المكوّن الاقتصادي في الموقع الإيراني هيثم مزاحم

المكوّن الاقتصادي في الموقع الإيراني هيثم مزاحم


مراجعة كتاب: قوى الثروة: نهضة الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي


المؤلف: ولي نصر.

عرض: د. هيثم مزاحم.

الناشر: دار الكتاب العربي.

سنة النشر: 2009.




أكثر ما يكون نفوذ إيران واسعاً هو حيث تكون تجارتها، ومجال نفوذها المؤكّد أقرب جغرافياً إلى إيران نفسها، ويمتدّ على شكل قوس من آسيا الوسطى إلى الخليج العربي وجنوب العراق.

"ولي نصر" هو باحث أميركي من أصل إيراني يعمل ككبير مستشاري ريتشارد هولبرك الممثل الخاص لوزارة الخارجية الأميركية في أفغانستان وباكستان. وهو أيضاً باحث في مجلس العلاقات الخارجية التابع للكونغرس الأميركي. اشتهر بكتابه "صعود الشيعة" الصادر قبل سنوات. كتابه الجديد "قوى الثروة: نهضة الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي" (Forces of Fortune الصادر في العام 2009 والذي تُرجم إلى العربية ونشر قبل شهرين- دار الكتاب العربي- بيروت- 2011).

في الجانب المتعلّق بإيران في الكتاب نجد أنّ الاقتصاد الإيراني يحتلّ المرتبة 151 بين أكثر الاقتصادات عزلة في العالم (من أصل 160 دولة) والمرتبة السادسة عشرة بين أكثر الاقتصادات عزلة في الشرق الأوسط (من أصل 17). وتفتقر مساعي إيران لإحراز نفوذ إقليمي إلى دعامة اقتصادية، وهذا ما يجعل تقدير قوة إيران الإقليمية بدقّة أمراً في غاية الصعوبة، لأنّ قوة الإكراه ليست الوسيلة الأفضل للتوصّل إلى النفوذ الواسع.

ويرى نصر أنّ أكثر ما يكون نفوذ إيران واسعاً هو حيث تكون تجارتها، أي حيث تدعم ذلك النفوذ علاقات اقتصادية وتجارية، وفي حين نجد لإيران روابط متينة بحزب الله اللبناني وحلفاً متواصلاً مع سوريا، فإنّ مجال نفوذها المؤكّد أقرب جغرافياً إلى إيران نفسها، وهو يمتدّ على شكل قوس من آسيا الوسطى في الشمال والغرب، نزولاً عبر أفغانستان، وصولاً إلى الخليج العربي وجنوب العراق في الجنوب والغرب. كتب الباحث روبرت كابلان في مجلة "أتلانتك" يقول: "إذا ذهبت إلى آسيا الوسطى في أيامنا هذه، تشعر كأنك في إيران الكبرى". فهذه المنطقة بالذات هي مسرح تجارة إيران الإقليمية حيث تبيع المنتجات الزراعية والكهرباء والغاز الطبيعي وحتى السلع المصنّعة. في العام 2008 ارتفع حجم التجارة بين إيران وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، تركمنستان، وأوزبكستان) وتجاوز المليار دولار مقارنة بـ580 مليون دولار في العام 2001.

كما يتمّ التداول بالريال الإيراني بسهولة في تلك البلاد كأنه عملة محلّية. كذلك فإنّ حجم تجارة إيران مع أفغانستان يوازي رقماً مماثلاً، فيما فاق حجم التجارة مع العراق الأربعة مليارات دولار في العام 2008. وبلغ حجم التجارة مع دولة الإمارات العربية المتحدة 14 مليار دولار، وهو رقم لا يشمل كلّ حركة السوق السوداء النشطة عبر الخليج.

ولإيران مصلحة حيوية في هذه الحركة التجارية، والنظام الإسلامي قد أنشأ مع البلدان المذكورة ارتباطات مصرفية ومالية واستثمر في مشاريع البنى التحتية فيها من طرق وسكك حديد وأرصفة موانئ وخطوط وأنابيب وأبراج أسلاك الكهرباء. وازدهرت جميع أنواع الأعمال في هذه البلدان نتيجة لازدهار هذه التجارة.

ويشير الكاتب إلى أنّ إيران مؤهّلة من مختلف النواحي كي تصبح قطباً اقتصادياً يدفع بالنمو صعوداً في المنطقة، فعدد سكّانها البالغ سبعين مليون نسمة يوازي تقريباً حجم سكان تركيا، وفيها احتياطات نفط وغاز، إضافة إلى قاعدة اقتصادية متينة، بالمقاييس الإقليمية. وأجور اليد العاملة زهيدة، مع أنّ نسبة المتعلّمين مرتفعة وتتجاوز الـ75%. وفضلاً عن ازدهار الفنون وصناعة السينما، فإنّ الإيرانيين يتميّزون في براعتهم باستخدام الهاتف المحمول والإنترنت، إذ سجّلت إيران أعلى رقم في العالم من حيث مستخدمي المدوّنات الالكترونية نسبةً لعدد سكّانها، كما أنَّ ثلثي سكانها يستخدمون الهاتف المحمول. والإيرانيون ماهرون في النواحي التقنية، فالجامعة التقنية الأولى في البلاد هي جامعة شريف الصناعية تخرّج مهندسين وعلماء ذوي مستوى عالمي، تقبلهم جامعة ستانفورد الأميركية لمتابعة دروسهم العالية بيسر شديد.

لكن إيران تعاني من تضخّم يتجاوز معدل 10 في المائة ومن نسبة بطالة تطول حوالى ربع القوة العاملة. وليست المشكلة في نقص مشاريع الأعمال أو الإمكانات الأساسية، ففي إيران قطاع خاص ديناميكي تتوافر له الطبقة الوسطى التي يمكن أن تحركه. ونحو نصف سكان إيران هم من الطبقة الوسطى وما فوق. لكن المشكلة تكمن في أنّ القطاع الخاص في إيران تكبّله دولة فاسدة وعديمة الكفاءة تسيطر على 80 في المائة من الاقتصاد.

كان هذا الركود الاقتصادي من أهم بواعث المعارضة الشديدة لأحمدي نجاد في الانتخابات الأخيرة. وما ينبغي الانتباه له في السنوات الأربع المقبلة هو القطاع الخاص والطبقة الوسطى المرتبطة به، وهي الطبقة نفسها التي دفعت الملايين في أعقاب انتخابات حزيران 2009 إلى السؤال "أين صوتنا؟". والمعركة الكبرى لاستعادة جوهر إيران ـ لا بل جوهر المنطقة ككلّ ــ لن تدور حول الدين وإنما حول التجارة والرأسمالية. والسؤال المطروح هو: هل ستحرّر الدولة الاقتصاد وتسمح لهذا المجتمع الحيوي بتحقيق غاية إمكاناته؟



إنّ الناتج المحلّي الإجمالي في إيران يوازي تقريباً الناتج المحلّي الإجمالي في ولاية ماساتشوستس، ولا يتعدّى إنفاقها العسكري السنوي ستة مليارات دولار، وهو أقلّ من ثلث النفقات العسكرية السعودية البالغة 21 مليار دولار سنوياً وما يقارب نصف الإنفاق العسكري في تركيا أو إسرائيل. كانت نفقات إيران العسكرية، قبل الثورة، تصل إلى 18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أما اليوم فهي لا تتعدّى الثلاثة في المائة. وعليه، كيف ستستطيع إيران مواجهة الولايات المتحدة والادّعاء أنّها دولة كبرى؟

وحتى في حال امتلاك إيران القدرة النووية، فإنّها لن تحقّق المكانة التي تصبو إليها. وإذا أخذنا مثال الهند وباكستان، فإنهما قد بدأتا الخطوات الأولى في الدرب النووي في سبعينيات القرن العشرين. غير أنّ الهند فقط هي التي برزت كدولة كبرى إقليمية في التسعينيات، وليس بفضل الأسلحة النووية، بل بفضل معدّلات نموها الاقتصادي وانفتاحها على الأسواق الحرّة ومقدرتها على الاندماج في الاقتصاد العالمي.

يخلص الباحث إلى أنّ التركيبة الإيرانية المكوّنة من الدين والسياسة والاقتصاد، والتي تمتزج فيها "الأصولية الدينية الشيعية مع جرعة كبيرة من الصراع الطبقي وكره الرأسمالية"، قد أدّت إلى تدهور البلاد إلى الحضيض. وعندما استنفدت الحكومة جميع الخيارات في بدايات تسعينيات القرن الماضي، سعى الرئيس هاشمي رفسنجاني حينها بحذر إلى إعادة الحياة إلى القطاع الخاص. وتسارعت هذه الجهود بعد انتخاب الرئيس خاتمي عام 1997 وبدأ رأس المال الأجنبي بالاستثمار في إيران. لكن تبيّن لاحقاً أنّ القيادة الإيرانية لا تتحمّل الواقع الجديد، فقامت بالانقلاب على الحركة الإصلاحية. وهنا يضع نصر المسؤولية على كاهل خامنئي الذي دعا قوات الحرس الثوري إلى كبح مسيرة الإصلاح الاجتماعي والمحافظة على التحالف بين رجال الدين وزمرة السياسيين الذين أنجبتهم الثورة.

وأدّى انتخاب الرئيس الشعبوي محمود أحمدي نجاد عام 2005 ـ بدعم من خامنئي ــ إلى تعزيز الجهد المضادّ للإصلاح وتوجيه ضربة قوية إلى الآمال الطامحة بتحقيق انفتاح اقتصادي أكبر. ولكن انفتاحاً من نوع آخر حصل بعد ذلك، حيث انفتحت خزائن الدولة لتضخّ عشرات المليارات من الدولارات على شكل إعانات، ومكافآت نقدية، وحملة بناء مدعومة حكومياً، فكان أن ارتاحت لذلك الطبقة الدنيا، وتهدّمت أركان الطبقة الوسطى.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم

آية الله الشيخ حسن رميتي: نؤيد التخصص في الدراسة الحوزوية