أميركا والإسلام السياسي.. صدام الثقافات أم صدام المصالح؟ - فواز جرجس

أميركا والإسلام السياسي.. صدام الثقافات أم صدام المصالح؟
فواز جرجس









يقدم فواز جرجس -أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة سارا لورانس بنيويورك- في هذا الكتاب أفضل قراءة شاملة ووافية ومعمقة للنظرة الأميركية إلى الإسلام السياسي, وعلاقة هذه النظرة بتعقيدات صياغة السياسة الخارجية الأميركية بشكل عام والعناصر الداخلة في تكوين وصياغة هذه السياسة. وتبدو قراءة هذا الكتاب شرطا أساسيا لفهم دينامية صناعة السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخاصة المتعلق منها بتفكيك تداخل البعد العقدي الثقافي مع البعد البراغماتي السياسي, وعلى وجه التحديد في حقب الإدارات الأميركية المتأخرة.

غلاف الكتاب
= اسم الكتاب:
أميركا والإسلام السياسي.. صدام الثقافات أم صدام المصالح؟
= المؤلف: فواز جرجس
=عدد الصفحات: 282
= الطبعة: الأولى/ 1999
= الناشر: مطبعة جامعة كمبردج- بريطانيا


وبهذا فإن الأطروحة الأساسية في الكتاب تعالج ثنائية -أو تعارضية- المبادئ والمصالح في السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي، وإذا ما كانت الأيدولوجيا تتحكم في تشكيل التوجهات الأساسية لتلك السياسة أم أن المصالح هي التي تملك ناصية الإدارة.
ولتحليل عناصر هذه الأطروحة يعمد جرجس إلى تشريح الإطار الثقافي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة, مستعرضاً وجهات النظر العدائية, أو أصحاب نظرية المواجهة, وكذا وجهات النظر الاحتوائية, أو أصحاب نظرية التوافق والاحتواء. ثم ينفذ إلى عمق "العقل الأميركي" ليرصد أين يقع الإسلام والمسلمون في هذا العقل, وكيف يتكون الإدراك الأميركي تجاه الآخر المسلم. وبعد التمهيد النظري هذا يأخذ المؤلف بتفصيل حالات الإدارات الأميركية لكل من الرؤساء "جيمي كارتر, ورونالد ريغان, وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون" وسياسة كل إدارة تجاه الإسلام السياسي في ضوء الأحداث التي عاصرتها، وذات العلاقة بحركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. ثم يطبق جرجس الإطار التحليلي الذي بناه على الحالات الإسلامية في "إيران والجزائر ومصر وتركيا" منهياً كل فصل بتقديم توصيات واقتراحات تنزع فتيل العداء الأيدولوجي، وتدفع بالعلاقة الثنائية إلى مربعات المصالح.
النتيجة الأساسية التي يتوصل إليها المؤلف هي غياب سياسة أميركية شاملة ومتكاملة تجاه الحركات الإسلامية رغم ادعاءات بعض المسؤولين الأميركيين بوجود مثل هذه السياسة. ويعزو جرجس هذا الأمر إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن إدارات كل من كارتر وريغان وجورج بوش (الأب) وبيل كلينتون, وكذا الإدارات السابقة لها, افتقدت وجود سياسة خارجية بشكل عام ذات رؤية شاملة ومتماسكة تجاه العالم بأكمله, فضلاً عن أن تمتلك نظرة متماسكة تجاه الشرق الأوسط أو الإسلام السياسي فيه. فعلى رغم هوس هذه الإدارات بصياغة "نظام عالمي جديد" ذي مفاهيم ومضامين مختلفة وغائمة, إلا أن السياسة الخارجية ظلت محكومة بالمصالح القومية الأميركية الضيقة.
والسبب الثاني: هو أن كبار اللاعبين في الخارجية الأميركية في السنوات الأخيرة من أمثال جيمس بيكر، ووارن كريستوفر، ومادلين أولبرايت، فضلوا التعامل مع الموضوعات السياسية العملية وليس النظرية المجردة, مثل البعد الثقافي في العلاقة مع الإسلام والمسلمين وغير ذلك.
أما السبب الثالث في غياب سياسة أميركية متكاملة عن الإسلام السياسي -بحسب ما يرى جرجس- فيتمثل في القناعة الأميركية بأن الحركات الإسلامية مختلفة عن بعضها البعض, وغير متجانسة, وتعبر كل منها عن انعكاس لظروف خاصة بها في هذا البلد أو ذاك، ولهذا فإنه من غير العملي صياغة سياسة موحدة تجمع الطيف غير المتجانس للإسلام السياسي في نظرة واحدة. والرأي الغالب في دوائر صناعة القرار الأميركي هو التعامل مع هذه الحركات كل على حدة، وفي ضوء تحليل مواقفها وبرامجها العملية أكثر من الوقوف عند أقوالها وبياناتها.
برغم ذلك فإن الأمر الذي يلاحظه جرجس هو وجود تناقض في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الإسلام السياسي، حيث تنحرف هذه السياسة عن النظرة إلى الإسلاميين في ضوء تصرفاتهم وأفعالهم, بل تشكل مواقفها تجاههم نتيجة لتحيزات غير موضوعية، وحيث يبرز في الخطاب الأميركي دعوة متناقضة, فمن ناحية هناك التحذير من اقتراب الإسلاميين من السياسة خشية ما قد يأتي معهم من مخاطر للمصالح الأميركية, وهناك بالتوازي الحديث الودي عن البعد القيمي الذي تمثله هذه الحركات في الدعوة إلى الأخلاق والفضائل.
وإذا وضعنا هذا الخطاب في إطار أوسع عناصره الدعوة الأميركية التقليدية لتبني الديمقراطية وحقوق الإنسان يتبدى لنا التناقض بشكل أكثر جلاءً. وكما يلاحظ جرجس بحق فإن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة لم تتغير في جوهرها، وبقيت حبيسة حسابات الأمن والمصالح القومية والإستراتيجية الأميركية، ولم تكن مضامين الخطاب الأميركي بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا عناصر ثانوية ودعائية في تلك السياسة.
وعند التدبر في الوزن والأثر الإجمالي للعناصر المختلفة في تكوين السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي بشكل عام, يستنتج جرجس أيضاً أن العناصر الثقافية والتاريخية والنظرة المسبقة للإسلام لا تملك أوزاناً مؤثرة في وجه الحسابات السياسية والأمنية. وينسب لعدد من المحللين الأميركيين القريبين من صناعة القرار القول بأن الرئيس بيل كلينتون -على سبيل المثال- ليس مهتماً بالإسلام ولا بما يعنيه, بل مهتم بما قد تشكله الحركات الإسلامية من خطر على المصالح الأميركية.
والواقع أن إطلاقية جرجس في تهميش دور العناصر الثقافية والنظرة الأميركية والغربية المتجذرة للإسلام والمسلمين تستوجب التوقف. صحيح أن النظرة العدائية الغربية المختزنة في المخيلة الجماعية لا تظهر عياناً في الدبلوماسية الناعمة, لكنها تشكل في الوقت نفسه أرضية فكرية غير مباشرة، بل وأحياناً غير واعية تؤثر في صناعة السياسة. ولعل أفضل دراسة أميركية في هذا المضمار رصدت عمق النظرة الأيدولوجية الأميركية تجاه العرب والإسلام بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، هي دراسة كاثلين كريستيسون بعنوان "التصورات عن فلسطين وأثرها في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط". ففي دراستها تلك تثبت كريستيسون أن ما تراكم من نظرة مسبقة وتقليدية إنما هو خليط من الأيدولوجيا وعناصر من المسيحية اليهودية تجاه فلسطين والشرق الأوسط تشكل في نهاية الأمر خلفية صلدة لدى الرأي العام وصناع القرار سواء بسواء في الولايات المتحدة.
يجادل جرجس بأن الإدارات الأميركية رفضت مقولة صراع الحضارات التي صكها صاموئيل هانتنغتون, مدللاً على ذلك بأن التعليل الرسمي الأميركي لصعود تيار الحركات الإسلامية يحوم حول أسباب الضنك الاقتصادي والمعيشي الذي تتعرض له البلدان العربية والإٍسلامية, وأن ذلك الصعود ليس بالضرورة جزءا من منظومة معادية للولايات المتحدة بالتعريف. ويشير إلى الاهتمام غير المسبوق الذي أولاه كلينتون لمجاملة المسلمين في الولايات المتحدة, سواء في الأعياد أو استقبال وفود تمثلهم, وهو أمر غير مسبوق في الإدارات السابقة. كما أشار إلى المحاضرة الشهيرة التي ألقاها إدوارد دجرجيان -من إدارة جورج بوش الأب- في فندق المريديان, وتحدث فيها بإيجابية عن الإسلام، بل وعن قبول أميركا للإسلام السياسي طالما لا يشكل تهديداً لمصالحها.
على أن الممارسة العملية تكشف وجهاً أميركياً آخر, خاصة في الحالات التي تناولها جرجس. ففي مصر مثلاً اتخذت واشنطن موقفاً مؤيداً للنظام في كل الإجراءات التي اتخذت بحق الإسلاميين, ليس فقط المتطرفين منهم الذين استخدموا السلاح ضدها, بل وأيضاً المعتدلين الذين كانت كل مطالبهم تحوم حول تشكيل حزب سياسي شرعي يمارس السياسة تحت سمع وبصر النظام. والأمر ذاته تكرر في الحالة الجزائرية رغم أن بداية الأزمة شهدت نوعا من التحفظ الأميركي على الانقلاب العسكري على نتائج الانتخابات الديمقراطية في أوائل التسعينيات, لكنه تحفظ سرعان ما ذوى واقترب بالتالي الموقف الأميركي من الموقف الفرنسي المؤيد بلا تحفظ للنظام ضد الإسلاميين.
أما في تركيا فعلى رغم نجاح نجم الدين أربكان في الانتخابات بل وفي تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسته عام 1995, وتنازل أربكان عن الكثير من السياسات المعلنة سابقاً لحزبه ومغازلته لأميركا والغرب بالتأكيد على أن تركيا في عهده ستحافظ على العلاقة المميزة مع واشنطن وتدفع لتطويرها, إلا أن الإدارة الأميركية (الديمقراطية!) لم تكن راضية كل الرضى عن التطورات التركية وصعود نجم أربكان. ولذلك فإن واشنطن تنفست الصعداء عندما تدخل العسكر في أنقرة وأنهوا مبكراً تجربة أربكان.
على ذلك فإن قياس التصريحات الأميركية الإيجابية وأحياناً الدافئة تجاه الإسلام والمسلمين على واقع ممارسة السياسة الأميركية على الأرض فإننا نجد بوناً شاسعاً وتناقضاً نفاقياً فاضحاً. وفي نهاية المطاف فإن الأفعال لا الأقوال هي المهمة وصاحبة الأثر

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية