حوار مع العلامة حيدر حب الله بمناسبة مؤتمر الشهيد الثاني في بيروت
حوار مع العلامة حب الله بمناسبة مؤتمر الشهيد الثاني في بيروت
أجرى الحوار وأعدّه: السيد عبد الرحيم بوستة
1- أين تضعون الشهيد الثاني في التحقيب التاريخي للفقه الشيعي، وما هي خصائص فقهه، وما هي القيمة المضافة في آراءه ومنهجه الفقهي؟
حب الله: لعلّه يمكن تصنيف الشهيد الثاني مع الجيل العلمي الثاني من مدرسة العلامة الحلي، بحسب التقسيم الذي أرتئيه لأجيال هذه المدرسة، وهو الجيل الذي صعد بهذه المدرسة إلى الذروة قبل العصر الإخباري الذي جمّد تناميها، ويقف مع الشهيد الثاني في هذا الجيل كلّ من ولده الشيخ حسن وصاحب المدارك والمقدّس الأردبيلي وأمثالهم، وهم يتمتعون بنزعة متحرّرة نسبياً من تراث المتقدّمين ويتصفون بميول نقديّة، غلا أنّ الشهيد الثاني كان أكثر اعتدالاً من بينهم في حركة النقد هذه للمورث.
ولعلّ من أهمّ ميزات فقهه هو الصياغة القانونية التي قدّمها للفقه الإمامي، فبعد عصر المحقّق والعلامة الحليين يمكننا الحديث عن الشهيد الثاني بوصفه صاحب صياغة قانونية للفقه، ونحن نعرف أنّ المسألة البيانية بالغة الأهمية في ضبط حركة الدقّة الفقهية والقانونية، وأنّ سلسلة الشروط والقيود والضوابط التي تحيط القضية الفقهية تستدعي ضبطاً صياغياً للموضوع لا يتوفر للكثيرين من الفقهاء أنفسهم.
2- وصف ابن العودي تصانيف أستاذه الشهيد الثاني(ره) بأنها "أبهى من القلائد.. وأنه أقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلك فيها مسالك المحققين وهجر طريق المتقدمين..ما هي تجليات هذا الاختلاف مع طريق المتقدمين وما هي حدوده؟
حب الله: لا أجد هذا التوصيف دقيقاً؛ بل فيه قدرٌ من المبالغة، فلا يبدو لي أنّ الشهيد الثاني قد هجر طريقة المتقدّمين في مناهج الاجتهاد، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة السائدة بين عصره وعصر الشهيد الأوّل، ففي هذه الفترة ـ أي طوال القرن التاسع الهجري ـ شهدنا ركوداً حقيقيّاً في الاجتهاد الفقهي عند الإماميّة، وربما يكون ظهور شخصيّتين تعاصرتا زمناً وهما المحقق الكركي والشهيد الثاني في أواسط القرن العاشر قد أعاد حركة الاجتهاد إلى سابق عهدها في عصر العلامة الحلي، حيث بدأنا نرى مع هذين الفقيهين نموّاً مطرداً للدراسات الموسّعة في الاجتهاد، مع مثل كتاب جامع المقاصد وروض الجنان والمسالك والروضة وغير ذلك.
3- سافر الشهيد الثاني كثيرا في الحواضر العلمية وتتلمذ على مشايخ المذاهب الإسلامية في عصره، بعض هذا التتلمذ كان لأجل التعرف على مناهج التدريس، كما نجده قد اهتم بالتصنيف واعتمد في ذلك أسلوبا جديدا..بل وألّف في أخلاق العلّم (منية المريد)، هل يمكن أن نقول –بناءً على كلّ ذلك- أنّ الشهيد الثاني كان معنيا بشكل أساسي ببناء مدرسة/ حوزة علمية نموذجية؟
حب الله: تقول بعض المعطيات التاريخية بأنّه كان بصدد التفكير في بناء وضع ما للحوزة العلمية في بلاد جبل عامل ضمن الظروف التي كانت تسمح بحركةٍ ما في ذلك الزمان، لكنّ التأكّد من أنّ تصنيفاته كانت تقع في سياق مشروع من هذا النوع يبدو غير سهل، (وتحليل أسفاره وعلاقاته موضوع يفتح على الكثير من الأفكار) فمن الواضح أنّ الأسلوب البياني الذي تمتع به الشهيد الثاني كان يميل نحو التوضيح والتشريح والتبسيط بدل التعقيد والغموض، لكنّنا لا نعثر عنده على شيء يتصل بموضوع وضع برامج دراسيّة لبناء أنموذج حوزة علمية في مكان ما، سوى مع كتابي منية المريد والبداية في علم الدراية، وحتى هذين الكتابين لا يؤكّدان لنا ـ إذا تخطينا أيّ وثيقة تاريخية ـ أنّهما جاءا في هذا السياق، فقد ألّف العلماء في المسألة الأخلاقية في التربية والتعليم خارج إطار مشروع مؤسّسي مدرسي، كما أنّ كتاب البداية وبعده الرعاية في علم الدراية والحديث قد يمكن تفسيرهما بالوقوع في سياق إعادة تنشيط علم الحديث في الوسط الشيعي تلبيةً للنزعة التي كان أصّل لها من قبل أحمد بن طاووس في النقد الحديثي واتّبعها العلامة الحلي بجدارة وإخلاص حتى تحوّلت إلى مأخذ على مدرسته في العصر الإخباري. فلعلّ الشهيد الثاني قد رأى غياباً لهذا العلم في الوسط الشيعي فأراد استحضاره مرّةً أخرى متحسّساً أهميّته لا بدافع بناء مشروع تعليمي لحوزة أنموذجيّة.
4- عرف عن الشهيد الأول(ره) اهتمامه بالبعد المقاصدي في الشريعة، ويبرز ذلك جليا في كتابه "القواعد والفوائد"، إلى أي حد تبلور هذا البعد المقاصدي في النتاج الفقهي للشهيد الثاني(ره)؟
حب الله: إنّ المتتبع لنتاج الشهيدين الأوّل والثاني يجد عندهما بعض التعابير التي توحي بنزعة مقاصديّة، لكنّ صورة هذا الاتجاه لا تبدو واضحة بما يسمح لنا بالحديث عن حركة أو توجّه عام، لاسيما مع الشهيد الثاني، فإنّ النهضة المقاصدية التي عرفت مع الشاطبي (790هـ) يمكن أن تكون قد تسرّبت إلى فكر الشهيد الأوّل المعاصر للشاطبي زمناً، لاسيما مع مشروعه في البحث القواعدي للفقه (القواعد والفوائد)؛ لأنّ فقه القواعد يمكن فهمه بوصفه حلقةً وسطى بين فقه المسائل وفقه المقاصد، فيمكن التنبؤ بنزعة مقاصدية نتيجة عنصري الفقه القواعدي والتزامن بالنسبة للشهيد الأوّل، لكنّ الأمر يبدو عسيراً مع الشهيد الثاني؛ لأنّ النزعة المقاصدية التي أطلقها الشاطبي لا يبدو أنّها شهدت نفوذاً في المؤسّسة الدينية السنيّة نفسها في القرن التاسع الهجري، بل غابت غياباً طويلاً إلى أن أطلق الإسلاميون حركتها في نهايات القرن التاسع عشر مع الشيخ محمد عبده وآخرين.
وبالعودة إلى واقع فقه الشهيد الثاني لا نجد المقاصد منهجاً وإنّما قد نجدها على شكل إثارات هنا وهناك ربما بدت لنقّاد كتابي: الروضة والمسالك، أنّها استحسانات أو أقيسة، ولعلّ ما يؤكّد كلامي أنّ الإخبارييّن لم يأخذوا النزعة المقاصديّة عيباً على التيار الأصولي الذي كان الشهيد الثاني من روّاده المعتدلين، وهذا يعني أن الإخباري لم يلاحظ ـ وهو شديد الحساسية في هذا الموضوع ـ تأثيراً لفكر سنّي مقاصدي في فقه الشهيد الثاني.
5- بعد التطوير الكبير الذي أدخله العلامة الحلّي على الفقه المقارن مستكملا دور الشيخ الطوسي في ذلك؛ استأنف الشهيدان الأول والثاني هذا الدور، لدرجة يرى معها البعض أنّ النموذج الأفضل المطروح عبر تاريخ الشيعة في مجال الفقه المقارن هو نموذج الشهيدين.. هل تتفقون مع هذا الطرح؟
حب الله: لا أتفق مع القول الذي يذهب إلى أنّ الشهيد الثاني كان رائداً في الفقه المقارن، ويجب علينا أن لا نقوم بتضخيم المشهد، إنّ العلامة الحلي كان عملاقاً في هذا الموضوع كما يثبته كتاباه: تذكرة الفقهاء، ونهاية الوصول إلى علم الأصول. إنّ الفقه المقارن والأصول المقارن عند العلامة واضحان جداً، أمّا عند الشهيد الثاني فنحن نجد في الغالب أنموذج كتاب (مختلف الشيعة) للعلامة الحلي، وهو كتاب جاء في سياق المقارنة الداخل ـ مذهبية لا الخارج ـ مذهبية، نعم، من الممكن والواقع هنا وهناك أن يتعرّض الشهيد الثاني في كتاباته للفقه السنّي، لكنّ هذا لا يخوّلنا الحديث عن ريادة ولا حتى عن مشروع، ولعلّه لم يكن يرى حاجةً لهذا الأمر في عصره.
نعم، النقطة التي يمتاز بها الشهيد الثاني أنّه لم يكن يعيش حساسية الاقتباس من الاجتهاد السنّي، فمشروعه في إعادة بعث علم الحديث في الوسط الشيعي معتمداً على نقل مكثف للتجربة السنّية، حتى أنّ البعض قد يسمّيها استنساخاً، وذلك مع كتابي: البداية والرعاية في علم الحديث، يعطي مؤشراً أنّه لم يطن ليعيش عقدة التعاون المعرفي مع الآخر الإسلامي، تلك العقجة التي ظلّت مسيطرةً على العقل الإخباري لأكثر من قرنين بعد ذلك، إنّ تلمّذه على علماء أهل السنّة وسفره في البلدان دون أن يعيش قلقاً في هذا الموضوع، يشهد على درجة من الانفتاح ليست بالقليلة، إلا أنّ هذا شيء والحديث عن مشروع اجتهاد مقارن شيء آخر.
6- كيف تقيّمون الممارسة الفقهية عند الشهيد الثاني، وهل هنالك في نظركم قيمة كبرى مهدورة أو ملمح جوهري في هذه الممارسة بحاجة إلى إحياء وتطوير؟
حب الله: أعتقد أنّ من ميزات اجتهاد الشهيد الثاني هو العفوية الاجتهادية التي تبتعد عن التعقيد في فهم النصوص الدينية ( المصدر)، وعن العُجمة في تفسير هذه النصوص، يبدو لي أنّه ذو نزعة عرفيّة في الفهم نابعة من وعي حقيقي لدلالات اللغة العربية ومناخها وسياقاتها، وهو أمر يمكن التعويل عليه وتطويره في الاجتهاد المعاصر، كما تبدو لي عملية انفتاحه المعرفي على الآخر نقطةً ايجابية يمكن الاشتغال على تنميتها واعتبارها رصيداً تاريخياً لمشروع التقارب المعرفي بين المذاهب.
يضاف إلى ذلك عنصر الاعتدال في البحث الفقهي وعدم وجود حالة تشنّج إلا في بعض المواضع المعروفة نسبيّاً، مما يستدعي تعميم هذه الثقافة وترشيدها.
مع خالص الشكر والتحيات.
أجرى الحوار وأعدّه: السيد عبد الرحيم بوستة
1- أين تضعون الشهيد الثاني في التحقيب التاريخي للفقه الشيعي، وما هي خصائص فقهه، وما هي القيمة المضافة في آراءه ومنهجه الفقهي؟
حب الله: لعلّه يمكن تصنيف الشهيد الثاني مع الجيل العلمي الثاني من مدرسة العلامة الحلي، بحسب التقسيم الذي أرتئيه لأجيال هذه المدرسة، وهو الجيل الذي صعد بهذه المدرسة إلى الذروة قبل العصر الإخباري الذي جمّد تناميها، ويقف مع الشهيد الثاني في هذا الجيل كلّ من ولده الشيخ حسن وصاحب المدارك والمقدّس الأردبيلي وأمثالهم، وهم يتمتعون بنزعة متحرّرة نسبياً من تراث المتقدّمين ويتصفون بميول نقديّة، غلا أنّ الشهيد الثاني كان أكثر اعتدالاً من بينهم في حركة النقد هذه للمورث.
ولعلّ من أهمّ ميزات فقهه هو الصياغة القانونية التي قدّمها للفقه الإمامي، فبعد عصر المحقّق والعلامة الحليين يمكننا الحديث عن الشهيد الثاني بوصفه صاحب صياغة قانونية للفقه، ونحن نعرف أنّ المسألة البيانية بالغة الأهمية في ضبط حركة الدقّة الفقهية والقانونية، وأنّ سلسلة الشروط والقيود والضوابط التي تحيط القضية الفقهية تستدعي ضبطاً صياغياً للموضوع لا يتوفر للكثيرين من الفقهاء أنفسهم.
2- وصف ابن العودي تصانيف أستاذه الشهيد الثاني(ره) بأنها "أبهى من القلائد.. وأنه أقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع، وسلك فيها مسالك المحققين وهجر طريق المتقدمين..ما هي تجليات هذا الاختلاف مع طريق المتقدمين وما هي حدوده؟
حب الله: لا أجد هذا التوصيف دقيقاً؛ بل فيه قدرٌ من المبالغة، فلا يبدو لي أنّ الشهيد الثاني قد هجر طريقة المتقدّمين في مناهج الاجتهاد، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة السائدة بين عصره وعصر الشهيد الأوّل، ففي هذه الفترة ـ أي طوال القرن التاسع الهجري ـ شهدنا ركوداً حقيقيّاً في الاجتهاد الفقهي عند الإماميّة، وربما يكون ظهور شخصيّتين تعاصرتا زمناً وهما المحقق الكركي والشهيد الثاني في أواسط القرن العاشر قد أعاد حركة الاجتهاد إلى سابق عهدها في عصر العلامة الحلي، حيث بدأنا نرى مع هذين الفقيهين نموّاً مطرداً للدراسات الموسّعة في الاجتهاد، مع مثل كتاب جامع المقاصد وروض الجنان والمسالك والروضة وغير ذلك.
3- سافر الشهيد الثاني كثيرا في الحواضر العلمية وتتلمذ على مشايخ المذاهب الإسلامية في عصره، بعض هذا التتلمذ كان لأجل التعرف على مناهج التدريس، كما نجده قد اهتم بالتصنيف واعتمد في ذلك أسلوبا جديدا..بل وألّف في أخلاق العلّم (منية المريد)، هل يمكن أن نقول –بناءً على كلّ ذلك- أنّ الشهيد الثاني كان معنيا بشكل أساسي ببناء مدرسة/ حوزة علمية نموذجية؟
حب الله: تقول بعض المعطيات التاريخية بأنّه كان بصدد التفكير في بناء وضع ما للحوزة العلمية في بلاد جبل عامل ضمن الظروف التي كانت تسمح بحركةٍ ما في ذلك الزمان، لكنّ التأكّد من أنّ تصنيفاته كانت تقع في سياق مشروع من هذا النوع يبدو غير سهل، (وتحليل أسفاره وعلاقاته موضوع يفتح على الكثير من الأفكار) فمن الواضح أنّ الأسلوب البياني الذي تمتع به الشهيد الثاني كان يميل نحو التوضيح والتشريح والتبسيط بدل التعقيد والغموض، لكنّنا لا نعثر عنده على شيء يتصل بموضوع وضع برامج دراسيّة لبناء أنموذج حوزة علمية في مكان ما، سوى مع كتابي منية المريد والبداية في علم الدراية، وحتى هذين الكتابين لا يؤكّدان لنا ـ إذا تخطينا أيّ وثيقة تاريخية ـ أنّهما جاءا في هذا السياق، فقد ألّف العلماء في المسألة الأخلاقية في التربية والتعليم خارج إطار مشروع مؤسّسي مدرسي، كما أنّ كتاب البداية وبعده الرعاية في علم الدراية والحديث قد يمكن تفسيرهما بالوقوع في سياق إعادة تنشيط علم الحديث في الوسط الشيعي تلبيةً للنزعة التي كان أصّل لها من قبل أحمد بن طاووس في النقد الحديثي واتّبعها العلامة الحلي بجدارة وإخلاص حتى تحوّلت إلى مأخذ على مدرسته في العصر الإخباري. فلعلّ الشهيد الثاني قد رأى غياباً لهذا العلم في الوسط الشيعي فأراد استحضاره مرّةً أخرى متحسّساً أهميّته لا بدافع بناء مشروع تعليمي لحوزة أنموذجيّة.
4- عرف عن الشهيد الأول(ره) اهتمامه بالبعد المقاصدي في الشريعة، ويبرز ذلك جليا في كتابه "القواعد والفوائد"، إلى أي حد تبلور هذا البعد المقاصدي في النتاج الفقهي للشهيد الثاني(ره)؟
حب الله: إنّ المتتبع لنتاج الشهيدين الأوّل والثاني يجد عندهما بعض التعابير التي توحي بنزعة مقاصديّة، لكنّ صورة هذا الاتجاه لا تبدو واضحة بما يسمح لنا بالحديث عن حركة أو توجّه عام، لاسيما مع الشهيد الثاني، فإنّ النهضة المقاصدية التي عرفت مع الشاطبي (790هـ) يمكن أن تكون قد تسرّبت إلى فكر الشهيد الأوّل المعاصر للشاطبي زمناً، لاسيما مع مشروعه في البحث القواعدي للفقه (القواعد والفوائد)؛ لأنّ فقه القواعد يمكن فهمه بوصفه حلقةً وسطى بين فقه المسائل وفقه المقاصد، فيمكن التنبؤ بنزعة مقاصدية نتيجة عنصري الفقه القواعدي والتزامن بالنسبة للشهيد الأوّل، لكنّ الأمر يبدو عسيراً مع الشهيد الثاني؛ لأنّ النزعة المقاصدية التي أطلقها الشاطبي لا يبدو أنّها شهدت نفوذاً في المؤسّسة الدينية السنيّة نفسها في القرن التاسع الهجري، بل غابت غياباً طويلاً إلى أن أطلق الإسلاميون حركتها في نهايات القرن التاسع عشر مع الشيخ محمد عبده وآخرين.
وبالعودة إلى واقع فقه الشهيد الثاني لا نجد المقاصد منهجاً وإنّما قد نجدها على شكل إثارات هنا وهناك ربما بدت لنقّاد كتابي: الروضة والمسالك، أنّها استحسانات أو أقيسة، ولعلّ ما يؤكّد كلامي أنّ الإخبارييّن لم يأخذوا النزعة المقاصديّة عيباً على التيار الأصولي الذي كان الشهيد الثاني من روّاده المعتدلين، وهذا يعني أن الإخباري لم يلاحظ ـ وهو شديد الحساسية في هذا الموضوع ـ تأثيراً لفكر سنّي مقاصدي في فقه الشهيد الثاني.
5- بعد التطوير الكبير الذي أدخله العلامة الحلّي على الفقه المقارن مستكملا دور الشيخ الطوسي في ذلك؛ استأنف الشهيدان الأول والثاني هذا الدور، لدرجة يرى معها البعض أنّ النموذج الأفضل المطروح عبر تاريخ الشيعة في مجال الفقه المقارن هو نموذج الشهيدين.. هل تتفقون مع هذا الطرح؟
حب الله: لا أتفق مع القول الذي يذهب إلى أنّ الشهيد الثاني كان رائداً في الفقه المقارن، ويجب علينا أن لا نقوم بتضخيم المشهد، إنّ العلامة الحلي كان عملاقاً في هذا الموضوع كما يثبته كتاباه: تذكرة الفقهاء، ونهاية الوصول إلى علم الأصول. إنّ الفقه المقارن والأصول المقارن عند العلامة واضحان جداً، أمّا عند الشهيد الثاني فنحن نجد في الغالب أنموذج كتاب (مختلف الشيعة) للعلامة الحلي، وهو كتاب جاء في سياق المقارنة الداخل ـ مذهبية لا الخارج ـ مذهبية، نعم، من الممكن والواقع هنا وهناك أن يتعرّض الشهيد الثاني في كتاباته للفقه السنّي، لكنّ هذا لا يخوّلنا الحديث عن ريادة ولا حتى عن مشروع، ولعلّه لم يكن يرى حاجةً لهذا الأمر في عصره.
نعم، النقطة التي يمتاز بها الشهيد الثاني أنّه لم يكن يعيش حساسية الاقتباس من الاجتهاد السنّي، فمشروعه في إعادة بعث علم الحديث في الوسط الشيعي معتمداً على نقل مكثف للتجربة السنّية، حتى أنّ البعض قد يسمّيها استنساخاً، وذلك مع كتابي: البداية والرعاية في علم الحديث، يعطي مؤشراً أنّه لم يطن ليعيش عقدة التعاون المعرفي مع الآخر الإسلامي، تلك العقجة التي ظلّت مسيطرةً على العقل الإخباري لأكثر من قرنين بعد ذلك، إنّ تلمّذه على علماء أهل السنّة وسفره في البلدان دون أن يعيش قلقاً في هذا الموضوع، يشهد على درجة من الانفتاح ليست بالقليلة، إلا أنّ هذا شيء والحديث عن مشروع اجتهاد مقارن شيء آخر.
6- كيف تقيّمون الممارسة الفقهية عند الشهيد الثاني، وهل هنالك في نظركم قيمة كبرى مهدورة أو ملمح جوهري في هذه الممارسة بحاجة إلى إحياء وتطوير؟
حب الله: أعتقد أنّ من ميزات اجتهاد الشهيد الثاني هو العفوية الاجتهادية التي تبتعد عن التعقيد في فهم النصوص الدينية ( المصدر)، وعن العُجمة في تفسير هذه النصوص، يبدو لي أنّه ذو نزعة عرفيّة في الفهم نابعة من وعي حقيقي لدلالات اللغة العربية ومناخها وسياقاتها، وهو أمر يمكن التعويل عليه وتطويره في الاجتهاد المعاصر، كما تبدو لي عملية انفتاحه المعرفي على الآخر نقطةً ايجابية يمكن الاشتغال على تنميتها واعتبارها رصيداً تاريخياً لمشروع التقارب المعرفي بين المذاهب.
يضاف إلى ذلك عنصر الاعتدال في البحث الفقهي وعدم وجود حالة تشنّج إلا في بعض المواضع المعروفة نسبيّاً، مما يستدعي تعميم هذه الثقافة وترشيدها.
مع خالص الشكر والتحيات.
Comments
Post a Comment