تركيا والخيارات الاستراتيجية العربية هيثم أحمد مزاحم
تركيا والخيارات الاستراتيجية العربية: قراءة في كتاب: "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر"
هيثم أحمد مزاحم
2011/05/25
بحوث ومناقشات ندوة فكرية
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
طبعة أولى ـ بيروت ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2010
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 كتاب "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر"، والذي يجمع بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها المركز بالاشتراك مع المؤسسة العربية للديمقراطية ومركز الاتجاهات السياسية العالمية في إسطنبول.
كلمات الافتتاح
العلاقات العربية-التركية: منظور استراتيجي
خيارات الوطن العربي الاستراتيجية
قدرات تركيا الاستراتيجية
مجالات التعاون العربي-التركي
يقول محمد عبد الشفيع عيسى في التقديم لكتاب تركيا والخيارات الاستراتيجية العربية:
قراءة في كتاب: "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر"، ثمة تغيرات كثيرة حصلت منذ انعقاد الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية خلال تشرين الثاني/نوفمبر 1993 بعنوان "العلاقات العربية-التركية: حوار مستقبلي"، بالتعاون مع "مؤسّسة دراسات الشرق الأوسط والبلقان" في تركيا، ففي الفترة الفاصلة بين انعقاد الندوة الأولى في أوائل تسعينات القرن الماضي وانعقاد النّدوة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، أي على امتداد ستّة عشر عاماً، حدثت تغييرات جذريّة من أبرزها التحوّل العاصف في بنية النّظام الدولي إثر انهيار الاتّحاد السوفييتي، القطب الموازن للولايات المتّحدة، عبر عملية تدرجيّة نسبياً خلال الفترة من سنة 1985 إلى سنة 1990، وانتهت بإعلان وفاة الاتحاد السوفييتي رسميا.
وعلى الجانب التركي فقد انقضت - إلى حدٍّ معيّن - بسقوط الاتحاد السوفييتي موجبات الرابطة التركية القديمة مع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، عبْر الحلف الأطلسي خصوصًا. وانفتحت أمام تركيا آفاقٌ أكثر رحابةً للتطلّع في جميع الاتّجاهات، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، فتطلّعت إلى إعادة بناء مجالها الحيوي في آسيا الوسطى، بين البلدان الناطقة بالتركية. كما سعت إلى تحسين علاقاتها مع إيران والهند والصّين والعالم العربي. وإلى الشّمال والغرب، أخذت تركيا تواصل السّير في اتّجاه الالتحاق بالاتّحاد الأوروبي.
وشكّل وصول حزبِ العدالة والتنمية ذي الاتّجاه الإسلامي إلى رأس السّلطة في تركيا عام 2002 أحد أبرز التّغيرات السّياسية المحدّدة للعلاقات التركية-العربية. وكان للتّحوّل الجوهري في المسار الاستراتيجي للسّياسة الخارجية التركية بصماته العميقة، أبرزها انعكاساته على تطوّر العلاقة بين تركيا والعالم العربي، والتي توّجت بازدهار العلاقات التجارية بين الجانبيْن من نحو 4.7 مليار دولار عام 1992 إلى 22.5 مليار دولار في عام 2007. كما تحسّنت العلاقات العربية - التركيّة على المستوييْن الرّسمي والشّعبي على نحو لافت في السّنوات الأخيرة، وبلغت ذروتها الفعلية والرّمزية في لحظات فاصلة من تطوّر القضيّة الفلسطينية، خصوصاً مع مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في آخر عام 2008 وبداية عام 2009، وبمناسبة الاعتداء على أسطول الحريّة الذي سعى إلى كسر الحصار على غزّة في حزيران/يونيو 2010.
ويرى محمد شفيع عيسى في تقديمه أنّ هذا التطوّر اللافت يمثّل جزءاً من التوجّه الاستراتيجي التركي الجديد للتفتّح على المحيط الإقليمي لتركيا، في جميع الاتّجاهات، بالاستفادة من جيوبوليتيكا الموقع ومن إرث التاريخ. وتنحو السّياسة التركية في هذا الفضاء الإقليمي العربي والشّرق أوسطي إلى إعادة النّظر في الحدود الأوسع لهذا الفضاء، بما لذلك من انعكاسات على العلاقة مع إيران، إيجاباً، والعلاقة مع إسرائيل، سلباً.
في قلب هذا المناخ الجديد عُقدت النّدوة موضوع الكتاب، وتضمّنت عرض اثنيْ عشر بحثاً: ستّة منها للباحثين العرب وستّة للباحثين الأتراك، إضافة لمداولات واسعة وعميقة للمعقبين على الأبحاث والمشاركين في الندوة ومناقشاتها، بما يزيد على أربعين شخصية ذات ثقل فكري من الجانبين العربي والتركي.
كلمات الافتتاح
"
الحرب الباردة حدّدت إلى حدّ كبير إطار منظور تركيا الاستراتيجي حيال الشّرق الأوسط بشكل عامّ والعالم العربي بشكل خاصّ. وقد تشكّل منظور تركيا الاستراتيجي حول الحدّ من تأثير الاتّحاد السوفييتي في الشّرق الأوسط. كما أنّ التّيار القومي العربي كان وسيلة لدعم تأثير الاتّحاد السوفييتي في المنطقة.
"
شدّد محسن مرزوق، الأمين العام للمؤسّسة العربية للديمقراطية، في كلمة الافتتاح على محور أساسي يتعلّق بالتعلّم من تجربة تركيا الحديثة في الانتقال الديمقراطي، وهي تجربة شديدة الثّراء، ينبغي فحصها للاستفادة منها في البلدان العربية.
أمّا الدكتور حسيب خير الدين، مدير عام مركز دراسات الوحدة العربيّة، فقد اعتبر في كلمته الافتتاحية أنّ هذه الندوة هي حوار مستقبلي بين النّخب الفكرية والسياسية العربية والتركية في محاولة لتوسيع اهتمامها بموضوع هذه العلاقات ومستقبلها وتعميقه آملاً أن ينتقل هذا الاهتمام إلى الأوساط الشّعبية عبْر وسائل الإعلام والنّشر المختلفة. وأشار إلى الخطوات الكبيرة التي حقّقها التعاون التركي-العربي خلال السّنوات الأخيرة، حيث انخرطت تركيا في العالم الإسلامي وطوّرت علاقات إيجابيّة مع الدول العربية؛ مشيراً إلى ضرورة أن تهتمّ تركيا بالمصالح الحيويّة لسوريا والعراق في المياه المشتركة، وتصل إلى حلول تحقّق المصالح المشتركة وتتناسب مع الاتّفاقات الدّولية. وأوضح أنّ العرب يتطلّعون إلى تركيا منفتحة على العرب وليس "تركيا العثمانية".
العلاقات العربية-التركية: منظور استراتيجي
تحدّث وكيل وزارة الخارجية التركية السفير انغين صويصال عن اهتمام وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو بالحوار التركي-العربي في عموم الشّرق الأوسط. وقد أوضح أنّ الوزارة رشّحته لأحد برامج التدريب في المدرسة الأوروبية في الثمانينات، وذلك في إطار إعدادها لخبراء شباب استعداداً للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي، لذلك ركّز في كلمته على البعد الأوروبي في سياسة تركيا الخارجية، وكيفية إكمال مرحلة التكامل مع الاتّحاد الأوروبي. وكرّر كلام أوغلو بأنّ سياسة تركيا تهدف إلى خفْض المشاكل مع جيرانها إلى نقطة الصّفر، تأكيداً لمقولة كمال أتاتورك "السّلام في الوطن والسّلام في العالم".
وقال صويصال إنّ تركيا تتّخذ أربعة مبادئ سياسية خارطة الطريق وهي: الأمن للجميع، والحوار مع الجميع، وخلق التبعية الاقتصادية بشكل متبادل، والاحترام المتبادل؛ وذلك من أجل إنشاء ديناميّة التعاون الإقليمي كمسؤولية نابعة من التاريخ والجغرافيا من أجل نقل الطاقة الإيجابيّة المذكورة. وأعطى أمثلة على ذلك: التّعاون الاقتصادي في البحر الأسود ومنظّمة التعاون الاقتصادي وموقع تركيا في منظّمة المؤتمر الإسلامي، وإعطاء دفعة جديدة لمجموعة البوسنة والهرسك، و التعاون الثّلاثي بين تركيا وأفغانستان وباكستان.
وأوضح أنّ وزارة الخارجية في تركيا ليست الوزارة الوحيدة التي تصنع السياسة الخارجية، وأنّ تركيا تحرّكت في هذا التغيّر بثقة ذاتيّة من حيث موقعها، وهي عضو في مجموعة العشرين، ودخلت مرحلة المفاوضات مع الاتّحاد الأوروبي، وأُشرِكت في أغلب المبادرات الإقليمية.
ويرى السّفير صويصال أنّ مشاكل الشّرق الأوسط أصبحت بعد مرحلة الحرب الباردة واعتداءات 11 سبتمبر مرتبطة ببعضها البعض ويؤثّر بعضها في بعض أيضاً، وذلك ساري المفعول في الجغرافيا التي تتقاطع فيها منطقة آسيا مع الشّرق الأوسط، وباكستان مثال جيّد على ذلك. فقد تحمّلت تركيا الدّور التوجيهي في منبر مجموعة صداقة باكستان الديمقراطي، من أجل استقرار هذا البلد. كما جاءت زيارة وزير الخارجية التركي إلى بغداد بعد الاعتداء الإرهابي على مقرّ وزارة الخارجية العراقية في بغداد، والذي قتل فيه مئة شخص، ومن ثَمّ زيارة دمشق.
ويضيف صويصال أنه يجب ألاّ ننسى حدود ميزات تركيا الجغرافية، فهي تتقاسم حدوداً طويلة مع سوريا والعراق في الجنوب. إنّ رؤية تركيا ليست من الناحية الأمنية بل من الناحية التاريخية، ومن ناحية تطوير العلاقات الثنائية، فلا تستند إلى الوضع الراهن بل إلى مفهوم يطرح هذه الرؤية الدائمة والمتعلّقة بالمنطقة بشكل دائم. وقد تحرّكت تركيا منذ زمن طويل بمفهوم ديبلوماسي مؤثّر، وتحمّلت مسؤولية من ناحية إزالة الخلافات التي ظهرت مع كلٍّ من سوريا والعراق. ولا يمكن أن يكتسب ذلك معنى إلاّ من خلال طرحه عبر مسؤولية نابعة من مفهوم "الانتماء الإقليمي" (Regional ownership) والتّضامن المتبادل والحوار بشكل شامل. وبالنّتيجة أصبح ذلك عنواناً في مقدّمة جدول أعمال سياستها الخارجية المتعلقة بالشّرق الأوسط. والفرق بين العلاقات التركيّة-السّورية في عام 1988 وبين هذه العلاقات في الوقت الراهن مذهل جداً. فقد اجتمعت اللّجان التركية-السورية في عنتاب (حلب) بمشاركة عشرة وزراء من كلّ بلد وتمّ توقيع 48 بروتوكولاً. وقد شهدت العلاقات مع العراق التطوّر نفسه تقريباً.
وحول مشروع انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي، قال السّفير صويصال إنّه يوجد منحنى تطوّر لمشروع التّكامل الأوروبي وأنه يؤمن بأنّ تركيا ستساهم في مستقبل هذا المشروع وستنضمّ إلى الاتّحاد. وأوضح أنّ على تركيا أن تنظر بثقة ذاتيّة إلى بعد الاتّحاد الأوروبي، مشيراً إلى أنّ بلاده تلعب دوراً في تعريف المشكلة الأوروبيّة، لذلك فإنّ أوروبا في حاجة إلى تركيا. وليس هناك مانعٌ من أن تأتي أفكار من الشّرق الأوسط والأتراك والعرب لتنير المشروع الأوروبي.
ويقول في هذا السّياق: "عندما نؤمن بالديناميات الأساسيّة للمشروع الأوروبي، علينا النّظر إلى تلك الديناميات بالمعنى الفلسفي كمستقبل أفضل وأكثر رفاهيّة وتقارب اقتصادي وثقافي أكبر للبشر. عندما ننظر إلى مرحلة الاندماج الأوروبي نرى أنّه في البداية لم يكن ثمّة وجود للدولة القومّية والهويّة القومية، لكن عند دراستكم للاتّفاقيات التأسيسيّة والأساسيّة في الوقت الحاضر، ستروْن أنه في كلّ اتّفاقية يوجد موضوع احترام الهويّة القوميّة. فعندما وضعت مرحلة التّكامل الأوروبي آليّة الاندماج بطريقة تزعج الدّول القوميّة في عقد الثّمانينات بدأ مصطلح احترام الهويّة القوميّة يبرز في الاتّفاقيات، وازداد قوّةً في اتّفاقية ماستريخت لسنة 1992، ومن ثَمّ في اتفاقيّة أمستردام [...]، لكن عندما ننظر إلى الآليّة الأساسيّة التي طرحتها اتّفاقية لشبونة عام 2009، سنرى مرحلة تكامل تحمي فيها الدّولة القومية آليّتها، حيث تشكّل الدولة القومية والبرلمانات القوميّة جزءاً من ديناميّة الاتّحاد الأوروبي، حتّى لو كان لهذه المرحلة مضمون ما فوق القوميّة".
خيارات تركيا الاستراتيجيّة
يستعرض الفصل الثاني من كتاب "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر" نصّ كلمة مليحة ألتون ايشيك، وهي رئيس قسم العلاقات الدوليّة في الجامعة التقنية للشّرق الأوسط في تركيا. وترى أنّ الحرب الباردة حدّدت إلى حدّ كبير إطار منظور تركيا الاستراتيجي حيال الشّرق الأوسط بشكل عامّ والعالم العربي بشكل خاصّ. وقد تشكّل منظور تركيا الاستراتيجي حول الحدّ من تأثير الاتّحاد السوفييتي في الشّرق الأوسط. كما أنّ التّيار القومي العربي كان وسيلة لدعم تأثير الاتّحاد السوفييتي في المنطقة. هذه النّظرة تشكّلت بحسب منظور المعسكر الغربي لتحقيق تدفّق نفط المنطقة بطريقة آمنة إلى الأسواق العالميّة. وتركيا تبنَّت في تلك المرحلة نظرة المعسكر الغربي، و هي عضو فيه، تجاه الشّرق الأوسط. وقد بدأت تركيا في رسم سياستها حيال المنطقة منذ منتصف عقد الستّينات، وهي السّياسة التي كان لها ميزات معيّنة، إحداها "الوضع الرّاهن". إنّ الحفاظ على الوضع الراهن في المنطقة مهمّ في سياسة تركيا، مثل مبدأ عدم تغيّر الحدود. وتتبنَّى أنقرة وجود توازن قوى إقليمي متعدّد الأقطاب في المنطقة، فهي لا تريد أن تقوم دولة في المنطقة بدور مهيمن وهي تتبع سياسة من شأنها الابتعاد عن الخلافات الإقليميّة قدر الإمكان.
بدأت تظهر تغيرات في السياسة التركية منذ نهاية عقد الثمانينات مع التغيّرات في النظام الدولي والإقليمي، إذ أثّر ذلك في نظرة تركيا إلى الشرق الأوسط، إثر انتهاء العالم ثنائي القطب بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما أتاح لأنقرة إمكانية الاهتمام بالقضايا الإقليمية. وحصلت هزّتان في تلك الفترة هما: انهيار الاتحاد السوفييتي وأزمة الخليج، وقد تأثّرت تركيا بشدّة بهاتين الهزّتين، وزادت حرب الخليج من اهتمام تركيا بالشّرق الأوسط. فالجميع يدرك أهميّة المنطقة والعراق خاصّة، وبدأت تظهر في الداخل التركي نقاشات تركّزت حول كيفيّة تطوير رؤية جديدة مع السعي لتحديد درجة الاهتمام الضروري بالشرق الأوسط.
وقد تشكّل رأيان أساسيّان: الأوّل هو السياسة التي اتّخذت العراق وشماله مركزاً لها، حيث تمّت قولبة السياسة القديمة حسب الظروف الجديدة، وتركّز على الحلول العسكريّة في ما يتعلّق بذلك. وينحو التيار الثاني إلى طرح آراء بديلة مختلفة منذ انتهاء الحرب الباردة، تمثّل انتقادات للسياسات القديمة، وترى أنّ تركيا تأخّر اهتمامها بالشّرق الأوسط، و من الخطأ تحديد نظرتها إلى المنطقة من خلال العراق وشماله فقط.
وتشير ألتون ايشيك إلى أنّ هذا التيار طرح آراء مختلفة أكّدت على الرّوابط التاريخية والثقافية وتم التشديد على تطوير السياسات إلى ما وراء العراق، وأن تقوم هذه النظرة على الفرص بدلاً من التحدّيات والتهديدات. وتم النظر إلى المنطقة ليس من منظور الحلول العسكرية فقط بل بمفهوم أمني أوسع. وتم طرح علاقات تركيا بالمنطقة من خلال تعريف أمني جديد، يتضمّن المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد تولّى رئيس الوزراء طورغوت أوزال في مرحلة انتهاء الحرب الباردة تطوير رؤى جديدة، كما طوّر إسماعيل جيم، وزير الخارجية التركي في الفترة ما بين سنة 1997 وسنة 2002، رؤى بديلة من هذا النوع. وبدأ حزب العدالة والتنمية ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو في تطوير رؤى بديلة وطرحها بصورة أكثر فعالية أأمنذ سنة 2002.
فقد ساهم ظهور مشكلات جديدة في المنطقة كالأزمة العراقية وفشل الولايات المتحدة الأميركية في ترسيخ النظام الجديد في الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، في إبراز فعلية تركيا وانفتاح الساحة أمامها للعب دور متعاظم في المنطقة. فركّزت سياسة أنقرة على خفْض الخلافات مع الجيران إلى نقطة الصفر، وحملت مشروع تحويل العلاقات التي كانت تشهد مشكلات في الماضي وحلّها بالحوار بدلاً من الحلول العسكرية، وتحقيق التعاون مع الجوار، بالتركيز على حلول تعني الربح للطّرفين.
فقد كادت تركيا وسوريا تصلان إلى حافة الحرب سنة 1998، لكن العلاقات تحسّنت بشكل مذهل بعد ذلك. كما طوّرت تركيا سياسة التحدّث مع جميع اللاّعبين في العراق وتفادي عرقلته بسبب مشكلة شمال العراق، إضافة إلى تطوير العلاقات مع إيران.
وفي تعقيبه على مداخلة مليحة رأى غينجير أوزجان، وهو أستاذ قسم العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول "بيلغي"، أنّ السّياسة الخارجيّة التركية حيال الشّرق الأوسط كانت سياسة ردّ فعل منذ عقد الثمانينات وقد تبدّلت إلى المفهوم الاستباقي (ROACTIVE) بدلاً من الوقوف بعيداً عن الشرق الأوسط وخلافاته. وبدأ تنفيذ هذه السياسة في عهد حزب العدالة والتنمية مع أحمد داود أوغلو، مستشارا لوزارة الخارجية ومن ثَمّ وزيراً لها.
خيارات الوطن العربي الاستراتيجية
"
الولايات المتحدة ليست بديلاً استراتيجياً للعرب، لأنّها منحازة إلى إسرائيل في الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتضغط عليهم لتقديم تنازلات لإسرائيل، لكن الولايات المتّحدة هي ضامن أمْن الدّول الخليجيّة العربية، وهي شريك استراتيجي مهمّ للعرب في التجارة والاستثمار والمعونات الاقتصادية لبعض الأقطار العربية كمصر، والمورد الأوّل للسّلاح إلى الأقطار العربية الخليجية، في حين أنّها ليست شريكاً في الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينية.
"
في الفصل الثالث يقدّم محمد السيد سليم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، ورقة بعنوان "الخيارات الاستراتيجية للوطن العربي، وموقع تركيا منها"، ويشير فيها إلى الجدل الذي دار بين المثقّفين العرب وداخل الحكومات العربية منذ نهاية القطبية الثنائية العالمية عام 1991 حول قضية البدائل الاستراتيجية العربية في ضوء نظام القطبية الأحادية، على الرغم من أنّ معظم الأقطار العربية كانت متحالفة مع الولايات المتحدة، التي سيطرت على النظام العالمي الجديد. رغم هذا، كان هناك قلقٌ من الآثار البعيدة للقطبية الأحادية على قدرة الدول العربية على التحرك المستقلّ بعيداً عن إملاءات الولايات المتحدة الأميركية. وقد دعا بعض المثقّفين والحكومات العرب إلى إيجاد بدائل استراتيجية للمنظومة الغربية من دون أن يعني ذلك قطع الروابط معها، فقد دافع هؤلاء عن البديل الشرق آسيوي في ضوء صعود القوى الاقتصادية الجديدة في شرقي آسيا، واعتبروه عنصراً موازناً للمنظومة الغربية. وشرعت بعض الحكومات العربية في اتّباع سياسة الاتّجاه شرقاً.
وفي هذا الحوار، كانت تركيا غائبة تقريباً، لأنّ أنقرة خرجت منتصرةً من حرب الخليج الثانية ومن نهاية القطبية الثنائية، وبدأت تتبع سياسات تعظِّم من دورها الإقليمي في إطار الاندماج مع الاتحاد الأوروبي من ناحية، والاضطلاع بدور أكبر في المجال الاستراتيجي الجديد في آسيا الوسطى والبلقان، في إطار مفهوم "العثمانية الجديدة"، وتعميق العلاقة مع الولايات المتحدة. وكان التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل هو إحدى أدوات تعميق تلك العلاقة. وفي ذلك الوقت، كانت الأطراف العربية منشغلة بالآثار السلبية التي خلفتها حرب الخليج من جهة صعود القوى الإقليمية غير العربية في الشرق الأوسط. وزاد الطين بلّة توقيع تركيا اتّفاق التعاون العسكري مع إسرائيل في العام 1996. لكن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، بدأت تركيا تتبع سياسة جديدة تجاه الوطن العربي أساسها التوجّه "جنوباً" لبناء علاقات أوسع مع العرب. وقد بلغ التطوّر قمّته الدرامية حين انسحب رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس احتجاجاً على عدم إعطائه فرصة للردّ على افتراءات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس.
وقد أدّى ذلك إلى نشوء مناظرة في الفكر الاستراتيجي العربي حول الدور التركي في الشرق الأوسط والوطن العربي، وما إذا كانت تركيا تعدّ بديلاً استراتيجياً للدول العربية يعتمد عليه في تحقيق أهدافها. وقد أسفر ذلك النقاش عن ثلاثة تيارات: الأوّل ذهب إلى أنّ تركيا ليست بديلاً استراتيجياً للوطن العربي، وأنها تمارس سياسة "خداع واستغلال للعرب" وهي بذلك تمارس نوعاً من الوصاية الجديدة على العرب، وأنها تستفيد من علاقاتها العربية لتحسين أوراقها التفاوضية مع أوروبا ودعم علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والضغط على إسرائيل كي تقدّم المزيد من التنازلات لخدمة المصالح التركية الحيوية في المنطقة وليس لخدمة القضية الفلسطينية.
أمّا التيار الثاني فيقول إنّ تركيا تمرّ بتحوّلات استراتيجية عميقة أساسها التحوّل الصّعودي الواضح في اقتصادها، والتحوّل السياسي نحو سيادة القانون والدستور وإضعاف دور العسكر وتحييد المشكلة الكردية، كما أنها تتّجه نحو العالم العربي بوصفها شريكاً استراتيجياًّ، ليس من بوّابة الاستثمار فقط، ولكن من بوّابة الصراع العربي-الإسرائيلي أيضاً. ويضيف هؤلاء أنّ تلك التحوّلات تتطلّب رؤية استراتيجيّة للتّعامل مع تركيا باعتبارها أحد أهمّ ثلاثة أعمدة في بنيان المنطقة (بالإضافة إلى إيران ومصر)، وأنّ التعاون بين الدّول الثلاث من شأنه أن يغيّر من توازنات المنطقة، ويعيد رسم خرائطها، ويضيف إلى المعادلات الدوليّة معادلة جديدة.
والتيار الثالث يسلّم بأن هناك تحركاً تركياً مكثّفاً في العالم العربي، يتّجه لامتلاك أوراق إضافية للمناورة، ليس فقط للتأثير ودعم النّفوذ السّياسي والاقتصادي، ولكن لمواجهة تأثير القوى المنافسة ونفوذها، وخاصّةً إيران؛ معتبراً أنّ هذا التحرّك يحظى بدعم أميركي و أوروبي. كما يشير إلى أنّ الخيارات مفتوحة بالنّسبة إلى العرب للاستفادة من هذا التحرّك. ويدعو هذا التيار إلى حوار عربي-تركي لتعظيم مجالات التّفاهم واستثمار المصالح المشتركة لدعم الاستقرار في المنطقة.
ويدرس الباحث محمد السيد سليم في ورقته خيار "تركيا كبديل استراتيجي"، فيعرض للبدائل الأخرى ويحلّلها، سواء البدائل على المستوى العالمي (الأميركي والأوروبي والروسي والصيني) أو البدائل على المستوى الإقليمي (الإيراني والإسرائيلي)، ليعود لدراسة مدى توافر شروط البديل الاستراتيجي للعرب في تركيا. ويرى الباحث أنّ البديل التركي مهمّ شرط التوصّل إلى تفاهم استراتيجي عربي-تركي شامل حول المصالح المتبادلة. وهو بعد أن يعرّف ما المقصود بتعبير البديل الاستراتيجي، ويحدّد مقوّمات البدائل الاستراتيجية العالمية والإقليمية، وموقع تركيا منها، يعيّن الشّروط اللاّزمة لبناء تفاهم استراتيجي عربي-ـتركي.
الإطار المفاهيمي للبديل الاستراتيجي
المقصود بالبديل الاستراتيجي بالنسبة إلى دولة معيّنة هو الشّريك الذي تتوافر فيه صفة التّشابه مع الدولة السّاعية إلى التوافق معه في القيم والتوجّهات السياسية، وله القدرة والرّغبة في بناء علاقات مشاركة على المدى البعيد تحقّق مصالح جميع الأطراف. وهناك أربعة شروط يجب توافرها في البديل الاستراتيجي هي: امتلاك المقوّمات الاقتصادية والعسكرية والنّفوذ السياسي والثقافي الذي يمكّن الدولة السّاعية إلى التوافق معه منْ تحقيق كلّ أهدافها أو بعضها، ثمّ رغبة الشّريك الاستراتيجي في بناء علاقات مشاركة لوجود شبكة مصالح مع الطّرف الداخل في مشاركة معه، وثالثا اشتراك البديل الاستراتيجي مع الدولة السّاعية لإقامة شراكة معه في مجمل القيم والتوجّهات السياسيّة التي يسعى إلى تحقيقها في العلاقات الإقليميّة والدوليّة، والشّرط الرابع هو أن يكون ثمّة توافقٌ وطني داخل البديل الاستراتيجي حول مشروع المشاركة، ممّا يؤدّي إلى إمكانية إقامة علاقات مشاركة معه على المدى الطويل.أ
سفكلّما زادت البدائل الاستراتيجية زادت قدرة الدولة على تحقيق أهدافها ومصالحها، وزادت قدرتها على التحرّك المستقلّ في العلاقات الدولية، خاصّةً بالنّسبة إلى الدّول الصّغيرة والمتوسّطة.
والأهداف التي يسعى العرب إلى تحقيقها من خلال التّشارك مع البديل الاستراتيجي هي: المهام الأمنيّة وتشمل الصّراع العربي-الإسرائيلي وأمن الخليج العربي؛ والمهامّ الاقتصادية، وتشمل التّنمية من خلال التّجارة والاستثمار والتكنولوجيا والمساعدات الاقتصاديّة؛ والمهامّ الثقافية، وتشمل الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينيّة.
يرى الباحث محمد السيد سليم أنّ الولايات المتحدة ليست بديلاً استراتيجياً للعرب، لأنّها منحازة إلى إسرائيل في الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتضغط عليهم لتقديم تنازلات لإسرائيل على صعيد الاعتراف والتّطبيع من دون أن تضغط على إسرائيل لأداء التزاماتها في عملية السّلام من وقف للاستيطان والانسحاب من الأراضي العربية المحتلّة. لكن الولايات المتّحدة هي ضامن أمْن الدّول الخليجيّة العربية، وهي شريك استراتيجي مهمّ للعرب في التجارة والاستثمار والمعونات الاقتصادية لبعض الأقطار العربية كمصر، والمورد الأوّل للسّلاح إلى الأقطار العربية الخليجية، في حين أنّها ليست شريكاً في الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينية.
أمّا البديل الأوروبي فهو متوافق مع الولايات المتّحدة بشأن السّياسات الأمنيّة والتحوّلات الاقتصاديّة الأساسية في المنطقة، وإن كان هناك تنافسٌ بينهما على أسواق المنطقة. لكنّ الجانبيْن متّفقان على تعزيز الخلل الاستراتيجي القائم لمصلحة إسرائيل، وعدم ممارسة أيّ ضغوط على إسرائيل في مسألة عملية السّلام أو التخلّي عن سلاحها النّووي، بينما يتشدّد الأوروبيون في مسألة منْع الدّول العربية وإيران من امتلاك أيّ مشروع لأسلحة دمار شامل. فهناك تناغمٌ بين المنظومتين الأوروبيّة والأميركية تجاه الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتقسيم للعمل بين الجانبين في الشّرق الأوسط؛ فالاتّحاد الأوروبي يختصّ بـ"قضايا الأمن اللينة"، بينما تتعامل الولايات المتّحدة مع "قضايا الأمن الصلبة". فالدور الأوروبي يمهّد للدور الأميركي، إذ الأوّل يهيّئ الظّروف الملائمة للتّعاون والتفاهم عبْر العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة، والاهتمام بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان والحكم الصالح؛ فيما تتولّى الولايات المتحدة محاولات إعادة الهيكلة السياسية، وخرائط الطريق، والغزو المسلّح. فهناك ثلاثة أبعاد للدّور الأوروبي في علاقته بالدّور الأميركي وهي: تسهيل الدور الأميركي، وامتصاص الصّدمات الناشئة عنه، ودعمه صراحةً في الأزمات الحرجة.
فمن الناحية الواقعية، ليس الاتّحاد الأوروبي بديلاً مستقلاً عن البديل الأميركي، لأنّهما يكمّلان بعضهما بشأن الصّراع العربي-الإسرائيلي وأمن الخليج. لكن هذا البديل المشترك الأورو-أميركي هو المهيمن على النظام الدولي، كما أنه قاسم مشترك بين العرب والأتراك، حيث إنّ تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتسعى للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي، ومن ثمّ ليس ممكناً بناء مشاركة عربية-تركيّة خارج إطار التّفاهم مع البديل الأوروبي-الأميركي.
عادت روسيا إلى لعب دور عالمي، خصوصاً في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وذلك من خلال بوابة المشروع النّووي الإيراني، وعقد صفقة سلاح مع سوريا، واتّفاق للتّنقيب عن الغاز في الربع الخالي مع السعودية؛ لكنها لا تسعى إلى مواجهة مع الغرب، كما لا ترغب في نشوب حرب باردة جديدة. والصعود الروسي هو في صالح العالم العربي، لأنه كلما زادت تعددية العلاقات الدولية، حقق ذلك المصالح العربية في اتجاه لجم الغزوات العسكرية العلنية المتلاحقة على الدول العربية والإسلامية، على الأقلّ، والتي لم تحدث إلاّ في ظلّ نظام القطب الأحادي (غزو أفغانستان ثمّ العراق). لكن روسيا ليست حالياً في مركز يسمح لها بالتأثير الفعّال في القضايا الأمنيّة العربيّة، كما أنّها ما زالت في مرحلة إعادة بناء قدراتها الاقتصادية، ممّا يجعلها بديلاً اقتصادياً محدوداً.
كما لاح في الفترة الأخيرة البديل الصّيني، فالصين إحدى القوى العالمية الصاعدة اقتصادياً، وهي أكبر اقتصاد في العالم من حيث القوّة الشّرائية المتساوية، وتمتلك قدرات نوويّة وصاروخيّة ولكن قدراتها العسكرية التقليدية محدودة، علماً أنّ هذه القدرات هي الأكثر توظيفاً في العلاقات الدولية. كما أنّ مجتمعها فيه قومية كبرى متماسكة، وثقافة عريقة تتّسم بالشعور بالسموّ الحضاري.
لكن الصين تواجه معضلات أساسية ناشئة عن الصعود الاقتصادي ذاته، وأهمّها المشكلات الاجتماعية التي ترتّبت عن الصعود الاقتصادي، كالهجرة من الأرياف إلى المدن، وانتشار الجريمة المنظمة، والفساد السياسي، فضلاً عن التضخم السكاني، والنزعات الانفصالية في التيبت ومنغوليا الداخلية وسينكيانغ. كما تواجه الصين معضلة استيعاب القوى الرأسمالية الجديدة في نظام سياسي يقوم على احتكار الحزب الواحد للسلطة السياسية. وليس للقيادة الصينية استراتيجية سياسية عالمية، باستثناء مشروعها الاقتصادي لتأمين مصادر استيراد النفط والأسواق التجارية. إلاّ أنّ الصين تؤكّد رغبتها في تحويل النظام العالمي إلى نظام متعدّد الأقطاب، لكن لا يبدو أنّ لديها برنامجاً لتحقيق ذلك. وهي تتوافق في مجلس الأمن مع اتّجاهات القوى الغربية في جميع القضايا ولا تتحدّى النّفوذ الأميركي بل تتجنّب أيّ مواجهة مع الولايات المتّحدة سياسياً وعسكرياً.
والواقع أنّ الصين لا تعدّ حتى الآن قوّة مؤثّرة في التوازنات العالميّة لأسباب عدّة، أبرزها البعد الجغرافي عن قلب الكتلة الأوراسية، ممّا رسّخ اعتقاداً لدى العقل السياسي الصيني بهامشية الصين، فضلاً عن الإدراك الثقافي لخصوصية الحضارة الصينية وسمّوها على الحضارات الأخرى، إضافة إلى محدودية انتشار اللغة الصينية ممّا حدّ من الدّور العالمي للصّين.
إذاً، فالصّين بديل استراتيجي أمني واقتصادي محدود في الوقت الرّاهن، ولكنّها بديل محتمل في المدى البعيد.
وهناك أيضا البديل الإيراني، فإيران شريك للعرب بحكم الصِّلات التاريخيّة والجوار الجغرافي والتّداخل السكّاني، فهي تطلّ على الخليج العربي، حيث يبلغ طول سواحلها الخليجيّة 3200 كيلومتر، وباقي الدول المطلّة على الخليج هي أقطار عربيّة. ولمّا كان الخليج هو المَنفذ البحري الوحيد لإيران، والمعبر الرّئيس لنحو 80% من صادرات نفطها، فإنّ العلاقات العربية-الإيرانية تكتسب أهميّة خاصّة. ونتيجة الصراع الإيراني- الأميركي بشأن البرنامج النووي الإيراني والعراق وفلسطين ولبنان ودعم دول الخليج العربية للولايات المتحدة وخشيتها من النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، فإنّ إيران لا تشكّل في الوقت الرّاهن بديلاً استراتيجياً أساسياً للعرب في ما يتعلّق بالقضايا الأمنيّة، خاصّة إذا كانت الاستراتيجيّة العربية هي التّسوية السّلمية للصّراع العربي-الإسرائيلي، ولكنها بديل مهمّ إذا كانت تلك الاستراتيجيّة تدور حول المقاومة. ولذلك تظلّ إيران في نظر الباحث السّيد سليم، بديلاً استراتيجياً في المدى البعيد إلى أن تحلّ الأزمة النوويّة الرّاهنة.
وقد اقترح بعض الدّارسين بديلاً آخر هو ما سمّي بـ "مثلّث القوة" الذي يقوم على أساس التوافق الاستراتيجي العربي-الإيراني-التركي، لكن واقعية هذا البديل تبدو محدودة حالياً.
ولعلّه من قبيل الخيال أن نتناول إسرائيل بديلاً للوطن العربي، فهي العدوّ الأساسي الذي يبحث بعض العرب عن شريك لمواجهته. ولكن الولايات المتحدة طرحت هذا الخيار وطالبت بتحويله إلى واقع. ويرى السيد سليم أنّ التناقض بين العرب وإيران هو تناقض ثانوي مقارنةً بتناقضهم مع إسرائيل، مشيراً إلى أنّ أكبر المعضلات في العلاقات العربية-التركية تكمن في تلك النّقطة، أي إلى أيّ حدّ ترغب تركيا في موازنة علاقاتها العربية-الإسرائيلية.
خلاصة القول إنّ البدائل الاستراتيجيّة العربية في حقبة ما بعد الحرب الباردة تبدو محدودة جداً، وبالذّات في المجال الأمني، ممّا يقودنا إلى مناقشة البديل التركي. من المؤكّد أنّ تركيا دولة مهمّة في الشّرق الأوسط وآسيا، ويشير الدارسون الغربيون والأميركيون إلى أنّ تركيا تعدّ من الدول المحوريّة للولايات المتّحدة. فهي بموقعها كحلقة اتّصال بين الشّرق والغرب والشمال والجنوب والإسلام والمسيحية، قادرة على التأثير في بلدان تبعد آلاف الأميال عن البوسفور. كما تتمتّع تركيا، بنموّ اقتصادي ثابت، وازدهار في صفوف الطبقة الوسطى، لكنها تعاني الكثير من الصعوبات كالضّغوط السكّانية والبيئية والتحدّيات العرقيّة للأقليات، والتنافس المرير مع اليونان على قبرص وعلى حدود عدد من الجزر وكذا مع مقدونيا، والخلاف مع سوريا والعراق بشأن التحكّم في موارد نهر الفرات المائية، والعلاقات الحرجة مع بلدان آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة.
فعندما زار الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيا في نيسان/أبريل 2009، أبدى اهتمامه ببناء شراكة استراتيجية مع تركيا، وأيّد الدور التركي في عملية التسوية العربية -الإسرائيلية، ودورها في العالم الإسلامي. فإذا كانت تركيا دولة محورية في سياسة الولايات المتحدة، فإلى أيّ حد هي كذلك في سياسات العرب؟ يحاول الباحث محمد السيد سليم تطبيق الشّروط الأربعة المطلوبة للبديل الاستراتيجي والمهام المبتغاة من البديل على الحالة التركية، ليخلص إلى الإجابة عن السّؤال المطروح.
قدرات تركيا الاستراتيجية
"
أمام العرب والأتراك فرصة تاريخية نتيجة انبثاق رغبة مشتركة مخلصة في التّعاون والتنسيق إلى أعلى درجة، مستفيدين من لحظة التحوّلات الإقليمية والدوليّة التي توفّر نجاحاً لهذا التعاون لوجود مكوّنات ثقافيّة وحضاريّة وجغرافيّة مشتركة بين تركيا والعالم العربي تشكّل أحد الحوافز الأساسيّة لبناء تعاون مشترك وصلب في كلّ المجالات.
"
حدّد هاينز كرامر في دراسة مهمة له نشرت في العام 1996، ثلاثة عناصر للقوّة التركية هي: الاستقرار السياسي، والقدرات الاقتصادية، والقدرات العسكرية. وقد شهدت تركيا لاحقاً تطوّرات دعمت هذه النتيجة من تعميق الديمقراطية والاستقرار، وتهدئة المشكلة الكردية، وتقليص نفوذ المؤسّسة العسكرية، وتحسين العلاقات مع دول الجوار.
وتتفوّق تركيا على جميع جيرانها في الإنجاز الاقتصادي، فهي ذات قاعدة صناعية واسعة ترتكز على أرضية من المواد الأولية، باستثناء الطاقة. كما أنّها مكتفية زراعياً، وتتمتّع بقاعدة متطوّرة من الموارد البشريّة، لكنها عاجزة عن تطوير نفسها في المدى المنظور إلى قطب اقتصادي ومالي تتمحور حوله الدول المجاورة. وهي مِنْ أقوى الاقتصادات الصاعدة، إذ زاد حجم الناتج المحلِّي التركي من 300 مليار دولار عام 2002 إلى 750 مليار دولار عام 2008، بمعدل نموّ مقداره 7.3 في المئة سنوياً. كما ارتفع مستوى الدخل الفردي من 3300 دولار إلى عشرة آلاف دولار سنوياً، وارتفعت الصّادرات من 30 مليار دولار إلى 130 مليار دولار في الفترة نفسها.
وعلى المستوى العسكري، تعدّ تركيا الأقوى بين جيرانها عسكرياً بحسب كرامر(1996)، وميزان القوى الإقليمي في صالحها؛ فهي تصنع جزءاً كبيراً من سلاحها، وبالذات الطائرات المقاتلة والسفن الحربية. وتكفي قدرات تركيا العسكرية للدفاع عن تكامل البلاد القومي، لكنها ليست كافية لتقديم دعم عسكري لدور قوّة إقليمية طويل الأجل. لكن تركيا تتطلّع إلى دور يتخطّى قدراتها كدولة منشئة لنمط النظام الإقليمي، على حدّ تعبير داود أوغلو.
وقد انتهجت تركيا منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي سياسة توافقيّة مع جيرانها الأوروبيّين والآسيويّين والعرب، أي سياسة "صفر من المشكلات مع الجيران"، وفقاً لداود أوغلو الذي صرّح بعد يوم واحد من تعيينه وزيراً للخارجيّة أنه يريد أن تقوم بلاده بدور أكبر في الشّرق الأوسط والبلقان والقوقاز. وهكذا، فإن تركيا راغبة في بناء علاقات استراتيجية مع العرب ومع كل الأقاليم التي تتعامل معها. وهي رغبة تحظى بتوافق تركي داخلي، فضلاً عن وجود توافق عربي - تركي في التوجهات الثقافية الدينية والسياسية. وعليه، فإن تركيا هي أكثر البدائل الاستراتيجية صدقية بالنسبة إلى العرب، حيث يوجد توافق عربي حول هذا البديل، ولا اعتراض أميركي أو أوروبي أو إيراني على هذا الدور.
أمّا إلى أيّ حدّ يمكن لتركيا أن تؤدّي دوراً فعالاً في تحقيق الأهداف العربية من خلال علاقة المشاركة الاستراتيجية؟ فإن تركيا تضطلع بدور في حلّ الصراعات الإقليمية عبْر الانخراط والتفاعل مع كلّ الأطراف للتوصّل إلى نتائج لصالح كلّ الأطراف، مثل الدّعوة إلى إنشاء آليّة اجتماعات الدول المجاورة للعراق، وإنشاء ملتقى أنقرة للتعاون الاقتصادي بين فلسطين وإسرائيل وتركيا. وكذلك دورها في الوساطة بين العرب والإسرائيليّين في المفاوضات.
كما تنصرف تركيا إلى الاضطلاع بدور مركزي في بناء الأمن المشترك في الشّرق الأوسط عبْر المبادرات الجماعية، مثل مبادرة إسطنبول للتعاون، وهي مبادرة في إطار حفل شمال الأطلسي. ويشمل ذلك أن تقوم تركيا بدور الدولة التي تبني النظام في الشرق الأوسط، أي اقتراح هيكلية الأمن في المنطقة والمشاركة في تطبيقها. وتركيا قادرة على لعب أدوار بوصفها مركزا اقتصاديا إقليميا ومركزا للحوار بين الحضارات وجسراً بين منظّمة المؤتمر الإسلامي والاتّحاد الأوروبي.
مجالات التعاون العربي-التركي
في القسم الثاني من الكتاب فصلان، كتب الأوّل الباحث محمد نور الدين مبرزًا وجهة نظر عربية في التعاون والتّنسيق العربي-التركي، والثاني يقدّم وجهة نظر تركية كتبها نورشين غوناي أتش أوغلو.
ويتعرّض نور الدين في دراسته لمجالات التعاون بين العرب والأتراك في الاقتصاد والسّياسة والثّقافة والاجتماع. ويرى أنّ هناك حاجة ملحّة لتشكيل لجنة تقييم مشتركة عربية-تركية ترصد واقع كلّ طرف وإمكاناته، بحيث تسهل الاستفادة من ثغرات الطّرف الآخر لمزيد من التكامل الاقتصادي. ويشير إلى أنّ من أصل 300 مليار دولار قيمة التجارة الخارجية التركية عام 2008، فإنّ حصّة العالم العربي تقارب الـ17 مليارا فقط، وهو رقم مقبول لكنه دون الحجم المأمول بلوغه، حيث تحتاج العلاقات الاقتصادية إلى مزيد من التطوير والمتابعة.
فإن كان العالم العربي سوقاً مهمّة للمنتجات الصّناعية والزراعية التركية، فإنّ تركيا تسدّ جزءاً من احتياجاتها من النّفط والغاز من العالم العربي، فيما تستورد الجزء الأكبر من روسيا وإيران. وتتطلّع تركيا إلى أن يكون النفط العراقي من المصادر الأساسية لرفد خطّ نابوكو للطاقة المزمع إنشاؤه في السّنوات القليلة المقبلة، فضلاً عن وجود خطّ كركوك-يومورطاليق.
ويمكن التعاون بين العرب والأتراك في تصدير النفط والغاز وفي المشاريع المائية والصناعية والزراعية والاستثمار المتبادل، خصوصاً الاستثمار العربي في تركيا في العقارات والسّياحة والتصنيع والزراعة، وإنشاء سوق اقتصاديّة مشتركة بين الجانبين.
أمّا على الصعيد السّياسي، ففقد تسارع التّضامن السّياسي بين الجانبين نتيجة المخاطر والتهديدات المشتركة المستجدّة. وما كان لهذا التّضامن أن يتطوّر إلى تعاون استراتيجي واتّفاقيات غير مسبوقة بين تركيا من جهة، وكلّ من سوريا والعراق ومجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى، لو لم تكن المكوّنات الثقافية والحضاريّة والذهنية والإحساس بالمصير المشترك واحدة لدى الطرفين.
ويرى نور الدين أنّ أمام العرب والأتراك فرصة تاريخية نتيجة انبثاق رغبة مشتركة مخلصة في التّعاون والتنسيق إلى أعلى درجة، مستفيدين من لحظة التحوّلات الإقليمية والدوليّة التي توفّر نجاحاً لهذا التعاون؛ مشيراً إلى وجود مكوّنات ثقافيّة وحضاريّة وجغرافيّة مشتركة بين تركيا والعالم العربي تشكّل أحد الحوافز الأساسيّة لبناء تعاون مشترك وصلب في كلّ المجالات. ويعتبر أن هذا التعاون يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العمق الاستراتيجي له جغرافياً وحضارياً، والمتمثّل في إيران، ما يمنحه المزيد من الصّلابة والحماية. كما يجب أن تتوسّع مجالاته وساحاته إلى كلّ المنظّمات الإقليميّة والدوليّة ومنها منظّمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرها من المنظّمات الدولية.
أمّا نورشين غوناي آتش أوغلو فقد أوضح في ورقته أنّ تركيا لا تملك خيارا بالنسبة إلى علاقاتها مع جيرانها وحلفائها الغربيّين. فيوجد وراء خيار تركيا في اتّباع سياسة التوازن الفعّالة ومتعدّدة الأطراف التي بدأت تنضج ملامحها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، عقلانيّة تظهر أنّها تفهم مشاكل المنطقة أفضل من دول المنطقة. فتركيا زادت إيجابيّاتها الاستراتيجية التي وصفها الأكاديميون الغربيّون بـ "القوّة المرنة"، لا سيّما في إطار الحوار التركي-العربي. ولا يمكن إنكار حيويّة العلاقات الاقتصادية والثقافية التي تدخل في إطار القوّة المرنة. ويعطي أمثلة على ذلك منها: انتخاب أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً لمنظّمة المؤتمر الإسلامي، ومقرّها جدة، في عام 2005، ممّا قوّى العلاقات بين تركيا ودول الخليج العربية. ووقعت اتّفاقية تشكيل المجال التركي-السعودي للعمل في الرياض عام 2003، واتّخذ قرار إنشاء صندوق لتشغله مؤسّسة دولية من أجل تشجيع الاستثمار في تركيا، وتوقيع "اتّفاقية إطار التعاون الاقتصادي" مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وأشار الباحث إلى نقطتين مهمّتين من جهة التعاون الاستراتيجي-السّياسي الإقليمي، أثّرتا في الحوار العربي-التركي هما: إدراك التّهديد الغربي ذاته، بعد ربط هجمات 11 سبتمبر 2011 بالمسلمين؛ وتحوّل الإسلام إلى مشكلة أمن، وهو ما أزعج الدول العربية وتركيا. ويمكن للحوار أن يشكّل أرضيّة لتطوير مفهوم مشترك في المنطقة، مثل مبادرة الدول المجاورة للعراق المتعلّقة بمستقبل هذا البلد. والنقطة الثانية هي تدخّل الولايات المتحدة من جانب واحد في العراق عام 2003، فقد أدّى القلق المتعلّق بمستقبل العراق إلى تسريع الحوار الاستراتيجي بين دول المنطقة. فمستقبل العراق له القدرة على التأثير في العلاقات العربية-التركية والأميركية-التركية-العربية، والتّعاون الإقليمي.
وقد عالج القسم الثالث من الكتاب واقع العلاقات العربية - التركية وآفاقها بورقة كتبها غوفين صاق كوجهة نظر تركية. وقد تجنّب الحديث عن موضوعيْ الطّاقة ومشكلة المياه وركّز على العلاقات التجاريّة - الصناعية. ويعتبر صاق أنّ مرحلة التحوّل الاقتصادي قد أدّت إلى نتائجَ اجتماعيّة وسياسية غيّرت السّياسة الخارجية بسرعة. ولذلك يرجع السّبب الأساسي لاهتمام تركيا بآسيا الوسطى والبلقان وليس الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى التحوّل الاقتصادي لتركيا. ويشير إلى مرحلة الإصلاحات التي بدأها الرئيس أوزال في ثمانينات القرن العشرين، حيث كانت الصناعة متجمّعة في مناطقَ معيّنة من الأناضول، وتتركّز في إسطنبول و إزمير وأضنة وبورصة، لكن التّصدير أصبح عنصراً مهماً بالنّسبة إلى تركيا بعد دخولها مرحلة سوق التجارة الحرّة بسرعة، وذلك بعد تطوير السّياسة الاقتصاديّة بشكل شامل في الثّمانينات. لذلك، رأت الجهات المختصّة ضرورة تحرّر التّجارة وفعاليّتها لإكساب تركيا عملة صعبة. ولم يقتصر هذا التحرّر على زيادة التّصدير، بل أدّى إلى انتشار الصّناعة في مدن تركية صغيرة عدّة مثل دنيزلي وغازي عنتاب وقيسري وقونية وأنقرة.
وبعد عرضه للتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية في تركيا، يطرح الباحث نظرة تركيا إلى المنطقة. فقد بدأت أوّلاً تتغيّر تشكيلة الصّادرات التركية بشكل سريع منذ عام 1999 حتّى عام 2009. وكانت حصيلة سوق الاتّحاد الأوروبي من مجمل صادرات تركيا 54 في المئة عام 1996، وارتفعت هذه النسبة إلى 56 في المئة عام 2000، وانخفضت فيما بعد إلى 44 في المئة. أمّا نسبة تصدير تركيا إلى الشّرق الأوسط فقد ارتفعت من تسعة في المئة إلى 19 في المئة خلال الفترة نفسها. وإذا نظرنا إلى الميزان التجاري مع الدّول العربية، نرى أنّه تحوّل إيجابيا لصالح تركيا، على الرغم من فاتورة النّفط في هذه المرحلة، عدا بعض الدول مثل قطر.
وقدّم منير الحمش وجهة نظر عربيّة عن واقع العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. وقال إنّ هذه العلاقات تنطوي على مجموعة من المحدّدات المؤثّرة التي تتحكّم في مسيرتها. وتتمثّل هذه المحدّدات في مجموعة من العوامل والعناصر التاريخية والسياسية والثّقافية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن العوامل الاستراتيجيّة التي تتعلّق بالمكانة الجيوسياسيّة لكلّ من البلاد العربيّة وتركيا. ومن أهمّ المحدّدات التي يوردها الباحث: الإرث التاريخي في العلاقات العربيّة - التركيّة والتي لم تبدأ بالفتح العثماني للأقطار العربية، وإنّما مع اعتناق القبائل التركية الإسلام، حيث أصبح للأتراك وجودٌ فعلي في الدولة العربيّة الإسلامية. وقد شارك السّلاجقة الأتراك في مواجهة الغزو الفرنجي، كما كان لنور الدين زنكي دورٌ في توحيد بلاد الشّام ومصر وإقامة دولة رائدة في مجالات الحياة كافّة.
ومن المحدّدات المهمّة أيضاً علاقة تركيا مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، إذ ومنذ قيام دولة تركيا الحديثة، اتّخذت عددًا من المواقف السياسية والاقتصاديّة الموالية للغرب، متصوّرةً أنّ انفصال تركيا عن محيطها العربي والإسلامي هو بمثابة جواز مرور لها نحو الغرب الذي أعلنت تمسّكها بنهجه السّياسي والاقتصادي والثّقافي.
كما تشكّل العلاقة التركيّة - الإسرائيليّة والتطوّرات الحاصلة في طبيعة النظام الاقتصادي التركي وتوجّهاته، ومسألة المياه وقضيّة اسكندرون، ونظرة تركيا إلى العرب ونظرة العرب إلى تركيا، محدّدا رئيسًا آخرَ للعلاّت الاقتصاديّة بين تركيا والعرب.
أمّا القسم الرابع من الكتاب فقد عالج مسألة الهويّة بين تركيا والوطن العربي من وجهتيْ نظر الطرفيْن. وقدّم وجهة النّظر العربيّة سيار الجميل الذي اعتبر أنّنا في حاجة إلى فهم راسخ للهويّة ومعرفة جذورها التاريخية، خصوصاً إبان المرحلة الحرجة التي انفصل خلالها العرب عن الأتراك بتأثير انهيار الدّولة العثمانيّة التي كانت تجمعهم وأقوام عدّة أخرى على مساحة جغرافية كبرى في مركز العالم. كانت الهويّة عثمانيّةً على امتداد قرون عدّة، وكانت القوميّات موجودة بحكم اللّغة والثقافة والتعليم والمشاعر، ولكن الوعي لم يكن يتجاوز، في ذلك العصر، قوّة الهويّة العثمانية التي كانت بمثابة الرابطة الحقيقية لمن كان تحت المظلة العثمانية على امتداد تاريخ طويل. ويرى الجميل أنّ هناك الضرورة لإعادة التفكير في مسألة الهويّة، خصوصاً عند ثلاثة مجتمعات كبرى في الشرق الأوسط هي: العرب والأتراك والإيرانيون الذين أثّروا عميقاً في التاريخ الحديث.
وقدّم الباحث أتيان محجوبيان وجهة النّظر التركية بشأن مسألة الهويّة، فاعتبر أنّ التحوّل والتغيّر الذي تشهده تركيا حالياً في علاقاتها العربيّة: "يتحقّق بشكل أسرع من أيّ تغيّر في علاقات تركيا في أيّ ساحة أخرى. وإذا أردنا طرح رؤية تتعلّق بالمستقبل فعلينا أن نعرف ونفهم ماذا سيحدث وإلى أين تذهب تركيا خلال العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة المقبلة. و أمام تركيا طريقان بشكل عام: الأوّل توجد فيه تركيا ممثّلاً مهماً في العالم والهويّة التركية التي تضعف يوماً بعد يوم. أمّا الثاني فتوجد فيه الهويّة التركية التي تحافظ على نفسها وقوّتها. مقابل ذلك توجد تركيا لاعباً دولياًّ عادياًّ ووسطا". قد يستغرب الكثيرون هذا التّناقض، لأنه في الحالة الطبيعية تقوى هويّة الدول كلّما قويت الدّولة، لكن الوضع ليس كذلك في عالم اليوم، وفي تركيا. إنّ تركيا ستصبح دولة مهمّة في العالم حسب إضعافها للهويّة التركية، وهذا الوضع سيكون أوضح ديناميكياً خلال السّنوات المقبلة.
ويتناول الكتاب في قسمه الخامس الاتّجاهات الدينيّة-السّياسية في الوطن العربي وتركيا، فكتب عن هذه الاتّجاهات في الوطن العربي محمد جمال باروت، الذي قال إنّ نشأة الحركة الإسلامية الحديثة في الوطن العربي ترتبط بالتحوّل السّريع الذي قامت به تركيا "الكمالية" من عمليّة الفصل بين الخلافة والسّلطنة في نوفمبر 1922، إلى عملية إلغاء الخلافة نفسها في مارس 1924، وفصل الدّين عن الدّولة بشكل تامّ في ضوء المفهوم اليعقوبي الراديكالي للعلمانية الذي أسّسته الجمهورية الفرنسية الثالثة. وبذلك، اختصرت تركيا الكمالية من ناحية المقارنة في أقلّ من سنة ونصف ما استغرقه تطوّر العلمانيّة الفرنسية من قيام الثورة الفرنسية في العام 1789 بنوع من قومنة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية بالفصل الإداري وليس العقيدي أو الطقسي بين الدّولة وكنيسة روما الكاثوليكية، إلى غاية الفصل اليعقوبي أو الراديكالي التامّ بين الدّين والدّولة في دستور الجمهوريّة الثالثة في العام 1905.
وكتب عن الاتّجاهات الإسلاميّة في تركيا الباحث حاتم إيتي، فعرض لكيفية وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة، وتطوّر الحركة الإسلامية في تركيا في إطار هذه الخبرة.
أمّا القسم السادس من الكتاب، فيطرح مسألة الجيش والسّلطة في تركيا والعالم العربي. ويناقش فيه الباحث علي بيرم أوغلو واقع تركيا، فيما يستعرض الدكتور منذر سليمان الواقع العربي.
وينقل الكتاب في الختام ما دار من مناقشات خلال المائدة المستديرة التي توّجتْ أعمال النّدوة الفكرية، حيث طرحت خطّة عمل للمستقبل شارك فيها عددٌ من الباحثين. وينتهي الكتاب بكلمتين لمدير مركز دراسات الوحدة العربية خير الدين حسيب وللباحث التركي منصور اق غون.
هيثم أحمد مزاحم
2011/05/25
بحوث ومناقشات ندوة فكرية
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية
طبعة أولى ـ بيروت ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2010
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 كتاب "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر"، والذي يجمع بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها المركز بالاشتراك مع المؤسسة العربية للديمقراطية ومركز الاتجاهات السياسية العالمية في إسطنبول.
كلمات الافتتاح
العلاقات العربية-التركية: منظور استراتيجي
خيارات الوطن العربي الاستراتيجية
قدرات تركيا الاستراتيجية
مجالات التعاون العربي-التركي
يقول محمد عبد الشفيع عيسى في التقديم لكتاب تركيا والخيارات الاستراتيجية العربية:
قراءة في كتاب: "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر"، ثمة تغيرات كثيرة حصلت منذ انعقاد الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية خلال تشرين الثاني/نوفمبر 1993 بعنوان "العلاقات العربية-التركية: حوار مستقبلي"، بالتعاون مع "مؤسّسة دراسات الشرق الأوسط والبلقان" في تركيا، ففي الفترة الفاصلة بين انعقاد الندوة الأولى في أوائل تسعينات القرن الماضي وانعقاد النّدوة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، أي على امتداد ستّة عشر عاماً، حدثت تغييرات جذريّة من أبرزها التحوّل العاصف في بنية النّظام الدولي إثر انهيار الاتّحاد السوفييتي، القطب الموازن للولايات المتّحدة، عبر عملية تدرجيّة نسبياً خلال الفترة من سنة 1985 إلى سنة 1990، وانتهت بإعلان وفاة الاتحاد السوفييتي رسميا.
وعلى الجانب التركي فقد انقضت - إلى حدٍّ معيّن - بسقوط الاتحاد السوفييتي موجبات الرابطة التركية القديمة مع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، عبْر الحلف الأطلسي خصوصًا. وانفتحت أمام تركيا آفاقٌ أكثر رحابةً للتطلّع في جميع الاتّجاهات، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، فتطلّعت إلى إعادة بناء مجالها الحيوي في آسيا الوسطى، بين البلدان الناطقة بالتركية. كما سعت إلى تحسين علاقاتها مع إيران والهند والصّين والعالم العربي. وإلى الشّمال والغرب، أخذت تركيا تواصل السّير في اتّجاه الالتحاق بالاتّحاد الأوروبي.
وشكّل وصول حزبِ العدالة والتنمية ذي الاتّجاه الإسلامي إلى رأس السّلطة في تركيا عام 2002 أحد أبرز التّغيرات السّياسية المحدّدة للعلاقات التركية-العربية. وكان للتّحوّل الجوهري في المسار الاستراتيجي للسّياسة الخارجية التركية بصماته العميقة، أبرزها انعكاساته على تطوّر العلاقة بين تركيا والعالم العربي، والتي توّجت بازدهار العلاقات التجارية بين الجانبيْن من نحو 4.7 مليار دولار عام 1992 إلى 22.5 مليار دولار في عام 2007. كما تحسّنت العلاقات العربية - التركيّة على المستوييْن الرّسمي والشّعبي على نحو لافت في السّنوات الأخيرة، وبلغت ذروتها الفعلية والرّمزية في لحظات فاصلة من تطوّر القضيّة الفلسطينية، خصوصاً مع مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في آخر عام 2008 وبداية عام 2009، وبمناسبة الاعتداء على أسطول الحريّة الذي سعى إلى كسر الحصار على غزّة في حزيران/يونيو 2010.
ويرى محمد شفيع عيسى في تقديمه أنّ هذا التطوّر اللافت يمثّل جزءاً من التوجّه الاستراتيجي التركي الجديد للتفتّح على المحيط الإقليمي لتركيا، في جميع الاتّجاهات، بالاستفادة من جيوبوليتيكا الموقع ومن إرث التاريخ. وتنحو السّياسة التركية في هذا الفضاء الإقليمي العربي والشّرق أوسطي إلى إعادة النّظر في الحدود الأوسع لهذا الفضاء، بما لذلك من انعكاسات على العلاقة مع إيران، إيجاباً، والعلاقة مع إسرائيل، سلباً.
في قلب هذا المناخ الجديد عُقدت النّدوة موضوع الكتاب، وتضمّنت عرض اثنيْ عشر بحثاً: ستّة منها للباحثين العرب وستّة للباحثين الأتراك، إضافة لمداولات واسعة وعميقة للمعقبين على الأبحاث والمشاركين في الندوة ومناقشاتها، بما يزيد على أربعين شخصية ذات ثقل فكري من الجانبين العربي والتركي.
كلمات الافتتاح
"
الحرب الباردة حدّدت إلى حدّ كبير إطار منظور تركيا الاستراتيجي حيال الشّرق الأوسط بشكل عامّ والعالم العربي بشكل خاصّ. وقد تشكّل منظور تركيا الاستراتيجي حول الحدّ من تأثير الاتّحاد السوفييتي في الشّرق الأوسط. كما أنّ التّيار القومي العربي كان وسيلة لدعم تأثير الاتّحاد السوفييتي في المنطقة.
"
شدّد محسن مرزوق، الأمين العام للمؤسّسة العربية للديمقراطية، في كلمة الافتتاح على محور أساسي يتعلّق بالتعلّم من تجربة تركيا الحديثة في الانتقال الديمقراطي، وهي تجربة شديدة الثّراء، ينبغي فحصها للاستفادة منها في البلدان العربية.
أمّا الدكتور حسيب خير الدين، مدير عام مركز دراسات الوحدة العربيّة، فقد اعتبر في كلمته الافتتاحية أنّ هذه الندوة هي حوار مستقبلي بين النّخب الفكرية والسياسية العربية والتركية في محاولة لتوسيع اهتمامها بموضوع هذه العلاقات ومستقبلها وتعميقه آملاً أن ينتقل هذا الاهتمام إلى الأوساط الشّعبية عبْر وسائل الإعلام والنّشر المختلفة. وأشار إلى الخطوات الكبيرة التي حقّقها التعاون التركي-العربي خلال السّنوات الأخيرة، حيث انخرطت تركيا في العالم الإسلامي وطوّرت علاقات إيجابيّة مع الدول العربية؛ مشيراً إلى ضرورة أن تهتمّ تركيا بالمصالح الحيويّة لسوريا والعراق في المياه المشتركة، وتصل إلى حلول تحقّق المصالح المشتركة وتتناسب مع الاتّفاقات الدّولية. وأوضح أنّ العرب يتطلّعون إلى تركيا منفتحة على العرب وليس "تركيا العثمانية".
العلاقات العربية-التركية: منظور استراتيجي
تحدّث وكيل وزارة الخارجية التركية السفير انغين صويصال عن اهتمام وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو بالحوار التركي-العربي في عموم الشّرق الأوسط. وقد أوضح أنّ الوزارة رشّحته لأحد برامج التدريب في المدرسة الأوروبية في الثمانينات، وذلك في إطار إعدادها لخبراء شباب استعداداً للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي، لذلك ركّز في كلمته على البعد الأوروبي في سياسة تركيا الخارجية، وكيفية إكمال مرحلة التكامل مع الاتّحاد الأوروبي. وكرّر كلام أوغلو بأنّ سياسة تركيا تهدف إلى خفْض المشاكل مع جيرانها إلى نقطة الصّفر، تأكيداً لمقولة كمال أتاتورك "السّلام في الوطن والسّلام في العالم".
وقال صويصال إنّ تركيا تتّخذ أربعة مبادئ سياسية خارطة الطريق وهي: الأمن للجميع، والحوار مع الجميع، وخلق التبعية الاقتصادية بشكل متبادل، والاحترام المتبادل؛ وذلك من أجل إنشاء ديناميّة التعاون الإقليمي كمسؤولية نابعة من التاريخ والجغرافيا من أجل نقل الطاقة الإيجابيّة المذكورة. وأعطى أمثلة على ذلك: التّعاون الاقتصادي في البحر الأسود ومنظّمة التعاون الاقتصادي وموقع تركيا في منظّمة المؤتمر الإسلامي، وإعطاء دفعة جديدة لمجموعة البوسنة والهرسك، و التعاون الثّلاثي بين تركيا وأفغانستان وباكستان.
وأوضح أنّ وزارة الخارجية في تركيا ليست الوزارة الوحيدة التي تصنع السياسة الخارجية، وأنّ تركيا تحرّكت في هذا التغيّر بثقة ذاتيّة من حيث موقعها، وهي عضو في مجموعة العشرين، ودخلت مرحلة المفاوضات مع الاتّحاد الأوروبي، وأُشرِكت في أغلب المبادرات الإقليمية.
ويرى السّفير صويصال أنّ مشاكل الشّرق الأوسط أصبحت بعد مرحلة الحرب الباردة واعتداءات 11 سبتمبر مرتبطة ببعضها البعض ويؤثّر بعضها في بعض أيضاً، وذلك ساري المفعول في الجغرافيا التي تتقاطع فيها منطقة آسيا مع الشّرق الأوسط، وباكستان مثال جيّد على ذلك. فقد تحمّلت تركيا الدّور التوجيهي في منبر مجموعة صداقة باكستان الديمقراطي، من أجل استقرار هذا البلد. كما جاءت زيارة وزير الخارجية التركي إلى بغداد بعد الاعتداء الإرهابي على مقرّ وزارة الخارجية العراقية في بغداد، والذي قتل فيه مئة شخص، ومن ثَمّ زيارة دمشق.
ويضيف صويصال أنه يجب ألاّ ننسى حدود ميزات تركيا الجغرافية، فهي تتقاسم حدوداً طويلة مع سوريا والعراق في الجنوب. إنّ رؤية تركيا ليست من الناحية الأمنية بل من الناحية التاريخية، ومن ناحية تطوير العلاقات الثنائية، فلا تستند إلى الوضع الراهن بل إلى مفهوم يطرح هذه الرؤية الدائمة والمتعلّقة بالمنطقة بشكل دائم. وقد تحرّكت تركيا منذ زمن طويل بمفهوم ديبلوماسي مؤثّر، وتحمّلت مسؤولية من ناحية إزالة الخلافات التي ظهرت مع كلٍّ من سوريا والعراق. ولا يمكن أن يكتسب ذلك معنى إلاّ من خلال طرحه عبر مسؤولية نابعة من مفهوم "الانتماء الإقليمي" (Regional ownership) والتّضامن المتبادل والحوار بشكل شامل. وبالنّتيجة أصبح ذلك عنواناً في مقدّمة جدول أعمال سياستها الخارجية المتعلقة بالشّرق الأوسط. والفرق بين العلاقات التركيّة-السّورية في عام 1988 وبين هذه العلاقات في الوقت الراهن مذهل جداً. فقد اجتمعت اللّجان التركية-السورية في عنتاب (حلب) بمشاركة عشرة وزراء من كلّ بلد وتمّ توقيع 48 بروتوكولاً. وقد شهدت العلاقات مع العراق التطوّر نفسه تقريباً.
وحول مشروع انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي، قال السّفير صويصال إنّه يوجد منحنى تطوّر لمشروع التّكامل الأوروبي وأنه يؤمن بأنّ تركيا ستساهم في مستقبل هذا المشروع وستنضمّ إلى الاتّحاد. وأوضح أنّ على تركيا أن تنظر بثقة ذاتيّة إلى بعد الاتّحاد الأوروبي، مشيراً إلى أنّ بلاده تلعب دوراً في تعريف المشكلة الأوروبيّة، لذلك فإنّ أوروبا في حاجة إلى تركيا. وليس هناك مانعٌ من أن تأتي أفكار من الشّرق الأوسط والأتراك والعرب لتنير المشروع الأوروبي.
ويقول في هذا السّياق: "عندما نؤمن بالديناميات الأساسيّة للمشروع الأوروبي، علينا النّظر إلى تلك الديناميات بالمعنى الفلسفي كمستقبل أفضل وأكثر رفاهيّة وتقارب اقتصادي وثقافي أكبر للبشر. عندما ننظر إلى مرحلة الاندماج الأوروبي نرى أنّه في البداية لم يكن ثمّة وجود للدولة القومّية والهويّة القومية، لكن عند دراستكم للاتّفاقيات التأسيسيّة والأساسيّة في الوقت الحاضر، ستروْن أنه في كلّ اتّفاقية يوجد موضوع احترام الهويّة القوميّة. فعندما وضعت مرحلة التّكامل الأوروبي آليّة الاندماج بطريقة تزعج الدّول القوميّة في عقد الثّمانينات بدأ مصطلح احترام الهويّة القوميّة يبرز في الاتّفاقيات، وازداد قوّةً في اتّفاقية ماستريخت لسنة 1992، ومن ثَمّ في اتفاقيّة أمستردام [...]، لكن عندما ننظر إلى الآليّة الأساسيّة التي طرحتها اتّفاقية لشبونة عام 2009، سنرى مرحلة تكامل تحمي فيها الدّولة القومية آليّتها، حيث تشكّل الدولة القومية والبرلمانات القوميّة جزءاً من ديناميّة الاتّحاد الأوروبي، حتّى لو كان لهذه المرحلة مضمون ما فوق القوميّة".
خيارات تركيا الاستراتيجيّة
يستعرض الفصل الثاني من كتاب "الحوار العربي-التركي بين الماضي والحاضر" نصّ كلمة مليحة ألتون ايشيك، وهي رئيس قسم العلاقات الدوليّة في الجامعة التقنية للشّرق الأوسط في تركيا. وترى أنّ الحرب الباردة حدّدت إلى حدّ كبير إطار منظور تركيا الاستراتيجي حيال الشّرق الأوسط بشكل عامّ والعالم العربي بشكل خاصّ. وقد تشكّل منظور تركيا الاستراتيجي حول الحدّ من تأثير الاتّحاد السوفييتي في الشّرق الأوسط. كما أنّ التّيار القومي العربي كان وسيلة لدعم تأثير الاتّحاد السوفييتي في المنطقة. هذه النّظرة تشكّلت بحسب منظور المعسكر الغربي لتحقيق تدفّق نفط المنطقة بطريقة آمنة إلى الأسواق العالميّة. وتركيا تبنَّت في تلك المرحلة نظرة المعسكر الغربي، و هي عضو فيه، تجاه الشّرق الأوسط. وقد بدأت تركيا في رسم سياستها حيال المنطقة منذ منتصف عقد الستّينات، وهي السّياسة التي كان لها ميزات معيّنة، إحداها "الوضع الرّاهن". إنّ الحفاظ على الوضع الراهن في المنطقة مهمّ في سياسة تركيا، مثل مبدأ عدم تغيّر الحدود. وتتبنَّى أنقرة وجود توازن قوى إقليمي متعدّد الأقطاب في المنطقة، فهي لا تريد أن تقوم دولة في المنطقة بدور مهيمن وهي تتبع سياسة من شأنها الابتعاد عن الخلافات الإقليميّة قدر الإمكان.
بدأت تظهر تغيرات في السياسة التركية منذ نهاية عقد الثمانينات مع التغيّرات في النظام الدولي والإقليمي، إذ أثّر ذلك في نظرة تركيا إلى الشرق الأوسط، إثر انتهاء العالم ثنائي القطب بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما أتاح لأنقرة إمكانية الاهتمام بالقضايا الإقليمية. وحصلت هزّتان في تلك الفترة هما: انهيار الاتحاد السوفييتي وأزمة الخليج، وقد تأثّرت تركيا بشدّة بهاتين الهزّتين، وزادت حرب الخليج من اهتمام تركيا بالشّرق الأوسط. فالجميع يدرك أهميّة المنطقة والعراق خاصّة، وبدأت تظهر في الداخل التركي نقاشات تركّزت حول كيفيّة تطوير رؤية جديدة مع السعي لتحديد درجة الاهتمام الضروري بالشرق الأوسط.
وقد تشكّل رأيان أساسيّان: الأوّل هو السياسة التي اتّخذت العراق وشماله مركزاً لها، حيث تمّت قولبة السياسة القديمة حسب الظروف الجديدة، وتركّز على الحلول العسكريّة في ما يتعلّق بذلك. وينحو التيار الثاني إلى طرح آراء بديلة مختلفة منذ انتهاء الحرب الباردة، تمثّل انتقادات للسياسات القديمة، وترى أنّ تركيا تأخّر اهتمامها بالشّرق الأوسط، و من الخطأ تحديد نظرتها إلى المنطقة من خلال العراق وشماله فقط.
وتشير ألتون ايشيك إلى أنّ هذا التيار طرح آراء مختلفة أكّدت على الرّوابط التاريخية والثقافية وتم التشديد على تطوير السياسات إلى ما وراء العراق، وأن تقوم هذه النظرة على الفرص بدلاً من التحدّيات والتهديدات. وتم النظر إلى المنطقة ليس من منظور الحلول العسكرية فقط بل بمفهوم أمني أوسع. وتم طرح علاقات تركيا بالمنطقة من خلال تعريف أمني جديد، يتضمّن المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد تولّى رئيس الوزراء طورغوت أوزال في مرحلة انتهاء الحرب الباردة تطوير رؤى جديدة، كما طوّر إسماعيل جيم، وزير الخارجية التركي في الفترة ما بين سنة 1997 وسنة 2002، رؤى بديلة من هذا النوع. وبدأ حزب العدالة والتنمية ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو في تطوير رؤى بديلة وطرحها بصورة أكثر فعالية أأمنذ سنة 2002.
فقد ساهم ظهور مشكلات جديدة في المنطقة كالأزمة العراقية وفشل الولايات المتحدة الأميركية في ترسيخ النظام الجديد في الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، في إبراز فعلية تركيا وانفتاح الساحة أمامها للعب دور متعاظم في المنطقة. فركّزت سياسة أنقرة على خفْض الخلافات مع الجيران إلى نقطة الصفر، وحملت مشروع تحويل العلاقات التي كانت تشهد مشكلات في الماضي وحلّها بالحوار بدلاً من الحلول العسكرية، وتحقيق التعاون مع الجوار، بالتركيز على حلول تعني الربح للطّرفين.
فقد كادت تركيا وسوريا تصلان إلى حافة الحرب سنة 1998، لكن العلاقات تحسّنت بشكل مذهل بعد ذلك. كما طوّرت تركيا سياسة التحدّث مع جميع اللاّعبين في العراق وتفادي عرقلته بسبب مشكلة شمال العراق، إضافة إلى تطوير العلاقات مع إيران.
وفي تعقيبه على مداخلة مليحة رأى غينجير أوزجان، وهو أستاذ قسم العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول "بيلغي"، أنّ السّياسة الخارجيّة التركية حيال الشّرق الأوسط كانت سياسة ردّ فعل منذ عقد الثمانينات وقد تبدّلت إلى المفهوم الاستباقي (ROACTIVE) بدلاً من الوقوف بعيداً عن الشرق الأوسط وخلافاته. وبدأ تنفيذ هذه السياسة في عهد حزب العدالة والتنمية مع أحمد داود أوغلو، مستشارا لوزارة الخارجية ومن ثَمّ وزيراً لها.
خيارات الوطن العربي الاستراتيجية
"
الولايات المتحدة ليست بديلاً استراتيجياً للعرب، لأنّها منحازة إلى إسرائيل في الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتضغط عليهم لتقديم تنازلات لإسرائيل، لكن الولايات المتّحدة هي ضامن أمْن الدّول الخليجيّة العربية، وهي شريك استراتيجي مهمّ للعرب في التجارة والاستثمار والمعونات الاقتصادية لبعض الأقطار العربية كمصر، والمورد الأوّل للسّلاح إلى الأقطار العربية الخليجية، في حين أنّها ليست شريكاً في الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينية.
"
في الفصل الثالث يقدّم محمد السيد سليم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، ورقة بعنوان "الخيارات الاستراتيجية للوطن العربي، وموقع تركيا منها"، ويشير فيها إلى الجدل الذي دار بين المثقّفين العرب وداخل الحكومات العربية منذ نهاية القطبية الثنائية العالمية عام 1991 حول قضية البدائل الاستراتيجية العربية في ضوء نظام القطبية الأحادية، على الرغم من أنّ معظم الأقطار العربية كانت متحالفة مع الولايات المتحدة، التي سيطرت على النظام العالمي الجديد. رغم هذا، كان هناك قلقٌ من الآثار البعيدة للقطبية الأحادية على قدرة الدول العربية على التحرك المستقلّ بعيداً عن إملاءات الولايات المتحدة الأميركية. وقد دعا بعض المثقّفين والحكومات العرب إلى إيجاد بدائل استراتيجية للمنظومة الغربية من دون أن يعني ذلك قطع الروابط معها، فقد دافع هؤلاء عن البديل الشرق آسيوي في ضوء صعود القوى الاقتصادية الجديدة في شرقي آسيا، واعتبروه عنصراً موازناً للمنظومة الغربية. وشرعت بعض الحكومات العربية في اتّباع سياسة الاتّجاه شرقاً.
وفي هذا الحوار، كانت تركيا غائبة تقريباً، لأنّ أنقرة خرجت منتصرةً من حرب الخليج الثانية ومن نهاية القطبية الثنائية، وبدأت تتبع سياسات تعظِّم من دورها الإقليمي في إطار الاندماج مع الاتحاد الأوروبي من ناحية، والاضطلاع بدور أكبر في المجال الاستراتيجي الجديد في آسيا الوسطى والبلقان، في إطار مفهوم "العثمانية الجديدة"، وتعميق العلاقة مع الولايات المتحدة. وكان التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل هو إحدى أدوات تعميق تلك العلاقة. وفي ذلك الوقت، كانت الأطراف العربية منشغلة بالآثار السلبية التي خلفتها حرب الخليج من جهة صعود القوى الإقليمية غير العربية في الشرق الأوسط. وزاد الطين بلّة توقيع تركيا اتّفاق التعاون العسكري مع إسرائيل في العام 1996. لكن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، بدأت تركيا تتبع سياسة جديدة تجاه الوطن العربي أساسها التوجّه "جنوباً" لبناء علاقات أوسع مع العرب. وقد بلغ التطوّر قمّته الدرامية حين انسحب رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس احتجاجاً على عدم إعطائه فرصة للردّ على افتراءات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس.
وقد أدّى ذلك إلى نشوء مناظرة في الفكر الاستراتيجي العربي حول الدور التركي في الشرق الأوسط والوطن العربي، وما إذا كانت تركيا تعدّ بديلاً استراتيجياً للدول العربية يعتمد عليه في تحقيق أهدافها. وقد أسفر ذلك النقاش عن ثلاثة تيارات: الأوّل ذهب إلى أنّ تركيا ليست بديلاً استراتيجياً للوطن العربي، وأنها تمارس سياسة "خداع واستغلال للعرب" وهي بذلك تمارس نوعاً من الوصاية الجديدة على العرب، وأنها تستفيد من علاقاتها العربية لتحسين أوراقها التفاوضية مع أوروبا ودعم علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والضغط على إسرائيل كي تقدّم المزيد من التنازلات لخدمة المصالح التركية الحيوية في المنطقة وليس لخدمة القضية الفلسطينية.
أمّا التيار الثاني فيقول إنّ تركيا تمرّ بتحوّلات استراتيجية عميقة أساسها التحوّل الصّعودي الواضح في اقتصادها، والتحوّل السياسي نحو سيادة القانون والدستور وإضعاف دور العسكر وتحييد المشكلة الكردية، كما أنها تتّجه نحو العالم العربي بوصفها شريكاً استراتيجياًّ، ليس من بوّابة الاستثمار فقط، ولكن من بوّابة الصراع العربي-الإسرائيلي أيضاً. ويضيف هؤلاء أنّ تلك التحوّلات تتطلّب رؤية استراتيجيّة للتّعامل مع تركيا باعتبارها أحد أهمّ ثلاثة أعمدة في بنيان المنطقة (بالإضافة إلى إيران ومصر)، وأنّ التعاون بين الدّول الثلاث من شأنه أن يغيّر من توازنات المنطقة، ويعيد رسم خرائطها، ويضيف إلى المعادلات الدوليّة معادلة جديدة.
والتيار الثالث يسلّم بأن هناك تحركاً تركياً مكثّفاً في العالم العربي، يتّجه لامتلاك أوراق إضافية للمناورة، ليس فقط للتأثير ودعم النّفوذ السّياسي والاقتصادي، ولكن لمواجهة تأثير القوى المنافسة ونفوذها، وخاصّةً إيران؛ معتبراً أنّ هذا التحرّك يحظى بدعم أميركي و أوروبي. كما يشير إلى أنّ الخيارات مفتوحة بالنّسبة إلى العرب للاستفادة من هذا التحرّك. ويدعو هذا التيار إلى حوار عربي-تركي لتعظيم مجالات التّفاهم واستثمار المصالح المشتركة لدعم الاستقرار في المنطقة.
ويدرس الباحث محمد السيد سليم في ورقته خيار "تركيا كبديل استراتيجي"، فيعرض للبدائل الأخرى ويحلّلها، سواء البدائل على المستوى العالمي (الأميركي والأوروبي والروسي والصيني) أو البدائل على المستوى الإقليمي (الإيراني والإسرائيلي)، ليعود لدراسة مدى توافر شروط البديل الاستراتيجي للعرب في تركيا. ويرى الباحث أنّ البديل التركي مهمّ شرط التوصّل إلى تفاهم استراتيجي عربي-تركي شامل حول المصالح المتبادلة. وهو بعد أن يعرّف ما المقصود بتعبير البديل الاستراتيجي، ويحدّد مقوّمات البدائل الاستراتيجية العالمية والإقليمية، وموقع تركيا منها، يعيّن الشّروط اللاّزمة لبناء تفاهم استراتيجي عربي-ـتركي.
الإطار المفاهيمي للبديل الاستراتيجي
المقصود بالبديل الاستراتيجي بالنسبة إلى دولة معيّنة هو الشّريك الذي تتوافر فيه صفة التّشابه مع الدولة السّاعية إلى التوافق معه في القيم والتوجّهات السياسية، وله القدرة والرّغبة في بناء علاقات مشاركة على المدى البعيد تحقّق مصالح جميع الأطراف. وهناك أربعة شروط يجب توافرها في البديل الاستراتيجي هي: امتلاك المقوّمات الاقتصادية والعسكرية والنّفوذ السياسي والثقافي الذي يمكّن الدولة السّاعية إلى التوافق معه منْ تحقيق كلّ أهدافها أو بعضها، ثمّ رغبة الشّريك الاستراتيجي في بناء علاقات مشاركة لوجود شبكة مصالح مع الطّرف الداخل في مشاركة معه، وثالثا اشتراك البديل الاستراتيجي مع الدولة السّاعية لإقامة شراكة معه في مجمل القيم والتوجّهات السياسيّة التي يسعى إلى تحقيقها في العلاقات الإقليميّة والدوليّة، والشّرط الرابع هو أن يكون ثمّة توافقٌ وطني داخل البديل الاستراتيجي حول مشروع المشاركة، ممّا يؤدّي إلى إمكانية إقامة علاقات مشاركة معه على المدى الطويل.أ
سفكلّما زادت البدائل الاستراتيجية زادت قدرة الدولة على تحقيق أهدافها ومصالحها، وزادت قدرتها على التحرّك المستقلّ في العلاقات الدولية، خاصّةً بالنّسبة إلى الدّول الصّغيرة والمتوسّطة.
والأهداف التي يسعى العرب إلى تحقيقها من خلال التّشارك مع البديل الاستراتيجي هي: المهام الأمنيّة وتشمل الصّراع العربي-الإسرائيلي وأمن الخليج العربي؛ والمهامّ الاقتصادية، وتشمل التّنمية من خلال التّجارة والاستثمار والتكنولوجيا والمساعدات الاقتصاديّة؛ والمهامّ الثقافية، وتشمل الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينيّة.
يرى الباحث محمد السيد سليم أنّ الولايات المتحدة ليست بديلاً استراتيجياً للعرب، لأنّها منحازة إلى إسرائيل في الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتضغط عليهم لتقديم تنازلات لإسرائيل على صعيد الاعتراف والتّطبيع من دون أن تضغط على إسرائيل لأداء التزاماتها في عملية السّلام من وقف للاستيطان والانسحاب من الأراضي العربية المحتلّة. لكن الولايات المتّحدة هي ضامن أمْن الدّول الخليجيّة العربية، وهي شريك استراتيجي مهمّ للعرب في التجارة والاستثمار والمعونات الاقتصادية لبعض الأقطار العربية كمصر، والمورد الأوّل للسّلاح إلى الأقطار العربية الخليجية، في حين أنّها ليست شريكاً في الحفاظ على الهويّة القوميّة والدينية.
أمّا البديل الأوروبي فهو متوافق مع الولايات المتّحدة بشأن السّياسات الأمنيّة والتحوّلات الاقتصاديّة الأساسية في المنطقة، وإن كان هناك تنافسٌ بينهما على أسواق المنطقة. لكنّ الجانبيْن متّفقان على تعزيز الخلل الاستراتيجي القائم لمصلحة إسرائيل، وعدم ممارسة أيّ ضغوط على إسرائيل في مسألة عملية السّلام أو التخلّي عن سلاحها النّووي، بينما يتشدّد الأوروبيون في مسألة منْع الدّول العربية وإيران من امتلاك أيّ مشروع لأسلحة دمار شامل. فهناك تناغمٌ بين المنظومتين الأوروبيّة والأميركية تجاه الصّراع العربي-الإسرائيلي، وتقسيم للعمل بين الجانبين في الشّرق الأوسط؛ فالاتّحاد الأوروبي يختصّ بـ"قضايا الأمن اللينة"، بينما تتعامل الولايات المتّحدة مع "قضايا الأمن الصلبة". فالدور الأوروبي يمهّد للدور الأميركي، إذ الأوّل يهيّئ الظّروف الملائمة للتّعاون والتفاهم عبْر العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة، والاهتمام بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان والحكم الصالح؛ فيما تتولّى الولايات المتحدة محاولات إعادة الهيكلة السياسية، وخرائط الطريق، والغزو المسلّح. فهناك ثلاثة أبعاد للدّور الأوروبي في علاقته بالدّور الأميركي وهي: تسهيل الدور الأميركي، وامتصاص الصّدمات الناشئة عنه، ودعمه صراحةً في الأزمات الحرجة.
فمن الناحية الواقعية، ليس الاتّحاد الأوروبي بديلاً مستقلاً عن البديل الأميركي، لأنّهما يكمّلان بعضهما بشأن الصّراع العربي-الإسرائيلي وأمن الخليج. لكن هذا البديل المشترك الأورو-أميركي هو المهيمن على النظام الدولي، كما أنه قاسم مشترك بين العرب والأتراك، حيث إنّ تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتسعى للانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي، ومن ثمّ ليس ممكناً بناء مشاركة عربية-تركيّة خارج إطار التّفاهم مع البديل الأوروبي-الأميركي.
عادت روسيا إلى لعب دور عالمي، خصوصاً في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وذلك من خلال بوابة المشروع النّووي الإيراني، وعقد صفقة سلاح مع سوريا، واتّفاق للتّنقيب عن الغاز في الربع الخالي مع السعودية؛ لكنها لا تسعى إلى مواجهة مع الغرب، كما لا ترغب في نشوب حرب باردة جديدة. والصعود الروسي هو في صالح العالم العربي، لأنه كلما زادت تعددية العلاقات الدولية، حقق ذلك المصالح العربية في اتجاه لجم الغزوات العسكرية العلنية المتلاحقة على الدول العربية والإسلامية، على الأقلّ، والتي لم تحدث إلاّ في ظلّ نظام القطب الأحادي (غزو أفغانستان ثمّ العراق). لكن روسيا ليست حالياً في مركز يسمح لها بالتأثير الفعّال في القضايا الأمنيّة العربيّة، كما أنّها ما زالت في مرحلة إعادة بناء قدراتها الاقتصادية، ممّا يجعلها بديلاً اقتصادياً محدوداً.
كما لاح في الفترة الأخيرة البديل الصّيني، فالصين إحدى القوى العالمية الصاعدة اقتصادياً، وهي أكبر اقتصاد في العالم من حيث القوّة الشّرائية المتساوية، وتمتلك قدرات نوويّة وصاروخيّة ولكن قدراتها العسكرية التقليدية محدودة، علماً أنّ هذه القدرات هي الأكثر توظيفاً في العلاقات الدولية. كما أنّ مجتمعها فيه قومية كبرى متماسكة، وثقافة عريقة تتّسم بالشعور بالسموّ الحضاري.
لكن الصين تواجه معضلات أساسية ناشئة عن الصعود الاقتصادي ذاته، وأهمّها المشكلات الاجتماعية التي ترتّبت عن الصعود الاقتصادي، كالهجرة من الأرياف إلى المدن، وانتشار الجريمة المنظمة، والفساد السياسي، فضلاً عن التضخم السكاني، والنزعات الانفصالية في التيبت ومنغوليا الداخلية وسينكيانغ. كما تواجه الصين معضلة استيعاب القوى الرأسمالية الجديدة في نظام سياسي يقوم على احتكار الحزب الواحد للسلطة السياسية. وليس للقيادة الصينية استراتيجية سياسية عالمية، باستثناء مشروعها الاقتصادي لتأمين مصادر استيراد النفط والأسواق التجارية. إلاّ أنّ الصين تؤكّد رغبتها في تحويل النظام العالمي إلى نظام متعدّد الأقطاب، لكن لا يبدو أنّ لديها برنامجاً لتحقيق ذلك. وهي تتوافق في مجلس الأمن مع اتّجاهات القوى الغربية في جميع القضايا ولا تتحدّى النّفوذ الأميركي بل تتجنّب أيّ مواجهة مع الولايات المتّحدة سياسياً وعسكرياً.
والواقع أنّ الصين لا تعدّ حتى الآن قوّة مؤثّرة في التوازنات العالميّة لأسباب عدّة، أبرزها البعد الجغرافي عن قلب الكتلة الأوراسية، ممّا رسّخ اعتقاداً لدى العقل السياسي الصيني بهامشية الصين، فضلاً عن الإدراك الثقافي لخصوصية الحضارة الصينية وسمّوها على الحضارات الأخرى، إضافة إلى محدودية انتشار اللغة الصينية ممّا حدّ من الدّور العالمي للصّين.
إذاً، فالصّين بديل استراتيجي أمني واقتصادي محدود في الوقت الرّاهن، ولكنّها بديل محتمل في المدى البعيد.
وهناك أيضا البديل الإيراني، فإيران شريك للعرب بحكم الصِّلات التاريخيّة والجوار الجغرافي والتّداخل السكّاني، فهي تطلّ على الخليج العربي، حيث يبلغ طول سواحلها الخليجيّة 3200 كيلومتر، وباقي الدول المطلّة على الخليج هي أقطار عربيّة. ولمّا كان الخليج هو المَنفذ البحري الوحيد لإيران، والمعبر الرّئيس لنحو 80% من صادرات نفطها، فإنّ العلاقات العربية-الإيرانية تكتسب أهميّة خاصّة. ونتيجة الصراع الإيراني- الأميركي بشأن البرنامج النووي الإيراني والعراق وفلسطين ولبنان ودعم دول الخليج العربية للولايات المتحدة وخشيتها من النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، فإنّ إيران لا تشكّل في الوقت الرّاهن بديلاً استراتيجياً أساسياً للعرب في ما يتعلّق بالقضايا الأمنيّة، خاصّة إذا كانت الاستراتيجيّة العربية هي التّسوية السّلمية للصّراع العربي-الإسرائيلي، ولكنها بديل مهمّ إذا كانت تلك الاستراتيجيّة تدور حول المقاومة. ولذلك تظلّ إيران في نظر الباحث السّيد سليم، بديلاً استراتيجياً في المدى البعيد إلى أن تحلّ الأزمة النوويّة الرّاهنة.
وقد اقترح بعض الدّارسين بديلاً آخر هو ما سمّي بـ "مثلّث القوة" الذي يقوم على أساس التوافق الاستراتيجي العربي-الإيراني-التركي، لكن واقعية هذا البديل تبدو محدودة حالياً.
ولعلّه من قبيل الخيال أن نتناول إسرائيل بديلاً للوطن العربي، فهي العدوّ الأساسي الذي يبحث بعض العرب عن شريك لمواجهته. ولكن الولايات المتحدة طرحت هذا الخيار وطالبت بتحويله إلى واقع. ويرى السيد سليم أنّ التناقض بين العرب وإيران هو تناقض ثانوي مقارنةً بتناقضهم مع إسرائيل، مشيراً إلى أنّ أكبر المعضلات في العلاقات العربية-التركية تكمن في تلك النّقطة، أي إلى أيّ حدّ ترغب تركيا في موازنة علاقاتها العربية-الإسرائيلية.
خلاصة القول إنّ البدائل الاستراتيجيّة العربية في حقبة ما بعد الحرب الباردة تبدو محدودة جداً، وبالذّات في المجال الأمني، ممّا يقودنا إلى مناقشة البديل التركي. من المؤكّد أنّ تركيا دولة مهمّة في الشّرق الأوسط وآسيا، ويشير الدارسون الغربيون والأميركيون إلى أنّ تركيا تعدّ من الدول المحوريّة للولايات المتّحدة. فهي بموقعها كحلقة اتّصال بين الشّرق والغرب والشمال والجنوب والإسلام والمسيحية، قادرة على التأثير في بلدان تبعد آلاف الأميال عن البوسفور. كما تتمتّع تركيا، بنموّ اقتصادي ثابت، وازدهار في صفوف الطبقة الوسطى، لكنها تعاني الكثير من الصعوبات كالضّغوط السكّانية والبيئية والتحدّيات العرقيّة للأقليات، والتنافس المرير مع اليونان على قبرص وعلى حدود عدد من الجزر وكذا مع مقدونيا، والخلاف مع سوريا والعراق بشأن التحكّم في موارد نهر الفرات المائية، والعلاقات الحرجة مع بلدان آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة.
فعندما زار الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيا في نيسان/أبريل 2009، أبدى اهتمامه ببناء شراكة استراتيجية مع تركيا، وأيّد الدور التركي في عملية التسوية العربية -الإسرائيلية، ودورها في العالم الإسلامي. فإذا كانت تركيا دولة محورية في سياسة الولايات المتحدة، فإلى أيّ حد هي كذلك في سياسات العرب؟ يحاول الباحث محمد السيد سليم تطبيق الشّروط الأربعة المطلوبة للبديل الاستراتيجي والمهام المبتغاة من البديل على الحالة التركية، ليخلص إلى الإجابة عن السّؤال المطروح.
قدرات تركيا الاستراتيجية
"
أمام العرب والأتراك فرصة تاريخية نتيجة انبثاق رغبة مشتركة مخلصة في التّعاون والتنسيق إلى أعلى درجة، مستفيدين من لحظة التحوّلات الإقليمية والدوليّة التي توفّر نجاحاً لهذا التعاون لوجود مكوّنات ثقافيّة وحضاريّة وجغرافيّة مشتركة بين تركيا والعالم العربي تشكّل أحد الحوافز الأساسيّة لبناء تعاون مشترك وصلب في كلّ المجالات.
"
حدّد هاينز كرامر في دراسة مهمة له نشرت في العام 1996، ثلاثة عناصر للقوّة التركية هي: الاستقرار السياسي، والقدرات الاقتصادية، والقدرات العسكرية. وقد شهدت تركيا لاحقاً تطوّرات دعمت هذه النتيجة من تعميق الديمقراطية والاستقرار، وتهدئة المشكلة الكردية، وتقليص نفوذ المؤسّسة العسكرية، وتحسين العلاقات مع دول الجوار.
وتتفوّق تركيا على جميع جيرانها في الإنجاز الاقتصادي، فهي ذات قاعدة صناعية واسعة ترتكز على أرضية من المواد الأولية، باستثناء الطاقة. كما أنّها مكتفية زراعياً، وتتمتّع بقاعدة متطوّرة من الموارد البشريّة، لكنها عاجزة عن تطوير نفسها في المدى المنظور إلى قطب اقتصادي ومالي تتمحور حوله الدول المجاورة. وهي مِنْ أقوى الاقتصادات الصاعدة، إذ زاد حجم الناتج المحلِّي التركي من 300 مليار دولار عام 2002 إلى 750 مليار دولار عام 2008، بمعدل نموّ مقداره 7.3 في المئة سنوياً. كما ارتفع مستوى الدخل الفردي من 3300 دولار إلى عشرة آلاف دولار سنوياً، وارتفعت الصّادرات من 30 مليار دولار إلى 130 مليار دولار في الفترة نفسها.
وعلى المستوى العسكري، تعدّ تركيا الأقوى بين جيرانها عسكرياً بحسب كرامر(1996)، وميزان القوى الإقليمي في صالحها؛ فهي تصنع جزءاً كبيراً من سلاحها، وبالذات الطائرات المقاتلة والسفن الحربية. وتكفي قدرات تركيا العسكرية للدفاع عن تكامل البلاد القومي، لكنها ليست كافية لتقديم دعم عسكري لدور قوّة إقليمية طويل الأجل. لكن تركيا تتطلّع إلى دور يتخطّى قدراتها كدولة منشئة لنمط النظام الإقليمي، على حدّ تعبير داود أوغلو.
وقد انتهجت تركيا منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي سياسة توافقيّة مع جيرانها الأوروبيّين والآسيويّين والعرب، أي سياسة "صفر من المشكلات مع الجيران"، وفقاً لداود أوغلو الذي صرّح بعد يوم واحد من تعيينه وزيراً للخارجيّة أنه يريد أن تقوم بلاده بدور أكبر في الشّرق الأوسط والبلقان والقوقاز. وهكذا، فإن تركيا راغبة في بناء علاقات استراتيجية مع العرب ومع كل الأقاليم التي تتعامل معها. وهي رغبة تحظى بتوافق تركي داخلي، فضلاً عن وجود توافق عربي - تركي في التوجهات الثقافية الدينية والسياسية. وعليه، فإن تركيا هي أكثر البدائل الاستراتيجية صدقية بالنسبة إلى العرب، حيث يوجد توافق عربي حول هذا البديل، ولا اعتراض أميركي أو أوروبي أو إيراني على هذا الدور.
أمّا إلى أيّ حدّ يمكن لتركيا أن تؤدّي دوراً فعالاً في تحقيق الأهداف العربية من خلال علاقة المشاركة الاستراتيجية؟ فإن تركيا تضطلع بدور في حلّ الصراعات الإقليمية عبْر الانخراط والتفاعل مع كلّ الأطراف للتوصّل إلى نتائج لصالح كلّ الأطراف، مثل الدّعوة إلى إنشاء آليّة اجتماعات الدول المجاورة للعراق، وإنشاء ملتقى أنقرة للتعاون الاقتصادي بين فلسطين وإسرائيل وتركيا. وكذلك دورها في الوساطة بين العرب والإسرائيليّين في المفاوضات.
كما تنصرف تركيا إلى الاضطلاع بدور مركزي في بناء الأمن المشترك في الشّرق الأوسط عبْر المبادرات الجماعية، مثل مبادرة إسطنبول للتعاون، وهي مبادرة في إطار حفل شمال الأطلسي. ويشمل ذلك أن تقوم تركيا بدور الدولة التي تبني النظام في الشرق الأوسط، أي اقتراح هيكلية الأمن في المنطقة والمشاركة في تطبيقها. وتركيا قادرة على لعب أدوار بوصفها مركزا اقتصاديا إقليميا ومركزا للحوار بين الحضارات وجسراً بين منظّمة المؤتمر الإسلامي والاتّحاد الأوروبي.
مجالات التعاون العربي-التركي
في القسم الثاني من الكتاب فصلان، كتب الأوّل الباحث محمد نور الدين مبرزًا وجهة نظر عربية في التعاون والتّنسيق العربي-التركي، والثاني يقدّم وجهة نظر تركية كتبها نورشين غوناي أتش أوغلو.
ويتعرّض نور الدين في دراسته لمجالات التعاون بين العرب والأتراك في الاقتصاد والسّياسة والثّقافة والاجتماع. ويرى أنّ هناك حاجة ملحّة لتشكيل لجنة تقييم مشتركة عربية-تركية ترصد واقع كلّ طرف وإمكاناته، بحيث تسهل الاستفادة من ثغرات الطّرف الآخر لمزيد من التكامل الاقتصادي. ويشير إلى أنّ من أصل 300 مليار دولار قيمة التجارة الخارجية التركية عام 2008، فإنّ حصّة العالم العربي تقارب الـ17 مليارا فقط، وهو رقم مقبول لكنه دون الحجم المأمول بلوغه، حيث تحتاج العلاقات الاقتصادية إلى مزيد من التطوير والمتابعة.
فإن كان العالم العربي سوقاً مهمّة للمنتجات الصّناعية والزراعية التركية، فإنّ تركيا تسدّ جزءاً من احتياجاتها من النّفط والغاز من العالم العربي، فيما تستورد الجزء الأكبر من روسيا وإيران. وتتطلّع تركيا إلى أن يكون النفط العراقي من المصادر الأساسية لرفد خطّ نابوكو للطاقة المزمع إنشاؤه في السّنوات القليلة المقبلة، فضلاً عن وجود خطّ كركوك-يومورطاليق.
ويمكن التعاون بين العرب والأتراك في تصدير النفط والغاز وفي المشاريع المائية والصناعية والزراعية والاستثمار المتبادل، خصوصاً الاستثمار العربي في تركيا في العقارات والسّياحة والتصنيع والزراعة، وإنشاء سوق اقتصاديّة مشتركة بين الجانبين.
أمّا على الصعيد السّياسي، ففقد تسارع التّضامن السّياسي بين الجانبين نتيجة المخاطر والتهديدات المشتركة المستجدّة. وما كان لهذا التّضامن أن يتطوّر إلى تعاون استراتيجي واتّفاقيات غير مسبوقة بين تركيا من جهة، وكلّ من سوريا والعراق ومجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى، لو لم تكن المكوّنات الثقافية والحضاريّة والذهنية والإحساس بالمصير المشترك واحدة لدى الطرفين.
ويرى نور الدين أنّ أمام العرب والأتراك فرصة تاريخية نتيجة انبثاق رغبة مشتركة مخلصة في التّعاون والتنسيق إلى أعلى درجة، مستفيدين من لحظة التحوّلات الإقليمية والدوليّة التي توفّر نجاحاً لهذا التعاون؛ مشيراً إلى وجود مكوّنات ثقافيّة وحضاريّة وجغرافيّة مشتركة بين تركيا والعالم العربي تشكّل أحد الحوافز الأساسيّة لبناء تعاون مشترك وصلب في كلّ المجالات. ويعتبر أن هذا التعاون يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العمق الاستراتيجي له جغرافياً وحضارياً، والمتمثّل في إيران، ما يمنحه المزيد من الصّلابة والحماية. كما يجب أن تتوسّع مجالاته وساحاته إلى كلّ المنظّمات الإقليميّة والدوليّة ومنها منظّمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتّحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرها من المنظّمات الدولية.
أمّا نورشين غوناي آتش أوغلو فقد أوضح في ورقته أنّ تركيا لا تملك خيارا بالنسبة إلى علاقاتها مع جيرانها وحلفائها الغربيّين. فيوجد وراء خيار تركيا في اتّباع سياسة التوازن الفعّالة ومتعدّدة الأطراف التي بدأت تنضج ملامحها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، عقلانيّة تظهر أنّها تفهم مشاكل المنطقة أفضل من دول المنطقة. فتركيا زادت إيجابيّاتها الاستراتيجية التي وصفها الأكاديميون الغربيّون بـ "القوّة المرنة"، لا سيّما في إطار الحوار التركي-العربي. ولا يمكن إنكار حيويّة العلاقات الاقتصادية والثقافية التي تدخل في إطار القوّة المرنة. ويعطي أمثلة على ذلك منها: انتخاب أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً لمنظّمة المؤتمر الإسلامي، ومقرّها جدة، في عام 2005، ممّا قوّى العلاقات بين تركيا ودول الخليج العربية. ووقعت اتّفاقية تشكيل المجال التركي-السعودي للعمل في الرياض عام 2003، واتّخذ قرار إنشاء صندوق لتشغله مؤسّسة دولية من أجل تشجيع الاستثمار في تركيا، وتوقيع "اتّفاقية إطار التعاون الاقتصادي" مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وأشار الباحث إلى نقطتين مهمّتين من جهة التعاون الاستراتيجي-السّياسي الإقليمي، أثّرتا في الحوار العربي-التركي هما: إدراك التّهديد الغربي ذاته، بعد ربط هجمات 11 سبتمبر 2011 بالمسلمين؛ وتحوّل الإسلام إلى مشكلة أمن، وهو ما أزعج الدول العربية وتركيا. ويمكن للحوار أن يشكّل أرضيّة لتطوير مفهوم مشترك في المنطقة، مثل مبادرة الدول المجاورة للعراق المتعلّقة بمستقبل هذا البلد. والنقطة الثانية هي تدخّل الولايات المتحدة من جانب واحد في العراق عام 2003، فقد أدّى القلق المتعلّق بمستقبل العراق إلى تسريع الحوار الاستراتيجي بين دول المنطقة. فمستقبل العراق له القدرة على التأثير في العلاقات العربية-التركية والأميركية-التركية-العربية، والتّعاون الإقليمي.
وقد عالج القسم الثالث من الكتاب واقع العلاقات العربية - التركية وآفاقها بورقة كتبها غوفين صاق كوجهة نظر تركية. وقد تجنّب الحديث عن موضوعيْ الطّاقة ومشكلة المياه وركّز على العلاقات التجاريّة - الصناعية. ويعتبر صاق أنّ مرحلة التحوّل الاقتصادي قد أدّت إلى نتائجَ اجتماعيّة وسياسية غيّرت السّياسة الخارجية بسرعة. ولذلك يرجع السّبب الأساسي لاهتمام تركيا بآسيا الوسطى والبلقان وليس الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى التحوّل الاقتصادي لتركيا. ويشير إلى مرحلة الإصلاحات التي بدأها الرئيس أوزال في ثمانينات القرن العشرين، حيث كانت الصناعة متجمّعة في مناطقَ معيّنة من الأناضول، وتتركّز في إسطنبول و إزمير وأضنة وبورصة، لكن التّصدير أصبح عنصراً مهماً بالنّسبة إلى تركيا بعد دخولها مرحلة سوق التجارة الحرّة بسرعة، وذلك بعد تطوير السّياسة الاقتصاديّة بشكل شامل في الثّمانينات. لذلك، رأت الجهات المختصّة ضرورة تحرّر التّجارة وفعاليّتها لإكساب تركيا عملة صعبة. ولم يقتصر هذا التحرّر على زيادة التّصدير، بل أدّى إلى انتشار الصّناعة في مدن تركية صغيرة عدّة مثل دنيزلي وغازي عنتاب وقيسري وقونية وأنقرة.
وبعد عرضه للتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية في تركيا، يطرح الباحث نظرة تركيا إلى المنطقة. فقد بدأت أوّلاً تتغيّر تشكيلة الصّادرات التركية بشكل سريع منذ عام 1999 حتّى عام 2009. وكانت حصيلة سوق الاتّحاد الأوروبي من مجمل صادرات تركيا 54 في المئة عام 1996، وارتفعت هذه النسبة إلى 56 في المئة عام 2000، وانخفضت فيما بعد إلى 44 في المئة. أمّا نسبة تصدير تركيا إلى الشّرق الأوسط فقد ارتفعت من تسعة في المئة إلى 19 في المئة خلال الفترة نفسها. وإذا نظرنا إلى الميزان التجاري مع الدّول العربية، نرى أنّه تحوّل إيجابيا لصالح تركيا، على الرغم من فاتورة النّفط في هذه المرحلة، عدا بعض الدول مثل قطر.
وقدّم منير الحمش وجهة نظر عربيّة عن واقع العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. وقال إنّ هذه العلاقات تنطوي على مجموعة من المحدّدات المؤثّرة التي تتحكّم في مسيرتها. وتتمثّل هذه المحدّدات في مجموعة من العوامل والعناصر التاريخية والسياسية والثّقافية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن العوامل الاستراتيجيّة التي تتعلّق بالمكانة الجيوسياسيّة لكلّ من البلاد العربيّة وتركيا. ومن أهمّ المحدّدات التي يوردها الباحث: الإرث التاريخي في العلاقات العربيّة - التركيّة والتي لم تبدأ بالفتح العثماني للأقطار العربية، وإنّما مع اعتناق القبائل التركية الإسلام، حيث أصبح للأتراك وجودٌ فعلي في الدولة العربيّة الإسلامية. وقد شارك السّلاجقة الأتراك في مواجهة الغزو الفرنجي، كما كان لنور الدين زنكي دورٌ في توحيد بلاد الشّام ومصر وإقامة دولة رائدة في مجالات الحياة كافّة.
ومن المحدّدات المهمّة أيضاً علاقة تركيا مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، إذ ومنذ قيام دولة تركيا الحديثة، اتّخذت عددًا من المواقف السياسية والاقتصاديّة الموالية للغرب، متصوّرةً أنّ انفصال تركيا عن محيطها العربي والإسلامي هو بمثابة جواز مرور لها نحو الغرب الذي أعلنت تمسّكها بنهجه السّياسي والاقتصادي والثّقافي.
كما تشكّل العلاقة التركيّة - الإسرائيليّة والتطوّرات الحاصلة في طبيعة النظام الاقتصادي التركي وتوجّهاته، ومسألة المياه وقضيّة اسكندرون، ونظرة تركيا إلى العرب ونظرة العرب إلى تركيا، محدّدا رئيسًا آخرَ للعلاّت الاقتصاديّة بين تركيا والعرب.
أمّا القسم الرابع من الكتاب فقد عالج مسألة الهويّة بين تركيا والوطن العربي من وجهتيْ نظر الطرفيْن. وقدّم وجهة النّظر العربيّة سيار الجميل الذي اعتبر أنّنا في حاجة إلى فهم راسخ للهويّة ومعرفة جذورها التاريخية، خصوصاً إبان المرحلة الحرجة التي انفصل خلالها العرب عن الأتراك بتأثير انهيار الدّولة العثمانيّة التي كانت تجمعهم وأقوام عدّة أخرى على مساحة جغرافية كبرى في مركز العالم. كانت الهويّة عثمانيّةً على امتداد قرون عدّة، وكانت القوميّات موجودة بحكم اللّغة والثقافة والتعليم والمشاعر، ولكن الوعي لم يكن يتجاوز، في ذلك العصر، قوّة الهويّة العثمانية التي كانت بمثابة الرابطة الحقيقية لمن كان تحت المظلة العثمانية على امتداد تاريخ طويل. ويرى الجميل أنّ هناك الضرورة لإعادة التفكير في مسألة الهويّة، خصوصاً عند ثلاثة مجتمعات كبرى في الشرق الأوسط هي: العرب والأتراك والإيرانيون الذين أثّروا عميقاً في التاريخ الحديث.
وقدّم الباحث أتيان محجوبيان وجهة النّظر التركية بشأن مسألة الهويّة، فاعتبر أنّ التحوّل والتغيّر الذي تشهده تركيا حالياً في علاقاتها العربيّة: "يتحقّق بشكل أسرع من أيّ تغيّر في علاقات تركيا في أيّ ساحة أخرى. وإذا أردنا طرح رؤية تتعلّق بالمستقبل فعلينا أن نعرف ونفهم ماذا سيحدث وإلى أين تذهب تركيا خلال العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة المقبلة. و أمام تركيا طريقان بشكل عام: الأوّل توجد فيه تركيا ممثّلاً مهماً في العالم والهويّة التركية التي تضعف يوماً بعد يوم. أمّا الثاني فتوجد فيه الهويّة التركية التي تحافظ على نفسها وقوّتها. مقابل ذلك توجد تركيا لاعباً دولياًّ عادياًّ ووسطا". قد يستغرب الكثيرون هذا التّناقض، لأنه في الحالة الطبيعية تقوى هويّة الدول كلّما قويت الدّولة، لكن الوضع ليس كذلك في عالم اليوم، وفي تركيا. إنّ تركيا ستصبح دولة مهمّة في العالم حسب إضعافها للهويّة التركية، وهذا الوضع سيكون أوضح ديناميكياً خلال السّنوات المقبلة.
ويتناول الكتاب في قسمه الخامس الاتّجاهات الدينيّة-السّياسية في الوطن العربي وتركيا، فكتب عن هذه الاتّجاهات في الوطن العربي محمد جمال باروت، الذي قال إنّ نشأة الحركة الإسلامية الحديثة في الوطن العربي ترتبط بالتحوّل السّريع الذي قامت به تركيا "الكمالية" من عمليّة الفصل بين الخلافة والسّلطنة في نوفمبر 1922، إلى عملية إلغاء الخلافة نفسها في مارس 1924، وفصل الدّين عن الدّولة بشكل تامّ في ضوء المفهوم اليعقوبي الراديكالي للعلمانية الذي أسّسته الجمهورية الفرنسية الثالثة. وبذلك، اختصرت تركيا الكمالية من ناحية المقارنة في أقلّ من سنة ونصف ما استغرقه تطوّر العلمانيّة الفرنسية من قيام الثورة الفرنسية في العام 1789 بنوع من قومنة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية بالفصل الإداري وليس العقيدي أو الطقسي بين الدّولة وكنيسة روما الكاثوليكية، إلى غاية الفصل اليعقوبي أو الراديكالي التامّ بين الدّين والدّولة في دستور الجمهوريّة الثالثة في العام 1905.
وكتب عن الاتّجاهات الإسلاميّة في تركيا الباحث حاتم إيتي، فعرض لكيفية وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة، وتطوّر الحركة الإسلامية في تركيا في إطار هذه الخبرة.
أمّا القسم السادس من الكتاب، فيطرح مسألة الجيش والسّلطة في تركيا والعالم العربي. ويناقش فيه الباحث علي بيرم أوغلو واقع تركيا، فيما يستعرض الدكتور منذر سليمان الواقع العربي.
وينقل الكتاب في الختام ما دار من مناقشات خلال المائدة المستديرة التي توّجتْ أعمال النّدوة الفكرية، حيث طرحت خطّة عمل للمستقبل شارك فيها عددٌ من الباحثين. وينتهي الكتاب بكلمتين لمدير مركز دراسات الوحدة العربية خير الدين حسيب وللباحث التركي منصور اق غون.
Comments
Post a Comment