صعود قوى الثروة - كتاب ولي نصر
قراءة: هيثم مزاحم
ولي نصر هو باحث أميركي من أصل إيراني يعمل ككبير
مستشاري ريتشارد هولبرك الممثل الخاص لوزارة الخارجية الأميركية في
أفغانستان وباكستان. وهو أيضاً باحث في مجلس العلاقات الخارجية التابع
للكونغرس الأميركي. وهو كذلك أستاذ السياسة العالمية في كلية القانون
والدبلوماسية في جامعة تافتس الأميركية. وهو حائز على الدكتوراه في العلوم
السياسية من جامعة ماساتشوتس للتكنولوجيا. وقد اشتهر بكتابه "صعود
الشيعة" الصادر قبل سنوات.
كتابه الجديد "صعود قوى الثروة" الصادر في العام 2009 والذي ترجم إلى العربية ونشر قبل أسابيع يقدم نظرية جديدة لفهم الشرق الأوسط وأسباب عدم نهوضه وتحوله إلى الرأسمالية والديموقراطية وغرقه بين الأنظمة الاستبدادية والحركات الأصولية المتطرفة. لكنه كما وصفه الكاتب الأميركي الشهير فريد زكريا، رئيس تحرير مجلة "نيوزويك" "دليل رائع عن عالم الشرق الأوسط البالغ التعقيد.. يتحدث عن الدلائل الواعدة التي تبشر بها الشعوب، لا الحكومات، فنهضة الأعمال والرأسمالية والحياة التجارية هي أهم العوامل التي يمكن أن تقف في وجه التطرف الديني البغيض". والكتاب ـ على حد تعبير الكاتب والتر إيزاكسزن، مؤلف كتاب "سيرة كيسنجر" ورئيس معهد آسبن ـ يساعدنا في "فهم قوة التجارة الإيجابية في العالم الإسلامي. وهو يثبت لنا أن الاقتصادات النامية وطبقات العاملين في النجارة ستكون العامل الحاسم، بدلاً من الإيديولوجيات المتطرفة، في تحديد مسار الشرق الأوسط وتفاعله مع بقية العالم. إنه كتاب مفيد جداً يجمع بين التحليل التاريخي وتقرير الوقائع بعين نافذة". ويرى الكاتب الأميركي الشهير روبرت د. كابلان أن الكتاب يقدم نظرية جديدة "منطقية" حول بروز الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي، ويدعو الخبراء والباحثين إلى الأخذ بهذه النظرية. بينما يعتبر الكاتب الأميركي جون لي آندرسون أن كتاب ولي النصر يبرهن في أسلوبه المشرق أن التجارة الحرة، لا العقوبات، هي المفتاح لنهضة الديموقراطية في العالم الإسلامي". شهادة أخيرة في الكتاب لمسؤول حكومي أميركي سابق والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، لزلي ه غيلب، يقول فيها: "فلنوقف رهان أميركا على الألاعيب الدبلوماسية والبيانات الكلامية ــ وهذه من نقاط ضعفنا ـ ولنستخدم مصدر قوتنا الحقيقية، أي مساعدة الشرق الأوسط والدول الإسلامية لتحقيق النمو الاقتصادي. بهذه الطريقة يمكن، في نهاية المطاف، الانتصار على الإرهاب، وبناء الطبقات الوسطى، والتحلل من ارتباطاتنا بالدكتاتوريين العرب، وتطوير الديموقراطيات. هذه هي الفكرة المميزة التي ينقلها إلينا ولي نصر. إنها السبيل الوحيد لإخراج سياسة الولايات المتحدة الخارجية من الهاوية". ولعل الشهادة الأخيرة تتضمن توصيفاً لواقع الحال في الشرق الأوسط في الوقت الراهن، فيما يجري في كل من تونس ومصر من انتفاضة شعبية على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلدين وانتشار الفساد وسيادة الاستبداد فيهما، بينما كانت الإدارة الأميركية تهادن النظامين الدكتاتوريين والفاسدين حتى سقوط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من جهة، وحتى حانت لحظة الحقيقة بالنسبة لنظام الرئيس المصري حسني مبارك بعدما عمت الفوضى وعمليات السلبوالنهب والحرق في مختلف أنحاء مصر، ليقوم ببعض التغييرات في السلطة من تعيين من نائب للرئيس، للمرة الأولى منذ تسلمه الحكم قبل ثلاثين سنة، وليقيل الحكومة ويشكل حكومة جديدة يتولى رئاستها وأهم حقائبها ضباط كبار في الجيش. في المقابل بدت الإدارة الأميركية عاجزة ومرتبكة أمام المشهدين التونسي والمصري، فأيدت انتفاضة الشعب بعد فرار حبيفها الرئيس بن علي، وضغطت على حليفها الأبرز والأقدم حسني مبارك لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية بعدما بدا نظامه في خطر شديد أمام انتفاضة شعبية عارمة يقودها الشباب العاطلون عن العمل والفقراء والمحرومون، وليس الأحزاب السياسية ولا الحركات الإسلامية الأصولية. لا شك أن معظم كتاب "قوى الثروة" لولي نصر قد كتب أثناء حقبة الحماس من قصة "معجزة دبي". لكنه استكمل وأنجز بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً على إمارة دبي، وما شهدناه من انفجار الفقاعة العقارية في دبي. قوة التجارة واللافت أن الكتاب من دون مقدمة أو تمهيد. يبدأ الفصل الأول، وهو بعنوان "قوة التجارة"، بالتغيرات التي شهدها العالم الإسلامي فجأة، ففي فترة قصيرة لا تتعدى 32 شهراً بين عودة آية الله الخميني إلى إيران في الأول من شباط/فبراير 1979 واغتيال الرئيس المصري أنور السادات في القاهرة في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1981. فخلال تلك الفترة المضطربة، استولت قوى الثورة الإسلامية على إيران، وأعلنت باكستان دولتها الإسلامية، وأطلق الاتحاد السوفياتي شرارة حرب جهادية بغزوه أفغانستان، واغتال الأصوليون السادات. وتوالت، منذ تلك السنوات الحاسمة، ثورات عنيفة عديدة وصدامات دامية وهجمات إرهابية وأعمال قمع دموية. وتزامن كل ذلك مع تزايد حدة المواقف الإسلامية المحافظة ومشاعر العداء لأميركا في عدد كبير من البلدان تمتد من شمال أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا. وفي خضم هذه الفترة المضطربة، بلغ التطرف أوجه، فأنبت تنظيم "القاعدة" المعروف بممارسته العنف ونظرته السوداء إلى المستقبل. وفي مقابل كل هذه التحركات ، ولمواجهة نمو حركات الإرهاب، فإن أخم أهدف أميركا في الشرق الأوسط، منذ العام 1979، كان ولا يزال احتواء الأصولية الإسلامية والتغلب عليها. وقد فرض هذا الأمر نفسه على كيفية تصنيف أميركا لحلفائها وخصومها، وعلى قراراتها بشأن المعارك التي خاضتها، وعلى آفاق اختياراتها الآيلة إلى تحقيق مصالحها، سواء أكان ذلك عن طريق دعم الإصلاح وتعزيز الديموقراطية، أم الاعتماد على الحكام الديكتاتوريين وتوسل الحلول العسكرية. ويضيف الكاتب أن أميركا أصبحت، من هذا المنطلق، تحكم على كل شيء في الشرق الأوسط من زاوية الحرب ضد الأصولية، وترى في أي مظهر أو تعبير إسلامي خطراً يهددها. لقد اعتبرت قيادة الولايات المتحدة التحدي الأصولي نمطاً جديداً من الحرب الباردة. يرى نصر أنه إذا نظرنا إلى الشرق الأوسط في حالته الراهنة وقد سيطرت عليه نزاعاته العنيفة ومشاعر العداء لأميركا وأصبح أرضاً خصباً للأفكار المتطرفة، يبدو لنا المستقبل قاتماً جداً. لكن علينا التطلع إلى المستقبل. فالنماذج السائدة اليوم قد لا تكوم مؤثرة غداً، ومن غير المفيد للأميركيين أن ينظروا إلى مستقبل علاقاتهم بالعالم الإسلامي على ضوء الصراعات القائمة اليوم فحسب. وذلك بسبب وجود قوى أخرى تتحرك في العالم الإسلامي، وهي تستحق أن توليها الإدارة الأميركية عنايتها لأنها قد تكون أكثر أهمية في نهاية المطاف. ويعطي نصر مثالاً هو تناقضات الوضع الإيراني، حيث يهيمن حكم ديني صارم على شعب يمثل قوة ناهضة تطمح إلى استعادة أمجاد ماضيها القديم، وحيث يسود شعور عام، منذ عقود عدة،بوجوب مجابهة الغرب. لكن إذا دققنا النظر في تناقضات السلطة الإيرانية والتصدعات الداخلية، التي ظهرت جلية في الانتخابات الرئاسية عام 2009، أمكننا تكوين فكرة مفيدة كمنطلق لإعادة البحث في التحديات الحقيقية والإمكانيات المتوقعة بشأن التحول في علاقات الأميركيين مع العالم الإسلامي. كان تلويح إيران الدائم بالقوة العسكرية ومواقف إدارة الرئيس جورج بوش المتشددة سبباً في صرف الانتباه عن الحقائق المهمة التي تدحض الأفكار السائدة حول الخطر الإيراني. وهي حقائق تنطوي على إمكانات فرص هائلة في أنحاء المنطقة. فالثورة الإيرانية أنبتت نزعة إسلامية متصلبة حولت العداء لأميركا إلى فعل إيمان في معظم العالم الإسلامي، وما انفك حكام إيران يدعمون الحركات الثورية بالمال والتدريب والسلاح. كما أن إيران تسعى اليوم إلى أن تصبح دولة كبرى وهي تطور برنامجاً نووياً. ومما زاد الوضع سوءاً في السنوات الأخيرة المواقف الشديدة العدائية التي اتخذتها إدارة بووش في تعاملها مع إيران، بالإضافة إلى سوء إدارتها للحرب في العراق وأفغانستان. ظل الوضع بين الولايات المتحدة وإيران، خلال السنوات الثلاثين الماضية بمعظمها، جامداً مسدوم الأفق، ولم يكن بينها علاقات دبلوماسية، كما لم يكن ثمة ما يمنع المواجهة المباشرة. كانت أميركا راضية بعزل إيران بالقدر الممكن بانتظار أن يخضع حكم رجال الدين للضغوطات الداخلية المحتومة المطالبة بالتغيير. غير أن ذلك المفهوم تبدل في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، إذ اعتقدت إدارة بوش أن بإمكانها نفض الغبار عن التاريخ. فصقور المحافظين الجدد الذين تجمعوا حول نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد استحضروا صورة دور الولايات المتحدة فيالمساعدة على رمي الشيوعية في غياهب التاريخ، فظنوا أن الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين وقيام عراق جديد ديموقراطي ومستقر نسبياً في جوار إيران، سوف يحرك الإيرانيين ويدفعهم إلى الثورة، وبالتالي يزعزع رجال الدين الحاكمين ويحبرهم على تلبية مطالب الشعب. لكن ما حدث فعلاً هو نقيض ذلك، فحين غزت القوات الأميركية العراق، اشتدت قبضة رجال الدين على الحكم في العراق. عندما قضت الولايات المتحدة على نظام حركة طالبان في أفغاسنتان في أواخر العام 2001، وأسقطت صدام حسين في العام 2003، ثم اجتثت حزب البعث من العراق، أزاحت بذلك منافسين إقليميين كانا يحدان من نفوذ إيران على جانبيها الشرقي والغربي. فمنذ أيام الشاه، كان جيش العراق العائق الأساس في وجه أهداف إيران التوسعية. أما اليوم فليس في منطقة الخليج العربي قوة عسكرية إقليمية قادرة على ردع إيران التي سارعت إلى مد نفوذها إلى المناطق \ات الأكثرية الشيعية في جنوب العراق، بعد سقوط صدام. وكانت إيران أول الدول المجاورة للعراق التي اعترفت بالحكومة الجديدة وحضت العراقيين على المشاركة في النظام السياسي الذي أقامته الولايات المتحدة. وهي تدير اليوم شبكات مخابراتية وسياسية واسعة في العراق تؤمن لها نفوذاً واسعاً في الدوائر الرسمية العراقية والمؤسسات الدينية والأوساط القبلية والإدارات الأمنية، مما يمنحها القدرة على التأثير في الانتخابات، وفي حركة التجارة، وحتى في وتيرة أعمال العنف ضد القوات الأميركية. وقد قال الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي للكاتب في العام 2007 عن مدى النفو\ الإيراني الإقليمي في المنطقة، بقوله: "لا يهم أين ستغير الولايات المتحدة الأنظمة، فإن أصدقاءنا سيصلون إلى السلطة". فتأثير طهران على الأوضاع السياسية العربية بات اليوم أقوى مما كان عليه قبل عشر سنوات، خصوصاً في المناطق الحساسة، في العراق وفلسطين ولبنان. وبسبب دعمها لحركات المقاومة لإسرائيل استفادت إيران من الإحباط العربي من تقدم عملية السلام، وأصبحت تساير الشعوب العربية أكثر من أنظمتها الدكتاتورية، حتى أن مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي أعلن بكل ثقة أنه لا يمكن حل أي مشكلة في الشرق الأوسط من دون موافقة إيران ومساهمتها. ويرى ولي نصر أن دافع إيران لانتهاج ه\ه السياسة بكل ثقة كان الارتفاع الحاد لأسعار النفط في العامين 2007 و2008، حيث تزود حكام إيران بوفرة من البترودولار، وأصبحوا قادرين على تزويد حلفائهم في لبنان وفلسطين والعراق بالمال والسلاح والتدريب. كان الحديث عم العمل العسكري ضد إيران متداولاً في إدارة بوش خلال العامين 2007 و2008، لكن الولايات المتحدة لم تستطع القيام بالأمر لانهماكها في تطورات العراق وأفغانستان، وتفاقم الأزمة السياسية في باكستان. وقد يوحي ذلك كله بأن إيران أصبحت قوة لا يمكن ردعها، لكم نصر يرى أن الوضع المضطرب مؤخراً في الجمهورية الإسلامية يدل على أن الحقيقة ليست بهذه البساطة. ما من شك في أن قوة الإكراه(القوة العسكرية والاقتصادية) لدى إيران ونفوذها قد ازدادا كثيراً، لكن إذا نظرنا إلى قوة إيران من تلك الزاوية فقط فإنها ستبدو لنا أعنف وأشد تأثيراً مما هي عليه فعلاً. يقول الباحث إن الشرق الأوسط ليس مجرد منطقة أفكار متطرفة متصارعة وجيوش ثورية متحمسة، بل إنه أيضاً منطقة اقتصادات متعثرة تحاول النهوض واقتصادات تنعم بالازدهار، وقد ظهرت في الكثير من بلدانها طبقات جديدة من نخب رجال الأعمال أخذت تشق طريقها نحو مراكز النفوذ وتساهم في تغيير نمط الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية. فالدول النامية التي سعت لتحقيق وضعية الدول الكبرى، كالبرازيل والصين والهند، لم تحرز مكانتها باستخدام قوة الإكراه وإنما بالاتخراط في جهد اقتصادي ساهم في زيادة النمو في المناطق المحيطة بها. لكن إيران ليست في هذا الوارد، فهي لم تحذُ حذو الدول المذكورة. فاقتصاد إيران يحتل المرتبة 151 بين أكثر الاقتصادات عزلة في العالم(من أصل 160 دولة) والمرتبة السادسة عشرة بين أكثر الاقتصادات عزلة في الشرق الأوسط(من أصل 17). وتفتقر مساعي إيران لإحراز نفوذ إقليمي إلى دعامة اقتصادية، وهذا ما يجعل تقدير قوة إيران الإقليمية بدقة أمراً في غاية الصعوبة، لأن قوة الإكراه ليست الوسيلة الأفضل للتوصل إلى النفوذ الواسع. ويرى نصر أن أكثر ما يكون نفوذ إيران واسعاً هو حيث تكون تجارتها، أي حيث تدعم ذلك النفوذ علاقات اقتصادية وتجارية، وفي حين نجد لإيران روابط متينة بحزب الله اللبناني وحلفاً متواصلاً مع سوريا، فإن مجال نفوذها المؤكد أقرب جغرافياً إلى إيران نفسها، وهو يمتد على شكل قوس من آسيا الوسطى في الشمال والغرب، نزولاً عبر أفغانستان، وصولاً إلى الخليج العربي وجنوب العراق في الجنوب والغرب. كتب الباحث روبرت كابلان في مجلة "أتلانتك" يقول: "إذا ذهبت إلى آسيا الوسطى في أيامنا هذه، تشعر كأنك في إيران الكبرى". فهذه المنطقة بالذات هي مسرح تجارة إيران الإقليمية حيث تبيع المنتجات الزراعية والكهرباء والغاز الطبيعي وحتى السلع المصنعة. في العام 2008 ارتفع حجم التجارة بين إيران وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس(كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، تركمنستان، وأوزبكستان) وتجاوز المليار دولار مقارنة بـ580 مليون دولار في العام 2001. كما يتم التداول بالريال الإيراني بسهولة في تلك البلاد كأنه عملة محلية. كذلك فإن حجم تجارة إيران مع أفغانستان يوازي رقماً مماثلاً، فيما فاق حجم التجارة مع العراق الأربعة مليارات دولار في العام 2008. وبلغ حجم التجارة مع دولة الإمارات العربية المتحدة 14 مليار دولار، وهو رقم لا شمل كل حركة السوق الوسداء النشطة عبر الخليج. ولإيران مصلحة حيوية في هذه الحركة التجارية، والنظام الإسلامي قد أنشأ مع البلدان المذكورة ارتباطات مصرفية ومالية واستثمر في مشاريع البنى التحتية فيها من طرق وسكك حديد وأرصفة موانئ وخطوط وأنابيب وأبراج أسلاك الكهرباء. وازدهرت جميع أنواع الأعمال في هذه البلدان نتيجة لازدهار هذه التجارة. ويشير الكاتب إلى أن إيران مؤهلة من مختلف النواحي كي تصبح قطباً اقتصادياً يدفع بالنمو صعوداً في المنطقة، فعدد سكانها البالغ سبعين مليون نسمة يوازي تقريباً حجم سكان تركيا، وفيها احتياطات نفط وغاز، إضافة إلى قاعدة اقتصادية متينة، بالمقاييس الإقليمية. وأجور اليد العاملة زهيدة، مع أن نسبة المتعلمين مرتفعة وتتجاوز الـ75%. وفضلاً عن ازدهار الفنون وصناعة السينما، فإن الإيرانيين يتميزون في براعتهم باستخدام الاهاتف المحمول والانترنت، إذ سجلت إيران أعلى رقم في العالم من حيث مستخدمي المدونات الاكلترونية نسبة لعدد سكانها، كما أن ثلثي سكانها يستخدمون الهاتف المحمول. والإيرانيون ماهرون في النواحي التقنية، فالجامعة التقنية ال,لى في البلاد هي جامعة شريف الصناعية تخرج مهندسين وعلماء ذوي نستوى عالمي، تقبلهم جامعة ستانفورد الأميركية لمتابعة دروسهم العالية بيسر شديد. كما أن البرنامج النووي الإيراني يشرف عليه خبراء تلقوا تعليمهم وتدريباتهم في إيران. كما تقوم إيران بالاستثمار في أبحاث الفضاء والتكنولوجيا الحيوية. فبنك الحب السري الإيراني، الذي أنشئ في العلم 2003، قد خصص مبلغ 2.5 مليار دولار لأبحاث الخلايا الجذعية الجنينية للتوصل إلى علاجات لعدد من الأمراض. لكن إيران تعاني من تضخم يتجاوز معدل 10 في المئة ومن نسبة بطالة تطال حوالى ربع القوة العاملة. وليست المشكلة في نقص مشاريع الأعمال أو الإمكانات الأساسية، ففي إيران قطاع خاص ديناميكي تتوافر له الطبقة الوسطى التي يمكن أن تحركم. ونحو نصف سكان إيران هم من الطبقة الوسطى وما فوق. لكن المشكلة تكمن في أن القطاع الخاص في إيران تكبله دولة فاسدة وعديمة الكفاءة تسيطر على 80 في المئة من الاقتصاد. وقد اكتسبت الدولة حجمها الحالي في أعقاب الثورة، و>لك بالتهام أجزاء واسعة من القطاع الخاص عن طريق تأميم الشركات والمصارف والصناعات، وهي تعطي أولوية للإنفاق على الفقراء أكثر من تحقيق النمو الاقتصادي، وبالتالي لا ترى غضاغة في حرمان المشاريع التجارية من الموارد وإرهاقها بالضرائب الباهظة. ليست إيران من الناحية الاقتصادية رائداً إقليمياً، بل هي متقاعس إقليمي يتخبط في أسفل دركات هيمنة الدولة الاقتصادية. وقد كان هذا الركود الاقتصادي من أهم بواعث المعارضة الشديدة لأحمدي نجاد في الانتخابات الأخيرة. وما ينبغي الانتباه له في السنوات الأربع المقبلة هو القطاع الخاص والطبقة الوسطى المرتبطة به، وهي الطبقة نفسها التي دفعت الملايين في أعقاب انتخابات حزيران/يونيو 2009 إلى السؤال "أين صوتنا؟". والمعركة الكبرى لاتسعادة جوهر إيران ـ لا بل جوهر المنطقة ككل ــ لن تدور حول الدين وإنما حول التجارة والرأسمالية. والسؤال المطروح هو: هل ستحرر الدولة الاقتصاد وتسمح لهذا المجتمع الحيوي بتحقيق غاية إمكاناته؟ لن تستطيع إيران السيطرة على المنطقة فعلاً إن لم تستدرك نفسها وتعزز نفوذها الاقتصادي، فالتوصل إلى وضعية الدولة الكبرى يقتضي ضمناً تحقيق الريادة في المجال الاقتصادي، وهو أمر بعيد عن توجهات إيران حالياً. وهذا هو الأساس في مساعي إيران الهادفة إلى تحسين قدراتهم النووية فحكامها يعتقدون أنهمبحاجة لتملك المقدرة على التهديد بالهجوم النووي أو الرد النووي لتخفيف الضغوطات الغربية باتجاه تغير النظام، والظهور بمظهر يفوق قوة إيران الفعلية. إن الناتج المحلي الإجمالي في إيران يوازي تقريباً الناتج المحلي الإجمالي في ولاية ماساتشوستس، ولا يتعدى إنفاقها العسكري السنوي ستة مليارات دولار، وهو أقل من ثلث النفقات العسكرية السعودية البالغة 21 مليار دولار سنوياً وما يقارب نصف الإنفاق العسكري في تركيا أو إسرائيل. كانت نفقات إيران العسكرية، قبل الثورة، تصل إلى 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أما اليوم فهي لا تتعدى الثلاثة في المئة. وعليه، كيف ستستطيع إيران مواجهة الولايات المتحدة والادعاء أنها دولة كبرى؟ وحتى في حال امتلاك إيران للقدرة النووية، فإنها لن تحقق المكانة التي تصبو إليها. وإذا أخذنا مثال الهند وباكستان، فإنهما قد بدأتا الخطوات الأولى في الدرب النووي في سبعينات القرن العشرين. غير أن الهند فقط هي التي برزت كدولة كبرى إقليمية في التسعينات، وليس بفضل الأسلحة النووية، بل بفضل معدلات نموها الاقتصادي وانفتاحها على الأسواق الحرة ومقدرتها على الاندماج في الاقتصاد العالمي. وإذا أرادت إيران أن تصبح دولة كبرى، فعليها تنمية اقتصادها بحيث يصبح محركاً للنمو في المنطقة. ويفترض هذا أن تتواءم مع التحول الاقتصادي النشيط الجاري في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وهو بروز طبقة وسطى جديدة ستكون المدخل إلى اندماج المنطقة في الاقتصاد العالمي وبناء علاقات أفضل مع الغرب. هذه الطبقة الوسطى الناهضة حديثاً ينبغي أن تستقطب اهتمام قيادات الولايات المتحدة وسائر الغرب لزيادة طاقاتها، بدلاً من ترك الساحة خالية أمام قوة الأصولية الوهمية لتطبع النظرة إلى المنطقة بطابعها الخاص. ويعتقد ولي نصر أن السنتين )بين 1979 و (1981اللتين هزت خلالهما الأصولية العالم وروعت الغرب، كانتا أيضاً زمن بلوغها قمة القوة. وعلى الرغم من قوة الأصوليين في إيران وباكستان ومصر ودول أخرى في العالم الإسلامي، إلا أنهم لم يتمكنوا من الإطاحة بأية دولة أخرى منذ الثورة الإسلامية في إيران. وفي هذا دليل على رفض الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي لتكرار تجربة الدولة الإسلامية الفاشلة في إيران، والتي أعطت مثالاً أنذر المثقفين والقطاع الخاص والطبقة الوسطى والأغنياء من مخاطر هذا النموذج على الاقتصاد الحر والقطاع الخاص والحقوق والحريات السياسية والاجتماعية. ويرى نصر أن النزعة الأصولية في الإسلام لا تمارسها أغلبية الناس، وهي آخذة في التراجع، بينما اكتسحت منذ العام 1980 الشرق الأوسط موجة انبعاث إسلامية، وقد ركبت الأصولية تلك الموجة، لكنها لم تغذها. فهذه هي أكبر وأوسع وأعمق من الأصولية، حيث أن الأكثرية الساحقة من المسلمين هم معتدلون وواقعيون في الأمور الدينية ويوازنون بين الشريعة والتقوى من جهة، وبين جرعة ملائمة من الممارسات الروحية والمفهوم الشعبي للدين من جهة أخرى. مأزق إيران يخلص الباحث إلى أن التركيبة الإيرانية المكونة من الدين والسياسة والاقتصاد، والتي تمتزج فيها "الأصولية الدينية الشيعية مع جرعة كبيرة من الصراع الطبقي وكره الرأسمالية"، قد أدت إلى تدهور البلاد إلى الحضيض. ويشرح نصر ذلك بأن القيادة الدينية كثيراً ما استخدمت عزلة إيران عن العالم لإحكام قبضتها الاقتصادية والسياسية على البلاد. وفور نجاح ثورة 1979 تعرض القطاع الخاص إلى التأميم أو البيع، وزاد عدد الموظفين الحكوميين إلى ثلاثة أضعاف، وشلت حركة الاقتصاد بتأثير العقوبات الدولية والحرب الدموية لثماني سنوات مع العراق(1980-1988). وعندما استنفدت الحكومة جميع الخيارات في بدايات تسعينات القرن الماضي، سعى الرئيس هاشمي رفسنجاني حينها بحذر إلى إعادة الحياة إلى القطاع الخاص. وتسارعت هذه الجهود بعد انتخاب الرئيس خاتمي عام 1997 وبدأ رأس المال الأجنبي بالاستثمار في إيران. وترافق مع الإصلاح الاقتصادي تحقق انفتاح سياسي تدريجي، فزادت فاعلية منظمات المجتمع المدني، وعادت سلطة القانون وانطلقت موجة من الجدل العام بين الإصلاحيين والمحافظين. لكن تبين لاحقاً ان القيادة الإيرانية لا تتحمل الواقع الجديد، فقامت بالانقلاب على الحركة الإصلاحية. وهنا يضع نصر المسؤولية على كاهل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي دعا قوات الحرس الثوري إلى كبح مسيرة الإصلاح الاجتماعي والمحافظة على التحالف المشبوه بين رجال الدين وزمرة السياسيين الذين أنجبتهم الثورة. وأدى انتخاب الرئيس الشعبوي نحمود أحمدي نجاد عام 2005 ـ بدعم من خامنئي ــ إلى تعزيز الجهد المضاد للإصلاح وتوجيه ضربة قوية إلى الآمال الطامحة بتحقيق انفتاح اقتصادي أكبر. ولكن انفتاحاً من نوع آخر حصل بعد ذلك، حيث انفتحت خزائن الدولة لتضخ عشرات المليارات من الدولارات على شكل إعانات، ومكافآن نقدية، وحملة بناء مدعومة حكومياً، فكان أن ارتاحت لذلك الطبقة الدنيا، وتهدمت أركان الطبقة الوسطى. كما تدهورت قيمة العملة وارتفع مستوى التضخم مما أدى إلى إجهاد المتقاعدين والموظفين الحكوميين. لقد كانت العواقب السياسية لما حدث واضحة واضحة في يونيو/حزيران 2009، حيث اتخذت الحكومة إجراءات صارمة ضد المعارضة لادعائها بأن الحكومة زورت الانتخابات الرئاسية لمصلحة أحمدي نجاد وسرقت أصوات الإصلاحيين. ويعتقد الكثير من المراقبين العارفين أن ما حدث كان انقلاباً نفذه خامنئي والحرس الثوري للمحافظة على السلطة بما يعارض رغبات عشرات الملايين من الناخبين الإيرانيين. ويشير المؤلف إلى أنه ليس هناك إلا القليل من الانتباه للمكون الاقتصادي في السلطة الإيرانية وإنشاء ما يدعوه نصر "شركة الجمهورية الإسلامية"، فما تمارسه الحكومة من احتكمار على المستوى السياسي يرافقه احتكار على المستوى الاقتصادي. الإسلام والتجارة خلال زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لتركيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2006، زار الجامع الأزرق المبني في القرن السابع عشر، والذي جاءت تسميته من وجود أكثر من عشرين ألف قطعة من بلاط نيقية الخزفي الأزرق تكسو جدرانه الداخلية. وقد لاحظ البابا وجود لوحة عليها كتابة بيضاء محفورة في قنطرة عند المخرج الرئيس للجامع، فسأل مرافقه عن معنى الكلام المنقوش فقيل له إنه حديث للرسول محمد "الكاسب حبيب الله". اكتشف البابا أن آخر ما يقرأه المصلون وهم يخرجون من الجامع هو دعوة لممارسة التجارة. يقول الباحث إن الولايات المتحدة غير غافلة عن أهمية التجارة بالنسبة للعالم الإسلامي. فهي كانت تدعم الإصلاح الاقتصادي والمبادرات التجارية في العالم الإسلامي، لكن اهتمامها انصب على العمل مع المخططين الحكوميين ونخب كبار رجال الأعمال. غير أن التغيير لن يأتي من هذه الطبقة العليا، فهي قد بدلت الكثير في ترسيخ الوضع الراهن وتعتمد اعتماداً كلياً على الدولة، بل إن حركة التجارة والأعمال هي ما ينبغي أن نوجه العناية له. إذ ينهض الآن في أنحاء المنطقة اقتصاد جديد كلياً يمزج القيم المحلية بمستويات الاستهلاك المتنامية ويبني علاقات تزداد متانة مع الاقتصاد العالمي. ويروي نصر بأنه التقى في ربيع العام 2009 في دبي، بمجموعة من رجال الأعمال الشرق أوسطيين، وكانت تلك الإمارة الصغيرة قد وصلت قبل فترة قصيرة، إلى قمة الثروة والازدهار. وكان النقاش حول الأزمة المالية العالمية والمصارف المفلسة وهبوط أسعار العقارات. قال أحدهم: إن الأموال تتجه إلى بيروت والجميع يودعون كل ما يستطيعون إيداعه في المصارف اللبنانية". وعندما سأل الباحث ما الذي يدعوهم إلى الاطمئنان لوضع أموالهم الطائلة في عهدة مصارف في بلد معروف بكثرة الحروب وعدم الاستقرار. أجاب أحدهم: "أسعار الفائدة في لبنان أعلى من أسعارها هنا". وأوضح آخر أن المصارف اللبنانية هي خارج النظام المالي العالمي، وليس لديها أصول مضطربة لتخشى عليها. كما أنها ليست مهددة بالانهيار أو باستيلاء الحكومة عليها كما هي حال مصارف لندن ونيويورك". ويخلص الباحث إلى أن الرأسمالية لم تزل حية تنبض في الشرق الأوسط، من تحركات رجال الأعمال لحماية وزيادة أصولهم في العالم الإسلامي، من خلال زيادة مراكز التسوق ومحلات البيع بالمفرق، ليس فقط في دبي وكوالالمبور ولكن كذلك في بيروت وطهران، حيث تعج بمراكز التسوق الفاخرة، فضلاً عن انتشار القنوات الفضائية والصحون اللاقطة لها وانتشار الانترنت، وانتشار مطاعم الزجبات الريعة والمقاهي والسلع الاستهلاكية والالكترونية ومراكز الترفيه والسياحة والخدمات المصرفية. كما يشير الكاتب إلى انتشار التمويل الإسلامي وتوسع سوقه ونموه بنسبة عشرين في المئة سنوياً، وبلوغ أصوله نحو تريليون دولار عام 2010. وهناك نحو ثلاثمئة مصرف وشركة استثمار إسلامي في أكثر من خمسة وسبعين بلداً. وهكذا ترافقت العولمة وصعود الطبقات الوسطى الموسرة مع الرغبة في العيش عيشة التزام بالإسلام. وثمة نقطة حاسمة تتميز بها هذه الطبقة الوسطى المهمة ويصعب على الغربيين فهمها، وهي أن هؤلاء المسلمين يعتبرون أن الإسلام هو الدعامة الأساسية في التوجه نحو الجداثة. هم يريدون الجنة لاحقاً، لكنهم يريدون الثروة الآن، ويظنون أن تدبر أمر الأخيرة بشكل جيد يمكن أن يوصلهم إلى الأولى. ويتساءل نصر إن كان رجال الأعمال المسلمون سيقودون ثورة رأسمالية في القرن المقبل، كما فعل أبناء المدن الهولندية البروتستانت منذ أربعة قرون، ليجيب أن ذلك ممكن، مستشهداً برأي عمدة مدينة قيصرية الواقعة في وسط تركيا، وهي موطن العديد من رجال الأعمال المسلمين المعروفين بـ"نمور الأناضول". فإذا كانت ستنشأ رأسمالية حقيقية في الشرق الأوسط، بالمعنى المطلق لهذا المفهوم كما عرفه الغرب، أي يؤدي نشاط الأفراد العاملين في الأسواق إلى النمو والازدهار، فإنها ستكون نابعة من رجال الأعمال الأتقياء وليس من مبادرات الدولة ولا من نخبة الاقتصاديين الذين يحظون برعاية الدولة والذين طالما تحكموا باقتصادات دول الشرق الأوسط. لقد ابتكر البروتستانت العصر الحديث، لكن ما حول العالم لم يكن تزمتهم الديني وإنما كان في الواقع حركة التجارة والأعمال. وإذا كان الشرق الأوسط سيندمج حقاً في الاقتصاد العالمي فينبغي أن يتحول إلى الديموقراطية ويعطي المرأة حقوقها ويعتنق القيم التي تسمو فوق الفوارق الثقافية ويطوق التطرف. وبعد كل ذلك لا بد أن يتحول عن طريق الثورة الرأسمالية. فالمعركة التي ستمهد الطريق إلى هزيمة التطرف الديني والتحرير الاجتماعي إنما هي معركة تحرير الأسواق. فإذا انتصر رواد حركة التجارة في القطاع الخاص والطبقة الوسطى الصاعدة بهذهالحركة،فإن التقدم على صعيد الحقوق السياسية سوف يتبع ذلك. حتى في إيران، فإن إمكانات الانفتاح والدخول من بوابة الاقتصاد إلى المجتمع العالمي متوافرة. وأظهرت الاحتجاجات بعد الانتخابات الرئلسية أن في إيران مجتمعاً مدنياً ديناميكياً يضم نشطاء حقوق المرأة والطلاب والنقابيين والصحافيين وأصحاب المدونات الالكترونية والفنانين والمثقفين. وإذا أردنا أن نتأمل كيف يمكن للتغيير في إيران أن يغير الشرق الأوسط وكيف يمكن تصور إيران صاعدة أن يأخذ المنطقة المحيطة بها في اتجاه جديد، فعلينا أن نستنتج أن الأمور ستجري على ما يرام عندما تتوافق التطورات داخل إيران مع التوجهات العالمية السائدة في المنطقة. فمن مصلحة الغرب رؤية إيران منسجمة مع منطق التغيير الاقتصادي لا معارضة له، والتجاوب مع قطاع الأعمال الصاعد والطبقة الوسطى الجديدة التي ستغير الأوضاع السياسية والدينية، ثم توسيع الاتجاه نفسه ليعم العالم العربي. لقد آن الأوان لنقلع عن البحث في صراع الحضارات ونعود إلى التفكير في قدرة الأسواق والتجارة على التغيير، وهي الأفكار التي كانت من أسس الليبرالية الكلاسيكية والفكر السياسي الحديث. ويرى نصر في استعراضه للآفاق المحتملة والتحديات الماثلة أمام الطبقة الوسطى الصاعدة، أن بعض البلدان مثل دبي وتركيا، يسير قدماً بسرعة فائقة بينما يتخبط بعضها الآخر في شرك التناقضات الداخلية مثل إيران وباكستان. ويبحث نصر في فصول الكتاب أسباب اختلاف أوضاع تلك البلدان ويحاول فهم تطلعات الطبقة الوسطى الجديدة فيها. العالم على طريقة دبي "معجزة دبي" أضحت على كل لسان. فقد تحولت هذه الإمارة الصغيرة القليلة السكان من ساحل الخليج العربي بين ليلة وضحاها إلى إحدى أكثر حواضر العالم توهجاً. لقد كانت دبي تفيض بالأصول المالية، وتتباهى باحتضانها لأفخر فنادق العالم، وتجذب أكثر من ستة ملايين زائر سنوياً. وهذا إنجاز ليس صغيراً إذا علمنا أن سكان إمارة دبي الأصليين(الإماراتيين) لا يتجاوز عددهم مئة ألف نسمة. لكن دبي شهدت العام 2009 انفجار الفقاعة الخيالية التي كانت مسؤولة عن اجتذاب الكثير من مصادر نمو هذه الإمارة. فقد توقفت عمليات البناء، وظلت المشاريع الطموحة حبيسة المخططات. كما تطلب الأمر عشرات المليارات من الدولارات على هيئة ضمانات مالية من إمارة أبوظبي لحماية المشروع من الغرق بالكامل، بعدما عجزت شركات الإمارة من سداد مستحقات ديونها البالغة أكثر من ثمانين مليار دولار. ويبدي الباحث ولي نصر في كتابه "قوى الثروة" حماساً لنموذج دبي، كمجتمع رأسمالي متعدد الأعراق معزول عن تأثيرات العنف والآيديولوجيا. وهو يعتقد أن فكرة هذا النموذج قد تنقذ الشرق الأوسط من دوامة مهلكة يغذيها التعصب الديني والتشدد السياسي. ويخلص نصر في كتابه إلى أن انتصار مبدأ السوق الحر في الشرق الأوسط سيمهد الطريق لهزيمة التطرف بشكل حاسم وتحقيق التحرر الاجتماعي، ويليه التحرر السياسي. لا يتناول الباحث في الكتاب تجربة دبي فحسب، وإنما يناقش الوعد المثابر لدبي، والصراعات في إيران، والنجاح في تركيا. وبإسناد هذه المناقشات بدراستين موجزتين لمصر وباكستان، يقترح نصر أن الرأسمالية حيثما ازدهرت حملت معها التسامح والاعتدال أيضاً. وبعد أن يبت بانحسار أمواج الماركسية، يرى نصر أن التدين الشائع في أوساط الطبقة الوسطى ما هو إلا طريق تسلكه المجتمعات المسلمة لتحقيق الاندماج مع بقية مجتمعات العالم، يقول: "هذه الطبقة الصاعدة تستهلك الإسلام بمقدار ما تمارسه". وهي تسعى إلى تبني الحداثة بالشروط الإسلامية دون رفضها واعتبارها شكلاً من أشكال الفساد. أما العقائد الشعبوية القديمة التي ركزت على الحقوق السليبة وشجعت على المقاومة فتعيش حالة متدهورة. ولهذا يحذر نصر من أن تؤدي الموارد التي تبذل لدعم الأفكار المتحررة في المجتمعات الإسلامية إلى تغذية الحروب بين الثقافات المختلفة. ومن بين النماذج الثلاثة التي حواها الكتاب تجتذب دبي معظم الاهتمام بشكل واضح. فثروتها المدهشة واحتضانها للمهاجرين تبقى مميزة عن المشاعر المعادية للاستعمار والأجانب التي نصادفها في بقية أرجاء الشرق الأوسط. وما تحتويه من بيئة أعمال فعالة ومستوى راق من معايير الحياة يجعل الإمارة قاعدة أكثر جاذبية للهاربين من الغرب بالمقارنة مع أي مكان آخر في الشرق الأوسط. وما يشيع في دبي من ثقافة الممكن التجارية تجعل منها المكان الذي يقصده حتى رجال الأعمال العرب من أجل التفاوض على الصفقات. كما أن الإيرانيين يتواجدون في كثرة في دبي بغرض التجارة والترفيه، حتى أن بعض الإحصائيات تشير إلى أن عددهم في الإمارة يفوق عدد الإماراتيين بأربعة أضعاف. لقد أصبحت دبي ملجأ آمناً من المعارك التي تندلع في جميع أنحاء الشرق الأوسط حول المال والسياسة والدينن فدبي لا تعبأ بصدام الحضارات، وإنما تهتم بالحداثة والراحة والربح. وقد يوجه نقد إلى الباحث نصر مفاده أن دبي، على الرغم من كل نجاحاتها، ليست نموذجاً مثالياً لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الشرق الأوسط. فالسكان الأصليون قليلو العدد حكمت عليهم الضرورة أن يعيشوا كأقلية على أرضهم. والقوة العاملة منهم يسهل توظيفهم بأجمعهم في مجالات الأمن والإدارة والجمارك وغيرها من وظائف القطاع الحكومي، والتي تستوعبهم جميعاً. ومع ذلك يشكو الكثيرون من مواطني الإمارات من البطالة بحيث فرضت حكومة الإمارات على القطاع الخاص توظيف نسبة من الإماراتيين في الشركات وحصرت بعض الوظائف بالمواطنين. كما أن دبي تدين بجانب من نجاحها إلى جارته الغنية بالنفط أبوظبي، والتي كانت عائدات نفطها يستثمر بعضها في مشاريع دبي من جهة، وشكلت لاحقاً ضماناً لحماية دبي من الانهيار. من هنا فإن نموذج دبي مناسب جداً لدبي، لكن لا يمكن تطبيقه في باقي أرجاء الشرق الأوسط إلا بشكل محدود، فضلاً عن دور غسيل الأموال ووجود الحانات وانعدام القيود الدينية والمحافظة فيها في اجتذاب السياح والمستثمرين والمقيمين، وهي مسائل لا يمكن نقلها إلى دول إسلامية أكثر محافظة. النموذج التركي يرى المؤلف أن تركيا تمثل توازناً أكثر سعادة بين الدولة والناس، حيث قضى منهج مؤسس جمهورية تركيا، كمال أتاتورك العلماني بأن تحرك الدولة عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بهيكلية متدرجة من الأعلى إلى الأسفل في منتصف القرن العشرين. فخططت الدولة للاقتصاد، وبنت المصانع، ونظمت التجارة، وفرضت العلمانية الصارمة باعتبارها عنصراً ضرورياً من عناصر التحديث. لكن العقود الأخيرة شهدت هيكلية مختلفة تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، وسوقاً حرة، ومنهجاً دينياً نشأ في البلاد بالترابط مع ازديايد ثروات أعضاء حزب العدالة والتنمية الإسلامي. وبطل الحكاية التركية هو تورغوت أوزال رئيس وزراء تركيا في ثمانينات القرن الماضين إذ بث الحياة في منطقة الأناضول الحيوية من خلال المساعدة على تكوين شبكات من أصحاب المشاريع الرائدة المتحررينٍ من هيمنة النظام الرأسمالي الحكومي الذي أنشأه أتاتورك. وكان أصحاب هذه المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي حققت النجاح من المحافظين والمتدينين، يقارنهم نصر بالجمهوريين في وسط الولايات المتحدة الأميركية. وساعد ذلك على الوصول إلى لحمة دينية سياسية لم تكن في ما سبق أمراً يمكن تصوره في تركيا. ولا تزال قيادة الجيش التركي، وهي الجهة المسؤولة عن حماية إرث أتاتورك، تنظر إلى حزب العدالة والتنمية بعين الريبة. وتنتشر في الفضاء السياسي التركي اتهامات لهذا الحزب بأنه ليس سوى "عصابة من المتطرفين ترتدي البذلات وتسعى إلى إسقاط الجمهورية التركية". ويبدو نصر راضياً عن حالة التنافس في تركيا، فهو يرى أن "التجارة قد قيدت سلطات الدولةن كما خففت حدة التوجهات الإسلامية". لقد تصادف بروز حزب العدالة والتنمية مع بروز طبقة وسطى رأسمالية ومع الابتعاد عن تسلط الدولة على الاقتصاد. كما يرى نصر أن مطالب ناخبي الطبقةالوسطى أجبرت الحزب على أن يصبح قوة تكنوقراطية متاسمحة نسبياً في السياسة التركيةز وقد ساعد التنافس الانتخابي على صياغة شكل أكثر اعتدالاً من الإسلام السياسي, إذن ما هو الذي جرى على النحو الصحيح في تركيا، وجرى على النحو الخاطئ في إيران؟ يجيب الباحث نصر بأن البلدين قد نهضا من رماد عملية تحديث فاشلة طبعت الشرق الأوسط بطابعها في منتصف القرن العشرين، حيث قامت هذه العملية على أسس جهود علمانية تديرها الدولة، وأنتجت القليل من الثروة وأقل القليل من الحرية. في عام 1963 توقع الباحث المختص بشؤون الشرق الأوسط مانفريد هاليبرن بأن ازدياد قوة الدول المستقلة سيؤدي إلى أن تقوم الطبقة البرجوازية الصغيرة المتنامية المكونة من أساتذة المدارس والضباط والموظفين بتشكيل طبقة وسطى جديدة وقوة تسعى إلى التحديث. ولكن نصر يقول إنه نظراً إلى كون هذه المجموعات من منتجات الدولة، فقد فقدت دورها كوسيلة لإقرار مبادئ الحرية المدنية، فسعت بدلاً من ذلك إلى ترسيخ الرعاية الحكومية. وعلى الرغم من ذلك، أحس نطاق عريض من هذه الطبقة بالإحباط نتيجة استمرار الفقر وانعزالهم عن الحكام الذين بدوا أكثر ارتياحاً في صالونات أوروبا منهم في عواصم بلدانهم. وكان أن قدم الإسلام بوصفه مجالاً لتنظيم الجهود المعادية للواقع الراهن المتردي فضلاً عن كونه الإطار النظري لهذه الجهود المعادية للعلمانية والاستعمار والاستغراب. ففي إيران تسببت الوطنية العلمانية القمعية التي انتهجها الشاه محمد رضا بهلوي بولادة حركة معارضة نتجت عنها الجمهورية الإسلامية. وفي مصر وغيرها من الدول أدت الوطنية العلمانية إلى خلق مجموعات تنتهج سبيل العنف وتوظف الشعارات والرموز الإسلامية في جهودها الرامية إلى إسقاط الحكومات القائمة. وأدت هذه الحركات بدورها إلى خلق انطباع لدى الكثير من مراقبي شؤون المنطقة بأن الحكومات ذات التوجه الإسلامي ستكون غير متسامحة مع المرأة والأقليات، وستكون مناهضة لرغبات الأكثرية ومعادية للمصالح الغربية. لكن نصر لا يتفق مع هذا الانطباع محاججاً بأن شيوع نمط من الوطنية أكثر إسلامية من شانه أن يتلاءم بشكل أسهل مع الطبقة الوسطى، ويجلب مبادئ الحرية المدنية إلى السياسة، ويؤدي إلى حركة اعتدال جديدة على امتداد الشرق الأوسط. كما ينتقد نصر فكرة دعم جهود تعزيز مبادئ العلمانية، وذلك لأنها معركة خاسرة، وذلك لأن "خط المواجهات الحالي في الكثير من المجتمعات الإسلامية لا يقع بين الإسلام والعلمانية، وإنما بين أشكال الإسلام ذاته". ويحاجج نصر بأن الدفاع المستمر عن العلمانية الخالصة لا تثمر إلا شعور المسلمين بالتعرض للحصار وتغذي حرباً ثقافية لا يمكن للغرب أن يربحها. ويقترح المؤلف أن من الأفضل كثيراً اعتماد تعزيز انفتاح اقتصادي أكبر لتقوية الطبقة الوسطى ليتم بعدها الاعتماد على ما لدى هذه الطبقة من نية حسنة لكبح جماح مظاهر أكثر تطرفاً من الإسلام السياسي. ويشير إلى أن معظم المسلمين في الشرق الأوسط لم يقوموا "بدعم الأحزاب الأصولية في الانتخابات ما لم تتخلَ هذه الأحزاب، على الأقل، عن المكون الأصولي في أهدافها المعلنة". وهو يرى أن الجيل الجديد من أغنياء المسلمين لا يعرف ما هي الكراهية، ونمط الإسلام الذي يؤمنون به "يمجد التقوى ويرفض العنف والتطرف". ويؤخذ على هذا الرأي أن الثروة لا تقف حائلاً دون التطرف فقد ترعرع أسامة بن لادن في أسرة ثرية جداً وورث ثروة هائلة، لكنه اتجه نحو أقصى التطرف الإسلامي. كما يقوم الكثير من رجال الأعمال المسلمين بدعم تنظيم القاعدة والحركات الأصولية المتطرفة. والأمر الذي يثير الاستغراب هو غياب دراسة حالة السعودية في الكتاب الذي ركز كثيراً على إيران، وبحث حالات دبي وتركيا وباكستان ومصر، لكن كتاباً يفترض به أن يتحدث عن الدين والاقتصاد والسياسة في الشرق الأوسط، لا ينبغي له أن يغيب السعودية، بسبب موقعها السياسي والاقتصادي في المنطقة من جهة، ودورها في نشر الأصولية السنية من خلال نشر ملايين الكتب الدينية وترويجها في العالم الإسلامي، فضلاً عن المدارس والمعاهد الدينية، وتدريس الآلاف من رجال الدين في المملكة، إلى تمويل بعض رجال الأعمال السعوديين لتنظيم القاعدة وانضمام الكثير من الشباب السعوديين إلى هذا التنظيم المتطرف |
Comments
Post a Comment