تجفيف أهوار العراق: كارثة إنسانية وبيئية - هيثم مزاحم
تحقيق - تجفيف أهوار العراق.. كارثة إنسانية وبيئية
16 أيار / مايو 2011
الأهوار بقعة جميلة وساحرة من جنوب العراق، تُمثّل الماضي والحاضر وتحكي قصة حضارة بلاد ما بين النهرين التي كتبت حروفها بكل قصبة نبتت على ضفاف نهري دجلة والفرات. ارتبطت الأهوار بالحكمة السومرية الشهيرة التي تقول "حيثما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود". هذه الحكمة التي بقيت شاهدة على أصالة تلك الأرض وجريان مياهها وغابات نخيلها والقصب والبردي.. وقد تجلّى الإبداع الإلهي في منطقة الأهوار في صور ناصعة في جماليات الأرض والمياه والسماء.. وقد أطلق المستشرقون على هذه المنطقة، التي أحبّوها وألهمتهم لكتابة روايات وقصائد وكتب، تسمية "جنة الله على الأرض".
وأكد الكثير من الباحثين بأن مجتمع الأهوار هو امتداد للمجتمع السومري القديم، وذلك استناداً إلى دراسات علمية وتاريخية أثبتت الشبه الكبير بين كلا المجتمعين.
تعتبر مناطق الأهوار العراقية أكبر نظام بيئي من نوعه في الشرق الأوسط وغربي آسيا. وتبلغ مساحة هذا المستنقع المائي الشاسع نحو 16 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة لبنان. وتمتد الأهوار بين ثلاث محافظات جنوبية هي العمارة، والناصرية، والبصرة. وهي جزء لا يتجزأ من طرق عبور الطيور المهاجرة ما بين القارات، ودعم أنواع الحيوانات المهددة بالانقراض، واستمرارية مناطق صيد أسماك المياه العذبة، وكذلك النظام البيئي البحري في الخليج. وإضافة إلى أهميتها البيئية، تعتبر مناطق الأهوار تراثاً إنسانياً لا نظير له، وقد كانت موطناً للسكان الأصليين منذ آلاف السنين. وقد قدّر الباحث غافن يونغ عمر هذا المجتمع بخمسة آلاف سنة. وكانت منطقة الأهوار حاضنة للكثير من المعارضين للأنظمة السياسية على امتداد تاريخ البلاد، وذلك لوجود متاهات عديدة تخفي مئات الأفراد، ومنها انطلقت العديد من الثورات.
وتذكر إحصائيات أن عدد سكان الأهوار كان في بداية سبعينيات القرن الماضي يقدر بنصف مليون نسمة ينتشرون على مسطح مائي يصل الى 20 ألف كيلو متر مربع، هو عبارة عن سلسلة من المستنقعات والبحيرات المتداخلة تمتد بين مدن العمارة والناصرية والبصرة تسكنها عشائر مختلفة في العادات واللهجات. وكان سكان الأهوار في سنوات متأخرة من الفتح الإسلامي يتكلمون اللغة الآرامية.
الثروات الطبيعية والحيوانية
تحوي منطقة الأهوار على موارد طبيعية وثروات حيوانية نادرة الأنواع من طيور وأسماك وجواميس، فبالنسبة للجواميس كانت تصل أعدادها في بداية تسعينيات القرن الماضي بحدود 200 ألف رأس ليتناقص العدد ويصل إلى 130 ألف رأس لتؤشر نسبة الانخفاض بـ35 بالمئة. ويتميز الجاموس بإنتاجية عالية من الحليب الدسم الذي يدخل في صناعة الألبان، والنقص الحاصل في أعداد الجواميس جاء نتيجة الهجرة القسرية وقلة المواد العلفية أو الرعاية البيطرية، أو تعرّضها للجفاف نتيجة تجفيف الأهوار.
وأسفل المسطحات المائية يوجد احتياط نفطي يقدر بـ30 مليار برميل من النفط الخام. ويحصل سكان هذه المناطق على غذائهم من حقول الرز الكبيرة التي كانوا يزرعونها والجواميس التي توفر لهم الحليب ومشتقاته. وكذلك يحصلون على الأسماك والطيور من المستنقعات المحيطة بهم وهذا ما جعلهم ينعزلون عن المجتمعات المدنية.
ويقول تقرير لبرنامج الأمم المتحدة البيئي المهتم بإعادة تأهيل الأهوار: "في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، كانت مناطق الأهوار تتألف من مجموعة بحيرات وأراضي طينية وأراضي مستنقعية متصلة مع بعضها، في الجزء الأدنى من حوض دجلة والفرات، وتمتد على مساحة أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع من العراق وإيران. وقد سبـّب إنشاء السدود العالية انخفاضاً في انسياب المياه وأوقف التدفقات التي كانت تغذي أراضي الأهوار في الحوض الأسفل، مما زاد في تركيز التلوّث. وبحلول العام 2000 كان أكثر من 90 في المئة من المنطقة قد جفّ وظهرت طبقات من الملح أساءت إلى النظام الطبيعي، ومما أسرع في ذلك، إنشاء كثير من مشاريع تصريف المياه. وبناء على المعدل السريع للتدهور ظهرت إمكانية اختفاء الأهوار كلياً في منتصف السنوات 2000".
فكيف دمّرت هذه المنطقة البيئية والتراثية والزراعية ودمّر حيوات وأرزاق سكانها وهجّر عشرات الألوف منهم، وذلك عبر تجفيف مياهها وقتل كل أشكال الحياة فيها؟
تجفيف الأهوار
لم يتردد نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في تدمير مصادر الثروة المائية للأهوار حيث قام مبكراً (منذ العام 1985) بخطوات لتجفيفها، كمقدمة لمشروع أكبر أدى الى تدمير هذا المستنقع المائي الشاسع. فقد كشف الدكتور جيمس يراز نكتون، الأستاذ في قسم الجغرافيا في جامعة كامبريدج البريطانية، عن قيام السلطات العراقية بأعمال هندسية لتجفيف ما تبقى من مياه أهوار الحويزة المتاخمة للحدود العراقية - الإيرانية في العام 1985.
وبعد قمع الانتفاضة الشعبية في جميع المحافظات العراقية في العام 1991 والتي زعزعت النظام أنذاك، بقيت الأهوار منتفضة بسبب صعوبة وصول القوات العسكرية للنظام إليها.. ولاحقاً تمكنت قوات السلطة من قمع المنتفضين فيها من خلال مروحيات الهليكوبتر.
وبعد ذلك، شرع النظام العراقي بوضع خطة محكمة لتجفيف الأهوار، فشقت قناة في منطقة الفرات أطلق عليها تسمية "أم المعارك"، تمتد الى أكثر من مئة ميل حول الأهوار الأصلية في الناصرية. وعند أعلى نهر أم المعارك تم تحويل مليارات الغالونات من مياه الفرات في قناة أخرى تصب وسط الصحراء. وفي العمارة تم شق قناة نهر العز وهي بعرض كيلومتر واحد، وتمتد من الأهوار الوسطية حتى مدخل مدينة القرنة في البصرة. وقد شفط هذا النهر الكبير مياه أهوار الشطانية والصيكل والصحين، وهذه الأهوار هي المغذية الرئيسية لهور الحمار وهور السناف.
كما رشت العديد من الطائرات مادة سائلة أسهمت في موت النباتات أنذاك. كذلك ببناء سدود وخزانات مياه عديدة وطلب من تركيا وسوريا تقليل كمية المياه القادمة من نهري دجلة والفرات إلى العراق. وهكذا بدأ يتوسّع التصحّر وشقّ الطرق الترابية لملاحقة الفارين.
وبقي هور الحويزة هو الوحيد الذي يتمتع بالحياة، لأن إمداداته المائية كانت تاتي من إيران.
وكانت محافظة ميسان (العمارة) الأكثر تضرّراً كونها تشتمل على أغلبية الأهوار في الجنوب العراقي التي تقدر بأكثر من 45 بالمئة من المنخفضات المائية لأهوار العراق.
الآثار البيئية
وهكذا تمت عملية تجفيف الأهوار التي سبّبت العديد من الكوارث البيئية وهجرة سكان هذه الأهوار ونزوحهم الى المدن التي لم يعتادوا عليها، فلم يعثروا على عمل ولا وظائف، لأن معظمهم لا يعرفون سوى مهن الصيد والزراعة وتربية المواشي.
وفي عام 2000 وزعت الإدارة الوطنية للطيران والفضاء (ناسا) في الولايات المتحدة الأميركية صوراً تؤكد تجفيف 90 في المئة من أهوار العراق، وقالت إن ذلك أكبر كارثة بيئية في العالم. وقال مدير برنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس تويفر: "إن التدمير شبه الكامل للأهوار العراقية في ظل نظام صدام حسين كان كارثة إنسانية وبيئية كبرى حرمت عرب الأهوار من ثقافة عمرها قرون". وأظهرت الصور الفضائية خطوات تجفيف الأهوار في جنوب العراق التي حوّلت مجرى نهر الفرات وروافده ما يعني منعه من تغذية الأهوار من جهة، والتأثير على منسوب مياه شط العرب من جهة أخرى.
فقد أدى تجفيف الأهوار الى تعريض المناخ البيئي لعوامل سلبية أثرت على معدلات الحرارة والرطوبة، إذ كان هذا المسطح المائي الواسع يساهم في تخفيف أثر الرياح التي تهب من المناطق الجنوبية والشرقية، وبذلك فقد المناخ العراقي عاملاً بيئياً مهماً يساهم في منع زيادة حرارة الصيف المرتفعة، ومنع زيادة مساحات التصحّر في المناطق المجاورة. والطيور التي وجدت في الأهوار هي الأخرى لم تسلم من الآثار السلبية لتجفيفها. وكانت أعداد الطيور قبل التجفيف نحو 18 ألف طير، وبعد فترة التجفيف تناقصت أعداد الطيور الى خمسة آلاف طير.
وإضافة إلى الأضرار البيئية التي قلــّصت إمكانيات المعيشة والحياة في هذه المنطقة، فإن سكان الأهوار عانوا موجات من التهجير ضمن حملات النظام السابق في التسعينيات. كذلك أصبح العديد من السكان عاطلين عن العمل بسبب أن الصيد كان يمثل مهنة وتجارة لهم. كما كانت منطقة الأهوار توفّر فرصاً سانحة للاستثمار الزراعي، خاصة ما تمتلكه من عوامل مناخية مساعدة على نجاح زراعة محاصيل حيوية تدخل في الاستهلاك المحلي، مثل مادة الأرز.
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية
وواكبت هذه التداعيات البيئية التغيّر الكامل لديموغرافيا السكان من التهجير القسري أو الهجرة الداخلية التي كسرت نمط حياة اجتماعية كانت لها امتدادات تاريخية طويلة، فسكان الأهوار امتازوا بخصوصيات اجتماعية ميّزتهم عن غيرهم من سكان العراق، فهم يعيشون قرب الماء ويمثل السمك غذاءهم الرئيس، ويعتمدون على الزواج الداخلي الذي يؤمن استمرار وجودهم الاجتماعي، وبالتالي تصبح القرابة/العشيرة هي الرابطة الأساس في حياتهم.
وفي العام 2003 ــ 2004 أشارت التقديرات إلى أن ما بين 85 ألف و100 ألف من عرب الأهوار كانوا يقيمون ضمن وحول ما تبقى من مناطقهم الأصلية، بما فيهم أقل من 10 في المئة يعيشون على الطريقة التقليدية. بينما بقي بين 100 ألف و200 الف منهم مهجرين داخلياً ضمن العراق، وحوالي 100 ألف يعيشون كلاجئين خارج العراق، خصوصاً في إيران. وتعيش أيضاً في المنطقة أقليات أخرى غير عرب الأهوار.
ويروي مرود حسون ( 45 عاماً) وهو أحد سكان الاهوار عن تلك الفترة فيقول: "لقد عشنا تحت ظل خوف كبير، ومات العديد من أولادنا في حملات النظام ضدنا. ونحن لم نكن نعمل في السياسة.. كنا فلاحين وصيادين وهم كانوا يريدون قتل الحياة، وفعلاً حصل لهم ذلك، وأصبحنا بين لحظة وضحاها بلا أسماك وبلا طيور، ونامت الزوارق حزينة فوق الطين وأصبح الصيادون يذهبون إلى المدينة لغرض شراء الأسماك، فالطيور لم تعد تصل إلينا". ويضيف: "تصوّر أن أرض الأهوار الجميلة أصبحت مشققة وتخرج منها أبخرة غريبة وخانقة وقالوا لنا لا تخافوا إنها حرارة النفط المتواجد بكثرة في أعماق الأرض.. إن تلك الأيام هي أيام الموت الحقيقي. مواطن آخر من سكان الأهوار اسمه عواد حميد تحدث عن معاناته فقال: "نحن كنا من رعاة الجواميس والتي كانت منتشية بسبب تواجد المياه وحين اختفت هزلت أجساد الجواميس وأصيبت بأمراض مختلفة، مما اضطرنا الى بيعها وشراء الأغنام. لقد تغيّرت حياتنا بين ليلة وأخرى وانتشرت بين السكان أمراض التيفوئيد والحمى السوداء والتهاب الكبد الفايروسي والتدرن". وذكر مواطن آخر اسمه رسن خاجي أن تجفيف الأهوار أسهم في تهجير أغلب سكان تلك المناطق الى المدن الصغير المحيطة بها وهذا الحل حرم العديد من السكان من ممارسة حياتهم وفق مايريدون..".
إعادة إنعاش الأهوار
وكان برنامج الأمم المتحدة للبيئة ((UNEP والبنك الدولي مشروعاً لتقييم الاحتياجات لإعادة إعمار العراق واعتبار مسألة الاهوار إحدى الكوارث البيئية التي يعانيها العراق. ففي عام 2001، قام البرنامج بتنبيه المجتمع الدولي حول تدمير الأهوار عندما قام بنشر صور الأقمار الصناعية التي توضح فقدان 90% من مساحة منطقة الأهوار. وقد أشار الخبراء حينها إلى أن الاهوار قد تختفي نهائياً من العراق في غضون خمس سنوات، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة بهذا الشأن. ومع انهيار نظام صدام حسين في العام 2003، قام السكان المحليون بفتح بوابات السدود وكسر الخزانات لإعادة تدفق المياه إلى الأهوار.
وقد قام برنامج الأمم المتحدة بتحليل صور الأقمار الاصطناعية عام 2003 التي أشارت إلى أن بعض المناطق الجافة سابقاً قد تم ّ غمرها بالماء مجدداً وقد ساعد على ذلك المناخ الرطب. وفي نيسان/أبريل 2004 كان قد تم ّ غمر حوالي 20 في المئة من المساحة الأصلية للأهوار، مقارنة بـ5 ــ 7 في المئة في العام 2003. وتوضح صور الأقمار الصناعية التي تم تحليلها أن عمليات إعادة الاغمار مستمرة مع ملاحظة تغيّرات موسمية في مستوى الإغمار. وقد طوّرت بعض الحكومات المتبرعة مثل الولايات المتحدة وإيطاليا خططاً رائدة لإحياء مناطق الأهوار، بحيث يتم إعادة غمرها وإحيائها بشكل فعال. ويعتبر الحجم النهائي للمنطقة التي ستعاد إلى حالتها الأصلية ومواصفاتها البيئية أمراً غير مؤكد حتى الآن.
وقد بدأ مشروع "دعم الإدارة البيئية لأهوار العراق" الذي ينفذه برنامج الأمم المتحدة للبيئة في آب/أغسطس 2004، كاستجابة للطلب العراقي باعتبار مشروع تأهيل الأهوار على أسس بيئية صحيحة كأولوية في مشاريع إعادة الإعمار. ويهدف المشروع الى استعادة الأهوار وإدارتها، وذلك عن طريق: تسهيل إنشاء استراتيجية مناسبة، مراقبة حالة الأهوار، تطوير إمكانات جهات صنع القرار العراقية، توفير المعلجة المناسبة للمياه، وتوفير الأطر العامة لسياسات إدارة المسطحات المائية. وقد تم تمويل المرحلة الأولى من المشروع (2004) من قبل الأمم المتحدة والحكومة اليابانية. وفي عام 2006 حصل توسيع المشروع ليتم دعمه بتمويل ثنائي الجانب من الحكومة اليابانية والحكومة الإيطالية، ووعدت الحكومة اليابانية باستمرار تمويل المرحلة الثالثة من المشروع (2007 - 2008).
وتعاني المنطقة من رداءة نوعية المياه لأسباب متعددة هي: التلوّث بمياه الصرف الصحي، ارتفاع نسبة الملوحة، التلوّث بالمبيدات الحشرية، التلوّث بالمخلفات الصناعية القادمة من أعالي الأنهار. وسبّب هذه المشكلات قلة كميات المياه الداخلة للأهوار، إضافة الى ضعف في إدارة نوعية المياه ومعالجة مياه الصرف. وقامت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بإجراء مسح صحي عام حيث اتضح أن الماء الصالح للشرب هو من أشد الاحتياجات الحالية للمواطنين. إذ لا يمتلك معظم معظم السكان خياراً سوى شرب الماء غير المعالج وغير المنقى من الأهوار مباشرةً.
وقد أكدت المباحثات التي أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة مع ممثلين عن السكان ومسؤولين في المحافظات المعنية أن توفير الماء الصالح للشرب هو الأولوية الأولى بالنسبة للسكان.
لقد دمر النظام السابق أهم معالم بقايا الحضارة السومرية خصوصاً أن البحوث التاريخية والآثرية تشير الى أن هذه المنطقة هي المكان الذي ظهرت فيه ملامح السومريين وحضاراتهم. والجدير ذكره أن ملك العراق فيصل الأول قد عرض عليه خلال عهده مشروع تجفيف الأهوار فرد قائلا: "لا عراق من دون أهوار".
16 أيار / مايو 2011
الأهوار بقعة جميلة وساحرة من جنوب العراق، تُمثّل الماضي والحاضر وتحكي قصة حضارة بلاد ما بين النهرين التي كتبت حروفها بكل قصبة نبتت على ضفاف نهري دجلة والفرات. ارتبطت الأهوار بالحكمة السومرية الشهيرة التي تقول "حيثما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود". هذه الحكمة التي بقيت شاهدة على أصالة تلك الأرض وجريان مياهها وغابات نخيلها والقصب والبردي.. وقد تجلّى الإبداع الإلهي في منطقة الأهوار في صور ناصعة في جماليات الأرض والمياه والسماء.. وقد أطلق المستشرقون على هذه المنطقة، التي أحبّوها وألهمتهم لكتابة روايات وقصائد وكتب، تسمية "جنة الله على الأرض".
وأكد الكثير من الباحثين بأن مجتمع الأهوار هو امتداد للمجتمع السومري القديم، وذلك استناداً إلى دراسات علمية وتاريخية أثبتت الشبه الكبير بين كلا المجتمعين.
تعتبر مناطق الأهوار العراقية أكبر نظام بيئي من نوعه في الشرق الأوسط وغربي آسيا. وتبلغ مساحة هذا المستنقع المائي الشاسع نحو 16 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة لبنان. وتمتد الأهوار بين ثلاث محافظات جنوبية هي العمارة، والناصرية، والبصرة. وهي جزء لا يتجزأ من طرق عبور الطيور المهاجرة ما بين القارات، ودعم أنواع الحيوانات المهددة بالانقراض، واستمرارية مناطق صيد أسماك المياه العذبة، وكذلك النظام البيئي البحري في الخليج. وإضافة إلى أهميتها البيئية، تعتبر مناطق الأهوار تراثاً إنسانياً لا نظير له، وقد كانت موطناً للسكان الأصليين منذ آلاف السنين. وقد قدّر الباحث غافن يونغ عمر هذا المجتمع بخمسة آلاف سنة. وكانت منطقة الأهوار حاضنة للكثير من المعارضين للأنظمة السياسية على امتداد تاريخ البلاد، وذلك لوجود متاهات عديدة تخفي مئات الأفراد، ومنها انطلقت العديد من الثورات.
وتذكر إحصائيات أن عدد سكان الأهوار كان في بداية سبعينيات القرن الماضي يقدر بنصف مليون نسمة ينتشرون على مسطح مائي يصل الى 20 ألف كيلو متر مربع، هو عبارة عن سلسلة من المستنقعات والبحيرات المتداخلة تمتد بين مدن العمارة والناصرية والبصرة تسكنها عشائر مختلفة في العادات واللهجات. وكان سكان الأهوار في سنوات متأخرة من الفتح الإسلامي يتكلمون اللغة الآرامية.
الثروات الطبيعية والحيوانية
تحوي منطقة الأهوار على موارد طبيعية وثروات حيوانية نادرة الأنواع من طيور وأسماك وجواميس، فبالنسبة للجواميس كانت تصل أعدادها في بداية تسعينيات القرن الماضي بحدود 200 ألف رأس ليتناقص العدد ويصل إلى 130 ألف رأس لتؤشر نسبة الانخفاض بـ35 بالمئة. ويتميز الجاموس بإنتاجية عالية من الحليب الدسم الذي يدخل في صناعة الألبان، والنقص الحاصل في أعداد الجواميس جاء نتيجة الهجرة القسرية وقلة المواد العلفية أو الرعاية البيطرية، أو تعرّضها للجفاف نتيجة تجفيف الأهوار.
وأسفل المسطحات المائية يوجد احتياط نفطي يقدر بـ30 مليار برميل من النفط الخام. ويحصل سكان هذه المناطق على غذائهم من حقول الرز الكبيرة التي كانوا يزرعونها والجواميس التي توفر لهم الحليب ومشتقاته. وكذلك يحصلون على الأسماك والطيور من المستنقعات المحيطة بهم وهذا ما جعلهم ينعزلون عن المجتمعات المدنية.
ويقول تقرير لبرنامج الأمم المتحدة البيئي المهتم بإعادة تأهيل الأهوار: "في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، كانت مناطق الأهوار تتألف من مجموعة بحيرات وأراضي طينية وأراضي مستنقعية متصلة مع بعضها، في الجزء الأدنى من حوض دجلة والفرات، وتمتد على مساحة أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع من العراق وإيران. وقد سبـّب إنشاء السدود العالية انخفاضاً في انسياب المياه وأوقف التدفقات التي كانت تغذي أراضي الأهوار في الحوض الأسفل، مما زاد في تركيز التلوّث. وبحلول العام 2000 كان أكثر من 90 في المئة من المنطقة قد جفّ وظهرت طبقات من الملح أساءت إلى النظام الطبيعي، ومما أسرع في ذلك، إنشاء كثير من مشاريع تصريف المياه. وبناء على المعدل السريع للتدهور ظهرت إمكانية اختفاء الأهوار كلياً في منتصف السنوات 2000".
فكيف دمّرت هذه المنطقة البيئية والتراثية والزراعية ودمّر حيوات وأرزاق سكانها وهجّر عشرات الألوف منهم، وذلك عبر تجفيف مياهها وقتل كل أشكال الحياة فيها؟
تجفيف الأهوار
لم يتردد نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في تدمير مصادر الثروة المائية للأهوار حيث قام مبكراً (منذ العام 1985) بخطوات لتجفيفها، كمقدمة لمشروع أكبر أدى الى تدمير هذا المستنقع المائي الشاسع. فقد كشف الدكتور جيمس يراز نكتون، الأستاذ في قسم الجغرافيا في جامعة كامبريدج البريطانية، عن قيام السلطات العراقية بأعمال هندسية لتجفيف ما تبقى من مياه أهوار الحويزة المتاخمة للحدود العراقية - الإيرانية في العام 1985.
وبعد قمع الانتفاضة الشعبية في جميع المحافظات العراقية في العام 1991 والتي زعزعت النظام أنذاك، بقيت الأهوار منتفضة بسبب صعوبة وصول القوات العسكرية للنظام إليها.. ولاحقاً تمكنت قوات السلطة من قمع المنتفضين فيها من خلال مروحيات الهليكوبتر.
وبعد ذلك، شرع النظام العراقي بوضع خطة محكمة لتجفيف الأهوار، فشقت قناة في منطقة الفرات أطلق عليها تسمية "أم المعارك"، تمتد الى أكثر من مئة ميل حول الأهوار الأصلية في الناصرية. وعند أعلى نهر أم المعارك تم تحويل مليارات الغالونات من مياه الفرات في قناة أخرى تصب وسط الصحراء. وفي العمارة تم شق قناة نهر العز وهي بعرض كيلومتر واحد، وتمتد من الأهوار الوسطية حتى مدخل مدينة القرنة في البصرة. وقد شفط هذا النهر الكبير مياه أهوار الشطانية والصيكل والصحين، وهذه الأهوار هي المغذية الرئيسية لهور الحمار وهور السناف.
كما رشت العديد من الطائرات مادة سائلة أسهمت في موت النباتات أنذاك. كذلك ببناء سدود وخزانات مياه عديدة وطلب من تركيا وسوريا تقليل كمية المياه القادمة من نهري دجلة والفرات إلى العراق. وهكذا بدأ يتوسّع التصحّر وشقّ الطرق الترابية لملاحقة الفارين.
وبقي هور الحويزة هو الوحيد الذي يتمتع بالحياة، لأن إمداداته المائية كانت تاتي من إيران.
وكانت محافظة ميسان (العمارة) الأكثر تضرّراً كونها تشتمل على أغلبية الأهوار في الجنوب العراقي التي تقدر بأكثر من 45 بالمئة من المنخفضات المائية لأهوار العراق.
الآثار البيئية
وهكذا تمت عملية تجفيف الأهوار التي سبّبت العديد من الكوارث البيئية وهجرة سكان هذه الأهوار ونزوحهم الى المدن التي لم يعتادوا عليها، فلم يعثروا على عمل ولا وظائف، لأن معظمهم لا يعرفون سوى مهن الصيد والزراعة وتربية المواشي.
وفي عام 2000 وزعت الإدارة الوطنية للطيران والفضاء (ناسا) في الولايات المتحدة الأميركية صوراً تؤكد تجفيف 90 في المئة من أهوار العراق، وقالت إن ذلك أكبر كارثة بيئية في العالم. وقال مدير برنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس تويفر: "إن التدمير شبه الكامل للأهوار العراقية في ظل نظام صدام حسين كان كارثة إنسانية وبيئية كبرى حرمت عرب الأهوار من ثقافة عمرها قرون". وأظهرت الصور الفضائية خطوات تجفيف الأهوار في جنوب العراق التي حوّلت مجرى نهر الفرات وروافده ما يعني منعه من تغذية الأهوار من جهة، والتأثير على منسوب مياه شط العرب من جهة أخرى.
فقد أدى تجفيف الأهوار الى تعريض المناخ البيئي لعوامل سلبية أثرت على معدلات الحرارة والرطوبة، إذ كان هذا المسطح المائي الواسع يساهم في تخفيف أثر الرياح التي تهب من المناطق الجنوبية والشرقية، وبذلك فقد المناخ العراقي عاملاً بيئياً مهماً يساهم في منع زيادة حرارة الصيف المرتفعة، ومنع زيادة مساحات التصحّر في المناطق المجاورة. والطيور التي وجدت في الأهوار هي الأخرى لم تسلم من الآثار السلبية لتجفيفها. وكانت أعداد الطيور قبل التجفيف نحو 18 ألف طير، وبعد فترة التجفيف تناقصت أعداد الطيور الى خمسة آلاف طير.
وإضافة إلى الأضرار البيئية التي قلــّصت إمكانيات المعيشة والحياة في هذه المنطقة، فإن سكان الأهوار عانوا موجات من التهجير ضمن حملات النظام السابق في التسعينيات. كذلك أصبح العديد من السكان عاطلين عن العمل بسبب أن الصيد كان يمثل مهنة وتجارة لهم. كما كانت منطقة الأهوار توفّر فرصاً سانحة للاستثمار الزراعي، خاصة ما تمتلكه من عوامل مناخية مساعدة على نجاح زراعة محاصيل حيوية تدخل في الاستهلاك المحلي، مثل مادة الأرز.
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية
وواكبت هذه التداعيات البيئية التغيّر الكامل لديموغرافيا السكان من التهجير القسري أو الهجرة الداخلية التي كسرت نمط حياة اجتماعية كانت لها امتدادات تاريخية طويلة، فسكان الأهوار امتازوا بخصوصيات اجتماعية ميّزتهم عن غيرهم من سكان العراق، فهم يعيشون قرب الماء ويمثل السمك غذاءهم الرئيس، ويعتمدون على الزواج الداخلي الذي يؤمن استمرار وجودهم الاجتماعي، وبالتالي تصبح القرابة/العشيرة هي الرابطة الأساس في حياتهم.
وفي العام 2003 ــ 2004 أشارت التقديرات إلى أن ما بين 85 ألف و100 ألف من عرب الأهوار كانوا يقيمون ضمن وحول ما تبقى من مناطقهم الأصلية، بما فيهم أقل من 10 في المئة يعيشون على الطريقة التقليدية. بينما بقي بين 100 ألف و200 الف منهم مهجرين داخلياً ضمن العراق، وحوالي 100 ألف يعيشون كلاجئين خارج العراق، خصوصاً في إيران. وتعيش أيضاً في المنطقة أقليات أخرى غير عرب الأهوار.
ويروي مرود حسون ( 45 عاماً) وهو أحد سكان الاهوار عن تلك الفترة فيقول: "لقد عشنا تحت ظل خوف كبير، ومات العديد من أولادنا في حملات النظام ضدنا. ونحن لم نكن نعمل في السياسة.. كنا فلاحين وصيادين وهم كانوا يريدون قتل الحياة، وفعلاً حصل لهم ذلك، وأصبحنا بين لحظة وضحاها بلا أسماك وبلا طيور، ونامت الزوارق حزينة فوق الطين وأصبح الصيادون يذهبون إلى المدينة لغرض شراء الأسماك، فالطيور لم تعد تصل إلينا". ويضيف: "تصوّر أن أرض الأهوار الجميلة أصبحت مشققة وتخرج منها أبخرة غريبة وخانقة وقالوا لنا لا تخافوا إنها حرارة النفط المتواجد بكثرة في أعماق الأرض.. إن تلك الأيام هي أيام الموت الحقيقي. مواطن آخر من سكان الأهوار اسمه عواد حميد تحدث عن معاناته فقال: "نحن كنا من رعاة الجواميس والتي كانت منتشية بسبب تواجد المياه وحين اختفت هزلت أجساد الجواميس وأصيبت بأمراض مختلفة، مما اضطرنا الى بيعها وشراء الأغنام. لقد تغيّرت حياتنا بين ليلة وأخرى وانتشرت بين السكان أمراض التيفوئيد والحمى السوداء والتهاب الكبد الفايروسي والتدرن". وذكر مواطن آخر اسمه رسن خاجي أن تجفيف الأهوار أسهم في تهجير أغلب سكان تلك المناطق الى المدن الصغير المحيطة بها وهذا الحل حرم العديد من السكان من ممارسة حياتهم وفق مايريدون..".
إعادة إنعاش الأهوار
وكان برنامج الأمم المتحدة للبيئة ((UNEP والبنك الدولي مشروعاً لتقييم الاحتياجات لإعادة إعمار العراق واعتبار مسألة الاهوار إحدى الكوارث البيئية التي يعانيها العراق. ففي عام 2001، قام البرنامج بتنبيه المجتمع الدولي حول تدمير الأهوار عندما قام بنشر صور الأقمار الصناعية التي توضح فقدان 90% من مساحة منطقة الأهوار. وقد أشار الخبراء حينها إلى أن الاهوار قد تختفي نهائياً من العراق في غضون خمس سنوات، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة بهذا الشأن. ومع انهيار نظام صدام حسين في العام 2003، قام السكان المحليون بفتح بوابات السدود وكسر الخزانات لإعادة تدفق المياه إلى الأهوار.
وقد قام برنامج الأمم المتحدة بتحليل صور الأقمار الاصطناعية عام 2003 التي أشارت إلى أن بعض المناطق الجافة سابقاً قد تم ّ غمرها بالماء مجدداً وقد ساعد على ذلك المناخ الرطب. وفي نيسان/أبريل 2004 كان قد تم ّ غمر حوالي 20 في المئة من المساحة الأصلية للأهوار، مقارنة بـ5 ــ 7 في المئة في العام 2003. وتوضح صور الأقمار الصناعية التي تم تحليلها أن عمليات إعادة الاغمار مستمرة مع ملاحظة تغيّرات موسمية في مستوى الإغمار. وقد طوّرت بعض الحكومات المتبرعة مثل الولايات المتحدة وإيطاليا خططاً رائدة لإحياء مناطق الأهوار، بحيث يتم إعادة غمرها وإحيائها بشكل فعال. ويعتبر الحجم النهائي للمنطقة التي ستعاد إلى حالتها الأصلية ومواصفاتها البيئية أمراً غير مؤكد حتى الآن.
وقد بدأ مشروع "دعم الإدارة البيئية لأهوار العراق" الذي ينفذه برنامج الأمم المتحدة للبيئة في آب/أغسطس 2004، كاستجابة للطلب العراقي باعتبار مشروع تأهيل الأهوار على أسس بيئية صحيحة كأولوية في مشاريع إعادة الإعمار. ويهدف المشروع الى استعادة الأهوار وإدارتها، وذلك عن طريق: تسهيل إنشاء استراتيجية مناسبة، مراقبة حالة الأهوار، تطوير إمكانات جهات صنع القرار العراقية، توفير المعلجة المناسبة للمياه، وتوفير الأطر العامة لسياسات إدارة المسطحات المائية. وقد تم تمويل المرحلة الأولى من المشروع (2004) من قبل الأمم المتحدة والحكومة اليابانية. وفي عام 2006 حصل توسيع المشروع ليتم دعمه بتمويل ثنائي الجانب من الحكومة اليابانية والحكومة الإيطالية، ووعدت الحكومة اليابانية باستمرار تمويل المرحلة الثالثة من المشروع (2007 - 2008).
وتعاني المنطقة من رداءة نوعية المياه لأسباب متعددة هي: التلوّث بمياه الصرف الصحي، ارتفاع نسبة الملوحة، التلوّث بالمبيدات الحشرية، التلوّث بالمخلفات الصناعية القادمة من أعالي الأنهار. وسبّب هذه المشكلات قلة كميات المياه الداخلة للأهوار، إضافة الى ضعف في إدارة نوعية المياه ومعالجة مياه الصرف. وقامت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بإجراء مسح صحي عام حيث اتضح أن الماء الصالح للشرب هو من أشد الاحتياجات الحالية للمواطنين. إذ لا يمتلك معظم معظم السكان خياراً سوى شرب الماء غير المعالج وغير المنقى من الأهوار مباشرةً.
وقد أكدت المباحثات التي أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة مع ممثلين عن السكان ومسؤولين في المحافظات المعنية أن توفير الماء الصالح للشرب هو الأولوية الأولى بالنسبة للسكان.
لقد دمر النظام السابق أهم معالم بقايا الحضارة السومرية خصوصاً أن البحوث التاريخية والآثرية تشير الى أن هذه المنطقة هي المكان الذي ظهرت فيه ملامح السومريين وحضاراتهم. والجدير ذكره أن ملك العراق فيصل الأول قد عرض عليه خلال عهده مشروع تجفيف الأهوار فرد قائلا: "لا عراق من دون أهوار".
Comments
Post a Comment