتذة العلوم السياسية يميلون لتعليل الظواهر تعليلاً ثقافياً. وهو يرجع ذلك إلى الأصول الدينية والإثنية والذهنية للرواد الأوائل، والارتباط البالغ التعقيد بالدولة الأميركية الأولى من جهة، أي التنظيم السياسي الفضفاض، وعلاقة الدولة وجماعاتها بالآخر أو الآخرين. فقد كان الرواد الأوائل، أو كانت نخبة منهم ذات توجهات دينية متشددة، واعتبرت أرض هجرتها: صهيون الجديدة. وقد اعتبرت نفسها صاحبة رسالة تجاه أرض النبوة البكر هذه، وتجاه العالم فيما بعد. وما تزعزع هذا الوعي التبشيري حتى بعد نشوب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وعندما ازدادت الدولة الفيدرالية قوةً بعد تلك الحرب، حملت معها تلك الموروثات الثقافية باعتبارها رموزاً وثوابت في رؤيتها الاستراتيجية للخارج الصديق والعدو.
كتب ردفيلد دراسته هذه، في ظل حرب فيتنام. وقد تعرضت وقتها لانتقادات من عدة جهات. فكان هناك مَن قال إن مفتاح فهم علاقة الإمبراطوريات بالخارج هو الدولة نفسها، أي البنية السياسية، وليس الثقافة، في عصور ما قبل عصر القوميات. وهي تميل إلى استلحاق الخارج أو استيعابه، بينما تحولت الدولة في عصر القوميات إلى نابذ وطارد أو مهمش وفي الداخل والخارج. وحسب وجهة النظر هذه، فإن الدولة القومية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية احتفظت ببعض السمات الإمبراطورية في مجال السعي لتوحيد السوق، والهيمنة السياسية، بينما اتخذت سمات قوميةً ذات طبيعة ثقافية إلى حد ما في مجالات الاندماج الداخلي، وأنماط العيش، والتفكير.
لكن، أياً تكن صحة مقاربة ردفيلد أو معقولية توجهات نقادها، فإن الذي يمكن قوله إن أطروحتي فوكوياما عن ((نهاية التاريخ))، وهنتنغتون عن ((صراع الحضارات)) أو صدامها، هما أطروحتان تعتمدان التأصيل الثقافي، وإن تكن أهدافهما سياسيةً واستراتيجية. بالنسبة لهما كانت الحرب الباردة تجربةً هائلة الآثار. فانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة ما غير العالم وحسب، بل غير الولايات المتحدة والغرب أيضاً. فوكوياما ذو الأصول الآسيوسية، رأى أن انتهاء الحرب الباردة يعني اتجاهاً غلاباً للتوحد على المستوى العالمي، وفي ظلّ القيم الليبرالية ذات النزعة الإنسانية الشاسعة. فالنموذج الأميركي (والأوروبي) الذي انتصر في الحرب الباردة، هو نموذج العالم كله. وجيوب المقاومة الباقية قليلة وضئيلة التأثير. أما صمويل هنتنغتون، اليمني الوُسبي، فقد رأى في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، صراعاً داخل الثقافة الغربية بمعنىً من المعاني، ولذلك اتخذ سمات سياسيةً واقتصاديةً وأيديولوجية وعسكرية. أما الآن، وقد انتهى الصراع الغربي/ الغربي، فإن النزاعات تعود لطبيعها الأصلية بما هي صراعات بين مجالات حضارية أو بين حضارات وثقافات. لكنه بعد هذه المقدمة الثقافوية عاد لاقتراح سياسات استراتيجية إذا صح التعبير، حسب قُرب الثقافات الأخرى أو بُعدها مما اعتبره ثقافة غربية ـ وهنا رأى أن هناك تحديين ثقافيين استراتيجيين للغرب: المتحد الثقافي أو الحضاري الكونفوشيوسي/ البوذي، والمتحد الثقافي الإسلامي. وقد رجح إمكانَ التلاؤم أو المُسالمة مع المتحد الأول، والتصارع أو الصدام مع الثاني، الذي رأى أنه يملك تخوماً دموية.
وهنا هبّت العاصفةُ التي لم تهدأ بعد، لدى المسلمين، والعرب على الخصوص، والذين كانوا يخرجون لتوهم من تحت رما لعاصفة الصحراء، ووطأة دماء أطفال الحجارة، ليدخلوا في مفاوضات مدريد، والحروب الأهلية وغير الأهلية في الجزائر وأفغانستان والبوسنة والشيشان وكوسوفو.
حلفُ الإطلسي الذي انتصر في الحرب الباردة، اعتبر يمينيوه الانتصار ثقافياً وحضارياً إضافةً للمكاسب السياسية والاقتصادية.
والعرب المجردون من كل شيء رأوا أن عيهم خوض المعركة الفاصلة في الثقافة والدين بعد أن تجاوز العدوان عليهم كل حد. كانت الهجمة في الحقيقة عسكرية وسياسية واقتصادية، لكنهم اندفعوا للرد ثقافياً للعجز في المجالات الأخرى، ولأنهم اعتبروا أنهم أقوى هنا منهم هناك وهنالك.
في ندوة بالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت، منتصف شهر آذار/ مارس 2002، شارك فيها رؤساء معاهد بحثية غربية في البلاد العربية، طرح السؤال التالي: كيف ينمكن للباحثين الغربيين، وللمؤسسات العلمية الغربية، الإسهامُ في حوار الثقافات، أو في التواصل بين الغرب والإسلام؟ وتباينت وجهات النظر في جدوى السؤال، ثم في ملاءمته. والواقع أن سؤال الحوار هو مثل سؤال الصراع بين الثقافات والحضارات. فالثقافات لا تتحاور ولا تتصارع، وإنما يتصارع الأفراد أو يتحاورون، وتتصارع الدول أو تتواصل. إن الثقافات ليست عناصر فاعلةً في الأحداث، وإنما تحضر وتؤثر وتتأثر في المديات الطويلة. نستطيع أن ندرس العلاقات بين الحضارات الصينية والأوروبية والإسلامية في العصور الوسطى مثلاً فنصل إلى ترجيح طابع لها خلال حقبة معينة، أما أن نبحث في هذا الحدث أو ذاك عن العنصر الثقافي، فيبدو أمراً عسيراً أو مستعصياً. فالمشكلات بيننا وبين الولايات المتحدة مثلاً هي مشكلات سياسية واقتصادية واستراتيجية، وليست مشكلات ثقافية. وأسامة بن لادن نفسه الذي تحدث عن الجبهة العالمية، وعن الفسطاطين للإيمان والكفر، عاد فذكر سببين لهجومه على الولايات المتحدة، كلاهما سياسي: تعطيل القرارات الدولية، والعدوان على الشعبين الفلسطيني والعراقي.
وإذا كان هنتنغتون، المنتمي إلى اليمين الجديد الصراعي، يتحدث عن صدام حضاري، استناداً إلى كتابات برنارد لويس وكريمر وغيرهما عن الإسلام، فإن هناك أميركيين كثيرين لا يرون الرأي نفسه. أما نحن فإننا لا نستطيع القول بالصراع أو بالانفصال أو بالتجدد الذاتي اليوم، ذلك أن الثقافة الغربية هي ثقافة العالم المعاصر، والمشكلة معها مشكلة مع العالم والعصر، وخروج من التاريخ ومن الحاضر. وهناك مشكلات كبيرة وكثيرة مع الأميركيين وغيرهم، لكنها مشكلات لا تحل إلا بالسياسة، ومن ضمن التحافات والتوازنات والمشاركة الجدية. والقول إنها مشكلات ثقافية يعني أنها ليست قابلة للحلّ. كما يعني أن الثقافة الأقوى هي التي تسود وستظل سائدة.
بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 ازدادت المقاربات السلبية للعرب والإسلام من جانب النخب الثقافية والسياسية الأميركية والأوروبية، ومن منطلقات ثقافية. واستخدم الاستشراقان الأنثروبولوجي والتاريخاني، واللذان سادا في العقود الثلاثة الأخيرة، بكثافة. والأسماء المشاركة كلها معروفة من قبل، بيد أن الجديد فيها ثلاثة أمور: استخدام السياسيين والاستراتيجيين للاستشراق الجديد هذا كما فعل هنتنغتون من قبل، وشيوع الأطروحات الاستشراقية الأصالية في وسائل الإعلام، وتبني بعض تلك الأفكار من جانب الإدارة الأميركية وبعض الأوروبيين في خطابهم أو خطاباتهم للعرب والمسلمين.
بالنسبة للاستشراق التاريخاني والأنثروبولوجي استخدم ـ كما سبق القول ـ كل من برنارد لويس وغلنر بكثافة. وبرنارد لويس وصل بعد خمسين سنةً من الكتابة في التاريخ والفكر الإسلامي إلى أن التجربة الإسلامية كانت مخيبةً للآمال باستثناء العثمانيين، الذين أحسن مصطفى كمال صنعاً على أي احل بإنهائهم، وفشل العرب لأنهم لم يكونوا حاسمين في القطع مع الإسلام. وغلنر ـ كما نعرف ـ يرى أن الإسلام يملك أصلاً أوج وهراً ثابتاً، وعلى هذا الأساس فسر ظهور السلفية الطهورية في الجزائر في وقت مبكر.
أما وسائل الإعلام فقد لجأت في أحاديثها عن طبائع الإسلام، وأصول فكر ابن لادن إلى الاستشراق الجديد في العقود الثلاثة الأخيرة، فلم يعد غريباً أن تنشر صحيفة يومية أميركية أو إسرائيلية مقالةً في نقد القرآن، وأنه يتضمن نصوصاً تفرض على المؤمنين به معاداة كل الآخرين، أو أن المسلمين هم بين التقليدية والأصولية، ولا مخرج لهم للحداثة إلا بالخروج من الإسلام كله.
وقد تبنت الإدارة الأميركية الأفكار التي عرضها توماس فريدمان أخذاً عن برنارد لويس وفؤاد عجمي وبسام طيبي في ضرورة تحديث برامج المدارس الدينية الإسلامية حتى لا تظل تُخرّج أصوليين!
وما سُرَّ فريدمان ولا مارتن كريمر بفكرة رئيس الوزراء البريطاني المستمدة من كارين أرمسترونغ حول العودة لإسلام الـ Main Stream أو إسلام الاتجاه الرئيسي، وهو يعني به الإسلام التقليدي المعتدل. فهم يرون ـ كما يرى غلنر ـ أن الأصولية تقع في قلب وجوهر هذا الإسلام، الذي لابد من التخلص منه كله وإن تحت مصطلحات أخرى!
فأين تلوح إذن معابرُ التغيير؟
بدأت الأجواء تهدأ في الوسط الأكاديمي الأميركي، لكن المقاربات الثقافية ما تزال غالبة. وهي تدور على محورين: محور إثبات أن العلة في بعض المسلمين لا في الإسلام، ومحور البرهنة على أن غالبية المسلمين (وبخاصة في المدى الآسيوي) هم من المعتدلين. وفي الوقت نفسه مطالبة العرب والمسلمين بالتحدث إلى الأميركيين عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وإدانة ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.
أما في المجال العربي فما حدث بحث عميق في ظاهرة الأصولية في مجالنا الثقافي والسياسي. وما تزال مواريث حرب الخليج الثانية قويةً، وأُضيف إليها الغزو الأميركي المدمر للعراق في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل من العام 2003، وقد أحدثت الحربان تحالفاً من نوع ما بين الإحيائيين الساخطين على الغرب كله منذ أكثر من خمسين عاماً، واليساريين الساخطين على العولمة التي يعتبرونها هيمنةً أميركية.
بيد أن هناك أوساطاً عربيةً سياسيةً وثقافيةً تدعو للحديث مع الأميركيين والأوروبيين في المسائل السياسية والاقتصادية كما يفعل العالم كله، واعتماد التواصل والحوار في سائر المسائل لتحديد المشكلات الحقيقية والتشاور بشأنها.
والواقع أن الواعد كمن في هذه الناحية بالذات: ناحية الخروج من الثقافوية العقائدية، والدخول في حوار حول القضايا الحقيقية التي ترتكز سياسياً على المصالح، وثقافياً على النسبية والتعددية والحرية، والقيم العالمية المعاصرة، بعيداً عن التمثيلية الثقافية، والمسؤولية الجماعية، والعقيدة السياسية أو الأيديولوجية التي تريد أن تفرض نفسها على عقيدة أخرى.
والطريفُ هنا أنه في حين يصر برنارد لويس وفريدمان على ضرورات الإصلاح الثقافي الإسلامي، فإن هنتنغتون وهنري كيسنجر يريان الحل بعد 11 أيلول/ سبتمبر في الحوار السياسي والاقتصادي.
يقول الفيلسوف النمساوي غادامر ـ الذي توفي قبل ثلاث سنوات عن عمر ناهز المائة عام ـ رداً على دلتاي، صاحب النظرية المعروفة حول ((رؤية العالم)): ((صحيح أن الوعي يملك مقومات ثقافية بارزة. لكن التغيير لا يتم في الوعي، بل في الواقع، وهو سياسي واجتماعي وفردي)). بيد أن الأمر ((يتوقف في النهاية ـ كما يقول غادامر أيضاً ـ على مفهومنا للثقافة والوعي)).
تشكل الثقافات إذن مجموعةً أو منظومةً من الأعراف والنصوص والتقاليد والرموز المتسمة بثبات نسبي. بيد أن ردات الفعل على الأحداث والوقائع، والقرارات المتخذة نتيجةً لذلك تتم في الوعي، وليس في الثقافة، التي لا تتحول عنصراً فاعلاً وواعياً إلا في المديات الطويلة.
ويستنثي غادامر من ذلك أزمنة الزلازل، التي تزعزع اليقينيات، فتغلب الثقافة في نطاق الوعي، وتسيطر الرموز، مما يزيد من تأزم الموقف داخل ثقافة أو مجال ثقافي معين، ومن نتائج التوتر الداخلي الشديد تأزم العلاقة مع الخارج، أو أن ذلك يحدث متساوقاً داخل المجتمعات وفيما بينها ـ وفي ظروف وأزمنة الزلازل تلك يتراجع الوعي بالمصالح لصالح الثقافة، ثقافة الهوية غالباً، فيبدو أنه لا مخرج من الأزمة أو المأزق غلا بالصدام مع الخصم الحقيقي أو الموهوم.
فالأزمة الحالية على الرغم من السياقات العالمية، هي أزمة داخل الوعي والمجال الثقافي العربي الإسلامي. والمخرج منها تغيير في الواقع نتيجة العودة لمعالجة المشكلات الحقيقية مع العالم، وبطريق الحوار والمشاركة الفاعلة والمقتدرة. فحل المشكلة الفلسطينية يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً. بل إن الخروج من العراق، أو حصول كاتب أو شاعر عربي على جائزة نوبل يمكن أن يكون فارقاً، وعلامةً لبدء تغلب الوعي بالمصالح على الرموز. وينبهنا أميركيون إلى عدم الاستخفاف بآثار نجاح بعض جالياتنا على تغير الواقع في وعينا وإن بالتدريج. هذه هي معابر التغيير أو إمكانياته أو احتمالاته، وهي متواضعة كما نرى، لكنها ممكنة بسبب ذلك، وبغيره.
لقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ضربةً كبرى لنا أمام العالم وأمام أنفسنا. ولقد حركت صوراً نمطيةً كثيرة، كما حركت لدينا أيضاً ردود فعل نمطية إذا صح التعبير. بيد أن تغير الواقع ممكن ومتاح رغم الحيرة والأسى والتردد، وعدم وضوح الطريق حتى الآن:
فيا دارَها بالخَيف إنّ مزارَها
قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ
* الصراع على الاسلام /دار الكتاب العربي /2004م
رضوان السيد
أولاً: الخطاب الأميركي القديم والجديد
عام 1998 صدر بالإنجليزية والعربية كتاب فواز جرجس بعنوان: ((أميركا والإسلام السياسي: صراع الحضارات أم صراع المصالح))؟ كتاب جرجس يَقُصُّ القصةَ كلّها منذ الثورة الإسلامية في إيران، وإلى مقتل الرئيس السادات، والمشهد الأفغاني وصولاً إلى الخطاب غير المكتمل حول الإسلام السياسي لإدارة الرئيس كلينتون حوالي منتصف التسعينيات. ومع أن الكتاب صدر عام 1998 أي بعد تكوين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري للجبهة العالمية لمجاهدة اليهود والصليبيين، فإن رأيَ جرجس لم يتغير: الصراعُ صراعُ مصالح وليس صراعَ ديانات، والإسلام ليس الخطر الأخضرَ الجديد بعد انقضاء الحرب الباردة. بيد أن فواز جرجس، كما لم يهتم كثيراً لتهديدات أسامة بن لادن، فكذلك لم يهتم لوجهة نظر هنتنغتون واليمين الأميركي الجديد حول ((صراع الحضارات)) والدور الجديد الذي أُعطي للإسلام في هذه المقولة المطروحة منذ العام 1993. والواقع أن هذا ليس خطأ فواز جرجس، ولا خطأ الدارسين الآخرين للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. فقد جرت العادة ـ حتى من جانب سياسيين وواضعي سياساتٍ كبار مثل هنري كيسنجر على اعتبار أن الهدف الرئيسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالذات ينبغي أن يبقى: الاستقرار الذي يحفظ المصالح الكبرى، والتعامل مع سائر الأطراف بطريقة تحفظ تلك المصالح التي تتركز حول أربعة أمور: النفط، وأمن إسرائيل، والممرات الاستراتيجية، والحدود. والجديد الجديد في سياسة الإدارة الأميركية بعد انتخاب الرئيس جورج بوش الابن ـ وهو ما لم يكن بوسُع أحد من الدارسين أو الاستراتيجيين التنبؤ به ـ أن الإدارة الحالية لا تربطُ سياساتها بحفظ المصالح بل بالمبادئ ثم إنها لا تربط المصالح المبدئية باعتبارات أخرى أياً كانت كالاستقرار وغيره. وهذا الرأي هو رأي غراهام فوللر، أحد كبار موظفي وكالة المخابرات المركزية الأميركية سابقاً، وصار الآن رأي أكثر المراقبين الموضوعيين بعد التعرف الدقيق على المحافظين الجدد، وانكشاف دورهم الفائق الأهمية في السياسة الخارجية الأميركية.
بيد أنّ الأمر الآخر والأهمّ لاتصاله بموضوع هذه المداخلة مباشرةً، هو الفصل لدى سائر الدارسين والاستراتيجيين بين العقائد والأطروحات الثقافية الشاملة من جهة، والسياسات من جهة ثانية. فمجيء رونالد ريغن للسلطة عنى صعوداً لليمين الجديد الديني والثقافي السياسي، لكن أحداً ما ربط السياسات العملية لإدارته أو إدارة بوش الأب بجيري فولويل أو روبرتسون أو بيرل وولفويتز وعجمي وبرنارد لويس، وسائر أقطاب اليمين الديني والثقافي، بسبب الفكرة السائدة القائلة بأن السياسات تخضع في النهاية لاعتبارات براغماتية وعملية تعدل أو تخفف كثيراً من النزعات العقدية الكامنة وراءها. وقد اختلف الأمر من هذه الناحية أيضاً في عهد إدارة بوش الابن. فاليمين الديني والثقافي أو العقائدي هو في الإدارة، أي في السلطة الآن، وليس فقط وراءها أو يمارس ضغوطاً عليها تختلف تأثيراتها من حالة لحالة. وهذا الرأي هو رأي بول كروغمان، أستاذ الاقتصاد السياسي المعروف، في عشرات المقالات التي ما يزال ينشرها بصحيفة نيويورك تايمز. كما أن هذا هو رأي جوزف ستغلتز ـ الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ـ في كتابين صدرا له ثانيهما قبل ثلاثة أشهر. يقول كروغمان إن في أميركا وأوروبا على حد سواء فئات غاضبة ليس لأسباب اقتصادية، بل لاعتبارات ثقافية وأخلاقية تتصل بصورتها عن العالم المثالي، الذي تعتبر أنه كان سائداً حتى منتصف القرن العشرين في الغرب كله. وهناك مشتركات بين هذه الفئات الغاضبة في أوروبا وأميركا في صورتها عن العالم التقليدي، وصورتها عن العالم الحالي الفاسد، وطرائق إصلاحه. والمشترك الآخر أنها أقليات ليست منظمة بالطرائق الحزبية المتعارف عليها، لكن بينها تناغماً عميقاً وسط الأخطار التي تعتقد أنها تتهدد عالمها، والتي أوشكت أن تسيطر عليه وتلغيه كلياً. لكن الفارق الرئيسي بين اليمين الأوروبي مثل Le Pen والأميركي أن الأول الأوروبي هو خارج السياق العام، ولن يستطيع الوصولَ للسلطة مهما جمع من ناخبين. أما اليمين الأميركي فقد صار جزءاً من الـ Main Stream أو التيار الرئيسي وهو الآن في السلطة، وتشمل الفئة الأولى منه ذات الشعبية العريضة مختلف فئات الإنجيليين الجدد، والمولودين ثانية ـ والأخرى النخبوية أولئك الذين يُعرفون باسم المحافظين الجدد.
هناك رأيان إذن في الخطاب والممارسات الأميركية الحالية في منطقتنا وفي العالم. الرأي الأول يقول إنه خطاب اليمين وممارساته منذ أواسط الثمانينيات. والرأي الآخر يقول إنه كان جزءاً من السلطة فعلاً منذ أيام ريغن، لكنه الآن وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر يملك الجزء الرئيسي من القرار تجاه منطقتنا على الأقل.
لكن أياً يكن تاريخ وصوله أو مشاركته في صنع القرار تجاه العالمين العربي والإسلامي، سأحاول بإيجاز قراءةَ وقائع الخطاب بعد 11 أيلول/ سبتمبر تبعاً لوروده في وسائل الإعلام، والاستشهادات، والجدالات. بعد 11 أيلول/ سبتمبر تتكرر عند الحديث عن الإسلام والعرب عدة أسماء مع ذكر أطروحاتها وهي بالتحديد: هنتنغتون وبرنارد لويس وغلنر، وبدرجة أقل جوديت ميللر وبسام طيبي وفؤاد عجمي ومارتن كريمر ودانييل بايبس وستيفن أيمرسون وباري روبن. والملاحظ أنه فيما عدا برنارد لويس ومارتن كريمر ـ وهما مستشرقان بالمعنى المتعارف عليه للاستشراق ـ ، فإن الآخرين (باستثناء غلنر) هم من أساتذة دراسات الشرق الأوسط، أو العلوم السياسية. أما غلنر، المتوفى قبل سنين قليلة، فهو أنتروبولوجي مشهور له دراسات عن مصر والمغرب وطبائع الإسلام والشرق الأوسط. ووجهة نظره أن الإسلام يملك جوهراً ثابتاً تتوالى عيه الدهور فيتغير المظهر دون الجوهر. ومعنى ذلك أن الأصولية أصيلة فيه، وفي ظروف الأزمات تعود للظهور والسواد باعتبارها الجزء الأصيل من ماهيته. بيد أن برنارد لويس هو الذي يتكرر ظهوره أكثر في وسائل الإعلام، كما أن آراءه أكثر وروداً في سائر المناسبات، بما في ذلك كتابات هنتنغتون. ومقاربته للإسلام بعكس مقاربة غلنر من الناحية المنهجية. فهو يتبع المنهج التاريخاني المعروف عن الاستشراق التقليدي. بيد أنه ينتهي لنفس النتيجة. فللإسلام عبر تاريخه عنده آليات وميكانيزمات صارت معروفة. وقد ظهرت إبان حقب المجد والقوة. وقد عانى المسلمون من تراجع وهزائم طوال أكثر من قرنين. ثم عجزوا عن دخول الحداثة باستثناءات قليلة (تركيا مثلاً). ولهذا يتنازعهم شعوران: الإعجاب بالغرب، والحقد عليه بسبب تقدمه وتخلفهم. ولذلك فإن الأصولية الحالية المعادية للغرب وللولايات المتحدة بالذات هي جزء من حالة الغضب والخيبة والاستعصاء على تقبل قيم الحداثة والديمقراطية. وعلى برنارد لويس اعتمد هنتنغتون في رؤيته للإسلام، باعتباره المواجه الرئيسي اليوم للحضارة الغربية.
بعد هؤلاء الثلاثة يأتي السبعة الآخرون الذي ذكرتهم. وأولئك يتراوحون في تعليل الخصومة العربية والإسلامية مع أميركا بين لويس وغلنر، ويزاوجون بينهما أحياناً في التعليل. ولهؤلاء جميعاً تاريخ مع دراسة العرب والمسلمين قبل 11 أيلول/ سبتمبر، لكنهم صاروا مراجع معتمدة بعدها. ولا يعني هذا أنه ليس هناك آخرون ممن يحاولون تعديل الصورة بعض الشيء. والتعديليون أو المعتدلون هم الذين هاجمهم مارتن كريمر في كتيب صدر قبل عامين بعنوان: ((برج عاجي على رمال فشل الدراسات الشرق أوسطية في أميركا)). وقد ذكر في ذاك الكتيب الإداني كلاً من ريتشارد بوليت (من جامعة كولومبيا) وأسبوزيتو (من جامعة جورجتاون)، وإدوارد سعيد (من كولومبيا أيضاً). بيد أن الخط الذي يتبعه أمثال بوليت وأسبوزيتو وكارين أرمسترونغ بعد 11 أيلول/ سبتمبر تعدل بعض الشيء أيضاً. كانوا يقولون إن الإسلام دين عالمي عظيم، وحضارة كبرى. أما الآن فيقولون إن الإسلام ممتاز، لكن المسلمين قسمان: معتدلون ومتطرفون. وقد اختطف المتطرفون الإسلامَ، وعلى المعتدلين استعادته. وهذا الخط أو هذه الفكرة هي التي عبر عنها المفكرون الأميركيون الستون في رسالتهم إلى المسلمين في 12 شباط/ فبراير 2002 عندما دعوا المسلمين المعتدلين لمشاركتهم في الحرب على المتطرفين المسلمين، إنقاذاً للإسلام، ولأنفسهم، وللقيم الحضارية والإنسانية.
ثانياً: الخطاب الإسلامي القديم والجديد
على مشارف النصف الثاني من القرن العشرين، كانت ثلاثة تيارات تشغل فضاء التفكير في البلاد العربية على الخصوص، بعد أن نضجت وتمايزت خلال العقود الخمسة الأولى من القرن المنقضي. تيار التقليد الإسلامي، إسلام المذهب التاريخية، والطرق الصوفية، والتجربة العريقة والمتفاوتة مع الدولة أو الدول السلطانية والوطنية. وتيار الإصلاح والتجديد الذي حمل مشروعاً للتغيير والتقدم باستلهام روح الإسلام، والتطلع للنموذج الغربي. وتيار الإحياء الإسلامي الطهوري، الذي حكمته إشكالية حفظ الهوية وتطهيرها من خرافية التقاليد، ورجس الغرب. وعلى الرغم من اختلاف النموذج المرجعي، والأهداف بين الإصلاحيين والإحيائيين، فقد اشتركوا في الهجوم على التقليد الذي اعتبروه متخلفاً وأسطورياً وممالئاً للسلطات على أنواعها. ومع نشوب الحرب الباردة العربية (1958 ـ 1968) ـ حسب تعبير مالكولم كير ـ على هامش الحرب الباردة بين الجبارين ازدادت راديكالية التنويريين والإحيائيين على حد سواء، فتصادم الفرقان على أرض التقليد الذي تضاءلت قدراته الثقافية وما وجدت نخبه غير السلطات ملجأ، في حين تحطم الإصلاحيون لانفجار التنوير يساراً أو يميناً. وما بقي في الميدان، وفي عيون الجمهور وبعض أطراف الحرب الباردة غير الإحيائيين، الذين تعملقت في أدبياتهم الخصوصيات العقائدية والثقافية الصدامية، الجاذبة لفئات من الشباب من جهة، والمعينة على التوظيف والاستنصار والتحشيد من جانب آخر.
خاض الإحيائيون الإسلاميون الحرب الباردة بخلفية ثقافية تعتمد القطائع والولاء والبراء والخصوصيات المؤولة تأويلاً تنابذياً. وما بدا ضعف تلك الأطروحات آنذاك لأن الحرب الباردة كانت حاميةً وغلبت فيها قعقعة السلاح التي تتطلب روحاً نضالياً، وليس أفقاً ثقافياً أو سياسياً مفتوحاً. لكن الحرب كانت محسومة النتائج. فحلفاؤهم في الصراع الداخلي في بلدان الوطن العربي، كانوا أعداءهم في المجال العالمي، وفي الصراع الثقافي.
.. وفاجأهم الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة بالعداء السياسي والثقافي فترددوا بين القول بحوارية الإسلام أو الحضارة الإسلامية، ونضالية أو جهادية المسلمين. وما كان يمكن للحوار الحضاري أن يسود أياً يكن الرأي في صحة مفهومه، إذ إن الإحيائيين كانوا يملكون ميراثاً من العداء للغرب والتغريب والغزو الثقافي يمتد على مساحة أكثر من خمسين عاماً. ثم حسم الأميركيون أمرهم حوالي العام 1995 بالاتجاه لمناضلتهم، فتوقف أكثر الحديث عن حوارية الإسلام في مواجهة صدام الحضارات، ليقول الفريق الأكثر راديكاليةً من بينهم بالجبهة العالمية ضد اليهود والصليبيين ثم بالفسطاطين.
ثالثاً: الأصول والنتائج
يقول الأنثروبولوجي الأميركي D.Redfield إن الدارسين الأميركيين سواء أكانوا من المؤرخين أو من أساتذة العلوم السياسية يميلون لتعليل الظواهر تعليلاً ثقافياً. وهو يرجع ذلك إلى الأصول الدينية والإثنية والذهنية للرواد الأوائل، والارتباط البالغ التعقيد بالدولة الأميركية الأولى من جهة، أي التنظيم السياسي الفضفاض، وعلاقة الدولة وجماعاتها بالآخر أو الآخرين. فقد كان الرواد الأوائل، أو كانت نخبة منهم ذات توجهات دينية متشددة، واعتبرت أرض هجرتها: صهيون الجديدة. وقد اعتبرت نفسها صاحبة رسالة تجاه أرض النبوة البكر هذه، وتجاه العالم فيما بعد. وما تزعزع هذا الوعي التبشيري حتى بعد نشوب الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وعندما ازدادت الدولة الفيدرالية قوةً بعد تلك الحرب، حملت معها تلك الموروثات الثقافية باعتبارها رموزاً وثوابت في رؤيتها الاستراتيجية للخارج الصديق والعدو.
كتب ردفيلد دراسته هذه، في ظل حرب فيتنام. وقد تعرضت وقتها لانتقادات من عدة جهات. فكان هناك مَن قال إن مفتاح فهم علاقة الإمبراطوريات بالخارج هو الدولة نفسها، أي البنية السياسية، وليس الثقافة، في عصور ما قبل عصر القوميات. وهي تميل إلى استلحاق الخارج أو استيعابه، بينما تحولت الدولة في عصر القوميات إلى نابذ وطارد أو مهمش وفي الداخل والخارج. وحسب وجهة النظر هذه، فإن الدولة القومية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية احتفظت ببعض السمات الإمبراطورية في مجال السعي لتوحيد السوق، والهيمنة السياسية، بينما اتخذت سمات قوميةً ذات طبيعة ثقافية إلى حد ما في مجالات الاندماج الداخلي، وأنماط العيش، والتفكير.
لكن، أياً تكن صحة مقاربة ردفيلد أو معقولية توجهات نقادها، فإن الذي يمكن قوله إن أطروحتي فوكوياما عن ((نهاية التاريخ))، وهنتنغتون عن ((صراع الحضارات)) أو صدامها، هما أطروحتان تعتمدان التأصيل الثقافي، وإن تكن أهدافهما سياسيةً واستراتيجية. بالنسبة لهما كانت الحرب الباردة تجربةً هائلة الآثار. فانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة ما غير العالم وحسب، بل غير الولايات المتحدة والغرب أيضاً. فوكوياما ذو الأصول الآسيوسية، رأى أن انتهاء الحرب الباردة يعني اتجاهاً غلاباً للتوحد على المستوى العالمي، وفي ظلّ القيم الليبرالية ذات النزعة الإنسانية الشاسعة. فالنموذج الأميركي (والأوروبي) الذي انتصر في الحرب الباردة، هو نموذج العالم كله. وجيوب المقاومة الباقية قليلة وضئيلة التأثير. أما صمويل هنتنغتون، اليمني الوُسبي، فقد رأى في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، صراعاً داخل الثقافة الغربية بمعنىً من المعاني، ولذلك اتخذ سمات سياسيةً واقتصاديةً وأيديولوجية وعسكرية. أما الآن، وقد انتهى الصراع الغربي/ الغربي، فإن النزاعات تعود لطبيعها الأصلية بما هي صراعات بين مجالات حضارية أو بين حضارات وثقافات. لكنه بعد هذه المقدمة الثقافوية عاد لاقتراح سياسات استراتيجية إذا صح التعبير، حسب قُرب الثقافات الأخرى أو بُعدها مما اعتبره ثقافة غربية ـ وهنا رأى أن هناك تحديين ثقافيين استراتيجيين للغرب: المتحد الثقافي أو الحضاري الكونفوشيوسي/ البوذي، والمتحد الثقافي الإسلامي. وقد رجح إمكانَ التلاؤم أو المُسالمة مع المتحد الأول، والتصارع أو الصدام مع الثاني، الذي رأى أنه يملك تخوماً دموية.
وهنا هبّت العاصفةُ التي لم تهدأ بعد، لدى المسلمين، والعرب على الخصوص، والذين كانوا يخرجون لتوهم من تحت رما لعاصفة الصحراء، ووطأة دماء أطفال الحجارة، ليدخلوا في مفاوضات مدريد، والحروب الأهلية وغير الأهلية في الجزائر وأفغانستان والبوسنة والشيشان وكوسوفو.
حلفُ الإطلسي الذي انتصر في الحرب الباردة، اعتبر يمينيوه الانتصار ثقافياً وحضارياً إضافةً للمكاسب السياسية والاقتصادية.
والعرب المجردون من كل شيء رأوا أن عيهم خوض المعركة الفاصلة في الثقافة والدين بعد أن تجاوز العدوان عليهم كل حد. كانت الهجمة في الحقيقة عسكرية وسياسية واقتصادية، لكنهم اندفعوا للرد ثقافياً للعجز في المجالات الأخرى، ولأنهم اعتبروا أنهم أقوى هنا منهم هناك وهنالك.
في ندوة بالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت، منتصف شهر آذار/ مارس 2002، شارك فيها رؤساء معاهد بحثية غربية في البلاد العربية، طرح السؤال التالي: كيف ينمكن للباحثين الغربيين، وللمؤسسات العلمية الغربية، الإسهامُ في حوار الثقافات، أو في التواصل بين الغرب والإسلام؟ وتباينت وجهات النظر في جدوى السؤال، ثم في ملاءمته. والواقع أن سؤال الحوار هو مثل سؤال الصراع بين الثقافات والحضارات. فالثقافات لا تتحاور ولا تتصارع، وإنما يتصارع الأفراد أو يتحاورون، وتتصارع الدول أو تتواصل. إن الثقافات ليست عناصر فاعلةً في الأحداث، وإنما تحضر وتؤثر وتتأثر في المديات الطويلة. نستطيع أن ندرس العلاقات بين الحضارات الصينية والأوروبية والإسلامية في العصور الوسطى مثلاً فنصل إلى ترجيح طابع لها خلال حقبة معينة، أما أن نبحث في هذا الحدث أو ذاك عن العنصر الثقافي، فيبدو أمراً عسيراً أو مستعصياً. فالمشكلات بيننا وبين الولايات المتحدة مثلاً هي مشكلات سياسية واقتصادية واستراتيجية، وليست مشكلات ثقافية. وأسامة بن لادن نفسه الذي تحدث عن الجبهة العالمية، وعن الفسطاطين للإيمان والكفر، عاد فذكر سببين لهجومه على الولايات المتحدة، كلاهما سياسي: تعطيل القرارات الدولية، والعدوان على الشعبين الفلسطيني والعراقي.
وإذا كان هنتنغتون، المنتمي إلى اليمين الجديد الصراعي، يتحدث عن صدام حضاري، استناداً إلى كتابات برنارد لويس وكريمر وغيرهما عن الإسلام، فإن هناك أميركيين كثيرين لا يرون الرأي نفسه. أما نحن فإننا لا نستطيع القول بالصراع أو بالانفصال أو بالتجدد الذاتي اليوم، ذلك أن الثقافة الغربية هي ثقافة العالم المعاصر، والمشكلة معها مشكلة مع العالم والعصر، وخروج من التاريخ ومن الحاضر. وهناك مشكلات كبيرة وكثيرة مع الأميركيين وغيرهم، لكنها مشكلات لا تحل إلا بالسياسة، ومن ضمن التحافات والتوازنات والمشاركة الجدية. والقول إنها مشكلات ثقافية يعني أنها ليست قابلة للحلّ. كما يعني أن الثقافة الأقوى هي التي تسود وستظل سائدة.
بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 ازدادت المقاربات السلبية للعرب والإسلام من جانب النخب الثقافية والسياسية الأميركية والأوروبية، ومن منطلقات ثقافية. واستخدم الاستشراقان الأنثروبولوجي والتاريخاني، واللذان سادا في العقود الثلاثة الأخيرة، بكثافة. والأسماء المشاركة كلها معروفة من قبل، بيد أن الجديد فيها ثلاثة أمور: استخدام السياسيين والاستراتيجيين للاستشراق الجديد هذا كما فعل هنتنغتون من قبل، وشيوع الأطروحات الاستشراقية الأصالية في وسائل الإعلام، وتبني بعض تلك الأفكار من جانب الإدارة الأميركية وبعض الأوروبيين في خطابهم أو خطاباتهم للعرب والمسلمين.
بالنسبة للاستشراق التاريخاني والأنثروبولوجي استخدم ـ كما سبق القول ـ كل من برنارد لويس وغلنر بكثافة. وبرنارد لويس وصل بعد خمسين سنةً من الكتابة في التاريخ والفكر الإسلامي إلى أن التجربة الإسلامية كانت مخيبةً للآمال باستثناء العثمانيين، الذين أحسن مصطفى كمال صنعاً على أي احل بإنهائهم، وفشل العرب لأنهم لم يكونوا حاسمين في القطع مع الإسلام. وغلنر ـ كما نعرف ـ يرى أن الإسلام يملك أصلاً أوج وهراً ثابتاً، وعلى هذا الأساس فسر ظهور السلفية الطهورية في الجزائر في وقت مبكر.
أما وسائل الإعلام فقد لجأت في أحاديثها عن طبائع الإسلام، وأصول فكر ابن لادن إلى الاستشراق الجديد في العقود الثلاثة الأخيرة، فلم يعد غريباً أن تنشر صحيفة يومية أميركية أو إسرائيلية مقالةً في نقد القرآن، وأنه يتضمن نصوصاً تفرض على المؤمنين به معاداة كل الآخرين، أو أن المسلمين هم بين التقليدية والأصولية، ولا مخرج لهم للحداثة إلا بالخروج من الإسلام كله.
وقد تبنت الإدارة الأميركية الأفكار التي عرضها توماس فريدمان أخذاً عن برنارد لويس وفؤاد عجمي وبسام طيبي في ضرورة تحديث برامج المدارس الدينية الإسلامية حتى لا تظل تُخرّج أصوليين!
وما سُرَّ فريدمان ولا مارتن كريمر بفكرة رئيس الوزراء البريطاني المستمدة من كارين أرمسترونغ حول العودة لإسلام الـ Main Stream أو إسلام الاتجاه الرئيسي، وهو يعني به الإسلام التقليدي المعتدل. فهم يرون ـ كما يرى غلنر ـ أن الأصولية تقع في قلب وجوهر هذا الإسلام، الذي لابد من التخلص منه كله وإن تحت مصطلحات أخرى!
فأين تلوح إذن معابرُ التغيير؟
بدأت الأجواء تهدأ في الوسط الأكاديمي الأميركي، لكن المقاربات الثقافية ما تزال غالبة. وهي تدور على محورين: محور إثبات أن العلة في بعض المسلمين لا في الإسلام، ومحور البرهنة على أن غالبية المسلمين (وبخاصة في المدى الآسيوي) هم من المعتدلين. وفي الوقت نفسه مطالبة العرب والمسلمين بالتحدث إلى الأميركيين عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وإدانة ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.
أما في المجال العربي فما حدث بحث عميق في ظاهرة الأصولية في مجالنا الثقافي والسياسي. وما تزال مواريث حرب الخليج الثانية قويةً، وأُضيف إليها الغزو الأميركي المدمر للعراق في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل من العام 2003، وقد أحدثت الحربان تحالفاً من نوع ما بين الإحيائيين الساخطين على الغرب كله منذ أكثر من خمسين عاماً، واليساريين الساخطين على العولمة التي يعتبرونها هيمنةً أميركية.
بيد أن هناك أوساطاً عربيةً سياسيةً وثقافيةً تدعو للحديث مع الأميركيين والأوروبيين في المسائل السياسية والاقتصادية كما يفعل العالم كله، واعتماد التواصل والحوار في سائر المسائل لتحديد المشكلات الحقيقية والتشاور بشأنها.
والواقع أن الواعد كمن في هذه الناحية بالذات: ناحية الخروج من الثقافوية العقائدية، والدخول في حوار حول القضايا الحقيقية التي ترتكز سياسياً على المصالح، وثقافياً على النسبية والتعددية والحرية، والقيم العالمية المعاصرة، بعيداً عن التمثيلية الثقافية، والمسؤولية الجماعية، والعقيدة السياسية أو الأيديولوجية التي تريد أن تفرض نفسها على عقيدة أخرى.
والطريفُ هنا أنه في حين يصر برنارد لويس وفريدمان على ضرورات الإصلاح الثقافي الإسلامي، فإن هنتنغتون وهنري كيسنجر يريان الحل بعد 11 أيلول/ سبتمبر في الحوار السياسي والاقتصادي.
يقول الفيلسوف النمساوي غادامر ـ الذي توفي قبل ثلاث سنوات عن عمر ناهز المائة عام ـ رداً على دلتاي، صاحب النظرية المعروفة حول ((رؤية العالم)): ((صحيح أن الوعي يملك مقومات ثقافية بارزة. لكن التغيير لا يتم في الوعي، بل في الواقع، وهو سياسي واجتماعي وفردي)). بيد أن الأمر ((يتوقف في النهاية ـ كما يقول غادامر أيضاً ـ على مفهومنا للثقافة والوعي)).
تشكل الثقافات إذن مجموعةً أو منظومةً من الأعراف والنصوص والتقاليد والرموز المتسمة بثبات نسبي. بيد أن ردات الفعل على الأحداث والوقائع، والقرارات المتخذة نتيجةً لذلك تتم في الوعي، وليس في الثقافة، التي لا تتحول عنصراً فاعلاً وواعياً إلا في المديات الطويلة.
ويستنثي غادامر من ذلك أزمنة الزلازل، التي تزعزع اليقينيات، فتغلب الثقافة في نطاق الوعي، وتسيطر الرموز، مما يزيد من تأزم الموقف داخل ثقافة أو مجال ثقافي معين، ومن نتائج التوتر الداخلي الشديد تأزم العلاقة مع الخارج، أو أن ذلك يحدث متساوقاً داخل المجتمعات وفيما بينها ـ وفي ظروف وأزمنة الزلازل تلك يتراجع الوعي بالمصالح لصالح الثقافة، ثقافة الهوية غالباً، فيبدو أنه لا مخرج من الأزمة أو المأزق غلا بالصدام مع الخصم الحقيقي أو الموهوم.
فالأزمة الحالية على الرغم من السياقات العالمية، هي أزمة داخل الوعي والمجال الثقافي العربي الإسلامي. والمخرج منها تغيير في الواقع نتيجة العودة لمعالجة المشكلات الحقيقية مع العالم، وبطريق الحوار والمشاركة الفاعلة والمقتدرة. فحل المشكلة الفلسطينية يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً. بل إن الخروج من العراق، أو حصول كاتب أو شاعر عربي على جائزة نوبل يمكن أن يكون فارقاً، وعلامةً لبدء تغلب الوعي بالمصالح على الرموز. وينبهنا أميركيون إلى عدم الاستخفاف بآثار نجاح بعض جالياتنا على تغير الواقع في وعينا وإن بالتدريج. هذه هي معابر التغيير أو إمكانياته أو احتمالاته، وهي متواضعة كما نرى، لكنها ممكنة بسبب ذلك، وبغيره.
لقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ضربةً كبرى لنا أمام العالم وأمام أنفسنا. ولقد حركت صوراً نمطيةً كثيرة، كما حركت لدينا أيضاً ردود فعل نمطية إذا صح التعبير. بيد أن تغير الواقع ممكن ومتاح رغم الحيرة والأسى والتردد، وعدم وضوح الطريق حتى الآن:
فيا دارَها بالخَيف إنّ مزارَها
قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ
* الصراع على الاسلام /دار الكتاب العربي /2004م
Comments
Post a Comment